كلّما ظنّ اللبنانيون أنهم رأوا أسوأ ما يمكن أن يحدث، تفاجأوا بما هو أقسى وأصعب. هذه المرّة، كان الأمر أشبه بأفلام نهاية العالم الهوليوديّة: انفجار هائل تلته سحابة فطر حمراء ضخمة وغريبة فوق سماء العاصمة، بما يشبه قنبلة نووية صغيرة، تناثر معها الركام والغبار على مساحة واسعة من الأحياء السكنيّة. وما إن انجلى الغبار حتّى بدت آثار الخراب العظيم في معظم زواريب بيروت، من الحطام والزجاج المتناثر في كل مكان، إلى الشهداء والجرحى العالقين تحت الأنقاض، وصولًا إلى الذهول والرعب الذي تركه الحدث الغريب على وجوه الجميع. فهم الجميع هنا أن ما جرى لم يكن انفجار عاديًا من النوع الذي يراه المرء عادةً، والذي تنحصر آثاره في الأحياء والمناطق المجاورة له، بل كان إحدى الحوادث الاستثنائيّة المدمّرة في تاريخ المنطقة.
لم يكن من الصعب تحديد مصدر الانفجار في أولى اللحظات بعد التفجر، خصوصًا أن جميع الفيديوهات أظهرت أن سحابة الفطر خرجت من مكان محيط بأهراءات القمح داخل مرفأ بيروت. في البداية، تحدّثت بعض وسائل الإعلام عن انفجار مخزن للمفرقعات الناريّة، لكنّ التفسير لم يكن مقنعًا. بعد ساعات، بدأ الجميع بفهم الحكاية الحقيقيّة: ثمّة من خزّن 2750 طن من المواد الشديدة التفجير داخل المرفأ، قيل في البداية أنّها مسحوق نترات الصوديوم، قبل أن يتبيّن أنها نترات الأمونيوم. بعد ساعات، كانت بعض الفيديوهات تشرح بعض تفاصيل الحادث. بدأت المسألة بحريق طال بعض الألعاب الناريّة، في أحد مخازن المرفأ الذي احتوى في الوقت نفسه مخزون نترات الأمونيوم. وعمليًّا، كان تفجير نترات الأمونيوم بحاجة إلى صاعق ما ليتفجّر على النحو الذي جرى، فكانت المفرقعات الصاعق المثالي الذي تمكّن من التسبب بهذا الانفجار. هذا، لحد اللحظة، ما خصلت إليه الرواية الرسمية، فيما ما تزال التحقيقات جارية.
الكارثة الصحيّة
في أولى ساعات ما بعد الانفجار، برز بوضوح حجم الكارثة الصحيّة التي نجمت عن الحادث. فالبلاد كانت بحاجة إلى مستشفيات قادرة على استيعاب ما يزيد عن خمسة آلاف جريح في تلك اللحظة، في حين أن ثلاثة من مستشفيات العاصمة الأساسيّة أصبحت خارج الخدمة الفعليّة بعد أن لحق بها الدمار نتيجة الانفجار نفسه، ناهيك عن استشهاد وجرح العشرات من الأطباء والممرضين والإداريين في هذه المستشفيات.
وهنا برز عبء آخر على القطاع الصحي، وتمثّل بطريقة التعامل مع مئات المرضى الذين كانوا يتواجدون أساسًا في المستشفيات المدمّرة قبل الانفجار، والذين باتوا بحاجة إلى الانتقال إلى مستشفيات أخرى لمتابعة علاجهم. مع العلم أن معظم هؤلاء المرضى تعرّضوا نتيجة الانفجار إلى جروح جديدة تستدعي التعامل معها، بالإضافة إلى حالتهم السابقة التي استدعت وجودهم داخل المستشفيات قبل الانفجار. أما أكثر المشاهد الصادمة، فكانت صور الأطفال حديثي الولادة الذين كانوا يتواجدون داخل المستشفيات المدمّرة، والذين هرع الممرضون الذين نجوا من الانفجار لسحبهم من داخل الغرف المخصصة لهم، دون أن يعرف الممرضون إلى أين يتجهون بهم.
طوال الليل، كانت مستشفيات العاصمة ومحيطها التي لم يطلها الدمار تكتظ بالجرحى إلى درجة تفوق قدرتها الاستيعابيّة، وهو ما دفع الطواقم التمريضيّة والطبيّة إلى تحويل محيط بعض المستشفيات ومواقف السيارات إلى مراكز علاجيّة في محاولة للتعامل مع هذا الضغط الرهيب. وفي وقت لاحق، بدأت طواقم الإسعاف بمحاولة التعامل مع الحالات غير الحرجة ميدانيًّا، لتخفيف الضغط على المستشفيات. ولذلك، عمدت بعض الدول كالأردن والعراق وقطر وإيران إلى الإعلان عن إرسالها مستشفيات ميدانيّة إلى لبنان لمساعدة البلاد على تخطّي الكارثة الصحيّة.
على أي حال، لم يكن كل ذلك سوى جزء بسيط من المشهد المأساوي على مستوى القطاع الصحّي. فالمشكلة الأكبر كمنت في استنزاف الكارثة للمستلزمات الطبيّة الموجودة في المستشفيات، مع العلم بأن المستشفيات اللبنانيّة كانت تعاني أساسًا من شح كبير في هذه المستلزمات نتيجة أزمة السيولة بالعملة الصعبة وعدم توفّر الدولارات المطلوبة لاستيراد هذه المواد. وفوق ذلك، فإن بعض المستلزمات القليلة التي تمكّنت بعض المستشفيات من استيرادها بعد توفير الدولارات المطلوبة لذلك تعرّضت للتلف بعد الانفجار الذي لحق بمرفأ بيروت. ولذلك، رفعت نقابة أصحاب المستشفيات الصوت عاليًا في الأيام التي تلت الانفجار، محذّرة من التداعيات الوخيمة التي ستنتج عن هذا الموضوع.
أمّا أكثر المشاهد إيلامًا، فكان الضرر الذي لحق بمستودعات الأدوية التابعة لوزارة الصحّة في منطقة الكارنتينا في بيروت، والتي مثّلت مخزون الوزارة الإستراتيجي من الدواء الذي لطالما استفاد منه محدودو ومتوسطو الدخل في البلاد. مع العلم أن هذه المستودعات كانت مخصصة لتخزين الأدوية الحسّاسة الباهظة الثمن، والتي يحتاجها عادةً المرضى الذين يعانون من أمراض مستعصية أو مزمنة، في حين أن البلاد كانت تعاني أيضًا من شح في هذه الأدوية قبل حدوث الانفجار، نتيجة أزمة السيولة نفسها.
أزمة الاستيراد القادمة
من الواضح أن مرفأ بيروت بات خارج الخدمة كليًّا، كما يمكن القول إن لبنان سيحتاج إلى وقت طويل إلى التعامل مع حجم الدمار الشامل الذي طال المرفأ والأماكن المحيطة به، مع العلم بأن محافظ بيروت أشار بعد الانفجار إلى أن حجم الأضرار التي خلّفها الانفجار قد تصل قيمتها الـ15 مليار دولار. أمّا الإشكاليّة الأهم اليوم، فتتعلّق بعجز الدولة الكلّي عن التعامل مع هذه الأضرار، في ظل إفلاس الدولة وعجزها عن الاقتراض بعد تعثّرها في سداد ديونها، وانسداد أفق مفاوضاتها مع الجهات المانحة الخارجيّة للحصول على دعم مالي.
فضلًا عن ذلك، فإن أي دعم مالي خارجي قد يتم تقديمه اليوم، سيقتصر على المساعدات ذات الطابع الإنساني، التي تهدف إلى تمكين الدولة من التعامل مع هذا الجانب من الأزمة، ولن يطال حكمًا التعويض عن هذا القدر الهائل من الخسائر التي طالت البنية التحيّة. مع الإشارة إلى أن البعض أشار أيضًا إلى صعوبة الانطلاق قريبًا في تلزيم عمليّة إعادة بناء المرفأ بصيغ الشراكة مع القطاع الخاص، أي عبر تلزيم شركات أجنبيّة عمليّة بنائه واستثماره، في ظل التدهور الحاصل على المستوى الاقتصادي، والذي يمثّل هاجسًا أساسيًا لأي شركة يمكن أن تفكّر بالاستثمار في البلاد.
الرواية الرسميّة ما زالت مليئة بالفجوات غير المفهومة، وخصوصًا من جهة سبب الاحتفاظ بهذه المواد في المرفأ طوال السنوات الماضية، رغم عدم وجود صناعات لبنانيّة تحتاج لهذه الكميّة منها.
باختصار، لن تستطيع البلاد تجاوز أزمة دمار المرفأ خلال الفترة المقبلة، وهو ما يطرح أسئلة جديّة عن قدرة البلاد على تجاوز أزمة الاستيراد التي ستنشأ عن توقّف مرفأ بيروت عن العمل لفترة طويلة من الزمن، خصوصًا أن البلاد تعتمد على الاستيراد لتأمين نحو 80% من سلّتها الغذائيّة. عمليًا، يمكن القول إن البديل الأساسي سيكون في هذه الحالة الاعتماد على مرفأ طرابلس، وهو المرفأ الثاني من حيث الحجم في البلاد، والذي أفاد الإداريون فيه بأنه قادر على استيعاب أكثر من أربعة أضعاف الكميّة التي يستقبلها اليوم من الحاويات، حيث يستقبل المرفأ اليوم حوالي الـ70 ألف حاوية سنويًّا، في حين تبلغ قدرته القصوى استقبال حوالي 300 ألف حاوية سنويًا.
لكن ومع ذلك، من المؤكّد أن مرفأ طرابلس لن يكون قادرًا على تعويض الانخفاض في قدرة البلاد على الاستيراد الناتج عن تدمير مرفأ بيروت. فمرفأ بيروت يحتوي على أربعة أحواض و16 رصيفًا، في حين أن مرفأ طرابلس يقتصر على على حوض واحد وثمانية أرصفة. وبينما يستطيع مرفأ طرابلس استقبال 300 ألف حاوية في السنة كما ذكرنا، تتجاوز حاجة السوق اللبناني للاستيراد الـ400 ألف حاوية سنويًّا، وهو ما يعني أن الدولة ستحتاج للقيام ببعض الاستثمارات لزيادة القدرة الاستيعابيّة لمرفأ طرابلس، أو استقطاب مستثمرين من القطاع الخاص للقيام بذلك، وهو ما لا يبدو أن الدولة قادرة على فعله حاليًّا بالنظر إلى ظروف الدولة الماليّة والظروف الاقتصاديّة للبلاد.
أما المرافىء الخمسة الأخرى، أي مرافىء صور وصيدا وجونيه وشكا والجية، فهي مرافىء متخصصة بأنواع محددة من العمليات، ومن غير المتوقّع أن تتمكّن الدولة من تحويلها خلال فترة زمنيّة قصيرة إلى مرافىء تجاريّة قادرة على استقبال البواخر الكبيرة، على النحو الذي كان يقوم به مرفأ بيروت.
من المسؤول؟
الثابت حتّى الآن هو أن عدد شهداء الانفجار تخطّى الـ137 شهيدًا (حتى صباح السابع من آب)، مع العلم أن العدد مرشّح للارتفاع مع استمرار عمليّات انتشال الجثث من تحت الأنقاض. بعض الشهداء كانوا في عداد فرقة الدفاع المدني التي تم إرسالها للتعامل مع حريق المفرقعات، قبل حصول انفجار الأمونيوم الكبير، ودون أن يعلم هؤلاء طبيعة المواد الموجودة داخل المخزن الذي اندلع فيه الحريق. البعض الآخر، كان في عداد إحدى فرق الجيش اللبناني التي تتمركز على مقربة من المرفأ، والتي اندفع بعض جنودها للمساعدة في التعامل مع الحريق قبل الانفجار. أما الغالبيّة الساحقة من الضحايا، فكانوا من المواطنين الذين تواجدوا في أعمالهم أو أماكن سكنهم في أحياء العاصمة، قبل أن يدمّر الانفجار الأماكن التي تواجدوا فيها.
أمام ضخامة الخسائر البشريّة التي تحمّلتها عائلات الضحايا، وأمام الأذى الذي تعرّض له آلاف الجرحى، وفي ظل الدمار والخراب الذي شهدته العاصمة كنتيجة للانفجار، يصبح من الضروري السؤال عن المسؤوليّات، والطرف الذي تسبب بهذا الحادث اليوم. الرواية الرسميّة ما زالت مليئة بالفجوات غير المفهومة، وخصوصًا من جهة سبب الاحتفاظ بهذه المواد في المرفأ طوال السنوات الماضية، رغم عدم وجود صناعات لبنانيّة تحتاج لهذه الكميّة منها. تحدثت وسائل إعلام عن مصادرة الحمولة خلال مرورها بشكل عابر بالمرفأ عام 2013، في حين أن المسؤولين ماطلوا طوال السنوات الماضية دون أن يقوموا بإتلاف هذه المواد أو إعادة تصديرها كما كان يفترض أن يفعلوا. اللبنانيون ينتظرون التحقيقات، والأيام المقبلة ستكشف مدى جديّة هذه التحقيقات.