تركيا تترقّب: ماذا بعد دعوة أوجلان للتخلي عن السلاح؟

الإثنين 03 آذار 2025
مظاهرة تطالب بالإفراج عن زعيم حزب العمال الكردستاني في مدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية في شمال شرق سوريا، في شباط 2025. تصوير: دليل سليمان. أ ف ب.

«أدعو للتخلي عن السلاح، وأتحمّل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة».
عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني المعتقل، 25 شباط 2025.

بدأت منذ تشرين الأول الماضي، عبر سلسلة من الخطوات غير المسبوقة، عملية سلام جديدة لحل القضية الكرديّة. أولى هذه الخطوات كانت دعوة زعيم حزب الحركة القومية الحليف لحزب العدالة والتنمية دولت بهتشلي، مؤسّسَ حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، لإعلان تخلي حزبه عن السلاح وحل الحزب، داعيًا إياه للحديث أمام البرلمان التركي لإعلان ذلك، مشيرًا لإمكانية إطلاق سراحه. وللمضي قدمًا في هذا المقترح، دعا بهتشلي لتمكين حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب الكردي من زيارة أوجلان للعمل على هذا الأمر. 

جاء هذا المقترح بمثابة صدمة للجمهور، خاصة وأنه صادر عن شخصية قومية لها تاريخ طويل في معارضة عمليات السلام السابقة والهجوم ليس فقط على العمال الكردستاني، بل وأيضًا على الأحزاب الكردية المختلفة التي لطالما اتهمها بالإرهاب. 

بعد صمت ملحوظ إزاء المقترح، تبنّى الرئيس أردوغان، مبادرة بهتشلي التي حملت عنوان «تركيا بلا إرهاب» مع التأكيد على جزئية إنهاء الإرهاب.

سمحت الحكومة التركية للحزب الكردي بزيارة أوجلان. وعقب اللقاء الثالث معه جاءت الدعوة التاريخية التي لم تكن مجرد مقترح سياسي، بل مراجعة سياسية شاملة. ركز أوجلان في دعوته التي حملت عنوان «دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي» على أن حزب العمال الكردستاني ابن زمن مختلف هو القرن العشرين موضحًا أن الظروف التي وفّرت الشرعية للحزب قد تغيّر الكثير منها، وأن الحزب «تجاوز معناه وأصبح يكرر نفسه بشكل متزايد»، داعيًا إلى حلّه. كما تحدث أوجلان عن أطروحة الأخوة التركية الكردية التي اعتبر أنها تعرّضت لهجوم خارجي من الحداثة الرأسمالية وآخر داخلي من «التفسيرات الأحادية التي قدمتها الجمهورية». مشددًا على الحاجة إلى «مجتمع ديمقراطي» لتنظيم تلك العلاقة، وأن ظهور العمال الكردستاني كان نتيجة انسداد طريق السياسة الديمقراطية. 

وفي دعوته هذه، تخلّى أوجلان بصريح العبارة عن حلول وصفها بأنها قائمة على نزعات قومية متطرفة، وشملت هذه الحلول إنشاء دولة قومية منفصلة، أو اللجوء للفيدرالية، أو الحكم الذاتي، أو الحلول الثقافوية. 

وفي المقابل أكّد على أن الحل مرتبط باحترام الهويات وحرية التعبير عنها، وهو غير ممكن دونما «مجتمع ديمقراطي ومساحة سياسية»، داعيًا لضرورة تتويج قرن الجمهورية الثاني بالديمقراطية بوصفها طريق الحل. وبعد هذا التمهيد، دعا في ختام رسالته حزب العمال الكردستاني للتخلي عن السلاح، وحلّ نفسه «لأجل الوحدة بين الدولة والمجتمع». 

كيف استقبلت دعوة أوجلان؟

بعد هذه الدعوة، اعتبر أردوغان أن بلاده دخلت مرحلة جديدة نحو هدف تركيا بلا إرهاب، مؤكدًا أن أمام البلاد فرصة تاريخية لإنجاز هدف هدم جدار الإرهاب بين الأخوة التركية الكردية، محذرًا أي جهة من إيصال العملية إلى طريق مسدود كما حصل في الماضي. وفي معرض تعليقه على كلام أوجلان قال إنه وعندما تتم إزالة ضغط الإرهاب والسلاح فإن مساحة الديمقراطية سوف تتسع بشكل طبيعي. 

على المقلب الآخر، قررت اللجنة التنفيذية لحزب العمال الكردستاني الامتثال لدعوة أوجلان، وإعلانها وقفًا لإطلاق النار لإفساح المجال أمام المبادرة الجديدة، مؤكدة التزامها بتطبيقها مستدركةً أن «أرضية القانون والسياسة الديمقراطية» يجب أن تكون مناسبة لأجل نجاحها. وأن الحزب مستعدّ للدعوة لمؤتمر عام، شريطة توفر أجواء آمنة لعقده، وأن يديره أوجلان بنفسه، وحتى يتحقق هذا يجب إطلاق سراحه بحيث يشارك في العملية الجارية بشكل حر. وهو ما يفهم منه أن الحزب أبدى موافقة مشروطة على دعوة أوجلان.

أدّت دعوة أوجلان هذه لاستنفار كبير في صفوف المعارضة التركية، ما بين داعم متحفظ، وآخر رافض بالمطلق. فمن جهة، دعم حزب الشعب الجمهوري، وأحزاب محافظة ويسارية صغيرة، دعوة أوجلان ولكنهم حذروا في الوقت نفسه من أن تكون عملية السلام أداة لأجل مصالح سياسية ضيقة. في إشارة لخشية المعارضة التركية من أن تكون هذه العملية مدخلًا لتعديل الدستور التركي، وأن ما يجري عبارة عن صفقة تمكّن الرئيس أردوغان من الترشح لولاية جديدة، ولذا اشترطت أن تكون هذه العملية شفافة وتحت قبة البرلمان وبمشاركة جميع الأحزاب لتجنب أي مساومات سرية.

ومن جهة أخرى تبنت القوى القومية في المعارضة التركية كما في نماذج حزبي الجيد، والنصر، موقفًا معارضًا بحزم، وكانت قد اعتبرت أصلًا مبادرة بهتشلي خيانة لمبادئ القومية التركية. وقد وصفت دعوة أوجلان بأنها «نتيجة قذرة لصفقة قذرة» لأجل منح أردوغان ما وصفه زعيم الجيد مساوات درويش أوغلو بـ«الرئاسة الأبدية». كما وجدت هذه الأحزاب في رفض مبادرة بهتشلي فرصة للمزاودة عليه في قيادة الكتلة القومية في تركيا، التي لطالما احتكر حزبه تمثيلها. 

أمّا خارج تركيا، فحظيت الدعوة بالترحيب من جهات مختلفة، بينها الولايات المتحدة وإيران والقوى الكردية في العراق. لكن كان لافتًا موقف قوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي تتهمها أنقرة بأنها الفرع السوري للعمال الكردستاني، إذ رحبت بالدعوة، لكنها شدّدت على أن دعوته مخصصة لحزب العمال الكردستاني ولا تشمل القوى الكردية في سوريا باعتبار أن ظروفها مختلفة. بالفعل، افتقرت دعوة أوجلان إلى أي إشارة مباشرة إلى سوريا والقوى الكردية فيها رغم مركزية هذا الملف بالنسبة لتركيا وسياستها الداخلية والخارجية. لكن في الوقت عينه شملت الدعوة تخليًا صريحًا عن أطروحات الانفصالية والفيدرالية والحكم الذاتي والتي تمثل أساسات أيديولوجية بالنسبة لقسد.

ما المختلف هذه المرة؟ 

رغم أنها ليست المرّة الأولى التي تبدأ فيها عملية سلام بين تركيا والعمال الكردستاني، لكن الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بالعملية هذه المرّة تجعلها مختلفة. 

بداية تنبع أبرز فرص المضي بها من السياق الداخلي، إذ جاءت المبادرة لها من أحد رموز الحركة القومية التركية، بصيغة حذرة تراعي الحساسيات القومية رغم جرأتها، ما منح هذا المسار شرعية أكبر لدى جزء رئيس من القوميين على عكس التجارب السابقة التي قاد بهتشلي معارضة شرسة ضدها. بل يمكن القول إنه في تركيا اليوم لا يوجد أحد غير بهتشلي وأردوغان لديه القدرة على إطلاق هكذا مبادرة كاسرة للمحرمات دون أن يكون ذلك انتحارًا سياسيًا شاملًا. كما تتميّز دعوة أوجلان هذه المرّة بوضوح دعوتها لإلقاء السلاح وحل العمال الكردستاني بما لا يدع مجالًا لتأويل كلامه، خاصة مع ما يمتلكه أوجلان من رمزية كبيرة لدى شرائح معينة، وهو الذي قضى أكثر من عقدين ونصف من عمره في السجن. 

وتجيء هذه الدعوة في وقت يرى فيه التحالف الحاكم أنه حقق إنجازات كبيرة في عملياته ضد العمال الكردستاني من حيث تقويض وجوده في الداخل والضغط عليه بشكل كبير في الخارج. 

إضافة لذلك، لا يمكن تجاهل خسارة التحالف الحاكم في الانتخابات المحلية الأخيرة، وهو ما يمكن ردّه للأزمة الاقتصادية التي تؤثر على شعبيته، ما يدفعه للبحث عن إنجاز كبير يعيد له زخمه. وسبق أن تحدث أردوغان عن تأثير «الإرهاب» على تركيا وتحملها خسائر بشرية ومادية كبيرة بسببه. تزامنت هذه المبادرة أيضًا مع تركيز أردوغان وتحالفه على الدعوة لإعداد دستور جديد لتركيا بدل الدستور الحالي الذي يعتبره تركة للانقلابات العسكري.

لكم ورغم أهمية الدوافع الداخلية، إلا أنها ليست كافية وحدها لفهم المختلف في عملية السلام الحالية. فمنذ البداية، ركز بهتشلي وكذلك أردوغان، على فكرة «تحصين الجبهة الداخلية» في مواجهة التطورات الإقليمية المتسارعة لا سيما بعد العدوان الإسرائيلي على غزة. ولذا شددا على ضرورة الوحدة التركية الكردية لنزع ورقة القضية الكردية التي قد تستخدمها أطراف خارجية مختلفة ضد تركيا، مع التحذير من التهديد الإسرائيلي بشكل خاص. كما ازدادت أهمية العوامل الخارجية في ظل التطورات الحاصلة في سوريا مؤخرًا، مع سقوط النظام السوري، ووصول حلفاء أردوغان للحكم. وهنا من المفيد العودة للأعوام (2013-2015). وقتها وفي ظل التطورات في سوريا، والتي شهدت صعود قسد وإعلانها عن إدارات ذاتية في مدن شمال سوريا، بدأت موجة من التوترات في المدن التركية، وفشلت عملية السلام وعاد القتال مع حزب العمال الكردستاني. 

كما يرى محللون أتراك أن وصول ترامب للبيت الأبيض، واحتمال تبنيه مقاربة مختلفة عن بايدن، قد يعني إضعافًا لموقف القوى الكردية السورية، ما يشكل بالتالي داعمًا للتصور التركي لعملية السلام.

لكن ورغم كل ذلك، لا تزال عملية السلام تواجه تحديات كبيرة. فمن البديهي أن صراعًا بكل هذا التعقيد والتشابك لن يكون من الممكن حله بسهولة أو بسرعة. ويبدو أن أبرز التحديات الحالية هو شكل تعامل العمال الكردستاني مع دعوة أوجلان. فرغم أنه وافق عليها من حيث المبدأ إلا أنه وضع شروطًا قد تصعب التقدم في العملية، خاصة وأنه يشترط حرية أوجلان للمضي قدمًا. 

ليس هذا وحسب، لا يزال من الوارد أن تعترض بعض المجموعات الكردية وتستمر في المواجهة المسلّحة مع الدولة التركية ما قد يفجر العملية برمتها، إذ إن في العمال الكردستاني تيارات متنوعة برؤى مختلفة. فمثلًا، لا يمكن أن تقبل تركيا محاولة قسد النأي بنفسها عن دعوة أوجلان وهو ما شدد عليه المتحدث باسم العدالة والتنمية، مؤكدًا على ضرورة حل جميع أذرع العمال الكردستاني أيًّا كان اسمها بما فيها قسد. ما يعني أن تمسك قسد بموقفها قد يضر بالمسار الحالي بأكمله. وفي الوقت نفسه، يمكن لعوامل أخرى أن تؤثر على مسار العملية، مثل موقف ترامب منها، وكذلك المسارات التي تمضي بها سوريا، غير المستقرّة إلى الآن، والتي يمكن أن تؤثر على تركيا، لا سيما في ظل تحركات إسرائيل لتحجيم الدور التركي هناك.

إضافة إلى ذلك، يبدو من الواضح للجميع أن مسار عملية السلام ينطوي على الكثير من التفاصيل غير المعلنة حتى الآن. فالرواية الرسمية التركية ترفض اعتبار عملية السلام عملية مساومة موحية بأن ما يحصل هو استسلام غير مشروط. لكن يصعب تصور أن هذه العملية ليست مشروطة وبلا مطالب من الطرف الآخر. وكذلك، ورغم أن نص دعوة أوجلان لا ينطوي على شروط، أي بالصورة التي أرادتها الرواية الرسمية، إلا أنه لا يمكن تجاهل الملاحظة الشفوية التي حَمَّلها أوجلان لوفد الحركة الكردية والتي أكد فيها ضرورة «الاعتراف بالسياسة الديمقراطية والبعد القانوني». وهي عبارة قال الصحفي المعارض إسماعيل سايماز إن الوفد فسرها بالقول إن عملية السلام تحتاج إطارًا قانونيًا، يستند لثلاث نقاط رئيسة وهي تعديل الأحكام الصادرة بحق السجناء، وإتاحة الفرصة لعناصر وقيادات العمال الكردستاني في الجبال للعودة للحياة المدنية، وإعطاء ضمانات حول الاعتراف بالهوية الكردية ومنح حماية قانونية للبلديات التي تفوز بها الحركة الكردية. 

ومن ضمن التفاصيل غير المعلنة لهذا المسار، ما يشاع حول خطة العمل على دستور جديد بدعم كردي، خاصة أنه وفي نفس يوم دعوة أوجلان دعا القيادي في العدالة والتنمية ورئيس الوزراء التركي السابق بن علي يلدرم إلى إجراء تعديلات دستورية تضمن ترشح الرئيس أردوغان لولاية رئاسية جديدة في ظل التطوّرات العالمية المتسارعة مع إشارته إلى إمكانية «تحديث تعريف المواطنة» بما يتجاوز التعريف العرقي الحالي. لكن هذا الأمر لو تمّ فإنه سيقدّم غالبًا على شكل إصلاح ذاتي تبادر له الحكومة، بحيث لا يظهر وكأنه مساومة وتنازل أمام «الإرهاب». ومع هذا فإن أي خطوات على هذه الشاكلة تحتاج مناورة حذرة كي يقتنع بها الشارع التركي، وبل وحتى قواعد تحالف الشعب. 

ماذا بعد؟ 

لا يختلف أحد على استثنائية دعوة أوجلان والدفعة الكبيرة التي منحتها لفرص حل القضية الكردية. لكن لا يمكن في ظل المعطيات الحالية توقّع مستقبل عملية السلام في ظل التحديات الكثيرة، وكذلك نتيجة لغياب العديد من التفاصيل التي قد تحدد مسارها. لا يزال الطرفان في بداية مسار سيتطلب مرونة عالية ونفسًا طويلًا وإرادة في ظل حالة عدم ثقة مزمنة بينهما. لكن من الممكن الجزم بسهولة بأن سيناريوهات نجاح أو فشل عملية السلام الحالية سيكون لها انعكاسات كبيرة داخل تركيا وخارجها. فمثلًا قد يعني فشل المسار الحالي بدء مرحلة مواجهة واسعة جديدة مع القوى الكردية لا سيما وأن الحكومة التركية تضع خيار توسيع المواجهة على الطاولة. ومن المهم هنا الإشارة إلى حالة قسد، فتركيا تمارس بالفعل ضغطًا عسكريًا عليها في إطار مفاوضات متعددة الطبقات حول مستقبل شمالي شرق سوريا. وبالتالي فإن فشل عملية السلام قد يعني لأنقرة استنفاد كل الخيارات والذهاب إلى المواجهة الواسعة لا سيما على طول المناطق الحدودية مع سوريا. 

أمّا في حالة تحقيق اختراقات في المسار الحالي فإن تركيا وتحالفها الحاكم سيعيشان اندفاعة كبيرة على كافة الأصعدة. ولا يمكن تخيل ذلك إلا في حال صفقة واسعة تشمل فاعلين مختلفين في تركيا وسوريا والعراق، إضافة إلى لاعبين إقليميين ودوليين آخرين. لكن وبغض النظر عن مآلات المسار الحالي، من الملاحظ أن تركيا ترى بأن الظروف الحالية في صالحها، وهو ما يمنحها تفاؤلًا بإمكانية الوصول إلى نتائج مختلفة عن الماضي.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية