في أسبوع واحد، بين نهايات حزيران وبدايات تموز الجاري، في مخيم جنين، ومخيم نور شمس في طولكرم، حلَّقت مدرّعتان عسكريتان إسرائيليتان من نوع «بانثر» و«النمر» في الهواء ولو لمسافة قصيرة، ليس بفعل تعديل جديدٍ على مهامها، لكن لأنّ عبوتين ناسفتين انفجرتا تحتهما خلال مشاركتها في اقتحام المخيمين.
قُتل جنديان، وأصيب العشرات في الانفجارين، وأُعطبت المدرعتان، وتحسسّ الجيش الفزع من هذه العبوات الناسفة التي تجعل الآليات تحلّق، فبدأ أسلوبًا جديدًا للتعامل مع هذا الشكل من المواجهة. ففي الضفة، أرسل جرافاته التي قلّبت الأرض أعمق من السابق بحثًا عن عبوات مشابهةٍ، وفتّش جنوده المشاتل الزراعيّة واعتقلوا أصحابها بحثًا عن مادة جديدة تستخدم في حشوة هذه العبوات الناسفة. وفي تل أبيب، بدأ بوضع خططٍ عسكريةٍ جديدةً للتعامل مع المناطق التي تزرع فيها هذه العبوات من تصفيح مدرعات والبحث في مصير المستوطنين في الضفة، والكلف المالية والبشرية.
ليست قوة الانفجارين وحدها مصدر القلق، فما أثارته من فزعٍ يضاف إلى سياق الفزع الأكبر الذي تدور فيه معركة طوفان الأقصى في عدة جبهات.
سيرة العبوة التي عادت مع الكتيبة
ببارود يُطحن في ماكينات صنع القهوة، صنَّع رفاق يحيى عيّاش وعبدالله البرغوثي في كتائب القسّام فترة التسعينيات المواد الأوليّة للعبوات الناسفة محليّة الصنع في الضفّة.
وعندما بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000، وداخل مخيّم جنين، بحسب الرواية الشعبية، كانت مسنّة فلسطينية تستذكر حكايات البلاد قبل النكبة وتحكي عن خلطة مواد محلية استخدمها الناس لتفجير الأرض لغايات حفر آبار المياه. استدل المقاومون في جنين على الخلطة وصنعوا منها حشوات العبوات الناسفة والأكواع. استخدمت هذه العبوات في تفخيخ مداخل المخيم وطرقاته في معركة جنين 2002، وحين تقدّمت الآليات أعطبت «أم العبد» -الاسم الشعبي للعبوة- بعض الآليات.
كانت تلك عبوات بفعالية قليلة، غابت عن شوارع الضفة الغربية مع خفوت الانتفاضة سنة 2005، حين فكّك أمن الاحتلال والسلطة البِنى التحتية لفصائل المقاومة بالضفة بالمطاردة والاغتيال والاعتقال والإبعاد خارج فلسطين. غابت حشوة «أم العبد» وبقيَّ منها أمانيّ كبيرة قالها مقاوم من جنين شارك في تصنيعها: «بدي أخلّي ضرّيبة الحجار تمسك عبوات».
تضاعفت العمليات التي نفذتها المجموعات الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية خمس مرات في السنة السابقة للسابع من أكتوبر، 70% من هذه العمليات نفذتها تشكيلات مسلحة في جنين ونابلس وطولكرم
بعد أكثر من عشر سنين، صارت الأخبار تنتشر عن انفجار عبوات ناسفة والعثور على بعض خلايا تصنيعها، مثل خليّة كتائب القسّام في نابلس عام 2016، أو انفجار أربع عبوات شماليْ القدس عام 2016، لكن الحدث الأكبر بينها كان كشف أمن السلطة عشرات العبوات في طولكرم في مكانين؛ حقل من 13 عبوة ناسفة تزن الواحدة بين 30 إلى 50 كيلوغرامًا، مجهزة بأنظمة تفجير عن بعد وضعت على طريق مرور آليات جيش الاحتلال، و40 عبوة أخرى مخبأةٌ في كهف قريب، واكتشاف عبوات أخرى في إحدى قرى رام الله عام 2020، فيما يبدو أنها كانت مرحلة سنوات تحضير وتطوير.
وفي حين يصعب الحصول على معلومات حول طبيعة هذه العبوات، إلّا أن هناك مؤشرات تقود إلى ارتفاع في الاعتماد على العبوة الناسفة في صدّ اقتحامات الجيش للضفة مع حلول العام 2021. إذ كان معدّل تنفيذ عمليات تفجير عبوات بشكل عام يتراوح بين 30 و55 عملية في السنة، وفي العام 2022 تضاعف الرقم خمس مرات، حيث نفذت 227 عملية تفجير عبوات، وكانت محافظات جنين ونابلس وطولكرم، تتصدر المشهد، بحسب أرقام مركز معلومات فلسطين (معطى).
في هذه الأماكن، وفي هذه السنوات التي جرى فيها الاعتماد على العبوة الناسفة بدل الرصاص، كانت تشكيلات عسكرية جديدة في الضفة تتشكل وتبدأ عملها بشكل متسارع، مطلقة على نفسها اسم «الكتيبة». إن سيرة الاعتماد أكثر على العبوة الناسفة بدل الرصاص لصد اقتحامات الجيش هي ذاتها تقريبًا سيرة الكتيبة التي ظهرت لأوّل مرة بعد معركة «سيف القدس» في أيّار العام 2021، والكتيبة أول تشكيل عسكريّ شبه منظم ينشط في الضفّة الغربيّة بعد انتهاء الانتفاضة الثانية.
قرابة سنة قبل السابع من أكتوبر، ولأوّل مرة، لفت تفجير عبوة ناسفة عن طريق الكتيبة بآلية «النمر» العسكرية في جنين في حزيران 2023 الأعين إلى أن عبوة ذات تأثير أكبر قد دخلت الخدمة. تضررت الآلية، وأصيب ستة جنود، وكشف مقاتلو الكتيبة لاحقًا في تقرير صحفي عن وجود وحدة هندسة في الكتيبة تشرف على تصنيع هذه العبوات التي تزن قرابة 40 كيلوغرامًا، تصنّعها عدة مجموعات من أفراد الكتيبة لكل مجموعة مَهمة، مثل مجموعة تصنيع هيكل العبوة، ومجموعة طبخ الحشوة وتعبئتها، فيما يبدو أنه نقلة أخرى في تصنيع العبوات.
اضطر جيش الاحتلال بسبب هذا التطور الجديد في تأثير العبوات الناسفة إلى تغيير خططه في جانبين: في العتاد، حيث بدأ يعتمد في الاقتحامات أكثر على الآليات المدرعة، مثل ناقلات «بانثر» و«النمر» وبعض المجنزرات، بدل الآليات قليلة التصفيح مثل الجيبات صغيرة الحجم التي تحمل ما بين ثلاثة وخمسة جنود، وهذا ما صار بعض أهالي الضفة يلاحظونه، خاصة في طولكرم.
أما الجانب الآخر فهو الجنود، حيث رفع من عدد قوّاته التي يقتحم بها المناطق التي تعتمد المواجهة بالعبوات الناسفة، وهو ما عمل عليه بالفعل في حزيران 2023 حيث نقل أربع كتائب إلى الضفة، منها وحدات تتبع للكوماندوز وأخرى للواء غولاني، بالإضافة إلى مشاركة وحدات أكثر من الهندسة والاستخبارات التي تكون مهمتها كشف هذه العبوات وتفكيكها. وقبل السابع من أكتوبر بأيام، سحبت «إسرائيل» ثلاث كتائب من حدود غزة وأرسلتها لحماية احتفالات عيد العرش للمستوطنين في الضفة الغربية.
تضاعف عدد العمليات التي نفذتها المجموعات الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية خمس مرات في الأشهر الـ12 السابقة على السابع من أكتوبر، 70% من هذه العمليات نفذتها تشكيلات مسلحة في جنين ونابلس وطولكرم؛ أي أماكن نشاط «الكتيبة».
هل ساهمت المواجهة بالعبوة الناسفة في الضفة في عملية التضليل طويلة الأمد التي طالت حدود غزة قبل يوم السابع من أكتوبر؟ فرضية لها مؤيدوها بين المختصين برصد الحروب والأسلحة المستخدمة فيها ومفادها أن جبهة الضفة ساهمت في صرف انتباه مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية عن التطورات داخل قطاع غزة.
العبوة الناسفة بعد السابع من أكتوبر
مع بدء معركة طوفان الأقصى، يمكن فهم تأثير اعتماد العبوة الناسفة ضمن السياق الأوسع في المعركة التي تجري على عدة جبهات، حيث تحتجز جبهة الشمال مع حزب الله عدة ألوية قتالية، وفي الجنوب مع فصائل المقاومة في غزة أنهكت بالقتال الطويل عدة ألوية أخرى، وفي الضفة التي تمثل بالنسبة لجيش الاحتلال الإسرائيلي «خطرًا على إسرائيل» ثمة كذلك ألوية قتالية كاملة محتجزة، لها هدفان.
أولًا، حماية مستوطنات الضفة الغربية القريبة من نابلس وجنين وطولكرم. إذ تتخوف بعض الأوساط في «إسرائيل» من انتقال استخدام العبوات الناسفة من حالة الدفاع عن المخيمات والمدن الفلسطينية إلى حالة الهجوم في الطرق التي يسير عليها المستوطنون أو داخل المستوطنات، وهو ما حدث بالفعل، مرتين على الأقلّ، حين تسللت خلية مقاومة من طولكرم نحو الأراضي المحتلة عام 1948، لتنفيذ هجمات بعبوات ناسفة يوم الثالث عشر من أكتوبر، ومرة ثانية في كمين لكتيبة جنين قرب مستوطنة «حومش» في الثالث من آذار الماضي، الذي نفذ بإطلاق النار وتفجير عبوة وأصيب فيه أربع جنود.
لم يعد اقتحام الجيش لبعض الأماكن في الضفة عملًا روتينيًا منذ السابع من أكتوبر، إذ صار -بفعل استخدام العبوات- أكثر تعقيدًا وخطرًا على حياة جنوده وقدرة آليات، كما صار يتطلب جنودًا أكثر.
بالفعل، رفع جيش الاحتلال من مستوى أمن هذه المستوطنات من خلال تزويدها بأجهزة اتصال لاسلكية جديدة من نوع «إيزي توك» وزيادة أعداد مجندي الاحتياط في المستوطنات كمصدر إنذار مبكر، وأعلن عن مشروع تجهيز فرقة دافيد التي تضم جنودًا ومجندات بلغوا سن الإعفاء، ومتطوعين، وعناصر من الحريديم لأول مرة، للوصول إلى تجنيد 40 ألف مقاتل.
ثانيًا، حماية جنوده عند الاقتحامات والحد من الأعداد المطلوبة منهم. يقول المحلّل والخبير العسكري الفلسطيني واصف عريقات لحبر إن الاعتماد على هذه العبوات وتطويرها كان سببًا في جعل الجيش الإسرائيلي يضاعف من عدد الجنود المشاركين في اقتحام المنطقة التي تنشط فيها الكتيبة، وتطلب الأمر من الجيش كذلك أن يبعث مع هؤلاء الجنود آليات مدرعة وجرافات أكثر كان الاعتماد عليها أقلّ قبل طوفان الأقصى.
وربما تكون عملية اقتحام مخيم نور شمس في طولكرم مثالًا واضحًا على عدد الجنود والآليات الذي يحتاجه الجيش للوصول إلى زارعي العبوات، إذ استخدم قرابة ألف جندي ترافقهم عشرات الآليات وعربات النمر وجرافات الـD9 المُصفّحة، التي دخلوا بها المخيم في اقتحام دام أكثر من 44 ساعة، خرج الجيش منه دون الوصول إلى زارعي العبوات، وخاسرًا عدة آليات صارت بين أيدي أطفال المخيم بعد تفجيرها بالعبوات الناسفة.
لم يعد اقتحام الجيش لبعض الأماكن في الضفة عملًا روتينيًا منذ السابع من أكتوبر، إذ صار -بفعل استخدام العبوات- أكثر تعقيدًا وخطرًا على حياة جنوده وقدرة آليات، كما صار يتطلب جنودًا أكثر.
المهم، أن العبوة الناسفة ذكّرت المراسل العسكري لصحيفة «زمان» العبرية بذكرى بعيدة لكن أليمة عن عبوات ناسفة عطلّت حركة آليات الجيش في التسعينيات في جنوب لبنان أمام مقاتلي حزب الله.
صار الجيش يعتمد على الضربات الجوية، مثلما حدث أكثر من مرة في جنين وطولكرم، ويجري النقاش في ضرورة استخدام أجهزة تشويش (Jammer) وهي تقنية تساعد في إعطاب العبوات أو تشغيلها عكسيًا، بالإضافة إلى سعيه لتصفيح آلياته أكثر مثل ناقلات «النمر»، وتوسيع استخدام الحفارات الثقيلة، وجرافات الـD9 المُدرعة.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فالاعتماد على هذه المدرعات المصفحة، والأخرى المجنزرة له كلفته أيضًا، أولًا لحاجة الجيش لها في غزة والجبهة الشمالية، وثانيًا لإبطائها حركة القوة المقتحمة بسبب ثقلها وحجمها.
قلق من العبوات
بعد الانفجارين في مخيمي جنين ونور شمس، أدرك جيش الاحتلال أن العبوات صارت تدفن على عمق لا تتمكن أسنان الجرافات والحفارات من الوصول إليه، وأن حجمها صار أكبر. قدّرت الصحافة العبرية وزنها بعشرات الكيلوغرامات، فانتقل الجيش إلى مرحلة أخرى في المواجهة.
حفرت جرافات الجيش لمسافات أعمق في شوارع طولكرم وجنين بحثًا عن هذه العبوات، ولاحق جنوده واعتقلوا أصحاب مشاتل زراعية ومحال بيع أسمدة للوصول إلى مصدر المواد التي تدخل في صناعة حشوات العبوات مثل الفوسفور والبوتاسيوم والكبريت والنيتروجين.
يطوّر الاحتلال من أساليبه، ويطوّر المقاومون أساليبهم كذلك. وكما يقول المحلل عريقات، لن يعدم الشباب طريقة أخرى لتطوير هذه العبوات؛ إن لم يكن في إضافة مواد جديدة في الحشوات (بسبب صعوبة أو استحالة الحصول عليها في تقديره) ففي طريقة التنفيذ. وهو يختصر قصة المواجهة بالتالي: سلاح متواضع وجهد كبير في التأقلم مع ساحة المواجهة.
إن سيرة الاعتماد على العبوة الناسفة لصد اقتحامات الجيش هي ذاتها تقريبًا سيرة الكتيبة التي ظهرت لأوّل مرة بعد معركة «سيف القدس» في أيّار 2021، وكانت أول تشكيل عسكريّ شبه منظم ينشط في الضفّة الغربيّة بعد انتهاء الانتفاضة الثانية.
نقلًا عن مصادر في جيش الاحتلال، تناولت الصحافة الإسرائيلية ما وصفته بالتهديد المتزايد الذي تشكله هذه العبوات الناسفة، وضرورة التعامل مع المناطق التي تزرع فيها من أجل الحفاظ على حرية عمل الجيش.
يصف كبير المحللين العسكريين في القناة الأولى الإسرائيلية، أمير بار شالوم، مواجهة خطر هذه العبوات بأنه ذو أولوية عالية، بسبب السهولة التي يمكن بها تجميع المتفجرات محليًا من مواد مزدوجة الاستخدام، مثل الأسمدة الزراعية وبيروكسيد الهيدروجين والأسيتون والأحماض والأحماض الصناعية، بالإضافة إلى ما يقول إنه منحنى تعلّم سريع جدًا لدى مستخدمي هذه العبوات.
ليس التطور في تصنيع العبوات محليًا ما يفزع الاسرائيليين وحسب، إنما يجري الحديث في الصحافة كذلك -نقلًا عن مسؤولين في الجيش- هناك عمليات تهريب متفجرات إلى الضفة، ما جعل العبوات أكثر قوة بمستويات عدة مقارنة بتلك التي يتم إنتاجها في الضفة.
يحدد الباحث في شؤون الأمن القومي الإسرائيلي فادي نحاس بداية القلق الإسرائيلي من خطر هذه العبوات بعد انفجار عبوّة مخيم جنين مباشرة. من خلال مراقبته للمشهد، يؤكّد نحّاس أن «إسرائيل» تتعاطى مع هذا القلق من خلال عمل استخباراتي لمعرفة معامل تصنيع هذه العبوات. وعن تهريب متفجرات من خارج الضفة ساهمت في تطوير هذه العبوات أو حشواتها، يقول نحّاس إنه يظل احتمالًا واردًا.
إن كان لشكل المقاومة في الضفة الغربية أن يؤرخ بمجموعة من الصور، فقد ترسّخت صورة المقاوم وهو يحمل حجرًا لمواجهة جيش الاحتلال في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، ثم ترسّخت صورة المقاوم يحمل رشّاشًا في الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005)، وصورته يزرع عبوة ناسفة خلال معركة طوفان الأقصى (2023-2024).
لم تعد الأخبار مثل السابق: يدخل الجيش طولكرم وجنين ونابلس وينسحب ومعه معتقلين من المقاومين. صارت أخبار الاقتحام مرتبطة بأخبار أخرى، مثل مشاهد سحب آليات معطوبة تعرضت لعبوات ناسفة. ليست العبوة وحجم الانفجار هي المغزى، إنما تأثيرها على مسار معركة طوفان الأقصى في جبهة الضفة وغيرها من الجبهات.