رحيل «الهر»: ابن الرمثا في ذاكرة ناسها

الثلاثاء 17 كانون الأول 2024
يوسف الهربيد الزعبي الملقب بـ«الهر».

يأبى عقد الخمسينيات في الأردن أن يغادر الذاكرة العامة؛ الشعبية والرسمية معًا. وبالطبع مع اختلاف زاوية النظر؛ فهو في الذاكرة الشعبية زمنُ النشاط السياسي الشعبي الشامل والفعال، بينما في الذاكرة الرسمية زمن اضطراب الأمن وفوضى الشارع السياسي. لكنه بكل الأحوال لا يزال حاضرًا، يشتاق إليه فريق ويتوجس منه فريق آخر.

أما أبرز أحداث ذلك العقد الشهير، فقد مثلته الهبةُ الشعبية الكبيرة في الأيام الأخيرة من عام 1955 ومطلع العام 1956، التي انطلقت ضد مشروع سياسي دولي عُرف باسم «حلف بغداد» كان يسعى لضم الأردن إليه، وقد أيده فريق في الحكم بينما عورض شعبيًا باعتباره حلفًا استعماريًا. فقد رعته بريطانيا بموافقة أمريكية وضم كلا من تركيا وإيران والباكستان والعراق. كما عارضته الحكومات في كل من مصر وسورية والسعودية، وجرت محاولات فعلية لضم الأردن إليه، ولكن الحركة الشعبية غير المسبوقة وربما «غير الملحوقة» من حيث شمولها وحدّتها، أوقفت محاولات الضم، وقد أعلنت الحكومة رسميًا عن تراجعها.

غير أن تلك الحركة الشعبية، سرعان ما قادت إلى تحولات سياسية كبيرة، على المستويين الرسمي والشعبي، ذلك أن مشاهد المواجهات في الشوارع وسقوط ضحايا، شكل صدمة حتى على المستوى الرسمي الذي أحس بثقل حضور الضباط الإنجليز الذين أشرفوا على المواجهات بقيادة الجنرال كلوب. وبعد أسابيع قليلة من انتهاء الحركة، اتخذ الملك قرار تعريب قيادة الجيش، وإبعاد كلوب وباقي الضباط الإنجليز الذين كانوا يسيطرون على قيادة الجيش، وسادت أجواء انفراج سياسي داخلي، وتقرر عقد انتخابات نيابية في أجواء من النشاط الحزبي شبه العلني. أما خارجيا فقد فُتحت بعد ذلك خيوط علاقات سياسية مع مصر وسوريا والسعودية.

كُتب الكثير عن تلك الأحداث، التي لا تزال تغري إعادة القراءة، وخاصة بعد الكشف عن بعض الأرشيف البريطاني، فضلًا عن إقدام كثيرين ممن عايشوا ذلك الزمن على كتابة ورواية مذكراتهم وشهاداتهم.

لكن، لكل مدينة وقرية (في الضفتين الشرقية والغربية) قصتها الخاصة في تلك الأحداث، ففي مدينة الرمثا الواقعة أقصى شمال الأردن والمجاورة للحدود مع سورية، والتي اكتسبت موقعًا فريدًا وربما «طريفًا» في مجمل سيرة تلك الأحداث، اتخذت الاحتجاجات السياسية شكلًا محليًا ممزوجًا بشخصية المدينة الحدودية المنفتحة، التي رغم كونها منطقة زراعية كجزء من سهول حوران، إلا أن سكانها اعتمدوا على التجارة مع المحيط وهو ما وفر لهم فرصة العيش بدرجة ملحوظة من الاستقلالية الاقتصادية.

بسرعة ملحوظة، تحولت الحركة الاحتجاجية إلى ما يشبه التمرد الشعبي، وسيطر المحتجون على مداخل البلدة الرئيسية، وخاصة على الطريق الدولي الذي يربط الأردن مع سوريا، ثم بلغ الحماس حدًا جعل المحتجين يعلنون تشكيل «جمهورية الرمثا» بقيادة طالب المدرسة يوسف الهربيد الزعبي الذي كان في الصف قبل الأخير، وكان يحمل لقب «الهر»، وقد توفي مؤخرًا في 23 تشرين الثاني 2024 بين أسرته، بعد أن كان قد اعتزل النشاط السياسي المنظم منذ الإفراج عنه من سجن الجفر في نيسان عام 1963 الذي أمضى فيه أربع سنوات، لكن لقب «رئيس الجمهورية» رافقه طيلة حياته، والتصقت قصة الجمهورية بشخصية مدينة الرمثا وأهلها وسيرتها، مع ملاحظة أنها بمرور الزمن صارت تحضر بصفتها حدثًا فيه قدر من «الطرافة» إلى جانب محتواه السياسي.

كنتُ قبل أكثر من 15 عامًا قد أجريت مع «الهر» مقابلة مطولة شكلت التوثيق الأول للحدث على لسان قائده الأبرز. والواقع أن شخصية الرجل ظلت على الدوام صعبة متوجسة كتومة، بحيث أن موافقته على إجراء المقابلة احتاجت لنحو ثلاث سنوات. وربما يكون هذا مفهومًا بسبب حجم تلك القصة في حياته، فقد كلفته سنوات من الاعتقال، تلتها سنوات أخرى من التضييق والمتابعة.

بعد إجراء تلك المقابلة، تمكنتُ من الحصول على مواد ومصادر إضافية عن مجريات الأحداث في الرمثا، فقد التقيت بواحد من مدرّسي «الهر» في مدرسة الرمثا، ورد اسمه في المقابلة مع الهر، وهو الدكتور كامل فضا الذي كان قد عين معلمًا في الرمثا بعد التخرج من المدرسة فورًا، وكان حينها عضوًا في الحزب الشيوعي، وعرف الهر بصفته تلك، فقد كان النشاط الحزبي شبه علني، والتقيته مؤخرًا لغايات إنجاز هذه المادة. كما عثرت على بعض المواد الأرشيفية عن قرار الإفراج عن الهر وخروجه من السجن، وحصلت على ثلاث رسائل شخصية أرسلها لزوجته من السجن، ووردت معلومات أخرى في كتاب وثائقي لماهر عثمان صدر عام 2016 بعنوان «الأردن في الوثائق السرية البريطانية (19531957)»، وقد تضمن كثيرًا من مراسلات السفارة البريطانية في عمان مع لندن في تلك الفترة.

تتيح تلك المصادر فرصة قراءة الحدث مجددًا، وفي حالة الرمثا رأيت أن قراءة الحدث من منظور الاجتماع السياسي، توفر فهمًا أعمق، وأكثر تفسيرًا للمجريات. ففي الرمثا حضر البعدان الاجتماعي والسياسي معًا، بالتوازي مع حضور المستويين الرسمي والأهلي، فصحيح أن الأحداث الاحتجاجية في البلد كانت لها أسباب وأبعاد واسعة، وقد اشتغلت بها المراكز الكبرى ليس فقط محليًا بل أيضًا عند الأطراف الدولية ذات الصلة، فقد حضر إلى عمان قائد الجيوش البريطانية الجنرال تمبلر وأقام أيامًا في عمان لإقناع الحكومة والنواب بفوائد الانضمام إلى حلف بغداد، كما حضر الرئيس التركي جلال بايار وزار القدس والقرى الأمامية على خط المواجهة مع العدو، وأعلن فوائد الحلف الدفاعية للأردن، وداخليًا اضطرت الحكومة القائمة إلى الاستقالة بسبب الخلاف داخلها حول الأمر، وشُكلت أخرى لغايات إقرار الانضمام إلى الحلف، ولكنها كانت أقصر الحكومات عمرًا، فلم تستمر سوى خمسة أيام. ومع هذا بقيت خصائص مدينة الرمثا وشخصيتها ومزاج وطباع أهلها حاضرة أيضًا.

كما أن شخصية الراحل يوسف الهربيد «الهر» كانت حاضرة بما يكفي ليكون زعيمًا بلا منافس لآلاف المواطنين من الرمثا والقرى المحيطة، الذين كانوا خلال أيام الاحتجاج مواظبين على المشاركة كما لو كانت دوامًا منتظما، فيحضرون في الصباح، ويغادرون فترة الغداء، ثم يعودون بعدها في أجواء احتجاجية واحتفالية أيضًا، بما وفر للناس حصيلة كافية من الحكايا والطرائف، إلى جانب الذكريات المؤلمة بعد دخول القوة العسكرية وسيطرتها على المدينة، وقد رافقتهم تلك الذكريات زمنًا طويلًا.

من هو «الهر»؟

يوسف الهربيد الزعبي ابن عائلة فلاحية، وقد جرت العادة في المجتمعات الزراعية إعداد الأبناء ليصبحوا مزارعين كأهلهم، وهو ما جرى مع يوسف في السنوات الأولى، ولكن صدف أن موظفًا رسميًا كُلّف بجولة بين الناس لإقناعهم بترشيح تلاميذ للمدرسة. ففي ذلك الزمن كان الأهالي يترددون في إرسال أولادهم للمدارس لأن ذلك يعني حرمان الأسرة من أحد العاملين المنتظرين. فعمدت الجهات الرسمية إلى طلب طفل واحد على الأقل من كل أسرة، وهذا ما حصل مع أسرة الهربيد، وفيها ثلاثة أبناء ذكور.

كان ترشيح يوسف للدراسة جماعيًا إلى حد ما، فقد كان أكثر إخوته «فصاحة» باعتراف أفراد الأسرة وباقي المجتمع المحيط بهم، حيث اعتاد الأب على الاستماع لمن يقول له: دير بالك على يوسف، ما شاء الله «فِصِحْ». وبالفعل التحق بالمدرسة لتبدأ مرحلة جديدة من عمره تجلت فيها «فصاحته» كثيرًا، ولكن هذه المرة في مسائل أكبر.

أول تمرد

من التقاليد الشعبية في الرمثا أن الأم تسأل طفلها عند بداية تعلّمه النطق سؤالًا خاصًا، وكانوا يعتقدون أن أمورًا مهمة في حياته وحياة الأسرة كلها ستتوقف على نوعية الإجابة، والسؤال هو: «هل تَنْطَح أم تَعْقُط؟» (النطح هو الضرب بالرأس والعقط هو الضرب بالرجل والكعب)، فإذا أجاب الطفل انه «ينطح»، كان معنى ذلك أن أخاه الذي سبقه بالولادة سيموت، وإذا أجاب أنه «يعقط»، فهذا يعني أن والدته لن تلد بَعْدَهُ.

يقول «الهر» إن والدته أخبرته فيما بعد، أنه عندما سئل هذا السؤال، أجاب: إنه ينطح ويعقط معًا، ويضيف أنهم ظلوا يذكرونه بهذه الإجابة كلما بدرت منه حادثة تمرد، لا سيما وأن شقيقه الذي يكبره قد توفي بالفعل كما أن والدته لم تلد بعده.

أما لقب الهر فقصته بسيطة، ذلك أن معلمًا للغة العربية اسمه خليل عوض من قرية حوارة، كان يعلم التلاميذ درسًا عنوانه «الهر» فالتفت إلى يوسف وقال: اقرأ الهر يا هر. فضحك الطلاب وكانوا كمن ينتظر هكذا تعليق، وراحوا ينادونه الهر.

في نهاية أربعينيات القرن العشرين كانت الأحداث السياسية تتوالى، وظهر النشاط السياسي بقوة، ثم بدأت أسماء الأحزاب تتردد: الشيوعي والبعث والتحرير والإخوان. وهنا يقول الهر:

«استهوتني جميع الأحزاب، وحضرتُ اجتماعاتهم كلهم، وقد مرّت عليّ فترة كان كل حزب يحسبني معه، ولم أكن أمانع، ولم أكن أفصح عن انتماء لحزب معين. وذات يوم دعاني الشيخ عبد العزيز الخياط الذي كان معلمًا في الرمثا إلى اجتماع ليلي لحزب التحرير، عقده في بيت من بيوت قرية «البارحة» غرب إربد، وقد صعدنا إلى مكان الاجتماع على الطابق الثاني عبر درج خارجي بلا حماية على جوانبه، وعند انتهاء الاجتماع، خرجت مسرعًا فوقعت على الأرض من الطابق العلوي، ونقلوني إلى المستشفى، وقد زارني ممثلون عن كل الأحزاب، وكل يعتبرني من حزبه. أما الحزب الشيوعي الأردني، فقد تعرفت عليه من خلال قريبي أحمد الجبر الخديوي الذي كان قد تعرّف إلى شيوعي شهير في إربد آنذاك هو الشاعر أسد محمد قاسم، لكن أول الأحاديث المفصلة عن الشيوعية كانت من خلال مدرس في المدرسة اسمه كامل فضا».

كانت فكرة «الحزبية» جذابة جدًا، ولم يكن هناك شعور بخطورتها، وكان التحزّب يضيف لصاحبه مركزًا اجتماعيًا مرموقًا. وكانت الأحزاب تتنافس لاستقطاب الأعضاء، وكانت عملية إقناع شخص بالانتقال الى حزب آخر تسمى «تشليح» وهي مفردة انتشرت في العمل الحزبي شعبيًا، فكان يقال: «شَلّحْناهم» عضو.

في الرمثا أخضع الحزبيون أحزابهم وأفكارها لشبكة علاقاتهم الاجتماعية، فانتقل التنافس العشائري إلى العمل الحزبي، ومن طرائف ذلك أن القياديين الشيوعيين عيسى مدانات وعبد العزيز العطي زارا الرمثا للاجتماع برفقاهم هناك، وقد استضيفوا في مقهى عام، ولما تردد الزائران بنقاش الأمور الحزبية في المقهى، قال لهم رفيقهم الرمثاوي: «تفضلوا ولا تخافوا، كلنا زعبية». وهو يقصد الانتماء العشائري.

أول اعتقال سياسي

«ذات يوم في عام 1955 داهمت قوة من الأمن بيتي وألقوا القبض عليّ وحوّلوني إلى المحكمة بتهمة «الإخلال بالأمن»، وكنت لأول مرة أسمع هاتين الكلمتين معًا، وحينها لم أفهم معناهما، ولكن الحزب كلّف بعض المحامين للدفاع عني، وخرجت من سجن إربد بعد أن أمضيت فيه حوالي شهر، وكانت هذه أول حادثة اعتقال سياسي في الرمثا، وهي التي كشفت بشكل نهائي أمام الآخرين علاقتي التنظيمية بالحزب الشيوعي تحديدًا»، يقول الهر.

ولكن موضوع حلف بغداد غيّر الكثير. كان الوضع السياسي يزداد غليانًا، وكان الناس يتبادلون الأخبار عن خطورة الحلف.

اشترك الجميع شبابًا وشيوخًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، وشارك الناس من القرى القريبة من الرمثا مثل الطرة والشجرة، وسرعان ما انفلتت كل أشكال السلطة في البلد، وتعطلت المدارس والمؤسسات، وكان الناس يخرجون للتظاهر كما لو كان دوامًا في وظيفة، حيث يبدأون منذ الصباح ثم يغادرون للغداء وبعده يعودون لاستئناف التظاهر من جديد «عندما بدأنا تحريك المظاهرات كانت الاستجابة عالية ومفاجئة لنا» يعلق الهر.

كانت المظاهرات تجوب أنحاء البلدة، مع التركيز على الطريق الدولي الموصل إلى الحدود مع سوريا، وقد هاجم الجمهور مركز الحدود وأحرقوا مبنى الاستراحة التابعة لوزارة السياحة، التي كان الناس يعرفونها باسم «الرّسْت»، كما أحرقوا أحد مشاريع ما عرف حينها بـ«النقطة الرابعة» الأمريكية الذي كان يضم ماكنات لغربلة الحبوب، كخدمة حكومية للفلاحين. وفي هذه الأثناء بدأ الحديث بين الجمهور المنفعل عن الاستقلال والجمهورية، وتم نزع «قارمة الحدود» التي تعلن نهاية الحدود الأردنية مع سوريا.

ومما يذكره الهر من أحداث تحولت إلى طرائف، أن شباب البلد قبضوا على سفيرين كانا متجهان إلى دمشق، أحدهما سفير مصر، وعندما جلبوه، يقول الهر، صافحته وحييته وأبلغتهم أن مصر ضد الحلف، وتركناه بعد أن صفق الجميع له. أمّا الثاني فهو سفير تركيا، وهي من مؤسسي الحلف، ولهذا احتجزناه، إلى أن حضر أحد الوجهاء وكانت زوجته تركية، فسلمناه إياه باعتباره من أنسبائه!

يتذكر الدكتور كامل فضا أن الناس رفعوا «كيس خيش» كعلم لهم في تلك الأحداث، رمزًا للفلاحة، فتلك الأكياس كانت تستخدم عادة في تعبئة الحبوب وتخزينها.

أول مظاهرة عابرة للحدود

حصلت في تلك الأثناء مظاهرة خاصة فريدة من نوعها، حيث توجه المئات نحو مدينة درعا السورية متجاوزين الحدود، ووصلوا إلى مركز مدينة درعا، وأبلغوهم أهدافهم ، فاحتار الموظفون هناك، وطلبوا الإمهال حتى الاستفسار من العاصمة دمشق. وبعدها أبلغوا بأن مجلس الشعب السوري يحييهم، وطلب منهم العودة، مع السماح لمن يرغب بالبقاء كلاجئ سياسي. وقد سجل بعضهم أسماءهم كلاجئين، لكنهم عادوا في اليوم التالي! فلم يكن هناك ما يمنع ولم تكن هناك حدود أصلًا، وكل ما في الأمر أنه أعجبهم لقب «لاجئ سياسي».

ومن أطرف ذكريات تلك المسيرة العابرة للحدود، أن مسؤولين في سوريا أسرعوا عند وصول المظاهرة يسألون عن الوضع في الأردن، ولكنهم اختاروا أن يوجهوا سؤالهم لأضخم شخص في المظاهرة، وكان رجلًا بسيطًا، وعندما فاجأه الالتفاف حوله قال لهم: «أسكتوا طعّة وقايمة». وقد أصبح هذا التصريح مشهورًا فيما بعد ويتكرر كثيرًا في مناسبات متنوعة.

بلغ الناس خبر توجه وفد حكومي إلى الرمثا لبحث الأوضاع، فأسرع جمهور كبير إلى موقع عند مدخل البلدة الجنوبي يعرف بـ«المثلث» وهو تقاطع الطريق الدولي نحو سوريا مع طريق إربد المفرق. وحصلت مواجهة بالأيدي مع الوفد الحكومي، وعاد الناس بتفاصيل فكاهية عن تلك المشاجرة مع الحكومة، وبعضها ظل حديث الناس كلما مرت الذكرى.

كان ذلك اليوم هو اليوم الأخير للتظاهرات، وهو 30 كانون أول 1955، فقد عرف الناس أن النية تتجه لدخول الرمثا والسيطرة على الوضع. وهنا يقول الهر: في المظاهرة الأخيرة، خطبتُ في الناس، وكنت أحمل سيفًا، وقلت لهم إن المواجهة قادمة وإنهم أمام خيارين: المقاومة أو الاستسلام، كما أبلغتهم بأنني مطلوب وسوف أهرب إلى سوريا، وبالفعل نزلت عن سطح المنزل الذي كنت أقف فوقه، وغادرت البلدة باتجاه قرية الطرة متجهًا نحو الحدود السورية.

توثيق أهلي سريع

عثرنا على مفكرة شخصية للحاج علي الخطيب وكان يملك «كُتّابا» خاصا به يعلم فيه الأولاد، وقد سجل في مفكرته سطورًا يعلق فيها على يوميات دخول القوة العسكرية واستمر طيلة أيام السيطرة وهي 13 يومًا.

ففي الصفحة التي تحمل تاريخ 31 كانون أول 1955 كتب ما يلي: «مع صباح اليوم أصبحت القوة مطوقة الرمثا لمنع الإضرابات» وفي اليوم الثاني الأول من كانون ثاني 1956 يكتب: «لحد الآن قوة الجيش مسيطرة (لوقف) على الأهالي ومطوقين البلدة»، ويواصل حتى الرابع من كانون ثاني حيث يكتب قائمة بما فرض عليه من تكاليف الحملة العسكرية، فوفق قانون العقوبات الجماعية يمكن للسلطات أن تقرر تحميل السكان التكلفة وتفرض الغرامات، وتحمل قائمة الحاج علي ما يلي: «شعير 2 مُد، بيض 30، جاج 3، باكيت شحاطات (كبريت) 14، جوز زغاليل، سمن، سكر، شاي ربع) وقد بلغت قيمتها الاجمالية: 328 قرشًا».

وفي السادس من كانون الثاني يكتب «لحد الآن القوة محيطة بالبلد من يوم الجمعة الفائت لكن سمحوا للعالم التجول»، ثم يكتب عن الغرامة المالية التي فرضت على الذكور بواقع دينارين ونصف على الفرد، ويذكر أنه ذهب إلى إربد لإحضار المال ودفع عنه وعن ابنه وأخيه مبلغ عشرة دنانير.

وفي 13 كانون الأول يسجل ما يلي: «ليلًا ارتحلت القوة من الرمثا من تاريخ 13 منه. مدة تطويق الجيش على البلد 13 يوم».

وفي الصفحة المقابلة في اليوم التالي نجد عبارة «العصر بدأت شتا شَقْعَت المزاريب» (شقع المزاريب هو صوت نزول الماء وارتطامها بالأرض).

في الأرشيف البريطاني نجد ما يؤكد ذلك، ففي رسالة للقائم باعمال السفارة البريطاني في عمان موجهة لوزارة الخارجية البريطانية نقرأ ما يلي: «احتلت قوة تحت قيادة ضباط عرب البلدة واعتقلوا قادة الاضطرابات وطلبوا تسليم 100 سلاح ناري وفرضوا غرامة قدرها سبعة آلاف دينار تعويضًا عن الأضرار التي حدثت خلال الاضطرابات. ويجبر قائد القوة أيضًا أهالي البلدة على تزويدهم بالطعام والسكر والوقود، وطالبهم بأن يدفعوا كلفة نقل الجنود من الزرقاء إلى الرمثا وبالعكس. وفهمت أن الجنود لم يكونوا لطيفين، وأن سكان الرمثا يجمعون النقود الآن من أصدقائهم في إربد. ويعتزم الجيش تطبيق هذا النظام على أماكن الاضطرابات الأخرى، ولكن بالتعامل معها واحدة واحدة لضمان أن تكون لديه قوة كافية».[1]

قاد تلك الحملة الضابط علي الحياري، الأمر الذي جعل الناس منذ ذلك الحين وللآن يسمون تلك السنة «سنة الحياري»، ويؤرخون أحداثهم قياسًا لها، ولكنهم عند الحديث من الزاوية المقابلة قد يقولون: «أيام الهر».

أمضى الهر فترة ليست طويلة في سوريا، فبعد انتهاء أحداث حلف بغداد، حصلت حالة انفراج سياسي في الأردن، ولكنه عندما عاد ألقي القبض عليه وحول إلى المحكمة التي برأته من تهم الشيوعية لكنه حوكم بالنفي إلى جرش حيث أكمل فيها سنته الدراسية الأخيرة.

لكن الهر الذي نجا من حملة الاعتقالات الشهيرة في منتصف عام 1957، بعد إقالة حكومة النابلسي وإعلان الأحكام العرفية، عاد واعتقل في عام 1959 بسبب وشاية، وهو سلوك كان معروفًا في تلك الفترة، وأرسل موقوفًا بلا محاكمة ليمضي أربع سنوات في سجن الجفر، بقرار الحاكم العسكري العام.

يحتفظ أرشيف الأسرة بعدد من الرسائل التي أرسلها الهر إلى والدته من سجن الجفر عامي 1961 و1962 وهي رغم كونها رسائل شخصية، لكنها تشير إلى لغة شاعرية فنقرأ في إحداها وصفًا لمشهد استقباله رسالة من الأهل وهو وسط رفاق السجن:

«أمسية منعشة حقًا! الرؤوس متحررة من الكوفية والعقال، والنسيم العليل يداعب شعر الرأس، الانسجام التام تتخلله أحدوثات عذبة شيقة، مرح يكتنفه حبور باسم، ذبذبات صوت تطرق أذني داعية إيّاي، نظرة في اتجاه الصوت، هدوء مفضل، إشارة إلي بمظروف طالما ألفت عيناي منظره المحبب».

  • الهوامش
    [1] كتاب ماهر عثمان. «الأردن في الوثائق السرية البريطانية 1953- 1957. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. 2016، صفحة 250/ 251

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية