ما بعد الخضوع لواشنطن: خيارات أوروبا المستحيلة لاستعادة مكانتها

الخميس 20 شباط 2025
مقر الناتو في بروكسل

نشر المقال التالي في مجلة فورين بوليسي في 18 شباط 2025، طارحًا ما يراه الكاتب «حلولًا» ممكنة لأوروبا من أجل التخلص من الهيمنة الأمريكية عليها، كما تجلت في مؤتمر ميونخ للأمن قبل أيام، رغم استبعاده اتخاذ أوروبا هذه الخطوات. مهبوباني دبلوماسي سنغافوري سابق، وهو زميل متميز في معهد بحوث آسيا في جامعة سنغافورة الوطنية. 

تتطلب الأوقات العصبية اتخاذ تدابير عصيبة. وكما علمني أساتذتي في الجيوسياسة، علينا دائمًا أن نتصوّر ما لا يمكن تصوره، كما يتعين على أوروبا أن تفعل الآن. 

من السابق لأوانه أن نحدد من هم الفائزون والخاسرون الحقيقيون من إدارة ترامب الثانية، فقد تتغير الأمور. ومع ذلك، لا شك أن المكانة الجيوسياسية لأوروبا قد تراجعت إلى حد كبير. يُظهِر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعدم التشاور مع الزعماء الأوروبيين أو تحذيرهم قبل التحدث إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كم باتت أوروبا هامشية، حتى عندما تكون مصالحها الجيوسياسية على المحك. والطريقة الوحيدة لاستعادة المكانة الجيوسياسية لأوروبا هي النظر في ثلاثة خيارات لا يمكن تصورها.

أولًا، على أوروبا أن تعلن عن استعدادها للانسحاب من حلف شمال الأطلسي. حين تضطر أوروبا إلى إنفاق 5% على الدفاع (كما يطالبها ترامب)، فهي لم تعد تحتاج الولايات المتحدة. فخمسة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في عام 2024 تعادل 1.1 تريليون دولار، وهو ما يفوق الإنفاق الدفاعي الأميركي الذي بلغ 824 مليار دولار عام 2024 (عام 2024، أنفق الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين نحو 410 مليار دولار على الدفاع). في نهاية المطاف، لا تحتاج أوروبا إلى الانسحاب من الحلف، لكن التهديد المقنع بالانسحاب وحده كفيل بإيقاظ ترامب (ونائب الرئيس جيه دي فانس ووزير الدفاع بيت هيجسيث) وإجباره على التعامل مع أوروبا باحترام. وعلى النقيض من ذلك، فإن إصرار الأوروبيين على البقاء في حلف شمال الأطلسي بعد تصرفات ترامب الاستفزازية يعطي انطباعًا للعالم بأنهم يلعقون الأحذية التي تركلهم في وجوههم.

إن ما يصدم الكثيرين في العالم هو أن الأوروبيين لم يتوقعوا المأزق الذي هم فيه. إحدى القواعد الأولى في الجيوسياسة هي أنه يتعين علينا دائمًا التخطيط لأسوأ السيناريوهات. بعد اندلاع حرب أوكرانيا، كان كل التفكير الاستراتيجي الأوروبي قائمًا على أفضل سيناريو محتمل، الذي يتمثل في أن تكون الولايات المتحدة حليفًا موثوقًا به تمامًا، على الرغم من تجربة ولاية ترامب الأولى وتهديداته بالانسحاب من أكبر تحالف عسكري في العالم. بالنسبة لقارة أنتجت عقولًا استراتيجية مثل مترنيخ وتاليران وكيسنجر، طغى تفكير استراتيجي يكاد يكون طفوليًا بشأن أوكرانيا وتداعياتها الطويلة الأجل.

لو كان مترنيخ أو تاليران (أو شارل ديغول) على قيد الحياة اليوم، فإنهم كانوا سيقترحون الخيار الثاني الذي لا يمكن تصوره: التوصل إلى صفقة استراتيجية كبرى جديدة مع روسيا، يستوعب فيها كل جانب المصالح الأساسية للجانب الآخر.

إن العديد من العقول الاستراتيجية الأوروبية المؤثرة سترفض هذه الاقتراحات، لأنها مقتنعة بأن روسيا تمثل تهديدًا أمنيًا حقيقيًا لدول الاتحاد الأوروبي. حقًا؟ من هو المنافس الاستراتيجي الأكثر جوهرية لروسيا، الاتحاد الأوروبي أم الصين؟ مع من تتشارك روسيا أطول حدود؟ وإزاء من تغيرت قوتها النسبية بشدة؟ إن الروس من أصحاب الواقعية الجيوسياسية من الدرجة الأولى. وهم يدركون أن قوات نابليون ودبابات هتلر لن تتقدم نحو موسكو مرة أخرى. ولا يرى الأوروبيون التناقض الواضح بين الابتهاج بعجز روسيا عن هزيمة أوكرانيا (وهي دولة يبلغ عدد سكانها 38 مليون نسمة وبلغ ناتجها المحلي الإجمالي نحو 189 مليار دولار عام 2024) ثم إعلان أن روسيا تشكل التهديد الحقيقي لأوروبا (التي يبلغ عدد سكانها 744 مليون نسمة وبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 27 تريليون دولار عام 2024). من المرجح أن يكون الروس سعداء بالتوصل إلى تسوية عادلة مع الاتحاد الأوروبي، تحترم الحدود الحالية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وتسوية واقعية بشأن أوكرانيا لا تهدد المصالح الأساسية لأي من الجانبين.

على المدى البعيد، وبعد إعادة بناء الثقة الاستراتيجية بين روسيا وأوروبا الجديدة المستقلة استراتيجيًا، قد تعمل أوكرانيا تدريجيًا كجسر بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بدلًا من أن تكون نقطة خلاف. على بروكسل أن تعتبر نفسها محظوظة لأن روسيا، من الناحية النسبية، قوة متراجعة، وليست قوة صاعدة. وإذا تمكنت رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، وهي منظمة إقليمية أضعف نسبيًا، من التوصل إلى علاقة طويلة الأمد قائمة على الثقة مع قوة صاعدة مثل الصين، فمن المؤكد أن الاتحاد الأوروبي قادر على تحقيق نتائج أفضل مع روسيا.

يقودنا هذا إلى الخيار الثالث الذي لا يمكن تصوره: التوصل إلى اتفاق استراتيجي جديد مع الصين. مرة ​​أخرى، في أبجديات السياسة الخارجية، هناك سبب مهم يجعل الجيوسياسة مزيجًا من كلمتين: الجغرافيا والسياسة. إن جغرافيا الولايات المتحدة، التي تواجه الصين عبر المحيط الهادئ، إلى جانب نزوع واشنطن نحو التفوق، تفسر العلاقة العدائية بين الولايات المتحدة والصين. لكن ما هي الضغوط الجيوسياسية التي تسببت في تدهور العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين؟ لقد اعتقد الأوروبيون بحماقة أن الولاء الأشبه بالعبودية للأولويات الجيوسياسية الأميركية من شأنه أن يؤدي إلى مكاسب جيوسياسية وفيرة لهم. ولكنهم بدلًا من ذلك تلقوا ركلة في الوجه.

اللافت للنظر هنا هو أن الصين قادرة على مساعدة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع كابوسه الجيوسياسي الحقيقي الطويل الأمد: الانفجار الديموغرافي في أفريقيا. عام 1950، كان عدد سكان أوروبا ضعف عدد سكان أفريقيا. واليوم، يبلغ عدد سكان أفريقيا ضعف عدد سكان أوروبا. وبحلول عام 2100، سيكون عدد سكان أفريقيا أكبر بستة أضعاف. وما لم تطور أفريقيا اقتصاداتها، فسوف تشهد أوروبا موجة من المهاجرين الأفارقة. وإذا كان الأوروبيون يعتقدون أن أوروبا لا يمكن أن تنتج قادة مثل ترامب قط، فمن الواضح أنهم يعيشون في وهم. وإيلون ماسك ليس الملياردير الوحيد الذي يدعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا.

يتعين على الأوروبيين، إن أرادوا الحفاظ على أوروبا التي تديرها أحزاب الوسط، أن يرحبوا بأي استثمار أجنبي في أفريقيا من شأنه أن يخلق فرص العمل ويبقي الأفارقة في وطنهم. ولكن الأوروبيين بدلًا من ذلك يطلقون النار على أقدامهم بانتقادهم ومعارضتهم للاستثمار الصيني في أفريقيا. وهذا التصرف وحده يوضح مدى السذاجة التي أصبح عليها التفكير الاستراتيجي الأوروبي البعيد المدى. إن بروكسل تضحي بمصالحها الاستراتيجية لخدمة المصالح الأميركية على أمل أن يؤدي هذا الخضوع الجيوسياسي إلى المكافآت.

لكن من الواضح أن هذا لم يحدث. فقد علمتنا ألفا عام من الجغرافيا السياسية درسا بسيطًا وواضحًا: كل القوى العظمى ستضع مصالحها الخاصة أولًا، وإذا لزم الأمر، ستضحي بمصالح حلفائها. يتصرف ترامب كفاعل جيوسياسي عقلاني في وضع ما يعتقد أنه مصالح بلاده أولًا. ولا ينبغي لأوروبا أن تنتقد ترامب فحسب؛ بل ينبغي لها بدلًا من ذلك أن تحاكيه. عليها أن تنفذ الخيار الذي لا يمكن تصوره حاليًا: أن تعلن أنها من الآن فصاعدًا ستكون فاعلًا مستقلًا استراتيجيًا على المسرح العالمي، يضع مصالحه الخاصة أولًا. وحينها فقط قد يُظهِر ترامب أخيرًا بعض الاحترام لأوروبا.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية