هذا النص ترجمة مختصرة ومتصرّف بها لمقدمة أطروحة كتبتها هايلي براون بعنوان الكولونيالية الفرنسية في الجزائر: حرب، إرث، وذاكرة، ضمن دراستها في جامعة باكنيل في الولايات المتحدة الأمريكية.
مطلع القرن التاسع عشر، انحدرت فرنسا إلى أسفل سُلّم القوى الكولونيالية الأوروبية. إذ خسرت الكثير من مستعمراتها في أمريكا الشمالية، ونفوذَها في مصر، وشعرت بضغط هائل مع بدء «السباق نحو إفريقيا» لإعادة تأكيد ذاتها كقوة إمبراطورية مهيمنة. ولذا اتخذت من الجدل الذي دار بين داي الجزائر والقنصل الفرنسي، ذريعةً لغزو مدينة الجزائر وحصارها. وصدر في 10 أيار 1830 إعلانٌ ملكيٌ للجنود الفرنسيين المغادرين لغزو الجزائر يذكرهم بأن الجزائريين عانوا طويلًا جرّاء اضطهاد الحكم العثماني، وبأنهم سيرحبون بهم كمخلّصين، كما وزّع وزير الحربية على الطاقم العسكري كُتيّبات لإرشادهم، تضمنت عباراتٍ مفتاحية باللغة العربية والتركية، إضافة إلى مقطع حول الصحة كُتِب بمساعدة قدامى المحاربين الذين خدموا في غزو مصر. أُعلِم الجنود الفرنسيون أنه سيكون بانتظارهم مئتي ألف عربي مع سلاح فرسان هائل، وأن عليهم استرجاع بطولات أسلافهم الذين شاركوا في الحروب الصليبية. اعتبر الكثير من الجنود أن غاية مهمتهم كأمة مسيحية تتمثل في التغلب على «شعب مسلم محارب»، فيما اقتنع البعض بالفوائد الاقتصادية الجمّة التي لا بد ستجنى من الجزائر، إلّا أن كثيرين منهم تشربوا فكرة حتمية، ألا وهي تعزيز أمجاد فرنسا. استولت البحرية الفرنسية على البلدات الجزائرية الساحلية سريعًا، وزرعت وجودًا عسكريًا في البلاد سيبقى لما يزيد على القرن. وما بدأ كتحرك عسكري يسعى إلى إنقاذ إمبراطورية تحتضر، سرعان ما بات مشروعًا اقتصاديًا واجتماعيًا سيُفضي إلى علاقة كولونيالية في غاية التعقيد بين فرنسا والجزائر.
بحلول 1831 كانت فرنسا قد احتلت العاصمة الجزائرية واتجهت لاحتلال باقي البلاد. اعتُبِرت الجزائر بداية كباقي المستعمرات البحرية المربِحة في منطقة الكاريبي، منطقة واعدة بثروة تجارية عظيمة. رغم مواجهة القوات الفرنسية مقاومةً شرسة إبّان السنوات الأولى من وجودها، إلّا أن الحكومة الفرنسية قررت أن الجزائر ستكون أيضًا موقعًا مثاليًا للاستيطان الفرنسي. اتُخذ هذا القرار في أعقاب انتشار حركات إلغاء العبودية حول العالم، التي باشرت بشيطنة الأنظمة الاستعمارية السابقة. ركّز النظام الجديد على تأهيل البلاد بالسكان والتخصيب، وتم تأطيره كخطة زراعية وتوسعية لا تستغل السكان الأصليين، وإنما تستبدلهم بمواطنين فرنسيين متنورين. جاء الاستبدال هذا على شكل نقل المواطنين الفرنسيين إلى التراب الجزائري، وإبادة قسم من السكان المحليين ممن لم يتقبلوا الحكم الفرنسي. باستطاعتنا القول إن «الاستعمار الاستيطاني يسعى لاستبدال السكان الأصليين على أرضهم وليس استخراج فائض القيمة من خلال مزج عملهم بالمصادر الطبيعية للمستعمرة (..) وهكذا يمكن تمييز وصف الهدف الأولي للاستعمار الاستيطاني على أنه اقصائي تصفوي».[1] لم يأت الفرنسيون لاستبدال الجزائريين مطلقًا، بل لإحلال أنفسهم في كافة مواقع القوة المتاحة، وبهذا سيطرت الحكومة الفرنسية والجيش والمستوطنون الكولونياليون تدريجيًا بنجاح على التعليم والزراعة والدين والنظام السياسي الجزائري لدعم احتياجاتهم.
اكتشف الفرنسيون عند وصولهم إلى الجزائر الكثير من الفروقات بين ثقافتهم وثقافة سكان شمال إفريقيا، وهي فروقات شعروا أنها تبرّر تطبيق أنظمة الإخضاع لديهم. وعلى وجه التحديد، «وجد الفرنسيون في الجزائر الإسلام، وهو الذي لطالما عرَّفت فرنسا نفسها في مقابله». حيث كان الإسلام عدو الدولة لقرون تعود إلى زمن الحروب الصليبية، ومثّل للفرنسيين شيئًا باطلًا ومتخلفًا وخطيرًا على المجتمع الأوروبي. لكن، «لم يكن السؤال كيف بالمستطاع تمدين ذلك الذي يعتبر مناقضا للحداثة؟» بل كان السؤال الذي طرحه الفرنسيون في الواقع «ما هي الآليات والاستراتيجيات والأدوات الممكن استخدامها لدحر الإسلام وتغليب الحضارة». وقد طُبّقت إحدى هذه الاستراتيجيات عام 1841 عندما أصبح توماس بيجو حاكم المقاطعات الفرنسية في الجزائر، حيث أوكلت إليه مهمة إخماد مقاومة [الأمير] عبد القادر الجزائري، الذي قاد الصراع ضدَّ الاستعمار. وقد أفضى الصراع إلى موت مئات الآلاف من كلا الجانبين، ويعود ذلك إلى فرض بيجو سياسة حربية نوى من خلالها ترويع الشعب الجزائري لإخضاعه. وقد قامت كتب التاريخ الفرنسية «بتمجد بيجو على أنه الأب المؤسس للجزائر الفرنسية»، الذي تغلب على الكثير من النزاعات من أجل مصالح أمته. بيد أن اسمه ما زال حيًا لدى الجزائريين كنموذج للوحشية، ويجري تذكره كأحد أكبر مهندسي الإبادات الجماعية في الجزائر.
ولد توماس بيجو لعائلة تتمتع بالثراء وملّاكة للأراضي عام 1784. وفي عمر العشرين تطوّع في الحرس الإمبراطوري لنابليون، لتنطلق من هناك مسيرته العسكرية الطويلة والمضطربة. بحلول عام 1808 أقحمته واجباته في حملة نابليون في شبه الجزيرة الإسبانية، الأمر الذي سيؤثر على تجاربه وقراراته خلال تمركزه في الجزائر فيما بعد. لقد أثبتت إسبانيا كونها عصية على السيطرة الفرنسية، حيث زخرت بالمقاومة وحرب العصابات. شارك بيجو هناك في هجمات القمع الهمجية وتعلم خوض «حرب الشوارع». وقد تدرّج في الرتب نظرًا لتفانيه خلال السنوات الست التالية، ومنح رتبة كولونيل من الملك لويس الثامن عشر بعد سقوط نابليون. وفي بدايات الثلاثينيات عينه الملك لويس فيليب في بلدة أوران الجزائرية في حامية من الجند لاحقًا للهجوم العسكري الأولي. كان أول مشاريع بيجو هو إخضاع المقاومة في أوران لحد السيف الفرنسي قائلًا، «في الحرب، إنها الحرب بكل عواقبها؛ إذ لا يمكن للمرء أن يشن نصف حرب». وقد استمر بيجو طوال مسيرته المهنية بالدفاع عن تكتيكاته الوحشية التي استخدمها في الجزائر بسرد روايات عن الأساليب البربرية لأعدائه العرب، الذين بحسب روايته غالبًا ما قطعوا رؤوس السجناء الفرنسيين. وقد أُطلِق على التكتيكات الإرهابية التي وظفها رازيا (أو غارة) وتضمّنت الإغارة على القرى، وقطع الرؤوس أمام الملأ، والعنف الجنسي الذي مورس بشكل موسّع ضد النساء. وكان للاشتباكات التي لا هوادة فيها بين المقاومة والقوات المسلحة الفرنسية، إضافة إلى استهداف المدنيين عواقب وخيمة، إذ «انخفض عدد سكان الجزائر بحلول منتصف القرن التاسع عشر نظرًا للحرب والاضطراب الاقتصادي إلى قرابة نصف حجمه ما قبل الاستعمار، أي من حوالي أربعة ملايين إلى 2.3 مليون». وفي النهاية، تمكّن بيجو من سحق المقاومة الجزائرية المنظمة بالقوة، مستفيدًا من دعم استخباري فعّال.
بناء الدولة البوليسية
بعد احتلال الجزائر مباشرة، أنشأ الفرنسيون إدارة حكوميّة صُمّمت للإشراف على الشؤون المحلية، وعرفت باسم «المكتب العربي». صُمّم المكتبُ لجمع المعلومات الديموغرافية، وخلق قاعدة من المعلومات حول التقاليد الثقافية والآداب العامة، وفهم القوانين المحلية والعامة ودراسة التفرّعات القبلية. إلّا أن الدور الأهم للمكتب كان يهدف لخلق أرشيف ضخم يحتوي على التواريخ المحلية والموجودات، مع السماح له بالاحتفاظ بكافة المعلومات في مجموعة واحدة. اعتُبِرت هذه أفضل منهجية يمكن من خلالها اختراق المجتمع الأصلاني وتوطيد التأثير الفرنسي. تخرّج معظم الضباط والأعضاء المؤسسين للمكتب من أكاديميات عسكرية ليتحولوا فجأة إلى علماء أنثروبولوجيا واجتماع مؤقتين، إذ أطّر عملهم في الواقع أمة بأكملها على أنها عالقة في زمن أكثر بربرية. وقد نظر عددٌ منهم إلى أنفسهم على أنهم من «محبي العرب» وحددوا هدفهم بتحسين المجتمع الكولونيالي. اتخذ هذا الأمر طابع مشاريع تحديثية أو تطويرات ملموسة تمت «من خلال بناء المنازل والمرافق العامة، مثل النوافير والآبار والحمامات العامة والأسواق». إلّا أن التقارير التي تصف كيفية رفض السكان المحليين لهذه «التطويرات» تمّت التعمية عليها بأحكام مُرّرت من جانب الضباط. نتيجة لذلك وبغض النظر عن المهمة الإنسانية، شكلت وثائق المكتب العربي تشكيلة من السجلات الإحصائية والإنسانية، مصحوبة بإدانات أبوية.
كُرّس قسم من الأرشيف لتفصيل أملاك المحليين بما فيها أسماءهم ومنازلهم وحيواناتهم وإمكانية وصولهم إلى الماء والأسواق المحلية، ما سهّل على المسؤولين الفرنسيين إيجاد منهجيات لانتزاع ملكيات السكان المحليين. كذلك تم تخزين المعارف حول السياسات والثورة المحلية في المكتب العربي والتي أصبحت بدورها المعرفة الأكثر تدميرًا للسكان المحليين. وقد انصب اهتمام المستعمِر عما يدور بفكر المحليين حول الفرنسيين، ودوافع الثورة، ونوايا المتمردين وتحركاتهم وتكتيكاتهم وتحالفاتهم.
لقد وفّر هذه المصادر المؤذية كل من الجزائريين الموالين لفرنسا وكذلك القادة الدينيون والقبليون للجماعات المعارضة في مقابل وعود خاوية. أقنع الاختراق الفعال للمكتب العربي الجنرال بيجو بأن توسيع المكتب إلى مؤسسة عسكرية كان أمرًا حاسما فعليًا لخطته بالسيطرة على الجزائريين وإخضاعهم.
رغم أن مسؤولي المكتب العربي لم يُعتَبروا في الأصل أعضاء فعالين في الجيش، إلّا أنهم عملوا تحت إمرة بيجو كقوته التنفيذية المحلية. عمل كل مكتب ضمن منطقة جغرافية عرفت باسم دائرة، أتيح للنظام ضمنها السيطرة على السكان المحليين وإخمادهم. وقد عُيّن لكل ضابط عسكري فريق من ممثلي المكتب، فأشرفوا على كافة جوانب إدارة القبائل تقريبًا. واشتمل هذا على المراقبة وكتابة التقارير المعتادة، وحتى الإشراف على الإجراءات القضائية. استخدمت مجموعة المعلومات التي جمعوها تبعًا لذلك ضد المتمردين الجزائريين، وخاصة في الغارات التي تلت صعود بيجو إلى السلطة، حتى لدرجة تأليب الفصائل المحلية بشكل فعال ضد بعضها بعضًا في محاولة لإرباك التعاون فيما بينها.
ربما يعتبر أشهر حدث إبادة جماعية تحت قيادة بيجو هو محرقة قبيلة أولاد رياح، حيث اختبأ 500 جزائري من النساء والرجال العزل في كهوف قريبة خوفًا من القوات العسكرية الفرنسية. لتقوم هذه القوات لدى اكتشافهم بتعريض «الثوار» المختبئين للدخان حتى الموت بهدف إخراجهم عنوة وإطلاق الرصاص عليهم.
كهوف الظهرة التي استشهد داخلها الجزائريون ومعظمهم من قبيلة أولاد رياح. المصدر: ويكيميديا.
العنف المتطرّف الذي استتبعته استراتيجية بيجو المعروفة بـ«الحرب الكلية» دفعت الحكومة الفرنسية لإرسال لجنة لتقصي الحقائق عام 1846، وقد صرّح أحد أعضائها بالقول «لقد تخطينا في بربريتنا البرابرة الذين جئنا كي نمدنهم». وبعد إصدار تقارير لجنة تقصي الحقائق، كان هناك احتجاج ضد غزو الجزائر بين مجموعات من السياسيين الفرنسيين، وشعر العديد منهم بوجوب إخراج القوات العسكرية من الجزائر كليًا وملاحقة المسؤولين عن شنّ الغارات قضائيًا. ولكن ساد بين أولئك الذين تغاضوا عن العنف المرتكب في الجزائر، وحتى بين تلك الأصوات التي أدانته، رأي قوي بأنه «في عيون العالم سيُعتبر مثل هذا التخلي إشارة واضحة على تقهقرنا». تبعًا لهذا تم حذف الانسحاب كمسار، واختير آخر يتمثل بالتوسع في الجزائر وتحضيرها، الأمر الذي كان متوقعًا أن يعود بالفائدة على السكان الذين روّعهم الجيش لعقد من الزمن.
ولكن بحلول الأربعينيات من القرن التاسع عشر اضطر الكولونياليّون المنادون بالإحلال والذين تطلعوا إلى طرد الشعب الجزائري بكامله لخلق بلد فارغ جاهز من أجل خلق حضارة أوروبية جديدة، إلى التخلي عن هذه الآمال، إذ كانت التكلفة البشرية في غضون الفترة الأولى من الحرب أعلى مما كان متوقعًا، إذ خسر الجيش الفرنسي أكثر من 35 ألفًا من جنوده و340 مليون فرنك فرنسي في سبيل القضية الجزائرية. كما أن منافسيهم السياسيين الذين إمّا رفضوا المشروع الكولونيالي برمته، أو أولئك الذين أمِلوا بتمدين الأصلانيين الجزائريين بدلًا من قتلهم، أدانوا خسارة الأنفس بين السكان الأصليين. إذ اعتقدوا أن الاستعمار الاستيطاني يجب ويمكن أن يكون مشروعًا إمبراطوريًا أكثر أخلاقية يهدف إلى الاندماج. وقد ساد الاعتقاد أن الجزائر يمكن أن تكون نموذجًا للمستعمرة «الحديثة»، الخالية من لطخة العبودية ومن «عنت» الإنسانية. وهكذا ترسخ في السياسة الفرنسية تركيز على خلق مجتمع استيطاني في الجزائر، حيث الأسواق الجديدة ستوفر البضائع الاستوائية، ومواقع عسكرية جديدة وقوية في البحر الأبيض المتوسط، وحياة جديدة للفائض السكاني في فرنسا. إذ كانت فرنسا تواجه في ثلاثينيات القرن التاسع عشر أزمة زيادة سكانية، وكان الوضع في المدن الكبيرة أشد صعوبة حيث «ازداد السكان بنسبة 20% تقريبًا ما بين 1801 و1831». كما عانت مدنٌ مثل باريس وليون ومارسيليا من الجريمة والمرض والتشرد نظرًا للارتفاع الحاد في عدد سكانها. لذلك لاحت الجزائر كحل مثالي للمعضلة، يمكّن من خلق اقتصاد زراعي جديد ضمن مسافة معقولة من المتروبول، حيث إن الاستكتشافات العسكرية تحدثت عن رقع واسعة من الأراضي الخصبة غير المزروعة تصلح للعائلات الفرنسية. وهكذا بدأ مشروع الاستيطان الفرنسي في الجزائر بآمال إقناع مئات الآلاف من المواطنين الفرنسيين بالهجرة.
الأقدام السوداء
سرعان ما باتت الجزائر الغرب الموحش (The Wild West) بالنسبة للثقافة الفرنسية بعد الغزو الأولي لها. جاءها الكثير من الفرنسيين من بلدهم الأم بين أربعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر يحدوهم الأمل بالثراء السريع، مدفوعين بحس المغامرة. فقد كان وعد الأرض الخصبة والخالية من السكان، والذي أشار إليه الجيش الفرنسي، فرصة مدهشة للكثير من أفراد الطبقة العاملة الفقيرة في المجتمع الفرنسي. حتى إن أحد مؤيدي الاستعمار قال إن إمكانية نزوح العائلات الفرنسية المفقرة كان في الواقع، «خطوة عظيمة نحو انقراض الكذب، وحتى الفقر، وبهذا سيسهم [الاستعمار] كثيرًا في أمن النظام الاجتماعي. ولن يكون هناك بعد ذلك أي مشردين وأي من أولئك الكسالى والمعدمين الجاهزون دائمًا لبيع خدماتهم لمن يسعون إلى تعكير صفو الطمأنينة العامة».
وإن كانت الحكومة الفرنسية قد أمِلت بإعادة موضعة عائلات بأكملها من الفرنسيين في الجزائر من أجل خلق قوة زراعية جديدة عبر المتوسط، إلّا أن ما حصل هو ذهاب الكثير من الرجال الفرنسيين العزاب إلى الجزائر ليصبحوا مضاربين على الأراضي ورجال أعمال بدلًا من ذلك. ما نتج عنه أن أصبحت الثقافة الاستعمارية الجزائرية في سنواتها الأولى ذكورية إلى حد بعيد. وبدأ المستعمِرون الذين عُرِفوا باسم الأقدام السوداء، ببناء الكثير من المقاهي والنزل والحانات ومحلات بيع النبيذ.
ولذا ليس من المستغرب أن سرعان ما «أصبحت أماكن الشرب أكثر الأعمال الأوروبية وفرة في الجزائر». وبحلول عام 1837 بات الكحول أكبر الواردات الكولونيالية، وسرعان ما ارتبط «أولئك القادمون من الريف الجزائري بالسكر والعربدة، والاضطرابات الجنسية والجريمة» في المتروبول. ولنضف إلى ذلك أن انتشار الكحول تناقض بشكل صارخ مع تقاليد السكان المحليين التي غالبًا ما منعت استهلاكها بحسب التشريعات الإسلامية.
وصول باخرة فرنسية إلى الجزائر العاصمة، في عام 1899. المصدر: ويكيميديا.
قاد اختلال التوازن الجنساني بين المستعمِرين الجدد، والذين كانت غالبيتهم من الذكور، إلى روايات عن الإخضاع الجنسي للجزائريات. أمّا بالنسبة للمستعمِرين الذين لم يختاروا دربًا تنويريًا، فكانت مضاربة الأراضي السبيل الأسهل لجني المال ومراكمة النفوذ. إذ استطاع الكثير من الفرنسيين خداع الجزائريين وسلبهم أراضيهم من خلال تسهيلات قوانين الحيازة التي نص عليها الجيش وعدم إلمام الأصلانيين باللغة الفرنسية. ففي فترة الاضطراب التي تلت الغزو، تمكنت الأقدام السوداء من إبرام صفقات غير عادلة مع السكان الأصلانيين الجهلة الذين باتوا حينها يعتمدون على عملهم. وهكذا تشكلت خلال وقت ليس بالطويل من قدوم المستعمرين الفرنسيين هرمية بينهم وبين السكان المحليين والتي زرعت بذور الصراع المستقبلي.
تطبيق مهمة التحضير
بعد عامين فقط على تقرير لجنة تقصي الحقائق التي أرسلتها باريس فيما يتعلّق بتكتيكات بيجو، مددت له الجمهورية الفرنسية الثانية رسميًا إدارة مناطقها في الجزائر. وتم طرح مشاريع «إنسانية» كجزء من خطة الحكومة في التقدم إلى الأمام، وفي محاولة لتحويل الأنظار عن فظائع الغزو. وعُرِفت هذه الخطة باسم مهمة التحضير. وقد تضمنت الخطة السيطرة على كافة العوالم المحلية و«تحسينها»، بما في ذلك المجالات الأكاديمية والدينية والاقتصادية والسياسية. وُظّفت الخطة على أشدها في المدارس الجزائرية من خلال إحكام القبضة بقوة التلقين. نُقِلت القيم الكاثوليكية والفرنسية إلى الصفوف ودُرّست للمواطنين الجزائريين الأصغر سنًا. وتمييزًا لهم عن أقرانهم «المتخلفين»، وصف الطلاب الأصلانيّون المقموعون في النظام التعليمي الجديد بالمتطورين. كذلك سعى الفرنسيون بالإضافة إلى النظام التعليمي للسيطرة على الأخلاق والممارسات الدينية في الجزائر وحاولوا الحط من قيمة المجتمع المحلي المسلم وتماسكه، وأضعفت التعاليم الإسلامية والتقاليد.
رغم أن سكان الجزائر لم يكونوا جميعًا مسلمين، إلّا أن الغالبية العظمى عاشت حياة لعبت فيها قيم القرآن دورًا رئيسًا. وقد تأثّرت كافة المجالات التي رغب الفرنسيون في السيطرة عليها بالإسلام بطريقة ما ممّا شكل عقبة أمام مبادئ فرنسا العلمانية المزعومة. وأخيرًا، كان الحرمان السياسي والاقتصادي مكونًا مهمًا في المهمة التحضيرية. فقد اعتُبِرت الأنظمة السياسية الفرنسية وإدخال الممارسات الاقتصادية الرأسمالية التي تحدت العقيدة الإسلامية حيوية من أجل نجاح وتحسين أحوال الشعب الجزائري. لكن بغض النظر عن نبرتها الإيجابية سيسهم كل عنصر في هذه الخطة بشكل فعال في تمجيد الطريقة الفرنسية في الحياة على حساب الوجود الجزائري وانتقاصه.
تدريس «الفرنسة»: التعليم الكولونيالي
بني التعليم الفرنسي في الجزائر على أسس من الأيديولوجيات التي طرحها فيلسوف مؤثر في حقبة ما بعد الثورة. نشر المفكر هنري دي سان سيمون أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، عددًا من الأعمال التي ستحدّد لاحقًا التعليم الفرنسي في إفريقيا كما ستؤثر على دور المكتب العربي. إذ تصورت نظريات سان سيمون خطة لتجديد المجتمع بعد فظائع الثورة الفرنسية عام 1789 بهدف تطبيق العديد من أفكار عصر التنوير. يقول في كتابه «رسائل من أحد سكان جنيف إلى معاصريه» إن مشروعه سينجح «باستبدال الهرميات الاجتماعية الخلافية لفرنسا بنظام أكثر مشروعية وتصالحية». نظام سيسعى بدلا من التفريق بين الأفراد على أسس الطبقة أو الإرث العائلي كما كان في العهد البائد، إلى تثمين الصناعة الفردية التي تشمل كافة الأعمال العلمية والأخلاقية والعامة والأكاديمية، معرّفًا بهذا الطليعة الفكرية للمرحلة على أنها سادة المجتمع الجديد. وبينما اعتبر سان سيمون الصناعة والعلوم المخلّص الجديد للمجتمع الفرنسي، إلّا أنه آمن أيضًا بعقيدة مسيحية عالمية ترشد عالمَه المتصوّر. كما افترض أن مثل هذا النظام سيدعم الطبقات الدنيا والبروليتاريا الفرنسية من خلال ارتباطها بالطليعة الفكرية. يمكن لهذه الأيديولوجيا أن تُطبّق لتحسين من اعتبرهم الأعراق الأقل شأنًا، الذين ادعى تطورهم بعد التعرض للفكر الأوروبي.
رغم أن نظرياته لم تلق اعترافًا واسعًا بعد نشرها مباشرة، إلا أنها وضعت موضع التطبيق من خلال مهمة التحضير في الجزائر. إذ وصل أحد تلامذته ويدعى بروسبر إنفانتين إلى الجزائر عام 1839 وباشر بتطبيق عقائد سان سيمون، ليؤثر على التعليم الكولونيالي بشكل كبير. أمل الفرنسيون عبر هذه الهيكلية بتسهيل «التطور العقلاني والفكري بالتركيز على هدفين أساسيين»، الأول إتقان اللغة الفرنسية وإجبار التلاميذ عليها، وثانيًا محو المنهاج العربي كلية. وكما قال كبير مفتشي التعليمات العامة عام 1832، «لن يتحضر العرب والمغاربة واليهود إلا باستخدام اللغة الفرنسية؛ ولن نستفيد منهم ونكتسبهم بإخلاص إلى جانبنا حتى يصبح لساننا معروفًا لديهم».
بينما حاول الفرنسيون «الإمساك بالنشء منذ طفولتهم»، خسر الجزائريون لغتهم الأم وصُيّروا أجانب في وطنهم. أُخرجت معرفة الثقافة والتاريخ الجزائريين من الدائرة وكأنها لم تكن يومًا، من أجل خلق جيل جديد من الخاضعين الموالين لفرنسا.
بينما حاول الفرنسيون «الإمساك بالنشء منذ طفولتهم»، خسر الجزائريون لغتهم الأم وصُيّروا أجانب في وطنهم.
ازداد النظام التعليمي تعقيدًا وتنظيمًا بعد مرور عشرين عامًا. وفي 1850 أقرّ مخطط برنامج عمل متماسك ومقيد للتعليم الابتدائي والعالي بمرسوم رئاسي. أشار المرسوم إلى أن الموضوعات الضرورية والوحيدة في مدارس الأولاد المسلمين الفرنسية هي اللغة الفرنسية ومبادئ الرياضيات ونظام الأوزان والمقاييس القانونية. أمّا بالنسبة للفتيات فكان المنهاج أكثر حصرًا مع كافة المعوقات ذاتها كما النموذج الذكوري، باستثناء التعليم القانوني الذي استُبدل بأشغال الإبرة. ربما يكون أكثر قرار استعماري مباشر اتخذ للتأثير على الأكاديميين هو استهداف شريحة طلابية معينة أصبحت شديدة الأهمية لمهندسي النظام التعليمي الاستعماري الفرنسي. أتيح لأبناء أعضاء النخبة الثرية من المجتمع الجزائري مدخل إلى التعليم الفرنسي الأعلى في محاولة لكسبهم إلى قضية الاستعمار. حتى إنه تم إرسال بعضهم إلى مدارس مرموقة في المتروبول كي «يُصقلوا» من خلال المنطق.
أحد أسباب التركيز على النخبة في الأراضي المستعمرة كان التأكيد على أن القادة الطبيعيين للمستعمرات مرتبطون عاطفيًا بفرنسا المتروبوليتانية وكي يثبتوا بالتالي ولاءهم السياسي لفرنسا.
وبهذا ضمن الفرنسيون ليس فقط تأثيرًا طويل الأمد في المستعمرات من خلال التعليم المفصّل على المقاس، بل ومن خلال خلق مجموعة من الجزائريين ممن يدعمون عبوديتهم بأيديهم يحجّمون مواطنيهم الذين يعارضون الاحتلال الفرنسي.
تنافس قديم: الكاثوليكية الفرنسية مقابل الإسلام الجزائري
بيد أن الدروس التي تم تحصيلها من المهمة التحضيرية في الجزائر أتت بأشكال متعددة ولم تكن موجهة نحو الأطفال فحسب. إذ شرع الفرنسيون في عملية إعادة بناء دينية وضعوا لها معايير واستخدموا استعراضات للقوة لمحو الإسلام من الحياة اليومية. لطالما قاربت فرنسا منذ بدايات أنشطتها الكولونيالية إخضاع السكان الأجانب من خلال الأبوية المسيحية. لم تكن الكاثوليكية هي الديانة المسيطرة في البلاد فحسب، بل وكانت افتراضيًا مرادفة لفرنسا نفسها. وتركز عمل المبشرين على تحرير «المساجين» و«المقهورين» من «خرافاتهم» ودياناتهم الزائفة، وتحويل «الأصلانيين إلى عبقرية عرقنا».
تأسست هوية الإمبريالية الفرنسية ذاتها في الكاثوليكية، والإيمان بأنه عند مزاوجتها مع الأفكار الجمهورية القوية، يمكن أن تخلّص السكان الأفارقة الطفوليين من أعماق جهلهم. نتيجة لذلك أعلمت العائلات المسلمة بأن أولادها سوف يوضعون في مدارس حيث يتعلمون التفوق الأخلاقي للكاثوليكية، وأن معالمهم الروحية ستؤخذ منهم. كانت هنالك «مصادرات متكررة للمساجد والأضرحة والمقابر، وتم هدمها لاحقًا أو تحويلها إلى مؤسسات فرنسية»، الأمر الذي عجز المواطنون الجزائريون عن منعه. وأظهر للجزائريين بهذه الطريقة أنهم كي يكونوا فرنسيين عليهم ألا يكونوا مسلمين، وأنهم لا يملكون كامل الحق فيما يتعلق بحرية العبادة. إضافة إلى أن كل جزائري أصلاني يشتبه باتباعه للقرآن بوصلة أخلاقية وشرعية بدلًا من القانون المدني الفرنسي العلماني، يخسر وضعيته «كمواطن فرنسي». إلّا أن هذا القانون العلماني قد صمم غالبًا لحماية المؤسسات الكاثوليكية التي لم ترد الحكومة إزعاجها.
هنالك ممارسات إسلامية معينة دلت على كيف ولماذا شيطن الفرنسيون الإسلام. بات تعدد الزوجات جريمة يعاقب عليها بالسجن في المستعمرة حيث أنها اعتبرت تهديدًا مباشرًا لقدسية الزواج التي وضعتها الكنيسة الكاثوليكية فوق كل اعتبار.
حول قضية الممارسات الإسلامية في الزواح يقول تشارلز ريشار وهو ضابط في المكتب العربي: هذا ما هو عليه الشعب العربي؛ حوالي ثلاثة ملايين نفس تعيش في خليط من النجاسات غير المتصورة، عربدة من كافة اللا أخلاقيات المعروفة، من تلك المتعلقة بسدوم إلى تلك المتعلقة بالماندرين. ينهب الرجل ويسرق جاره. ويردها الثاني له. يتزوج بأربع نساء ويجرى وراء أخريات. عندما يكون قويًا يأكل الضعيف، وعندما يكون ضعيفا يطعن بالظهر.
إن هذا المفهوم للأخلاق في مقابل اللاأخلاق هو جدلية سعت الكنيسة الكاثوليكية من خلالها إلى تعريف الإسلام والمسيحية بوضوح، و«العرب» و«الفرنسيين» كضدين. وفي ظل المفاضلة الدينية التي فرضها النظام الاستعماري الفرنسي، تم ترسيم حدود الجنسية أيضًا. وتم الربط بين الكاثوليكية والمواطنة الفرنسية فيما بين السكان المحليين. وقد نجم عن ذلك وفي محاولة للوصول إلى العديد من الحقوق التي تمتع بها المستوطنون الأوروبيون، تحوّل الكثير من الجزائريين إلى المسيحية، أو أقلها، أظهروا أنفسهم كأتباع للمذهب الكاثوليكي. إلا أنه ولخيبة أملهم، لم يحوزوا على المواطنة تلقائيًا. حتى أنه وبحلول عام 1903 كانت لا تزال محكمة الجزائر تشير إلى أولئك الأفراد على أنهم «أصلانيون مسيحيون مسلمون» وذلك لأن «مسلم» كان يعتبر لقبًا لا يمكن للجزائري الأصل أن يطرحه عنه بمجرد تبنيه للمسيح. كما ستستخدم الدولة الفرنسية الدين أيضًا طريقة لحرمان السكان الأصلانيين اقتصاديًا في الجزائر.
اللامساواة الاقتصادية في الجزائر الفرنسية
لم ينتهِ تفكيك المجتمع المسلم بتقديم الكاثوليكية وتجريم الثقافة الإسلامية. إذ أصبح الجزائريون المسلمون هشّين إزاء الدمار الاقتصادي الذي سبّبه المستعمرون، وبذلك عانوا لتلبية الاحتياجات الأساسية. فجُرّد الكثير منهم من أراضيهم الزراعية لصالح المستوطنين الفرنسيين الذين بدأوا بالوصول بأعداد أكبر ما بين أربعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. اعتقد الفرنسيون لدى وصولهم أن الجزائريين كانوا كسالى بالفطرة نظرًا للطريقة التي زرعوا الأرض بها، والتي رأوها غير ناجعة. يعود هذا جزئياً إلى واقع أن المجتمع التقليدي المسلم قد عمل ضمن نظام قبلي يعتمد على المشاعية الجماعية. وكي تستخدم الأرض بشكل أكثر «فعالية»، وضع الفرنسيون قانون الأراضي لعام 1844 والذي فرض أن «الأرض غير المزروعة داخل مناطق محددة تعتبر شاغرة ما لم تُقدم سندات ملكية سارية المفعول لإثبات الملكية». ونظرًا لعدم وجود مثل هذه السندات بسبب الممارسات الدينية والثقافية، تمكن المسؤولون الفرنسيون من الاستيلاء على الأراضي المحلية بسهولة. وللمزيد من تبرير قرصنتهم لمساحات الأراضي، أطّر الفرنسيون أنفسهم كمنقذين منتجين لثروات طبيعية يتم إهدارها. وفيما كانت الأراضي الزراعية تستخدم ذات مرّة لتوفير الغذاء لسكان الجزائر الأصلانيين، قرر الفرنسيون استخدامها لمشاريع «أكثر ربحًا وأكثر فائدة»، مثل إنتاج النبيذ الذي يمكن المتاجرة به لاحقًا مع المتروبول. ولكن كان لهذا التغير في الأيدي تبعاته.
تنامى الفقر سريعًا بين السكان الأصلانيين المسلمين في الجزائر وانتشرت المجاعة بعد أن حُرموا من «أشكال الدعم التقليدية، مثل تخزين الغذاء لأيام الشدة». وقد مات من الجوع عام 1867 وحده، قرابة ثلاثمائة ألف جزائري مسلم. دفع هذا العديد من السكان للاعتماد على الوظائف الوضيعة متدنية الأجر التي قدمها لهم المستوطنون الفرنسيون، مما أدى على العكس من ذلك إلى زيادة الإنتاج الزراعي الأوروبي. وقد خلق هذا علاقة السيد-بالعبد بشكل فعال في المستعمرة، بغض النظر عن غياب العبودية القانونية.
بات الإسلام إضافة إلى التصوير الفرنسي الساخر للعرب، مرادفًا للفقر والجريمة والعنف. وارتفعت معدلات الجريمة كما الجوع. ولجأ المسلمون اليائسون إلى السرقة والعدوان والتمرد للاستمرار على قيد الحياة. وفي الواقع، عام 1968 تعرّض 600 مستعمر للسرقة بمعدّل أربع مرّات للشخص، وارتفعت الخسائر السنوية من السرقات إلى نصف مليون فرنك». ومن الطبيعي أن رد فعل السكان المستوطنين كان شديدًا وانقلبوا على «المشرّدين» المسلمين في الصحف وخلقوا صحافة صفراء متعصبة إلى حد اتهام المسلمين بأكل لحوم البشر. وهكذا نجم عن تعطيل التقاليد والممارسات الدينية والقبلية سواء فيما يتعلق بالمبادئ الروحية أو البنية المجتمعية، اختزال المسلم الجزائري إلى الصورة النمطية التي أعطيت له.
السيطرة السياسية للمستعمِرين
لم يتواجد إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي حدّد قيم الجمهورية الفرنسية في شكله الأصلي في الجزائر. حُرّر الإعلان بالنسبة للسكان المستعمَرين بشكل انتقائي. إذ احتل الأصلانيون منطقة رمادية متزعزعة ما بين مواطنين كاملين للجمهورية الفرنسية وتابعين كولونياليين من الدرجة الثانية. بل إنه ترك الجزائريين الأصلانيين عامدًا في «مأزق قانوني قرابة عقدين من الزمن» بعد غزو الجزائر، حيث كانت الحكومة الفرنسية تصارع تناقضاتها الداخلية كأبطال للعالمية وكأسياد للإمبريالية. وتقرر أخيرًا عام 1865 بأنه بينما منحَ ضم الجزائر السكان وضعية «المواطن الفرنسي»، إلا أن الأصلانيين لم يكونوا في الواقع مواطنين فرنسيين، مما أتاح للدولة قانونيًا رفض منحهم ثمار الحقوق المدنية والسياسية. كما منح النظامان الانتخابي والقانوني في الجزائر وهمًا بالمشاركة المحلية، بينما واقعيًا ضمنا الهيمنة السياسية للأيديولوجيات المؤيدة للاستعمار، نظرًا لكون أكثرية السكان لم تملك الحق في الانتخاب (حيث مُنِع المسلمون من المشاركة)، فتكوّنت غالبية مجالس المقاطعات المحلية من المستوطنين الفرنسيين الذكور. حتى أنه في بعض السنوات كانت أربعة أخماس الهيئات التشريعية في الجزائر من المستوطنين الفرنسيين، مع مكوّن مسلم ضئيل منتقى يدويًا من جانب المسؤولين في الدولة قاموا باختيارهم بناء على الولاء والطبقة الاجتماعية الاقتصادية. وقد جعل هذا من المستحيل جوهريًا القيام بأي إصلاح قانوني لصالح السكان المحليين أو القبائل المسلمة في ظل النظام الفرنسي. ومع تنامي عدد السكان من المستوطنين الفرنسيين خلال نهايات القرن التاسع عشر، فرضت المزيد من القيود القانونية على الأصلانيين.
يسعى الاستعمار الاستيطاني لاستبدال السكان الأصليين على أرضهم وليس استخراج فائض القيمة من خلال مزج عملهم بالمصادر الطبيعية للمستعمرة.
تأسس قانون الأصلانيين الشائن عام 1881 ولم يتم إلغاؤه إلا بعد خمسين عامًا لاحقة كنتيجة لمطالبات الوطنيين الجزائريين. وقد شرّع القانون للدولة أن تفرض العقوبات والغرامات على أكبر تهديد سياسي بكل ارتياح، وهو المجتمع المسلم المتماسك.
لقد صممت القوانين لتحقيق الخضوع الكامل في المجتمع المسلم في الجزائر ولتعطيله سياسيًا. يعلن القانون أن عقد الاجتماعات العامة وفتح المدارس أو حيازة السلاح يحتاج إلى ترخيص وموافقة الحكومة الفرنسية. كما أوصى تشريع الأصلانيين بأنه قد يتم معاقبة المحليين في حال رفضهم تزويد المسؤولين الاستعماريين بالطعام والماء أو الوقود أو خدمة النقل. أفلح القانون في تعزيز القوة السياسية وسيطرة السكان الأوروبيين المقيمين، بحيث أن فرنسا استخدمته في الواقع كنموذج في المستعمرات الأخرى الواقعة تحت سيطرتها. فقد أدخلت أنظمة مشابهة في السنغال وكمبوديا ومدغشقر. أمّا بين المحليين فقد رسخت التشريعات استياء شديدًا وقرفًا من الهرمية الاستعمارية. إلا أنها خلفت أيضا العديد من الأسئلة حول كيفية تصنيف هويتهم. فإذا كانت الجزائر فرنسية، فهل هذا يجعل من الجزائريين فرنسيين؟ وإن كانت الإجابة لا، فكيف يتم تحديدهم في ظل سلطة الإمبراطورية الفرنسية؟
أزمة الهوية: «المسألة الإسلامية»
نجحت الدولة الفرنسية من خلال برنامجها لتأسيس فرنسا جديدة في الجزائر في الوقت الذي كانت أيضًا تعرّف نفسها ضد كل ما هو جزائري، في خلق أزمة هوية اتسعت بين رعاياها ومواطنيها المستعمَرين. فتبعًا لإجبارهم على دمج الثقافة الفرنسية في حياتهم اليومية ووجودهم الاجتماعي، في الوقت الذي أُطّروا فيه أيضًا بالصورة النمطية الفرنسية «للعربي»، وجد الجزائريون أنفسهم يحتلون وجودًا في اللامكان. فكما كتب مولود فرعون في مطلع القرن العشرين في لو جورنال،
»عندما أقول أنا فرنسي، فإني ألصق بنفسي كل ما يرفض الفرنسيون منحي إياه. أنا أعبر عن نفسي بالفرنسية التي تعلمتها في المدارس الفرنسية. وأنا أعرف بقدر ما يعرف الرجل الفرنسي العادي. ولكن من أنا بحق السماء؟ هل من الممكن طالما توجد تسميات ألا أحوز على واحدة؟ فأيها لي؟ قل لي من أنا!»
تمثل المنظور المسقط للمستعمِر في أن الشعب الجزائري لم يكن خليطا من فرنسا والجزائر، بل لم يكن أيًا منهما. إن هذه العزلة التي سهّلت جعلَ السكان الأصلانيين بمثابة الآخر، برّرت الفصل العنصري والهرمية المفروضة من المستعمِرين. يفهم من كلمات فرعون أن العديد من المواطنين الجزائريين لم يؤمنوا بأن هوياتهم قد منحت لهم أو اختلقت من جانب الفرنسيين، لا بل أنها حجبت. إذ أشير إلى أطفال العائلات الجزائرية بعد الاستعمار على أنهم الجيل الثاني، وكأن الشعب الجزائري لم يتواجد قبل وصول الفرنسيين. إلا أن العديد من أفراد هذا الجيل الثاني ومن تلاه من الشباب في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بدلًا من فهم أنفسهم خارج تاريخ جزائري ممحي أو حاضر فرنسي اجتياحي، تماهوا مع كليهما. وهكذا ولدت أزمة المسألة الأصلانية في الأدب الجزائري والخطاب الفرنسي. فالسؤال الذي جرى سبره كان هل من الممكن أن تكون مسلمًا وفرنسيًا معًا، وأن تكون من الأصلانيين وفرنسيًا أيضًا، وكذلك غير أوروبي وفرنسيًا في آن معًا.
انخفض عدد سكان الجزائر بحلول منتصف القرن التاسع عشر نظرًا للحرب والاضطراب الاقتصادي إلى قرابة نصف حجمه ما قبل الاستعمار، أي من حوالي أربعة ملايين إلى 2.3 مليون.
مع حلول الحرب العالمية الأولى والخسائر الفادحة التي نجمت عن الصراع، تم استدعاء القوى البشرية من كافة البلدان الفرانكوفونية للقتال على الجبهات. حارب حوالي 170 ألف جزائري مع القوات الفرنسية في الحرب العظمى، مكونين جزءًا من جيش إفريقيا الذي تضمن رجالًا من المغرب وتونس. أصبح أولئك الجنود الدعاية الحية للاستعمار الفرنسي، ممثلين للأصلانيين الأكثر ولاء وإخلاصًا. انضم العديد إلى الصفوف لأنهم توقعوا الحصول على اعتراف كامل بمواطنتهم الفرنسية، ليصلوا بسؤال هويتهم أخيرًا إلى نهايته. فيما انضم آخرون من منطلق الفقر المدقع والحاجة إلى الأجور والطعام. إلا أنه بحلول عام 1914 وبدء الحرب، بدأت المجموعات المعارِضة بشدة لدعم البنى الاستعمارية الفرنسية بكافة أشكالها تنظيم أنفسها، ومنها على وجه الخصوص، الفرق الإسلامية التقليدية الرافضة للمشاركة الجزائرية في الجيش الفرنسي لاعتقادها أن السكان الأصلانيين لا يجب أن يموتوا من أجل تغيير لن يأتي أبدًا ومن أجل دولة تذم الثقافة الإسلامية. لسوء الحظ أثبتت هذه التنظيمات بأنها على حق، حيث أن حقوق الجزائريين قد شهدت القليل من التغيير في نهاية الحرب، حتى بالنسبة لقدامى المحاربين. إلا أنه كانت هنالك دعوات عام 1919 للتجنيس التلقائي لقدامى المحاربين الجزائريين سواء داخل المستعمرة وفي بعض الأوساط السياسية في المتروبول، حتى أنه دارت أحاديث حول منح المواطنة الكاملة للرجال الجزائريين. بيد أنه تم إسكات هذه المقترحات من جانب الأغلبية في الحكومة الفرنسية من منطلق الخوف من «الابتلاع والغرق في الحشد (..) والانغمار في عرق جديد». تبعًا لذلك لم يتمكن الرجل الجزائري حتى من المطالبة الكاملة بهوية قدامى المحاربين «الفرنسيين»، إذ أنها كانت محفوظة بعيدًا عن متناول يده. تنامى الاستياء في المستعمرة كرد فعل بين مجموعات السكان الأصلانيين التي بدأت بتشكيل مجموعات ثقافية وسياسية مدفوعة للعمل من أجل المزيد من الحكم الذاتي والإصلاح القانوني. وهكذا، فرضت الحكومة الفرنسية في محاولة لاسترضاء هذا الانبعاث المقلق في المنظمات الأصلانية قانونا جديدًا كتنازل عام 1919 لجعل الحصول على الجنسية أكثر إتاحة لبعض الرجال الجزائريين. إلا أن هذا لم يكن كافيًا لإعاقة تقدم ما سيصبح أساس الحركة الوطنية الجزائرية.
كان هدف المهمة التحضيرية تحت ستار المشروع الإنساني، نفي الوجود الجزائري كما كان مفهومًا قبل وصول الفرنسيين. تمكن الفرنسيون من خلال إلغاء الممارسات الثقافية والاجتماعية الجزائرية من منطلقات الاقتصاد والدين والتعليم، توطيد سلطتهم في المناطق الجديدة على أكمل وجه. كما أنهم تمكنوا من خلال المهمة التحضيرية منح المسميات والتنميطات للسكان المحليين، جاعلين من الممكن تأطير النظام على أنه خيري ويعمل لصالح الجماهير الأقل حظًا في إفريقيا. فمن خلال تصوير «تخلف» الجزائر والقدرة على التشبه بدولة أوروبية «متنورة»، تمكنت الحكومة الفرنسية من تبرير أجندتها التي تخدم مصالحها الذاتية على أنها مجدية ونافعة. وكما كتب فرانز فانون، فإن الطرح المحسن الإنساني للمهمة التحضيرية ضروري وناجح في الوقت نفسه لأنه: لا يكتفي المستعمِر بالادعاء أن العالم المستعمَر قد خسر قيمه أو ما هو أسوأ لكونه لم يمتلك أي منها أساسا. بل يعلن أن «الأصلاني» لا يتأثر بالأخلاق، وهو يمثل غياب القيم بل وعدمها أيضًا.
وهكذا، فإن «الأصلاني» في حاجة إلى التقويم في تعصبه الإسلامي وضعف عقله المعرفي بالرأسمالية الفرنسية بحسب سيده الأوروبي. وهو أيضًا جاهل في نقص معرفته باللغة الفرنسية والعادات الأخلاقية. يشير فانون إضافة إلى ذلك أنه بغض النظر عن المشروع المدعى حول مهمة التحضير من أجل «تحسين» الأصلاني، فإن الأصلاني مؤطّر بنقائص المحدودية والجمود بالوقت ذاته، مما يجعل الوجود المؤبد للمستعمِر جوهريًا في كافة مجالات الحياة الكولونيالية.
-
الهوامش
[1] Lorcin, Patricia M.E., Imperial Identities: Stereotyping, prejudice and race in colonial Algeria (New York: I.B. Tauris Publishers, 1995).