أحدثت المواجهة الجوية الأخيرة بين الهند وباكستان في كشمير ضجة واسعة، ليس فقط بسبب تعاظم خطر تجدد الحرب بين الدولتين النوويتين، وإنما بسبب ما تقوله هذه المواجهة، وتحديدًا إسقاط سلاح الجو الباكستاني لمقاتلات هندية، عن الموازين المتغيرة في خريطة التسلح عالميًا. فقد لفت توظيف باكستان لمقاتلات وصواريخ وأنظمة صينية في عمليات الإسقاط أنظار كثيرين حول العالم، خاصة في الغرب، نظرًا إلى أن تلك كانت أول مرة توظف فيها الصناعات العسكرية الصينية في مواجهة قتالية حقيقية.
لكن أهمية ما جرى وتداعياته تتجاوز سياسات تصدير السلاح، كما لا يمكن لتكديس القطع الحربية وحده أن يفسر إنجاز باكستان في مواجهة مع دولة تفوقها مالًا وسلاحًا وعديدًا.
على مدى أشهر، ارتفعت حدة التوتر بين البلدين خاصة على خط الهدنة الذي يقسم مناطق السيطرة في إقليم جامو وكشمير بينهما. لكن التصاعد الأكبر جاء بعد 22 نيسان الماضي، حين شن مسلحون هجومًا على منطقة سياحية في الجزء الخاضع لسيطرة الهند من كشمير، قضى فيه 26 شخصًا. رغم نفيه أي صلة بالهجوم، اتهمت الهند الجيش الباكستاني في الضلوع بالعملية. فجر السابع من أيار، شنت الهند غارات على تسع مواقع في باكستان والجزء الخاضع لسيطرتها من كشمير، قضى فيها ما لا يقل عن 31 شخصًا، تلاها تبادل للنيران عبر الحدود وغارات هندية أخرى.
لكن النقطة الأبرز في المعركة تمثلت في أن عددًا من الطائرات الهندية المشاركة في هجوم 7 أيار لم يعد قط. إذ قال وزير الدفاع الباكستاني، خواجة محمد آصف، إن بلاده أسقطت خمس مقاتلات هندية ومسيرة، قبل أن يحدد المتحدث العسكري أحمد شريف شودري المقاتلات بثلاث طائرات رافال فرنسية الصنع، وواحدة من طراز سوخوي-30MKI وأخرى من طراز ميغ-29، وكلاهما روسيتا الصنع. أما المسيرة، فكانت من نوع هيرون إسرائيلية الصنع. وتداولت شبكات التواصل الهندية صور حطام طائرات وصواريخ سقطت داخل الهند والمنطقة التي تسيطر عليها من كشمير. وفي وقت لاحق، عقد المتحدث العسكري الباكستاني مؤتمرًا صحفيًا كشف فيه عن مواقع إسقاط الطائرات الخمس، موضحًا أنه جرى اعتراض الاتصالات الهندية أثناء الهجوم.
رغم أن الهند لم تقر رسميًا بأي من ذلك، إلا أن رويترز نقلت عن مصادر محلية في كشمير سقوط ثلاث طائرات بالفعل، كما نقلت عن مسؤوليْن أمريكييْن تأكيدهما أن طائرتين على الأقل قد أسقطتا، وهو ما يتوافق مع تقرير للنيويورك تايمز، التي أضافت أن صور حطام الطائرات تؤكد أن إحداهما على الأقل من نوع رافال أو ميراج، التي تصنعهما شركة داسو الفرنسية، وكلاهما في حوزة الهند. وقد نقلت السي إن إن عن مصدر استخباري فرنسي تأكيده أن طائرة رافال واحدة على الأقل أسقطت بالفعل، في أول عملية إسقاط للطائرة في تاريخها. فيما أظهرت صور حطام أخرى، التقطت في منطقة رامبان في كشمير، مقعد إطلاق روسي الصنع يستخدم في طائرات ميغ-29 وسوخوي 30MKI. وبالنظر لتقارير سقوط مقاتلة ذات طيار واحد في تلك المنطقة، فإن الأرجح هو كونها من نوع ميغ-29.
بالمحصلة، يؤكد تقاطع هذا الروايات أن ما لا يقل عن مقاتلتين هنديتين أو ثلاث قد أسقطت، وأن إحداها على الأقل من نوع رافال. لكن السؤال الأهم هو كيف استطاعت باكستان فعل ذلك؟
بحثًا عن الجواب، سرعان ما اتجهت الأنظار إلى الصين، خاصة بعدما أكد وزير الخارجية الباكستاني إسحاق دار أن بلاده استخدمت طائرات J-10C صينية الصنع في التصدي للهجمات الهندية. تعد هذه الطائرة أحدث عناصر الأسطول الجوي الباكستاني، تتلوها طائرات JF-17 الصينية التي وفرت بكين تصميمها ومكوناتها الأساسية وساعدت باكستان على إنتاجها محليًا. وتعتبر طائرات J-10 من مقاتلات الجيل الرابع والنصف، وكثيرًا ما تقارن بالـF-16 الأمريكية والرافال الفرنسية، إلا أن لدى الصين جيلين لاحقين من المقاتلات هما J-20 الملقبة بـ«التنين الجبار» والتي تقارن بالـF-22، وJ-35 التي تقارن بالـF-35.
وفيما لم يؤكد رسميًا نوع الصواريخ المستخدمة في المواجهة الهندية الباكستانية، رجح محللون استخدام صاروخ جو-جو من طراز PL-15E صيني الصنع، وهو النسخة المعدة للتصدير من صاروخ PL-15 الصيني، بعدما جرى تناقل صور حطامه التي سقطت في ولاية شرق البنجاب الهندية. وبحسب موقع «ذا وور زون»، فإن ذلك يشكل أول استخدام للصاروخ في أرض المعركة. يصل مدى صاروخ PL-15E إلى 150 كيلومترًا، بينما يقدر مدى النسخة الأصلية غير المعدة للتصدير بـ200-300 كيلومتر، وتصل سرعته إلى أكثر من أربعة أضعاف سرعة الصوت. وهو يستخدم نظام توجيه راداري نشط، ويوظف رابط بيانات ثنائي الاتجاه، يرسل ويستقبل التحديثات من وإلى الطائرة التي أطلقته، ما يسمح له بتعديل المسار ويصعّب على الهدف التخلص منه عبر المناورة.
يعكس توظيف هذه الأسلحة التحول الذي شهدته باكستان في ترسانتها العسكرية، وخاصة في سلاح الجو عبر السنوات. فقد كانت طائرات الـF-16 الأمريكية الركن الأهم في أسطولها الجوي منذ أوائل الثمانينيات، حين دعمت إدارة رونالد ريغان باكستان ببيعها 40 مقاتلة لمحاربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. إلا أن تركيبة الأسطول تغيرت مع تغير موقع باكستان على الساحة الدولية بتعزز علاقتها مع الصين. فبعد أن كانت الأخيرة ثاني مصدّر للأسلحة لباكستان بعد الولايات المتحدة بين عامي 2006 و2010، قفزت لتحتل المركز الأول بـ81% من المشتريات العسكرية الباكستانية بحلول 2024.
أما الهند، فقد سلكت اتجاهًا معاكسًا تقريبًا. فبعد أن اعتمدت لعقود على السلاح السوفييتي ثم الروسي، عملت في العقدين الأخيرين على تقليل هذا الاعتماد، والاتجاه بشكل خاص نحو الغرب وملحقاته. بين عامي 2010 و2014، استحوذت روسيا على 72% من مشتريات الأسلحة الهندية، لكن هذه الحصة انخفضت إلى 36% العام الماضي، تتلوها فرنسا بنسبة 33%، ثم «إسرائيل» بنسبة 13%، ثم الولايات المتحدة بنسبة 10%.
كانت فرنسا المستفيد الأكبر من هذا التحول، خاصة بعد توقيع الهند عام 2016 صفقة لشراء 36 طائرة رافال، بدأ تسليمها عام 2020. جاء ذلك بعد تعثر غامض لمفاوضات سابقة لشراء 126 طائرة رافال عقب عطاء رسا على شركة داسو الفرنسية عام 2007. لكن بعد أن كان سعر الطائرة الواحدة في عطاء 2007 حوالي 11 مليون يورو، ارتفع في صفقة عام 2016 ليبلغ 36 مليونًا. ورغم الجدل الذي أثارته الصفقة الجديدة، التي أعلن عنها رئيس الوزراء الهندي نارندا مودي من باريس بشكل مفاجئ، إلا أنها مضت على أي حال. وقبل أيام فقط من المواجهة الهندية الباكستانية، أعلنت الهند عن صفقة جديدة لشراء 26 طائرة رافال إضافية.
بميزانية وإمكانات أقل، تمكنت باكستان من إحراز نقطة ثمينة في صراع ممتد منذ عقود، مثبتة أنه رغم الأهمية المؤكدة لتوفير السلاح المناسب، إلا أن تحقيق النتائج لا يتعلق فقط بالكم.
تمتاز طائرة رافال بنظام الحرب الإلكترونية «سبكترا»، الذي وصفته داسو بأنه «أحدث نظام دفاع جوي في أوروبا»، والذي يشتمل على أجهزة رادار وتشويش نشط، ويمكنه إصدار إنذار مبكر عند قيام رادار العدو بتحديد موقعه، ثم إطلاق حزمة تشويش لتضليل الصواريخ. وفي جميع التدريبات التي أجراها حلف شمال الأطلسي، نجح النظام في تشويش رادارات المقاتلات الأمريكية، مما أكسبه شهرة واسعة.
لكن رغم تنويع الهند لمصادر سلاحها وحصولها على طائرات من الأفضل عالميًا، ورغم استمرار تفوقها الكبير على باكستان بميزانية عسكرية بلغت قرابة تسعة أضعاف نظيرتها عام 2024، إلا أن تشتت أسطولها بين أنظمة مختلفة لا تتوافق مع بعضها بالضرورة تبين أنه قد خلق ثغرة قاتلة استطاعت باكستان، المعتمدة بشكل متزايد على طائرات وصواريخ وأنظمة صينية، استغلالها.
كلمة السر كانت التكامل. فبحسب وسائل إعلام صينية، اعتمد الدفاع الجوي الباكستاني يوم السابع من أيار على منظومة متكاملة متعددة المستويات أنشأتها باكستان في السنوات الأخيرة بدعم تقني من الصين. ويكمن «عقل» هذه المنظومة في نظام ربط البيانات الصيني Link-17، الذي يمكّن من مشاركة البيانات لحظيًا بين طائرات الإنذار المبكر والمقاتلات ووحدات الدفاع الجوي الأرضية ومركز القيادة.
يبدأ عمل هذا النظام عند مستوى الكشف والإنذار المبكر، حيث وظفت باكستان، إلى جانب الرادارات الأرضية، طائرات ZDK-03 صينية الصنع، وهي طائرات إنذار مبكر مزودة برادار متقدم، ويبلغ مدى كشفها 400 كيلومتر، ويمكنها تتبع مئات الأهداف في وقت واحد، وتعالج البيانات أسرع بمرتين من نظيرتها «نيترا» الهندية الصنع، وهي موصولة بنظام الملاحة الصيني بايدو.
لعبت طائرات الإنذار دورًا مهمًا في نجاح صاروخ PL-15E. فرغم أن الصاروخ أطلق من طائرة J-10C، إلا أن طائرة الإنذار المبكر عملت على توجيهه نحو الهدف بفضل راداراتها التي تتفوق على رادارات الـJ-10C. كما يضم الصاروخ محرّكًا ثنائي النبض يعمل على مرحلتين، بحيث ينطلق لارتفاع عالٍ، ثم يتوقف ليستمر الصاروخ بالاعتماد على القصور الذاتي إلى أن يقترب من الهدف، وعندها ينطلق المحرك مجددًا ليدمره. كما أن التوجيه الراداري النشط للصاروخ لا يعمل إلا في هذه المرحلة الأخيرة، أي أن أنظمة مثل «سبكترا» لا يمكنها اكتشافه إلا حينها، لكنه عندها يكون قد اقترب كثيرًا من الهدف وثبّته في مرماه، مما لا يترك للطائرة المستهدفة سوى ثوان معدودة للمناورة.
وبحسب ما نقله موقع غوانتشا الصيني عن سجلات العمليات العسكرية الباكستانية، فقد رصدت طائرات الإنذار المبكر المقاتلات الهندية بعد وقت قصير من إقلاعها، ونقلت بياناتها إلى طائرات J-10C ونظام الدفاع الجوي الأرضي، مما أدى إلى تحديد موقع المقاتلات قبل دخولها في نطاق الهجوم الفعال. في المقابل، لا تستطيع طائرات سوخوي ورافال تبادل المعلومات عبر منصات مختلفة بسبب عدم توافق شبكات نقل البيانات. وبفضل قدرة صاروخ PL-15E على الاستهداف فوق مدى الرؤية، تمكنت J-10C من إطلاقه من مسافة 150 كيلومترًا باتجاه الهدف.
بالتالي، شكلت هذه القدرة على «رصد العدو أولًا واستهدافه أولًا» عنصرًا أساسيًا في نجاح باكستان في هذه المواجهة. ورغم استناد هذه القدرة إلى تطور كل من المقاتلة والصاروخ وطائرة الإنذار، إلا أن توافق هذه العناصر ضمن منظومة ثلاثية متكاملة هو ما مكن باكستان من قلب المعادلة.
تطرح هذه المعركة على محدوديتها -حتى الآن- أسئلة تمتد أبعد من الصراع الهندي الباكستاني، لتطال مدى نجاح الهند في مشروعها لتحديث ترسانتها العسكرية وتنويع مصادرها، خاصة في ظل المبالغ الطائلة التي أنفقتها. كما تثير التساؤل حول انعكاس ما جرى على سمعة وموقع الصناعات العسكرية الكبرى، خاصة الأوروبية، واحتمال مراجعة بعض الدول الآسيوية والإفريقية لخياراتها العسكرية. وبشكل أوسع، عكست المواجهة المستويات المتقدمة التي وصلها التطور العسكري الصيني، الذي يراقبه كثيرون وعلى رأسهم الولايات المتحدة باهتمام بالغ.
بميزانية وإمكانات أقل، تمكنت باكستان من إحراز نقطة ثمينة في صراع ممتد منذ عقود، مثبتة أنه رغم الأهمية المؤكدة لتوفير السلاح المناسب، إلا أن تحقيق النتائج لا يتعلق فقط بالكم.