الانتخابات النيابية في الأردن: سيرة تراجع التمثيل السياسي

الخميس 12 أيلول 2024
حملات دعاية انتخابية في عمّان. تصوير مؤمن ملكاوي.

أتيحت لي مؤخرًا فرصة مراجعة أرشيف الصحافة المحلية التي رافقت بعض الحملات الانتخابية ابتداءً من عام 1989، أي منذ استئناف الحياة النيابية في الأردن. كانت الصحف هي المنبر الرئيس لممارسة الحملات الترويجية ولمجمل النقاش العام حول الانتخابات. وسيتمكّن من يقوم بمثل هذه المطالعة من التعرّف إلى تبدلات اللغة المستخدمة في العملية الانتخابية، بما يعكس تبدّل المحتوى السياسي والاجتماعي للانتخابات وبما يشير إلى تطوّر الثقافة السياسية عمومًا أو تغيرها.

اليوم، لو وضعنا مفردات النشاط الانتخابي في الدورات الأولى مقابل مفردات الدورات الأخيرة، لظنّّنا أننا في بلدين مختلفين. وقد يكون بعض هذا الاختلاف منطقيًا وناتجًا عن التطور الطبيعي للمجتمع، لكن من المرجح أن قسمًا كبيرًا منه يرتبط بتغيرات قصدية مدروسة أو مخطط لها، على أن هذا التقييم -هنا على الأقل- ليس هدفه الإدانة، بقدر ما يهدف إلى مجرد الوصف.

من الصعب تقديم الكثير من الأمثلة في مقال واحد، غير أنه يكفي أن نشير إلى حالة بعض المرشحين ممن كرروا الترشح لأكثر من دورة في المنطقة ذاتها، وكيف احتاجوا لتبديل مفردات مخاطبتهم لناخبيهم بين دورة وأخرى.

في البداية كانت بيانات وبرامج المرشحين مكتظة بمفردات السياسة، سواء ما يتعلق منها بالشؤون المحلية أو الدولية وخاصة ما يتعلق بالصراع مع العدو. كانت تلك الأجواء تفرض نفسها على عملية الترشيح ذاتها، فالتمكن من الشأن السياسي كان متطلبًا أساسيًا في أغلب المناطق، وكان قانون الانتخاب وأنظمته وتعليماته تتيح أو ربما تفرض تنافسًا سياسيًا.

كان مقبولًا مثلًا من مرشح كالراحل ليث شبيلات، وهو أصلًا من الطفيلة، وقد ترشح في الدائرة الثالثة في عمان، أن تمتدّ حملته الانتخابية ونشاطاته إلى مدن أخرى شمالًا وجنوبًا، فقد كانت الثقافة الدارجة تدرك أن النائب ممثل عام للشعب بغض النظر عن مكان ترشحه. ولم يقتصر هذا السلوك على شبيلات، غير أنه ربما كان الأبرز، فقد كان المرشحون المشترِكون في الموقف السياسي ذاته ينخرطون في حملات زملائهم في مناطق ومحافظات أخرى.

في أول انتخابات عام 1989 كانت النتائج منسجمة وممثلة لهذه البيئة السياسية، وقد شكلت تلك الحالة ولا تزال، مرجعًا للقياس والمقارنة، رغم أن الانتخابات لم تكن على أساس حزبي معلن، إذ لم تكن الأحزاب مرخصة حينذاك. في عام 1989 فازت الحركة الإسلامية (الإخوان وحلفاؤهم) بحوالي 30 نائبًا (عدد نواب الإخوان 22)، كما فازت أحزاب وتيارات أخرى (قومية ويسارية) بنحو 12 نائبًا شكلوا تحالفًا. وفي الوقت ذاته، كان أغلب النواب الآخرين، حتى ممن اعتبروا أحيانًا من صفوف الموالاة، يحملون مواقف سياسية واضحة لها مستوى من الاستقلالية عن الموقف الرسمي، وقد صُنّفوا تحت اسم التيار الوطني.[1] 

كتبتُ هذه المقدمة الطويلة نسبيًا بهدف التمهيد لمتغير رئيسيّ سيبدأ في موسم الانتخابات التالية عام 1993، ثم يتعمق بتسارع. فقد أُقرّ قانون الصوت الواحد الذي نقل مُجمَل العملية الانتخابية ومن ثم مجمل فكرة النيابة والتمثيل والمشاركة، إلى مرحلة جديدة بمفردات جديدة وبأشكال جديدة.

كان هدف القانون الجديد (الصوت الواحد) محددًا بالحيلولة دون أن تتمكن مجموعة ما من السيطرة على قوة كبيرة مؤثرة لوحدها، وكانت ترجمة ذلك تعني استهداف الحركة الإسلامية. وقد انطلقت فورًا حملة لمقاطعة الانتخابات شارك بها الإسلاميون في بدايتها، ثم قرروا المشاركة بعد دعوتهم لذلك من قبل الملك الراحل حسين، وحينها قال المراقب العام للإخوان عبارته الشهيرة: «الحسين نادى ونحن نلبي». واقتصرت المقاطعة على تيارات صغيرة وشخصيات فردية.

قوبلت مشاركة الإسلاميين بالرضى المعلن، وتمكنوا من خوض تجربة الصوت الواحد وتقدموا بقائمة تضم 36 مرشحًا بشعار مركزي موحد، وبحملات محلية حافظت على قدر من المحتوى السياسي، وفازوا بـ16 مقعدًا فقط، وحصلت مفاجآت صادمة في بعض الدوائر لمرشحيهم مقابل مرشحين محليين. فيما تراجعت أصوات باقي الأحزاب، فخسر كل من الحزب الشيوعي وحزب الوحدة مقعده الوحيد، فيما حافظ حزبا البعث وحشد على مقعد لكل منهما.

قد يكون مفيدًا، الإشارة إلى مثالين سريعين لتوضيح أثر الصوت الواحد، فقد حصل مرشح حزب «حشد» بسام حدادين عام 1989 (وقد كان سياسيًا معارضًا منتميًا لمنظمة الجبهة الديمقراطية وخارجًا حديثًا من تجربة اعتقال) على نحو 15 ألف صوت، ولكن عدد أصواته في انتخابات عام 1993 انخفض رغم الفوز إلى 1700 صوت. وفي مثال أكثر وضوحًا، نجد أن الراحل عيسى مدانات القيادي الشيوعي البارز، حصل عام 1989 على أكثر من 10 آلاف صوت في محافظة الكرك، لكنه حصل في الانتخابات التالية على 349 صوتًا في المكان نفسه. لقد بدأت أسئلة الدائرة الضيقة والمنطقة والعشيرة تُطرح بقوة في النشاط الانتخابي. وفي الأرشيف نجد بعض الحالات التي اضطر المرشح «السياسي» فيها أن يقدم خطابًا محليًا مع بعض الاعتذار لجمهوره الذي لم يعتد منه ذلك.

انعكس ذلك على خفوت صوت النواب ككل بما يشمل الإسلاميين، وبدأت مرحلة تراجع المجلس ككل، ولا سيما مع المستجدات السياسية الضاغطة، وخاصة بعد عقد اتفاقيتيْ وادي عربة وأوسلو. وما إن اقتربت انتخابات 1997 حتى كان قرار المقاطعة عند الإسلاميين جاهزًا للتنفيذ. وهي الانتخابات التي بدأت فيها فكرة «نائب الخدمات» بالظهور بمواجهة فكرة «النائب السياسي».

سرعان ما تكرّس منحى الترشح الفردي، الذي كان يعني بحث المرشح عن الأصوات بعيدًا عن أي محتوى عام، وصرت تجد في الشوارع في الحملات عبارات مثل: «لا للشعارات»، و«نعم للخدمات لا للسياسة». ومع انتخابات عام 2003 برزت ظاهرة دخول رجال الأعمال إلى العمل النيابي، وفي الأرشيف بعد انتخابات 2003 نقرأ تقريرًا بعنوان: «26 نائبًا دخلوا المجلس من بوابة التجارة والأعمال». وبدأت أوصاف مثل «مرشح شبعان» أو «داخل بفلوسه» بالانتشار، وفي الأرشيف يظهر أن الحملات الباذخة وبهرجة المهرجانات والمقرات الانتخابية بدأت تلفت انتباه الصحفيين أكثر من مسألة التوجهات والمواقف.

اللافت أن تطبيق قانون الصوت الواحد ترافق مع الحفاظ على نسبة مشاركة عالية نسبيًا في الاقتراع، لقد استطاع خطاب الخدمات استقطاب الناخبين، ببساطة لأن السلطة كانت قادرة على توفير تلك الخدمات. تنوعت أشكال الخدمات المعروضة؛ ما بين شخصية مباشرة كالتوظيف أو الإعفاء الطبي، أو جماعية أو مجرد خدمة رمزية مثل أن «النائب منّا»، وصارت الفئة التي لا تقدم مرشحًا أو لا يفوز مرشحها تعرّف نفسها بالقول: ليس لنا نائب.

كانت الخدمات متوفرة ومتاحة بسهولة للنواب، وصار النواب يَعدون قوائم بالخدمات وعدد من تلقوها عن طريقهم، ثم أخذ النواب يتوزعون بين من يقدم خدمات كبيرة وأخرى خدمات بسيطة. وكل ذلك أصبح من مقومات الدخول في العملية ككل.

اللافت أن تطبيق قانون الصوت الواحد ترافق مع الحفاظ على نسبة مشاركة عالية نسبيًا في الاقتراع، لقد استطاع خطاب الخدمات استقطاب الناخبين، ببساطة لأن السلطة كانت قادرة على توفير تلك الخدمات.

لكن هذا المنحى سرعان ما وصل إلى نهاياته وصار مكلفًا ولم تعد الحكومات قادرة على تلبيته، وبدأ مأزق العلاقة بين النائب وناخبيه، وبدأ البحث عن فكرة تتيح الحصول على أصوات من دون اشتراط الخدمة، وسرعان ما اهتدى المهتمون إلى فكرة شراء الصوت بمقابل مالي، وتعني انفكاك العلاقة بين النائب والناخب بعد قبض الثمن، وفي بعض الحالات عبّر النواب علنًا عن أن هذا الخيار أفضل وأريح.

صار الجمهور ينتخب مجلس النواب وفي اليوم التالي يعلن أنه لا يثق به، وعقدت دورتا انتخاب عام 2007 ثم 2010 لتصبحا نموذجًا للانحدار في المحتوى الانتخابي. وفي الأخيرة منهما، طُبّق نظام الدوائر الوهمية الذي يعد ذروة التفتيت والتقسيم للناخبين وبطريقة غريبة، حيث كان يتعين على المرشح أن يدعو ناخبيه للحاق به في دائرة فرعية يختارها بنفسه.

غير أن الأحداث الموضوعية الكبرى فرضت نفسها، ذلك أن المشاركة السياسية بالنسبة للجمهور ليس بالضرورة أن تلتزم بالشكل الذي تختاره وتعينه سلطة الرسمية. لقد دخل الجمهور ابتداءً من عام 2010 في موجات نشاط احتجاجي كبير (معلمين، متقاعدين، عمال مياومة وعمال مؤسسات مساهمة عامة)، ثم توسعت الحركة بعد الدخول فيما صار يعرف بالربيع العربي في صيغته الأردنية.

اضطرت السلطة للتراجع قليلًا بعد الصدام بين صنفي المشاركة السياسية الرسمي والشعبي. فكانت انتخابات عام 2013 التي شهدت تغيّرًا محدودًا في القانون أتاح وجود دائرة عامة وطنية من 27 مقعدًا، إضافة إلى أجواء نقاش الإصلاح السياسي، وقد قوبل ذلك فعلًا بزيادة حجم المشاركة في الانتخابات التي وصلت إلى 53%. ولكن في التطبيق خضعت القائمة العامة لشروط ثقافة الصوت الواحد، وتشكلت القوائم حول أفراد، ولم يلمس الجمهور أي فرق.

كانت الثقة العامة بالانتخابات والمجلس تتراجع، ورغم تغيير القانون مجددًا، والإعلان عن انتهاء الصوت الواحد، واعتمدت القوائم المحلية المفتوحة في الانتخابات التالية عام 2016، إلّا أنه سرعان ما تبين عمق فكرة الصوت الواحد، فأخذت جميع القوائم تتشكل حول شخصية رئيسية ويتنافس أعضاؤها فيما بينهم فور الانتهاء من تشكيل القائمة وتسجيلها.

تراجعت نسب المشاركة إلى 36% عام 2016 ثم إلى 29.5% عام 2020، وبدا واضحًا أن هناك مأزقًا سياسيًا تمثيليًا كبيرًا ملحوظًا لا يمكن إنكاره.

في المتابعات البحثية الميدانية التي قمت بها، أمكن بسهولة رصد جوهر حالة المقترعين الذين انقسموا إلى فريقين: فريق ينتخب لأجل الفزعة القرابية العشائرية أو المناطقية، والثاني مقابل المال والخدمة. فيما أصبحت الأغلبية تميل إلى اعتبار نفسها خارج العملية ككل. وبدا أن الأمور تسير بهدوء، فأصوات المعارضة في المجلس اقتصرت على الإسلاميين وهم قلة، وبعض الأصوات الفردية المرتفعة ولكنها بقيت معزولة، فيما كانت حركة الشارع قد تراجعت محبطة بسبب عوامل متعددة. ومع هذا بقيت العيون الأمنية مفتوحة ويقظة وصارمة عند اللزوم، وسادت أجواء الحذر والنكوص.

بموازاة ذلك، كانت الأزمات العامة الاقتصادية والمعيشية تتفاقم ونسب البطالة ترتفع، وبلغ الفقر حدودًا جعلت الحكومات الأخيرة تتمنّع عن الإفصاح عن النسب أو تبحث عن وسائل إحصائية تتيح تهدئة على الورق. على صعيد النواب، كان ذلك يعني انحدار الثقة بشكل حاد، ودخول النواب في مأزق عدم القدرة على تلبية أية خدمات، ثم دخل النواب في تقسيم داخلي للخدمات، وانقسم النواب إلى قوي متمكن من الخدمة وعاجز عنها.

في هذه الأثناء، وفي محاولة تجاوز أجواء الأزمة، بدأت فكرة إصلاح المنظومة بمستوياتها الثلاثة السياسية والاقتصادية والإدارية. وكانت «السياسية» هي الأبرز. وأُقرّ قانونان خاصان بالشأن السياسي: قانون الانتخاب، وقانون الأحزاب. في الانتخاب أُقرّ مبدأ التحول إلى التمثيل الحزبي التدرجي عن طريق القائمة الحزبية التي سترتفع حصتها لتصبح أغلبية.

كان الضغط الرسمي يدفع باتجاه مفهوم جديد للحزب، وظهرت بقوة فكرة الأحزاب البرامجية، التي وضعت بمواجهة «العقائدية» التي تعرضت لحملات إعلامية مباشرة وغير مباشرة، كمحاولة لفرض عنوان جديد للنشاط السياسي.

نشأت بالفعل أحزاب جديدة، وأحيطت بنشاط إعلامي وإعلاني كبير، وأخذت تتبارز بعدد المنتسبين، واجتهدت في صياغة برامجها الجديدة. ولكن الجمهور كان يدقق بالمؤسسين وسيرهم العامة، وأغلبهم من الشخصيات المعروفة والمجربة. لم تتمكن البرامج من تجاوز الأفراد، ولم يستمع الجمهور إلى نصوص البرامج بقدر ما نظر إلى وجوه كاتبيها. فلم تتمكن البرامج من منافسة ما هو متشكل مسبقًا من صورة للقادة الحزببين في أذهان الجمهور.

حضرت الانتخابات، ونظرًا لأن أغلب المقاعد لا تزال مخصصة للقوائم المحلية، فقد تركز النشاط الفعلي على هذه القوائم. غير أن النشاط الحزبي الأبرز تركز على ترتيب علاقات مع شخصيات قوية نافذة على المستوى المحلي، وتنسيبها السريع للأحزاب، وفي بعض الحالات توزيعها على الأحزاب، وهو ما كان يعني أن العلاقة الحزبية شكلية إلى درجة كبيرة. بل إن واقع الدوائر المحلية ومصالح المترشحين لم تسمح لهم بخوض معركتهم الانتخابية باسم حزب معين.

لقد كانت الحركة الحزب الوحيد الذي تمكن من تقديم نفسه من خلال عنوان «غير شخصي»، أي من خلال عنوان حزبي سياسي، فيما بقي الآخرون يقدمون أنفسهم بأشخاصهم التي لم يتمكن الجمهور من التمييز بينها، ولا بين برامجها بالطبع.

في هذه الأثناء بدت القوائم الحزبية العامة وكأنها من اختصاص مستويات أخرى من النشاط. وهنا كانت الحركة الإسلامية استثناء، فهي أدركت المعنى السياسي للتنافس في القائمة العامة، ولا سيما أن القانون يقول بوضوح إن القوائم الحزبية سيكون لها الحجم الأكبر فيما لم تتمكن الأحزاب الجديدة من تجاوز الهموم المحلية الحالية لمرشحيها. لقد صبت الحركة الإسلامية نشاطها الرئيس هنا، مع عدم إغفال القوائم المحلية التي تم ضبط تشكيلها وضبط عمليات التصويت الحزبي داخلها وتم تجاوز أخطاء تجارب سابقة دخل فيها المرشحون في تنافس داخلي يتنافى مع المبدأ الحزبي.

بالمحصلة، ظهر تميز الحركة الإسلامية بالخبرة السياسية الكبيرة، وفي متابعات قمت بها في بعض مراكز الاقتراع كان اختلاف السلوك واضحًا بين الإسلاميين وغيرهم. فقد تمكنوا من تنظيم نشاط تطوّعي فعلي، فيما اعتمدت الأحزاب الأخرى المقتدرة على عاملِين بالأجرة، وغابت الأحزاب غير المقتدرة ماليًا، وهو ما أعطى الإسلاميين قدرًا أكبر من الاندفاع والحيوية والشعور بجدوى النشاط.

على صعيد الأحزاب العقائدية الأخرى (القومية واليسارية) فقد تميز أداؤها بالخفة والذاتية والتنافس الداخلي فيما بينها وفي داخل كل منها، وهو ما أنتج حملات انتخابية ضعيفة بلا أثر.

تاريخيًا اعتمدت الحركة الإسلامية على تقديم نفسها بمداخل متنوعة (خيرية، سياسية، دينية)، بما يتيح خيارات متنوعة، فهي معروفة بنشاطها في الجميعات الخيرية التي تقدم معونات على مدار العام، ولكن جداول المستفيدين تعد جداول ناخبين مفترضين، رغم أنه لم يسجل عليها حالات شراء أصوات مباشرة. وهي تقدم خطابًا دينيًا له أهميته الفعلية ومطلوب في المجتمع، كما تقدم نفسها طرفًا سياسيًا له مواقفه المقبولة شعبيًا في مسائل الصراع مع العدو.

صحيح أن بعض هذه المستويات من النشاط تعرّضت لهجوم ومنافسة خلال العقدين الأخيرين، فقد أسس نوابٌ ذوو نفوذ جمعيات خيرية تنافس الإسلاميين، وتحظى بالرعاية شبه الرسمية، وتقلصت قدرة الحركة على تنفيذ العمل الخيري الذي كانت تمارسه، كما وجدت نفسها في الميدان أمام ممارسات أفقدتها جزءًا من جمهورها، وخاصة بعد موجات الخلافات الداخلية المتكررة.

مع هذا، وعلى صعيد العمل الحزبي المنظم في الانتخابات الأخيرة، كانت الحركة الطرف الوحيد الذي أتقن مهتمه، وفي التكتيكات المحلية لوحظ أنها تجاوزت حالات التناقض مع مكونات محلية في العديد من الدوائر، وتجنبت المنافسة في بعضها، ولم تعطِ التنافس المحلي أهمية كبرى، وكانت الحزب الوحيد الذي كان بمقدوره أمام مراكز الانتخاب القيام بدعاية منظمة للمرشحين في القوائم المحلية والقائمة العامة من دون تردد مثلما كان بمقدوره أن يقيم مقرات انتخابية مشتركة لصنفي المرشحين، وأن يعقد مهرجانات كبيرة للترويج لجميع المرشحين.  

رسميًا، أُديرت العملية الانتخابية بحياد ونزاهة وهدوء وتنظيم واضح. وهذا أتاح فرصة للحزب صاحب الخبرة والموقف الواضح من خوض معركة ناجحة. ونظرًا لتزامن الحملات الانتخابية مع الظروف السياسية المحيطة وخاصة لجهة الحرب على غزة، ولما لاحظ الجمهور من أن الحركة تتعرض لبعض النقد الرسمي وشبه الرسمي، وهو نقد لا يحظى بالثقة الواسعة بين الجمهور، فقد استفادت مما يعرف بالتصويت «العقابي»، أي معاقبة جهات ما عبر التصويت لخصومها. لقد كانت الحركة الحزب الوحيد الذي تمكن من تقديم نفسه من خلال عنوان «غير شخصي»، أي من خلال عنوان حزبي سياسي، فيما بقي الآخرون يقدمون أنفسهم بأشخاصهم التي لم يتمكن الجمهور من التمييز بينها، ولا بين برامجها بالطبع.

  • الهوامش
    [1] من المهم الإشارة هنا إلى أن تصنيف معارضة-موالاة لم يكن حاسمًا، فقد شارك الإخوان في حكومة مضر بدران، بعد الانتخابات، بأربعة وزراء.

Leave a Reply

Your email address will not be published.