كلما قرأت رسالة أو عملًا أدبيًا لأسير فلسطيني يغمرني شعور غريب بأنها جزء من حوار لا نهائي وممتد. حوار انطلق في هذا العالم مع نقوش البشر المشفّرة، ولوحاتهم على جدران الكهوف، إلى جدالاتهم الفلسفية حول الحياة الخيّرة، وشعرهم عن أعماق الفرد الملتبسة، ومسرحياتهم التي تتساءل عن الإنسان في عالم تحكمه قوى أكبر. حوار بدأ مع سعي البشر لفهم العالم ومكانهم فيه، وحافظ على مجراه الذي يمتد من بدء التاريخ أولئك الذين اختاروا دائمًا أن يسعوا نحو الحقيقة، ويصححوا أوهامنا، ويكشفوا عن القوى التي تعمل تحت واقعنا المرئي. ربما ما أتعرف إليه في رسائلهم هو ما يميز الأعمال البشرية العظيمة: توق الإنسان المهول لأن يستكشف ما يجدر البحث عنه، وسعيه النبيل من أجل جعل هذا العالم مكانًا أكثر إنسانية، وإصراره على كشف الظلم -ذلك الذي يتطلب غوصًا شرسًا في أعماقنا، ومساءلة جبّارة لكل ما نعتبره ذاتنا وواقعنا- وأخيرًا، انتماءه الحقيقي لمسيرة المعرفة الطويلة.
تجد بعض رسائل الأسرى طريقها إلينا، وهذا ليس أمرًا عاديًا، فقبل أن تظهر على شاشاتنا وتصير متاحة لنا سيكون هناك من استلمها، ومن طبعها، ومن دققها، ومن أعاد التأكد من الكلمات التي فيها. إنها تصل لنا بعد رحلة محفوفة بالمخاطر. ولكن ماذا نفعل بها وهي بين أيدينا، قادمة من مكان يسعى لأن يطمس أصحابها؟ ربما السؤال الذي يجدر بنا طرحه على أنفسنا هو: كيف من الممكن أن نكون قراءً حقيقيين وجديين لها؟ ربما تكمن الإجابة عن هذا السؤال في طبيعة الجهد الذي تتطلبه القراءة الحرفية للرسالة، فعادة ما تصلنا هذه الرسائل مكتوبة بخط اليد، وبخطوط صغيرة، متطلبة منا جهدًا كبيرًا في محاولة تمييز الكلمات، والتأكد منها. إن فهم الرسالة الحقيقية التي بداخل هذه الرسائل (أي الدرس الأخلاقي أو الإنساني الذي تطرحه) يتطلب منا أن نبدأ من الدرس الذي تمليه عليه القراءة الحرفية للرسالة، وهي أن ندرك في قرارتنا بأنه ليس من السهل علينا أن نميز ما تحاول هذه الرسالة أن تقوله، وأن سماع صوتها الحقيقي يتطلب منا فعلًا أن ننصت بتفانٍ، وأن نكون مستعدين لأن نتعلم شيئًا جديدًا عن أنفسنا. فصحيح أن هذه الرسائل قادمة من أعماق المعاناة، ومن أفظع الأمكنة على وجه الأرض، إلا أنه من المجحف منا أن نختزلها في ذلك. في الواقع، تملك هذه الرسائل حقيقة أخرى تحكيها لنا؛ حقيقة تبدو الآن، في عالم يسعى لأن يقهر طوال الوقت شعورنا بالمسؤولية والواجب والممكن، جوهرية وضرورية. أن ننصت بعمق، هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان أن تصل هذه الرسائل وجهتها الحقيقية: أن تعيدنا إلى العالم قراءً أفضل.
مثل كل الأصوات التي دافعت عن الحقيقة في عالم يفضل أن يشيح النظر بعينيه عنها، يعرف حاملو هذه المشاعل بأن مواجهتهم الأصعب ليست مع سجانهم أو من يحكمهم، بل مع القوى التي تبقي المجتمع ساكنًا وعاجزًا. إنهم يعرفون أن هناك قوى هائلة وغير مرئية تسعى لأن تلفق لنا قصة فنتازية عن واقعنا، في إطار سعيها المجنون لجعل مرارة الواقع أمرًا مقبولًا. تحطم هذه القوى غنى التجربة الإنسانية من خلال إصرارها على تعريفات ضيقة للمجتمع، والإنسان، والحياة، والرغبة. ولكن أكثر ما فيها هولًا، هو أنها لا تملك في داخلها مسارًا لتعديل الواقع أو تغييره، ولا أية إمكانية لتجاوز المفاهيم القديمة؛ فهي تستهزئ بالإيمان بالممكن، وتؤبد العنف، وتجعل آلام البشر غير مرئية حتى لو كانت أمام أعيننا، وتذيع العبارات التي حكمت علينا بالمعاناة كشيء حميد، وحياة مرفهة. يعرف أصحاب الأصوات التي تبحث عن الحقيقة بأن هذه القوى، على عكس تلك الواضحة والمتمثلة في الجلاد، أكثر خبثًا واستتارًا وتعمقًا، تتخفى في حياتنا على شاكلة رغبات وطموحات بريئة: هوس بالنجاح الفردي، أوهام زائفة بالأمان، انشغال بطموحات شخصية، لا مبالاة اتجاه الظلم، جشع مفرط، تنافسية حاقدة، رفض شرس للتغيير. نحن خاضعون تمامًا لهذه القوى وللقصص التي ترويها، ونستطيع أن نلمح قوة تجذرها في دواخلنا، في إحساسنا بأن ليس هناك ما نفعله حيال آلام الآخرين، في كرهنا الأعمى لمن يتم الترويج له بأنه لا يشبهنا، في هيمنة الطموح الفردي على الجماعي، في إحجامنا المتشدد عن طرح أي سؤال عن حقيقة العالم من حولنا، في الثقة البليدة بألا قيمة للتظاهر أو الرفض أو الاحتجاج، وفي الافتراض بأن أفضل ما يمكننا فعله في حياتنا هو أن نصبح أثرياء أو نحصل على وظيفة جيدة تشعرنا بالاستقرار، أو ننجو لوحدنا. إنها تتخفى في الحقيقة في أحلامنا.
ومثل حملة المشاعل في هذا العالم، يكتب الأسرى لنا رسائل تحمل تساؤلات عن فظائع وكنوز هذا العالم، دون أن تجفل منهما. وتفعل رسائلهم في نفوسنا ما تفعله الأشياء التي تتحدى ما نعرفه عن ذواتنا وعالمنا: تعيدنا إلى المكان الذي نستطيع أن نلحظ منه ما هو جدير بالحب في هذا العالم. فيكتبون لنا، محاولين فكّ التعويذة التي تلقيها علينا كل يوم الصورة الساحرة والمشعة لعالم السلعة، تلك التي تضيء شاشات هواتفنا وحواسيبنا ومحطات التلفاز، وتتزاحم على واجهات البنايات وأعمدة الكهرباء، وتحتل مخيلتنا وأحلامنا (مكانها الحقيقي)، مستحوذة تمامًا على الطريقة التي نتخيل بها بديلًا لعالمنا. إن الأحلام ليست شيئًا ثانويًا، ففي عالم تقوم منظومته الاقتصادية على إشعال الرغبات والأحلام، تشكل الأحلام إلى جانب كدح المسحوقين ومعاناتهم، الوقود الذي يبقي هذه الآلة مندفعة إلى الأمام. وبالطريقة نفسها التي تترسخ فيها العادات والقيم والتقاليد المقبولة للحفاظ على منظومات السيطرة الأبوية أو العرقية أو الطبقية، تترسخ الأحلام المقبولة والشرعية بتداولها بوصفها الشكل الوحيد الذي يمكن من خلاله تغيير واقعنا. تنبع شرعية هذه الأحلام من أنها لا تحمل بين طياتها كشفًا عمّا لا يعمل في واقعنا، عمّا قد يكون منبع ظلم، أو ألم، أو عنف، أو عمّا يخفي بشكل شرس شبكة معقدة من الاضطهاد، ولكنها تمنحنا وهمًا زائفًا بالتغيير. إن الأحلام المقبولة هي الحلم بالثراء الفردي بدلًا من الحلم بخلاص جماعي يتخلله تغيير الظرف الذي يبقي مجموعة بشرية أو عرقية تحت الاحتلال، أو تحت خط الفقر، أو غير جديرة بالتعاطف.
يكتب الأسرى وكأنهم يخوضون معنا درسًا تعليميًا، متحررين من سطوة هذه الصور، مؤكدين دائمًا على حلم يحمل في داخله رفضًا لبنى الإضطهاد في العالم، ويقدم تصورًا جديدًا عن العدالة، أو المجتمع، أو الأخلاق، أو الهوية. إن سعي الأسرى الجوهري، وعمق ما يحاولون قوله لنا، يتمثل في محاولتهم تحطيم ما غدا القنوات الشرعية للحلم في هذا العالم: الخلاص الفردي. يطلب الأسرى منا أن نصمم على الحلم بإمكانية عالم آخر، وأن نثبت أعيننا على مواطن الألم، وكأنهم يقولون إن النظر في وجوه من قدموا التضحيات يتطلب أن نجعل أحلامنا لا شرعية، رافضة أن تتجانس مع هذا العالم وظلمه، بل تندفع متحدية بقوة نحو تصور شيء آخر، نحو حياة نكون قادرين فيها أن نكون جزءًا أصيلًا من العالم، من حيرته ووضوحه، من جماله وتراجيديته، من عمقه وبساطته.
إنهم يطلبون منا أن نكون حالمين أفضل، لأنها الطريقة الوحيدة لأن نكون بشرًا أفضل. فالأحلام العظيمة هي التي تبدأ من إدراك أننا نتشارك العالم مع الآخرين، وهي الطريقة الوحيدة لأن نلتقي بأكثر الأشياء ضآلة في هذا العالم، إنها في الحقيقة ما يجعلنا نقدر الأشجار، والصداقات، والمعرفة، والخيال. وهكذا تجد في رسائلهم أن من يكتب عن العدالة والحرية هو نفسه من يكتب عن قوة وجمال الأزهار أو الغروب. إن أسرانا وعائلاتهم ومن يقدمون التضحيات ومن يحاربون بكل الأشكال هم قنوات الحلم الضخمة، يشقونها بحدسهم بأن الواجب تجاه العالم هو أكثر المشاعر إنسانية. يقول وليد دقة في رسالته الشهيرة:
«إن الكف عن الشعور بالصدمة والذهول، إن الكف عن الشعور بأحزان الناس.. أي ناس، وإن تبلد المشاعر أمام مشاهد الفظائع.. أي فظائع، كان بالنسبة لي هاجسًا يوميًا، ومقياسي لمدى صمودي وصلابتي».
وأفكر بقوة هذه التعاليم التي تأتي من شخص كتب هذه الرسالة وهو يدخل عامه العشرين في الأسر، تعاليم ترشدنا لما يتطلبه أن نكون بشرًا في هذا العالم. وتقول عائشة عودة:
«لم أحلم بالذهب والجواهر والحرير، بل كانت بعيدة عن تفكيري لدرجة كرهي لها. لا أذكر أنني توقفت يومًا أمام دكان صائغ. ومنظر الذهب على صدور النساء أو في أيديهن كنت أراه قبيحًا وخاليًا من الجمال.. كثيرًا ما كنا نحلم ببلادنا حرة، نتحرك فيها وعلى شواطئها بحرية وليس كغرباء، لم يخطف أبصارنا لمعان ذهب أو زركشة ثياب، كنا نشعر أننا نتمدد خارج جلودنا فيغطي وجودنا أرض الوطن كله.. ندخل نفوس كل الناس، نخلق عالمًا جديدًا وجميلًا، وقبل كل ذلك؛ عالمًا حرًا».
أما صلاح حموري فيقول أيضًا من داخل الأسر:
«بالنسبة لي، فإن الحياة الحقيقية تكمن في قطار الحرية وتضحياته، وليس في محطة انتظار من يصنع لنا الحرية».
يعرف الأسرى مثل من أصروا على قول الحقيقة، بأن التغيير يتطلب لغة جديدة قادرة على إظهار رعب ما يبدو آسرًا، ولعنة ما يهجم على أعيننا بصورة الرخاء. يعرفون أن عليهم أن يكشفوا أولًا عن الحصون الخفية التي تمنع إمكانية شيء آخر، ويكتبون لنا من داخل الزنازين عن الزنازين التي نعيش فيها. تحاول أي أداة سيطرة دائمًا أن تنتزعنا من عالمنا، من جوهر ما يشكل إنسانيتنا، وهو عقد صلات مع العالم من حولنا. إن تحطيم شعورنا بالواجب تجاه الآخرين، وتدمير الحس بالالتزام تجاه معاناتهم هو أشرس الطرق في تدمير الصلات مع العالم من حولنا. فالواجب، كما يظهر متوهجًا في كتابات الأسرى ليس فرضًا أيديولوجيًا بل صيرورة معرفية وعلاقة حب، تبقينا على اطلاع بما يحدث حولنا، مستعدين دائمًا لفهم جديد حوله، مفتونين ومتسائلين عن الأشياء، ملتصقين بما حولنا، بانتماءنا لما هو محير فيه، لا بتعريفاتنا المسبقة عنه. إنها تبقينا بشرًا.
بنفس الإيمان الذي تأتي منه رسائلهم، خاض خمسون أسيرًا إضرابًا عن الطعام لمدة عشرين يومًا ضد سياسة الاعتقال الإداري. أتى هذا الإضراب في سياق تاريخ طويل من الاحتجاج، يشمل إضراب سنة 2014 حيث خاض 150 أسيرًا فلسطينيًا إضرابًا عن الطعام لمدة 62 يومًا، رفضًا للاعتقال الإداري، وهناك ما يزيد عن 400 إضراب فردي عن الطعام منذ عام 2011، كان آخرها اضراب الأسير خليل عواودة الذي استمر 111 يومًا. الإضراب عن الطعام خطوة صعبة وشاقة أودت بأرواح أسرى فلسطينيين، أولهم الشهيد عبد القادر أبو الفحم الذي استشهد خلال إضرابه عن الطعام في سجن عسقلان عام 1970. يسمح الاعتقال الإداري لـ«إسرائيل» باعتقال الفلسطينيين لفترة غير محددة بالاعتماد على معلومات سرية، دون عرضهم للمحاكمة أو توجيه اتهام لهم. تعرض نحو 40% من الذكور الفلسطينيين لتجربة الاعتقال منذ عام 1967، والنساء أيضًا يعتقلن والأطفال والمراهقون. وفي هذه السنة، تصاعد اللجوء للاعتقال الإداري حتى وصل إلى 1365 أمر اعتقال حتى اللحظة، فيما بات أشبه بالحكم المفتوح بسبب اعتباطيته التي تتيح لجيش الاحتلال أن يعتقل الفلسطينيين مجددًا بعد الأفراج عنهم. حدث ذلك مع الأسير نضال أبو عكر الذي قضى ما يزيد عن 18 سنة من الأسر بالمجموع، بينها سنتان في الاعتقال الإداري، وصدر بحقه أمر بالاعتقال الإداري بعد شهرين ونصف من تحرره. تقول زوجته إن «ضابط المخابرات الاسرائيلي قال له في إحدى المرات إنه لن يسمح له بحضور فرح أو ترح، وإن مكانه الصحيح هو السجن». لكل أسير قصة، وحياة زاخرة، وأخوة آخرين شهداء أو معتقلين، وعائلة كاملة، تنتظر عودته، تجلس في خيم الاعتصام، تخرج في مقابلات إذاعية من أجل الحديث عن قضية أبنائها، تنشر قصصهم، ولا تنفك تقول لنا: قفوا معنا.
إن السجن مركب أساسي في فلسطين تستخدمه «إسرائيل» أداة للإخضاع وبث الرعب والسيطرة. والاعتقال الإداري وسيلة سيطرة تامة، تعني أن أي فلسطيني ملاحق، وأن كل أشكال المقاومة والتحدي معرضة للتعنيف، ويستخدم بشكل خاص ضد طلبة الجامعات، والناشطين السياسيين، وكل من يحمل شعلة تمرد. أي فلسطيني يعرف عددًا كبيرًا من الأصدقاء، والزملاء، والأقارب، والطلاب، والمعلمين الذين كانوا معتقلين. نحن نستيقظ على أخبار اعتقال أصدقائنا كل يوم، وصحيح أن تفاصيل عمليات الاعتقال لا تنشر بالتفصيل ولكننا نسمعها من أصدقائنا وعائلاتهم. نعرف تفاصيل الليلة المروعة: الخبط على الأبواب، البيت الذي تحول فجأة لثكنة عسكرية، الجنود الذين انتشروا، الأطفال الذين استيقظوا ليجدوا الجنود متحلقين حولهم، الضربات التي تنهال على الآباء أمام أبنائهم، وأحيانًا تمتد للأطفال أنفسهم، الهواتف والأجهزة التي تُصادر. ثم تبدأ التفاصيل اللاحقة بالوصول، تفاصيل التحقيق والتعذيب: الأهالي الذين لا يعرفون أين أخذوا أولادهم، ولا أية معلومة عنهم، المتابعة مع المحامين والمؤسسات، عدم المعرفة، الانتظار، الخوف، كيف تجيب على أسئلة الأطفال، أي حقيقة هي الأفضل، الاستيقاظ على بكائهم، ثم تبدأ سلسلة أخرى من التعقيدات والأسئلة: هل تأخذ ابنك للزيارة أم لا، كيف تعيد ترتيب يومك، كيف تعتني بأطفالك وحدك، ماذا تخبره أو تخبرها. كل شيء يتحول إلى معضلة. والأهم، الاشتياق الدائم. ونعرف تفاصيل مهما كانت دقيقة لن تقول لنا شيئًا عما يعنيه أن تقضي أيامًا في التحقيق، أن تتعرض لتعذيب قاسٍ، من نتف شعر اللحى، إلى الضرب على الأقدام، والركلات من قبل عشرين جنديًا على جسد لساعات، الشبح لأيام، البصق، الشتائم، الضغط على الرقبة والفك، الضربات على الصدر، أسئلة المحققين المرعبة، أساليب الضغط النفسي، التهديد بالعائلة، زرع الشك، الإهانة.
منذ أيام وأنا اقرأ تفاصيل التعذيب بحق المعتقلين على موقع مؤسسة الضمير (وموقع مؤسسة الضمير بالمناسبة هو أرشيف يعكس الجهود الجبارة في أرشفة ومتابعة كل القضايا التي تخص الأسرى، وتتعرض المؤسسة هي الأخرى لملاحقة عنيفة وضغوطات هائلة، من اقتحام دائم لمكاتبها إلى إدراجها مؤخرًا في لائحة المنظمات الإرهابية). تفاصيل وتفاصيل من الأهوال تبدو وكأنها تخرج من خيال كابوسي. ورغم قوة منظومة السجن الإسرائيلية وتوحشها الموغل، لطالما قاد الأسرى اعتصامات وإضرابات وأشكالا مختلفة من الاحتجاج لتحسين ظروف الاعتقال، أو تحقيق مطالب انسانية، وأحيانًا للاحتجاج على عدم شرعية اعتقالهم. لقد حولوا العبارات التي حكمت عليهم بالأسر والألم إلى إصرار فلسفي وأخلاقي وطمع بفهم الحياة، وأنتجوا من داخل الجحيم أدبًا وقصصًا، ورسائل، وبحوثًا، وشعرًا وروايات للفتيان، تثري أدبنا ومخيلتنا. إنهم المثال الحقيقي لما يعنيه أن تخلق من داخل البشاعة شيئًا يوسّع فهمنا للعالم.
خلال الإضراب الأخير، أرسل المضربون رسالة صوتية على لسان غسان زواهرة. تبدأ الرسالة بعبارة: «ليس الحزن ما يجعلك استثنائيًا، بل دفاعك الرائع عن معنى الحياة». تأتي رسائلهم المذهلة دائمًا خالية تمامًا من أية اشارة للغة الحقوقية التي تحولت مع الوقت إلى لغتنا النضالية. إن لغتهم النابعة من أعماق النفس البشرية قادرةٌ على أن تشير إلى السجن كشيء موجود في سياق أعمق، وتسترد القدرة على فهم ما يجعل هذا العالم جديرًا بالحب.
تصنع أي منظومة هيمنة أحلامَها الشرعية، وتصنع أيضًا أشكال الاحتجاج والرفض المقبولة، التي تأتي في هذه اللحظة من زمننا على شاكلة لغة القوانين الدولية، وخرق التشريعات، وحقوق الإنسان. لكن إمكانية التحرر تندفع في اللحظة التي نميز فيها بأن الأحلام المقبولة وأشكال الاحتجاج المتاحة هي في الحقيقة العوائق الفعلية للتحرر الكلي، فهي لا تتحدى الواقع الموجود ولا تطرح تعريفًا جديدًا يلهم ممكنًا آخر. يرمي الأسرى بهذه اللغة بعيدًا ويرمون معها العالم الذي تأتي منه، ويكتبون عن الضباب والأطفال والورود والحب والبيوت وأبواق السيارات وفتنة الربيع والحرية الحقيقية والدهشة. إن قدرتهم على أن يبعثوا إلى الحياة عالمًا جديدًا هو ما يشكل أكثر الأشياء جوهرية في فعلهم. فهم يتخيلون خلاصًا يتضمن تغيير إطار الظرف الذي يوجدون فيه من السجن إلى العالم، ويطالبون بعالم للجميع حصة فيه.
في رسالة الأسير غسان زواهرة، يخبرنا بحقيقة الحياة خارج السجن كسجن آخر، ويشرح لنا ما يفترض أن نعرفه عما يعنيه أن تعيش خارج السجن كمعتقل إداري بانتظار الاعتقال القادم. ثم يكمل راسمًا العالم الذي تعيش فيه وأنت في هذه الحالة من الانتظار:
«لا تستطيع أن تنشغل تمامًا بأي شيء أو بأي مشروع لأنك تعرف أن حياتك مؤقتة. يقتلع إحساسَك بالأمان والرغبة والحب ترقبُك الدائم للحظة السجن القادمة. تنام وتصحو متوجسًا من أي صوت خارج البيت، تعيش عائلتك جميعها هذا الرعب اليومي معك».
ثم يخبرنا، بصوت ثابت وعميق، ما يعنيه ألا تكون متواجدًا في اللحظات الفارقة في الحياة، مثل وفاة الأقارب أو الأفراح. يشرح زواهرة ببطء وبتأنٍ ألم ألا تكون موجودًا في حياة أطفالك، ألا تعرف أختك، أن تكون مجرد صورة على الجدار.
يكتب الأسرى لنا، وتبدو رسائلهم التي تخرج من أكثر الأمكنة حلكة مرافعات جمالية وأخلاقية عما يعنيه أن نعيش مع الآخرين، في هذا العالم، جادين بالنظر نحوه. تأتي رسائلهم لتذكرنا أن السعي نحو العدالة والحرية هو في صلبه سعي لفهم هذا العالم، وإدراك للجمال الذي فيه، وتساؤلٌ محموم عن كل ما يشكله. يكتب الأسرى لنا ويقولون لنا نحن أبناؤكم؛ شيء ما يشدني لهذه الكلمة، «أبناؤكم»، حين أسمعها في تسجيل رسالة غسان زواهرة مختتمًا بها رسالته من داخل الأسر، شيء يجعلني أشعر بالقشعريرة والحب والإيمان. فقدر الابن أن يملك عينين ثاقبتين تريان كل ما غدا غير مرئي، وأن يملك صوتًا هادرًا ومصممًا ومحاربًا، قدره أن يقف أمام أبيه ويعلمه بكل ما لم يعد الأب قادرًا على رؤيته، كل ما أطفأت الحياة القدرة على لمسه أو فهمه. أن تكون ابنًا يعني أن تحمل عبء المستقبل وتفسير المرير في العالم الذي ورثته، ومساءلته. قدر الابن، حين يفهم ما الذي حصل لأبيه حتى غدا ما هو عليه الآن، أن يلهمه، ويفشي له عمّا غدا عصيًا على الفهم. والآن، صحيح أن الإضراب قد عُلق، ولكن النضال ضد الاحتلال وأسره لم يتوقف. دورنا أن نتعلم منهم درسهم الأكبر: ما يتطلبه النظر في وجوه من قدموا التضحيات.
للمزيد من رسائل الأسرى: رسالة الأسير طارق مطر. رسالة صلاح حموري. رسالة وليد دقة. كما نشرت الأسيرة السابقة عائشة عودة عن تجربتها في الاعتقال: «أحلام بالحرية» و«ثمنًا للشمس».