في صباح السابع من أيلول عام 2013، كانت «رابطة الدفاع الإنجليزية» اليمينية المتطرفة تستعد لتنظيم مسيرة في حي تاور هاملت شرق لندن، ذي الكثافة البنغالية العالية. كانت تلك واحدة من استعراضات القوة التي داومت عليها تنظيمات اليمين المتطرف في الأحياء المعروفة بتركز المواطنين ذوي الأصول المهاجرة والأقليات، ولا سيما المسلمين منهم. بحسب المخطط، كان يفترض بالمظاهرة أن تمرّ بجوار قوس «ألتاب علي» التذكاري، في الحديقة التي تحمل الاسم نفسه.
سميت الحديقة على اسم عامل النسيج البنغالي الشاب الذي قتل طعنًا في هجوم عنصري عام 1978، وذلك على يد ثلاثة من المراهقين في سن 17 عامًا، اثنان من البيض وواحد مختلط العرق. أثارت الجريمة موجة واسعة من الغضب، وبعد عشرة أيام نظم مئات من المتظاهرين مسيرة حملت نعش علي إلى مقر الحكومة البريطانية في «داوننغ ستريت»، وكانت تلك مقدمة حراك قاعدي لمناهضة العنصرية ضد البريطانيين ذوي الأصول البنغالية ومن شبه القارة الهندية بالعموم.
القيمة الرمزية للحديقة، وتكثيفها لتاريخ معقد من الكراهية والتعايش، جعل من نية مرور «رابطة الدفاع الإنجليزية» بجانب قوس «ألتاب علي» بعد 35 عامًا من جريمة قتله، نكئًا لذاكرة مريرة كان يجب التصدي لغطرستها. في منتصف اليوم حشدت الرابطة العنصرية والمعادية للإسلام حوالي 600 من أنصارها، وفي الجهة الأخرى تجمع خمسة آلاف من روابط مناهضة العنصرية وسياسيون وممثلون عن الاتحادات العمالية والإدارة المحلية والكثير من أهالي الحي من العرقيات المختلفة. فشلت مسيرة رابطة الدفاع في التقدم وتفرق أفرادها بعد ساعات، وفي نهاية اليوم خرج آلاف من السكان للاحتفال في الشارع الرئيسي للحي، وصولًا إلى مسجد شرق لندن، حيث ارتفعت الأصوات بالهتاف الأثير لحراك مناهضة الفاشية في بريطانيا: «لمن الشوارع؟ إنها لنا». وكانت تلك واحدة من آخر الفعاليات الكبرى لـ«رابطة الدفاع الإنجليزية»، وفي الشهر التالي مباشرة أعلن زعيم الرابطة تومي روبنسون ونائبه عن استقالتهما منها، وهو ما كان نقطة البداية لأفول الرابطة، وانحلالها عمليًا نهاية العام 2015.
يوم الأربعاء الماضي، وبعد عقدين من تلك الأحداث، يعود اسم الرابطة ليتصدر الأخبار، ولتتكرر أحداث مشابهة لكن على مستوى وطني. كان حي «تاور هاملت» هادئًا هذه المرة، فالحي اليوم هو أحد أكثر الأحياء تنوعًا إثنيًا وتعايشًا في لندن، لكن مئة موقع آخر موزعة في إنجلترا وفي إيرلندا الشمالية، كان يخشى استهدافها من قبل أنصار اليمين المتطرف. ومن ضمن قائمة الأهداف التي جرى تداولها على شبكات التواصل الاجتماعي، كان هناك مكاتب محاماة وهيئات تطوعية ومراكز مساعدة قانونية تعمل مع اللاجئين وطالبي اللجوء. جاءت تلك الدعوات في سياق أعمال الشغب والعنف العنصري التي اندلعت بعد حادث مهاجمة مراهق من أصل رواندي لورشة أطفال في ساوث بورت أسفر عن مقتل ثلاثة منهم، ومن ثم تم تداول معلومات مغلوطة تدّعي أن المعتدي طالب لجوء ومسلم.
تحسبًا لأعمال عنف واسعة يوم الأربعاء، انتشر في الصباح ستة آلاف شرطي في المواقع المتوقع استهدافها، أغلقت بعض المشافي والعيادات الطبية مبكرًا لحماية موظفيها، وفي الشوارع الرئيسية لبعض المدن غطت المحال واجهاتها الزجاجية بألواح خشبية بغرض الحماية، ووصل الأمر أن علقت بعض محاكم الهجرة عملها خشية تعرضها للهجوم، وانتشرت تعزيزات أمنية على المساجد ودور عبادة بينها كنس يهودية، وأغلقت المعابد السيخية أبوابها المفتوحة عادة أمام الزوار من كل الأديان. لكن وباستثناء بضعة تجمعات صغيرات، لم تتجاوز العشرات، لم يظهر أنصار اليمين المتطرف. وفي المقابل خرج ألوف في التظاهرات المناهضة للعنصرية لحماية الأماكن المهددة، في أجواء متوترة في البداية، لكنها سرعان ما صارت احتفالية.
تعاملت الحكومة العمالية بحسم مع الاضطرابات التي فاجأت الجميع. ألقت الشرطة القبض على أكثر من 400 من المشاركين في أعمال الشغب أو التحريض عليها على الإنترنت، ووجهت الاتهامات لأكثر من 130 منهم، وفي خلال أيام قليلة نال بعضهم أحكام قاسية بالسجن وصلت لثلاثة أعوام. كان لعامل الردع القضائي الأثر الأكبر في محاصرة الاضطرابات وإخمادها. ومن المرجح أن تكون هذه خاتمة موجة العنف التي انطلقت منذ نهاية الشهر الماضي. إلا أن أحكام السجن الغليظة ليست كافية على المدى الطويل، ولا هي قادرة على إعادة الشعور بالطمأنينة للأقليات، ولا ترميم صورة البلد المتباهي بتعدده الثقافي.
تتميز بريطانيا بتاريخ طويل ومعقد من العنصرية والعنف العنصري ومناهضتهما في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كانت السبعينيات هي العقد الأكثر دموية، في ظل صعود «الجبهة الوطنية» الفاشية، والتي بحسب حصتها من الأصوات الانتخابية كانت في المرتبة الرابعة من حيث الشعبية بين الأحزاب البريطانية. في ذلك العقد والعقد اللاحق، خاضت حراكات مناهضة العنصرية مواجهات عنيفة مع اليمين المتطرف والعنصرية المؤسسية. لتلك المسيرة المناهضة للكراهية أيقوناتها وتواريخها المركزية ورموزها. في حزيران عام 1974، سقط الطالب الأبيض ديفيد كيفين غاتلي قتيلًا بعد تعرضه لإصابة في الرأس في مواجهات عنيفة مع أنصار الجبهة الوطنية في ميدان «ريد ليون» في لندن، ليعتبر الشهيد الأول لحركة مناهضة العنصرية. من بين التواريخ الكثيرة في ذلك الحراك، معركة «لويشهام» عام 1977 حين تصدى ألوف من سكان جنوب لندن لمسيرة للجبهة الوطنية. وعام 1981 حيث اندلع شغب «بريكستون»، الأقرب إلى حرب شوارع مصغرة، حينها انتفضت الأقلية السوداء من سكان حي بريكستون الواقع في جنوب لندن ضد العنصرية المؤسسية في شرطة المدينة. بعد أربعة أعوام، سيشتعل الحي بالعنف للأسباب نفسها، فيما سيعرف باسم «شغب بريكستون 1985» ليمتد نطاق الاضطرابات من العاصمة إلى مدن الشمال الإنجليزي.
الحدث الأقرب زمنيًا لنا هو شغب العام 2011، حيث فجّرَ مقتل مواطن أسود برصاص الشرطة في حي «توتنهام هيل» اللندني سلسلة من الاضطرابات في المدن والبلدات الإنجليزية، وأعمال نهب وحرائق ومصادمات، انتهت بخمس ضحايا وعشرات الجرحى ومئات الموقوفين. بالطبع هناك ثيمات متكررة سواء في المواجهات مع اليمين المتطرف أو أعمال الشغب على خلفية العنصرية المؤسسية للشرطة، إلا أن فارقًا جوهريًا يمكن تبينه بين اضطرابات العقود الأخيرة من القرن الماضي واضطرابات القرن الحالي.
بالإضافة إلى العنف الإثني شهد عقدا السبعينيات والثمانينيات أعمال عنف أهلي ومصادمات على خلفيات طبقية واقتصادية، على سبيل المثال إضراب عمال المناجم الطويل بين عامي 1984 و1985، وما تخللها من معارك شوارع وأفعال تمرد مدني، وبعدها اضطرابات «ضريبة الاقتراع» بين عامي 1989 و1990، التي سعت حكومة مارغريت ثاتشر لفرضها، وانتهت سلسلة أعمال الشغب الجماهيري واقتحامات المجالس المحلية والمواجهات العنيفة مع الشرطة في المدن الإنجليزية إلى استقالة المرأة الحديدية بعد أكثر من عقد في منصب رئاسة الحكومة. اللافت هو أن اضطرابات القرن الحادي والعشرين، ممثلة في شغب عام 2011 وأحداث العنف الأخيرة، هي أحداث ذات طبيعة إثنية، في غياب المبررات والأطر الطبقية والاقتصادية. ولعل أعمال السلب والنهب التي واكبت الحدثين تشير إلى عدم انتفاء العوامل الاقتصادية كلية، ولكن خضوعها لعمليات تحويل أو تمويه داخل خطابات معاداة الهجرة واللاجئين والإسلاموفوبيا. يلاحظ أيضًا تركز أعمال العنف العنصري الأخيرة في المدن والبلدات الأكثر فقرًا في الوسط والشمال الإنجليزي، فيما غابت تمامًا عن المدن والأحياء التي تتمتع بأوضاع اقتصادية جيدة، خاصة في الجنوب.
الأمر الأكثر إدهاشًا اليوم هو انتفاء الصلة المباشرة بين العنصرية والخطابات المعادية للهجرة وبين الإثنية بشكل يزخر بالمفارقات. فالحكومة الأكثر عداء للمهاجرين، كانت حكومة ريشي سوناك، أول رئيس وزراء من أصل هندي، وواحدة من أكثر الحكومات تمثيلًا للتعددية الثقافية البريطانية. وكان أكثر أعضائها ترويجًا لرهاب الأجانب وتحريضًا على طالبي اللجوء هي وزيرة الداخلية من أصول هندية، سويلا بريفرمان. وتحظى سابقتها في المنصب نفسه، بريتي باتيل، وهي أيضًا من أصول هندية، بسجل حافل من معاداة اللاجئين والأقليات. أمّا حزب «الإصلاح» العنصري، والمعادي للمسلمين بشكل خاص، فرئيسه الحالي وأكبر المساهمين في ميزانية تبرعاته، هو رجل الأعمال المسلم محمد ضياء الدين يوسف.
اقرأ/ي أيضا:
يصح القول إن المجتمع البريطاني ما زال مجتمعًا طبقيًا، وهو بهذا المعنى طبقي أكثر منه عنصري، ويصح القول أيضًا إن عنصريته بشكل كبير لها أساس طبقي. في الأربعة عشر عامًا الماضية من حكم المحافظين، خاضت الحكومات المتعاقبة حربًا طبقية شرسة متمثلة في سياسات تقشف قاسية ورفع لمستويات الضرائب وتخفيضات متتالية لميزانيات الخدمات العامة. كان من نتائج تلك السياسات تدهور هائل في مستويات المعيشة وتراجع متوالٍ للخدمات وارتفاع مستويات الفقر إلى حد اعتماد مئات الألوف من الأسر البريطانية على بنوك الطعام الخيرية بشكل دوري، بل وتراجعت متوسطات الأعمار على عكس الاتجاه العالمي. وبسبب سوء التغذية تراجعت متوسطات أطوال الأطفال في إنجلترا وويلز، وبشكل سنوي تكررت حملات التبرع الأهلية لإنقاذ الأطفال من الجوع. مرّر حزب المحافظين سياساته الاقتصادية والمالية النيوليبرالية تحت ستار من الحروب الثقافية، واستخدم المهاجرين كبش فداء يمكن لومهم على تردي الأوضاع الاقتصادية وتراجع الخدمات، واستهدف اللاجئين على وجه الخصوص.
في ذلك السياق، قدمت حكومات المحافظين المتتابعة، عروضًا للسادية السياسية، حيث استهدفت الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع وجرى التنكيل بها لترضية الجماهير المحبطة. فمثلًا استهدفت وزيرة الداخلية بريتي باتيل الغجر بشكل خاص، ولاحقًا عملت سويلا بريفرمان وهي في المنصب نفسه على وضع طالبي اللجوء في أوضاع معيشية قاسية، وتسكينهم في معسكرات الجيش وعلى أسطح السفن الحربية، واستهدفت أيضًا المشردين، وسعت لمعاقبة المنظمات الخيرية بالغرامة إذا قامت بمنحهم خيمًا للحماية من الظروف الجوية. وكان برنامج الترحيل القسري للاجئين إلى رواندا، وميزانيته المتجاوزة للمليار جنيه إسترليني أحد أسطع الأدلة على طبيعة القسوة الاستعراضية عالية الكلفة وغير الفعالة التي ميزت سياسات الهجرة الحكومية. بعد كل هذا، تبرز المفارقة الأكبر، فالهجرة في ظل حكومة المحافظين الأخيرة كانت الأكبر في التاريخ البريطاني، حيث وصل عدد المهاجرين إلى 764 ألف في العام 2022، وجاء ذلك الارتفاع مدفوعًا بالحاجة الملحة لعدد كبير من عمال الرعاية الاجتماعية لسد العجز الهائل في القطاع الصحي. وفي العام نفسه لم يتجاوز عدد من نالوا حق اللجوء 14370، أي نسبة أقل من 2% من عدد المهاجرين الإجمالي.
استهلت حكومة العمال أعمالها بعد الفوز بالانتخابات العامة الشهر الماضي، بإلغاء برنامج ترحيل اللاجئين إلى رواندا. وإن كان جناح يمين الحزب المهيمن على مقاليد قيادته حاليًا لم يَحِد عن خطاب معاداة الهجرة واللاجئين السائد في التيار الرئيسي للسياسة البريطانية. لكن لعل صدمة العنف الأهلي الأخيرة ستدفع النخب السياسية البريطانية من اليسار واليمين لإعادة حساباتها. فدون إعادة ضبط للخطاب السياسي البريطاني ودون علاج الآثار الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة بفعل السياسات التقشفية في العقد والنصف الماضي، ستكون الاضطرابات الإثنية مرشحة للتكرار.