تدخلُ الحرب الإسرائيلية على غزّة شهرها الثامن لتكون الحربَ الأطول في تاريخ الكيان الإسرائيلي من بعد تأسيسه. وفي هذا مجموعة من المفارقات الدالّة، ابتداء من عجز الجيش النووي المعزّز بالولايات المتحدة الأمريكية، على حسم معركته سريعًا مع فصيل صغير بسلاح بدائيّ مصنّع محليًّا، في جغرافيا صغيرة ومحاصرة ومكشوفة. والمفارقة الثانية في أنّ هذا الكيان المسكون دائمًا بالفزع الوجودي، انتصر من قبل وفي أجواء من ذلك الفزع في أيام قليلة على عدد من الجيوش العربية، كما في حرب العام 1967، ليؤسس لنفسه سمعة بكونه الجيش الذي لا يُقهر، ولـ«إسرائيل» سمعة الدولة التي وُجدت لتبقى، وللغرب ولاسيما الولايات المتحدة بإمكان الرهان على هذا المشروع.
ويمكن القول إنّ هزيمة العام 1967، وإن كوت الوعي العربي؛ بأنّ «إسرائيل» وُجِدت لتبقى، إذ بدأ النظام الإقليمي العربي، بما في ذلك شقّه «التقدمي الثوري» في حينه بالقبول بـ«إسرائيل» حقيقةً باقية، كما في موافقة الرئيس المصري جمال عبد الناصر على مبادرة روجرز التي دعت إلى مفاوضات بين الطرفين على أساس القرار 242، وكما حرب العام 1973، التي اتضح لجميع الفاعلين حينها أنها حرب تمهيدية لإخراج مصر من الصراع؛ فإنّها، أي هزيمة العام 1967، أطلقت الطاقة الفلسطينية المسوَّغة بالفشل العربي في صورة الثورة الفلسطينية المعاصرة لتؤسّس لعقود تالية من الصراع مع الكيان الإسرائيلي، ولبلورة الهوية الوطنية الفلسطينية. فقد كانت الهزيمة العربية وتجدد صور اللجوء والنزوح الفلسطيني فرصةً فلسطينية من جهة أخرى.
إلا أنّه لا يمكن القفز عن مفارقة المناسبة، فالشهر الثامن من الحرب الإسرائيلية على غزّة، أي شهر أيار، هو الشهر الذي تتوسطه ذكرى نكبة الفلسطينيين، التي هي بالنسبة للإسرائيليين ذكرى استقلالهم. إنّ المفارقة الجوهرية في المناسبة الممتدة على يومي 14 و15 أيار هي أن وثيقة «استقلال إسرائيل» حدّدت قيام «دولة إسرائيل» بنهاية الانتداب البريطاني، رغم كون هذه الدولة وإضافة إلى جهود الحركة الصهيونية قد أخذت تتبلور في أحشاء وعد بلفور البريطاني، وتتنامى في ظلّ الانتداب البريطاني الذي أدار فلسطين بنحو يحول دون استقلال أهلها ويؤسس للدولة اليهودية فيها.
في مقابلة أُجريت معه في العام 1973، أي بعد احتلال «إسرائيل» لبقية فلسطين، لا يبدو الحاج أمين الحسيني، زعيم الفلسطينيين الأبرز فترة الانتداب البريطاني، نادمًا على رفض الفلسطينيين المشاريع التي عُرِضت على الفلسطينيين والعرب، ويضرب على ذلك مثلًا بالمجلس التشريعي الذي عرضه الإنجليز عام 1922، وذلك لأنّ هذا المجلس استند في فكرته، تمامًا كالكتاب الأبيض، على وعد بلفور وصك الانتداب البريطاني،[1] أي أن المشاريع المبكرة التي أخذ الإنجليز في عرضها على السكان الأصليين، كانت تهدف إلى توفير المقدمات السياسية لتأسيس الكيان الإسرائيلي في فلسطين، وهو ما يعني حتمًا أن يرفضه السكان الأصليون، وأن يوافق عليه المستوطنون لما يمثله من مرتكز لتأسيس دولتهم التوسعية، وهو ما يفسر تاليًا المواقف من قرار التقسيم.
ثنائية المفارقة النكبة/الاستقلال، لا تسمح بنيويًّا بأيّ إمكان للتعايش السلميّ على أساس الحقوق المتساوية، ليس فقط من الجهة الفلسطينية، ولكن أيضًا من جهة الصهيوني نفسه، الذي طوى على وعي مبكر باستعصاء هذه البلاد على احتمال قوميتين.
هذا المقترح المبكر، واحد من المشاريع التي انهمك الإنجليز في صياغتها لمخادعة العرب، والتمهيد لقيام «إسرائيل» بالإضافة للإجراءات العملية التي جرّدت بالعنف المفرط الفلسطينيين من السلاح، وسمحت بتعاظم المستوطنات اليهودية عددًا وعتادًا، وصولًا لحرب «استقلال إسرائيل». لكن كيف تكون «إسرائيل» استقلت عن بريطانيا، وبريطانيا هي التي أنشأتها؟ وذلك في حين أنّ من دفع ثمن هذا الاستقلال 750 ألف فلسطيني، خُلعوا من أرضهم ومُزّقوا اجتماعيًّا وأُلقوا في حياة جديدة عنوانها اللجوء وسمتها القهر والفقر والعوز!
لم يقل الإسرائيلي، إنّه استقل عن الفلسطيني، لأنّه أساسًا كان ولم يزل لا يعترف بهوية قومية لسكان فلسطين الأصليين، ولأنّ النفي والمحو لم يكن إجراءً عمليًّا انعكس لغايات سياسية في التطهير العرقي الممنهج الذي لم يكن لـ«إسرائيل» أن تقوم دونه، ولكن هذا النفي والمحو هو وعي أيديولوجي تأسيسي للشخصية الصهيونية الاستيطانية، مُصاغ في المقولة الشهيرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» فكان لا بدّ من جعل فلسطين بلا شعب، ومن تَبقى من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، والذين خضعوا للحكم العسكري أكثر من 18 عامًا، خاطبتهم وثيقة الاستقلال بكونهم عربًا، لا بكونهم فلسطينيين، ووعدتهم بحقوق متساوية في حال حافظوا على السلام وقاموا بدورهم في بناء الدولة وبالتمثيل المناسب لعددهم في مؤسسات الدولة. في إنكار كامل لحقيقة كونهم كانوا للتوّ أكثرية قبل ترحيل أكثرهم!
يتضح بذلك أن ثنائية المفارقة النكبة/ الاستقلال، لا تسمح بنيويًّا بأيّ إمكان للتعايش السلميّ على أساس الحقوق المتساوية، ليس فقط من الجهة الفلسطينية التي ترى في المبررات النظرية لـ«إسرائيل» مغالطة منطقية مهينة للعقل والضمير وأن حقيقتها الواقعية مستندة لاختلال إقليمي وعالمي، وأنّ واقعيتها نجمت عنها كارثة فلسطينية لا تسقط بالتقادم وهي اللجوء والتي حلّها العودة مما يسقط الكيان الإسرائيلي رأسًا. ولكن أيضًا من جهة الصهيوني نفسه، الذي طوى على وعي مبكر باستعصاء هذه البلاد على احتمال قوميتين، واحدة وجودها منطقي وطبيعي والأخرى مصطنعة حديثًا بالكامل، ولا قوام لها إلا بنفي الأخرى. فما قاله في بعض الأحيان الآباء المؤسسون للصهيونية و«إسرائيل» كهرتزل ووايزمان وبن غوريون؛ عن الحقوق المتساوية لسكان الكيان اليهودي الموعود كان ينتهي بالحديث عن الهجرة المتعاكسة: استقطاب اليهود من العالم إلى «إسرائيل» وتهجير الفلسطينيين إلى البلاد العربية.
هذا الوعي التأسيسي، مستمر في الأجيال اللاحقة، ويفسر استسهال قتل الإسرائيلي للفلسطيني، ويفسر أن حملة الإبادة على غزّة انعكاس لذلك الوعي، وليست مقتصرة في دوافعها على الانتقام الغريزي من عملية طوفان الأقصى. وأمّا بعض أغراضها الاستراتيجية فهي الاستمرار في المشروع الصهيوني الأساسي، أي المحو والنفي، بواسطة التطهير العرقي، فطالما أنّ البحر لم يبتلع غزّة كما تمنى بن غوريون ورابين من بعده، فلتتحوّل إلى مكان غير قابل لحياة الفلسطينيين، وأمّا الضفة الغربية فلتكن ساحة تمدّد الصهيونية الدينية، في إطار تنظيم الديموغرافيا الإسرائيلية، «غوش دان» للعلمانيين، والقدس للحريديم، والضفة الغربية للصهيونية الدينية مجانين أرض «إسرائيل»، وليفض ذلك في النتيجة إلى تهجير بطيء، أو معركة حسم، أو إلى أن يصبح «جيش الدفاع الإسرائيلي» حاجة فلسطينية لحماية الفلسطينيين من المستوطن المتدين.
كيف يمكن أن نفهم العقل الإسرائيلي من لحظة صدمة السابع من تشرين الأوّل 2023 حتى حربه الممتدة العابرة «ذكرى استقلاله» في 15 أيار 2024، بناء على فهم مسارات التأسيس والتثبيت لكيانه منذ النكبة وإلى اليوم؟
تستند إستراتيجية التثبيت الإسرائيلي على تكريس الوقائع وعدّها بعد ذلك أساس الفعل وأساس النقاش. مثلا بعد أوسلو ضخّمت المؤسسة الإسرائيلية الاستيطان كمًّا ونوعًا، وبالاستناد إلى فارق القوّة، وإلى الاختلال العالمي، وإلى الرداءة العربية، سيصبح الوجود الاستيطاني والوقائع الإسرائيلية هي أساس المفاوضات، لا قرار 242. هذا ما كشفته المفاوضات التي كانت فيها قيادة السلطة الفلسطينية أكثر تفاؤلا بإمكان إنجاز اتفاق تاريخي في عامي 2008/ 2009 مع حكومة أولمرت/ ليفني، فقد كانت ليفني ترفض العودة إلى الوقائع ما قبل أوسلو، بل ترفض العودة إلى ما قبل أقلّ من ثماني سنوات من تلك المفاوضات، إلى ما قبل ما بناه الإسرائيلي وجعله واقعًا منذ انتفاضة الأقصى، لأن الوقائع التي كرّسها الإسرائيلي أكبر من أن يفككها، وأعقد من أن يحلها. الموقف كان أكثر وضوحًا مع «خطة ترامب»، التي قالت باختصار فليبق الحال على ما هو عليه، وليطلق على السلطة الفلسطينية اسم الدولة.
خلخلة الوقائع التي بدت راسخة وأبدية، لا بدّ وأن يقابل في الآني، ومن عالم متعب وفاسد ومختلّ أخلاقيًّا، بالشلل أو الاندفاعة للحفاظ على ما هو قائم، فالفلسطيني في غزّة ضرب النموذج القائم. وضرب النموذج مفزع للعالم.
هكذا كان الأمر في الصورة الكبيرة، «إسرائيل» قامت، والنكبة حصلت وانتهت، والتجاوز عن الحكاية الفلسطينية كلّها بات ممكنًا. المفارقة من الجهة الفلسطينية هذه المرّة، كانت في كون التنازل الفلسطيني، هو أساس تكريس الواقعة الإسرائيلية بالحكم على النكبة بكونها قصة ماتت ولا قيامة لها.
صحيح أن الواقعة الإسرائيلية كرّست نفسها أوّل الأمر بانتصارات عسكرية في حربي 1948 و1967، إلا أنّها بدأت في الحكم على النكبة بالموت مع اتفاقية كامب دافيد 1978، ومعاهدة السلام مع مصر 1979، فمصر التي فقدت غزة في الحرب، استعادت سيناء بالاعتراف بـ«إسرائيل» على أرض النكبة، دون أن تستعيد غزة، ودون أن تعد الفلسطينيين بأكثر من حكم ذاتيّ. لم ترسّم تلك الاتفاقية خروج مصر من الصراع فحسب، ولكنها فعليًّا تعاملت وكأنّه لا وجود للفلسطينيين، في دخول كامل ومدهش في الزمن الإسرائيلي، زمن شكّل وعيه على نفي الفلسطيني.
بيد أنّ هذه الاتفاقية هي التي أخذت تدفع قيادة منظمة التحرير للدخول في مسار التسوية، وهو المسار الذي مدّ جسور «إسرائيل» مع العالم، وفتح لها بوابات العرب الذين «لن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين»، ليعلن كلّ بلد منهم أنّه «أولًا»، أي قبل القضية الفلسطينية، ليصل العرب إلى لحظة لم يكن يتخيلها عربيّ من قبل، بتوقيع اتفاقيات تطبيع ذات طبيعة تحالفية، يُعلن فيها اليمين الإسرائيلي أن فلسطين ماتت، نكبة وقضية، وقد بات بالإمكان دمج «إسرائيل» في المنطقة من موقع القائد لها بالتحالف مع العرب «أعداء الأمس»، حلفاء اليوم.
الذي حصل يوم السابع من أكتوبر هو قلب للموقف كلّه، فالفلسطيني في ذلك اليوم حينما قطع الجدار الإسرائيلي لم يعد فقط إلى الأرض التي هُجر منها آباؤه قبل 75 عامًا، ولكنّه أيضًا بذلك، كان يحيي النكبة، بوصفها المحرّك الإيجابي لجوهر الفعل الفلسطيني، ومن ثمّ كان مضمون الردّ على كلّ الدعاية الصهيونية بطبقاتها المتعددة إسرائيلية وغربية وما انحاز لها من أصوات عربية، أنّ القضية بدأت قبل 75 عامًا، لا مع ما فعلته حماس في السابع من أكتوبر.
يمكن هنا في ذكرى النكبة، وبعد أكثر من سبعة شهور على عملية طوفان الأقصى، الحديث عن مفارقة أخرى، متمثلة في نقطتين أساسيتين، الأولى هي أنّ الفلسطيني انتقل إلى فاعل تأسيسي، فإذا كانت الثورة الفلسطينية المعاصرة فعلًا تأسيسيًّا من بعد النكبة كانت له مفاعيل عميقة استمرت طوال العقود الفلسطينية التالية فإنّها كانت ردّ فعل على النكبة التي لم تزل حيّة في مخيمات اللجوء الغضة وتجددت مع هزيمة العام 1967، وفي زمن المدّ الثوري واليساري عالميًّا، ومع وجود أنظمة عربية «تقدمية» تمثل فلسطين غطاء مشروعيتها. بينما جاء طوفان الأقصى بعدما بدا أنّ كلّ شيء استقرّ لـ«إسرائيل» التي ظهرت قائدة في المنطقة وتنهض على «قبر فلسطين» الميتة نكبة وقضية، ومع انتفاش الولايات المتحدة ونهاية اليسار العالمي بوصفه قوة عالمية وأيديولوجيا رائدة، وانطفاء الثورات العالمية، واتفاق ما تبقى من النظام العربي الممزق والغارق في الانقسامات على تجاوز القضية الفلسطينية.
الدولة التي لا تُقهر بدت قابلة للهزيمة، ولمّا أرادت تحويل محنتها إلى فرصة، وكيَّ وعي العالم بأن ثمن الاقتراب منها هو الإبادة الجماعية، طالت حربها بما كشف جيشها وقدراتها أكثر.
أما الثانية، فهي أنّ الإسرائيلي، عدّ حربه هذه استمرارًا لحرب الاستقلال، أي أنّه فعليًّا لم يُنجز مشروعه، مما يعني أنّ النكبة لم تمت، وفلسطين لم تزل حيّة، وما يعني أنّ أصل قيام «إسرائيل» لم يكن استقلالًا عن بريطانيا، ولكن نفيًا لسكان فلسطين الأصليين. يعود بذلك كلّ شيء كما كان أوّل مرّة!
فالفعل الفلسطيني قابله ردّ فعل إسرائيلي، ردّ فعل انتقامي غريزي وثأري، ردّ فعل حاول تجديد المقولة الصهيونية بتجديد التطهير العرقي، ولكنّه أيضًا ردّ فعل مصدوم، فالإسرائيلي لم يتوقع الفلسطيني فاعلًا بهذا العمق، وبهذا النحو التأسيسي، القادر على معاكسة الوقائع الإسرائيلية، ومدافعة المسار التاريخي الإسرائيلي المندفع نحو طمس فلسطين وابتلاع العرب وإلحاقهم بالزمن الإسرائيلي الأبدي كما توقع هذا الإسرائيلي.
الصدمة لفّت الجميع، الشعور بتمام المشروع وبالتفوق العنصري عمّق من جرح الكبرياء الإسرائيلي، كيف للفلسطيني أن يكون فاعلًا ومؤسسًا، ومدافعًا على الإمساك بزمام التاريخ! وإذا كان هذا الجرح قد تفتح إسرائيليًّا على إبادة جماعية، فالصدمة لدى شرائح فلسطينية وفي عموم العرب والعالم بدت شللًا! فلم تكن الواقعة الإسرائيلية المكرّسة هي تمام الوجود الإسرائيلي فقط، ولكن أيضًا الاعتقاد بالتفوق الإسرائيلي والانسداد الفلسطيني والعربي الأبدي إزاءها. ثمّة من أثبت أنّه يمكن للفلسطيني أن يكون فاعلًاووبهذا القدر من العمق، وهو أمر غير معتاد فلسطينيًّا وعربيًّا، بل بات خلافه عقيدة تكرّست مع تكريس «إسرائيل» نفسها!
خلخلة الوقائع التي بدت راسخة وأبدية، لا بدّ وأن يقابل في الآني، ومن عالم متعب وفاسد ومختلّ أخلاقيًّا، بالشلل أو الاندفاعة للحفاظ على ما هو قائم، فالفلسطيني في غزّة ضرب النموذج القائم. وضرب النموذج مفزع للعالم، لكن هذا الفاعل الفلسطيني ظلّ فاعلًا بعد ذلك رغم شهور الحرب القاسية والطويلة، وصار بفعله كاشفًا لـ«إسرائيل»؛ كاشفًا لأيديولوجيتها وطبيعة بنيتها والمفارقة التاريخية الماضية منذ يوم النكبة بحيث إنّ «إسرائيل» نفسها لا قيامة لها ولا استمرار إلا بالنفي والمحو والتطهير العرقي، وأنّ كلّ مشاريع التعايش المطروحة، لن تُقبل إسرائيليًّا، حتى تلك التي تضمن «إسرائيل» دولة يهودية منفصلة عن الفلسطينيين كحلّ الدولتين بلا عودة للاجئين.
كما صار هذا الفاعل الفلسطيني كاشفًا لـ«إسرائيل» استراتيجيًّا، فالدولة التي لا تُقهر بدت قابلة للهزيمة، ولمّا أرادت تحويل محنتها إلى فرصة، وكيَّ وعي العالم بأن ثمن الاقتراب منها هو الإبادة الجماعية، طالت حربها بما كشف جيشها وقدراتها أكثر. ثمّ هي وقد اعتقدت أن فلسطين ماتت نكبة وقضية، باتت أمام التجدد الحتمي للقضية الفلسطينية، مهما كانت نتائج الحرب في غزة. إنّها في قلب معضلة إستراتيجية، تنذر بإفقادها مكاسبها المؤسَّسة على مسار التسوية وفرض الوقائع. نعم قوتها الباطشة حاجبة للرؤية، والعالم ما زال يعاني الخلل الأخلاقي الفادح، والظرف العربي واضح الرداءة، لكن الفعل الفلسطيني التأسيسي بدوره لم ينته بعد، ولا يعيقه إلا هذا الظرف العربي.
-
الهوامش
[1] لم تكن المشكلة في هذا المقترح، في مرتكزاته التأسيسية فقط، ولكن أيضًا في بنيته ومضمونه، إذ نصّ على أن يتشكل المجلس التشريعي من 22 عضوًا، منهم 10 عرب بالانتخاب (ثمانية مسلمون ومسيحيان)، ويهوديان بالانتخاب، و10 أعضاء يعينهم المندوب السامي من رجال حكومته ورؤساء دوائرها الإنجليز، مما يعني أن أكثرية المجلس هي من غير الفلسطينيين، يهوديان و10 من الإنجليز المعينين، يضاف إلى ذلك أنّ رئيس المجلس هو المندوب السامي، والذي كان يهوديًّا، ويملك بحسب المقترح حق النقض، وله صوتان مرجحان في حال تساوت الأصوات، كما لا يجوز للمجلس مناقشة مسألة الهجرة اليهودية ولا صك الانتداب.