عن عمر 94 عامًا، رحل في تموز الماضي عيسى مدانات، أحد أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي الأردني وآخرهم، وأحد أهم قادة المعارضة في الأردن منذ خمسينيات القرن الماضي، الذي ختم حياته السياسية نائبًا منتخبًا عن محافظة الكرك، في الانتخابات التي تلت الانفتاح السياسي عام 1989.
تشكل حياة مدانات مقطعًا طوليًا في التاريخ الاجتماعي والسياسي الأردني طوال عمر الدولة الحديثة، فقد ولد عام 1927 في قرية «أدر» الواقعة على بعد سبعة كيلومترات شمال مدينة الكرك. لا تزال أطلال البيت الذي ولد فيه قائمة إلى الآن، زرت القرية قبل سنوات، حيث أصر ابن عمه، رغم تقدمه بالسن، على مرافقتي. وشرح لي بعض التفاصيل: «هنا كان بيت عمّي والد عيسى، هذه الشجرات تقع في الجزء المخصص لهم، أما هذا الباب الحجري المقوّس، كان مدخلًا لبيت عيسى، في تلك الزاوية كان يقع الفرن ومخزن الحبوب والتبن».
لم يكن عيسى من أسرة فقيرة بالمعنى التقليدي للكلمة، ففي القرية الأردنية في ذلك الحين، كانت مقاييس الفقر والغنى مختلفة. كانت البيئة العامة للقرية، بيئةً فقيرةً، بمعنى أنها صعبةٌ ومحدودة الموارد، لكن التفاوت في المستوى المعيشي بين الفئات كان محدودًا أيضًا، فالزراعة وتربية الحلال، ميدان النشاط الاقتصادي الرئيسي، وهي أنشطة تعتمد على بذْل الجهد المتواصل. كما كانت قسوة الطبيعة، تشمل الجميع، تمامًا مثل خيرها.
توفي والده مبكرًا، فبدأت بعدها سلسلة متاعب جديدة أشد قسوة على الطفل عيسى. وهنا بدأ حضور الشخصيات الأهم في نشأته ونموه: والدته مرثا،* وشقيقاته الثلاث خضرة وندى وأسمى. لقد أصرّت الوالدة على أن يكمل عيسى تعليمه، وتحمّلت مع الشقيقات، متاعب رحلة تعليمه الطويلة والمعقدة. من مدرسة أدر، إلى مدرسة الكرك، ثم إلى مدرسة السلط، الخيار الوحيد آنذاك أمام طلاب الأردن لإكمال دراستهم الثانوية.
في مدرسة السلط، نضج حلمه المشترك مع كثيرين غيره: الجامعة الأمريكية في بيروت، فمنها تخرج أحب أساتذته. لكن التكلفة المالية وقفت عائقًا، فالتحق بجامعة مماثلة غير أنها أقل كلفة، وهي الجامعة الأمريكية في القاهرة، في العام 1945–1946.
بعد سنة، تجددت فرصة بيروت بعد مفاوضات شاقة مع عمه، المشرف على أملاك الأسرة، لكن هذا لم يستمر سوى لسنة واحدة، إذ جاءته برقية تقول حرفيًا: «رجوعك للبلد ضروري لك جدًا». وعاد بعدها إلى الأردن.
في عمان، علم عيسى أن معلّمه السابق في مدرستَي الكرك وعمان، الأستاذ صيّاح الروسان، قد أصبح وكيلًا (أمينًا عامًا) لوزارة المعارف (التربية والتعليم)، فقام بزيارته، وشرح له ظروفه الصعبة. فوافق الروسان على تخصيص منحة لإكمال الدراسة في القاهرة.
خرج عيسى مسرورًا باحثًا عن «كفيل»، وكان عليه أن يبحث في علاقاته الجديدة التي بدأت تتشكل بعد تجربتي القاهرة وبيروت، ليقع اختياره على الدكتور نبيه ارشيدات، الذي كان قد تخرج حديثًا من كلية الطب في جامعة دمشق، وعُيّن طبيبًا في بلدية العاصمة عمان. بلا تردد لبى ارشيدات طلب عيسى، ووقع كفالة تقضي بالتزام عيسى بالعمل لمدة أربع سنوات في مدارس الوزارة بعد تخرجه. وعلى الفور، تسلّم عيسى المبلغ اللازم للسفر والدراسة، وسافر إلى القاهرة.
كان قد حسم أمره سياسيًا، فقد مرّ بأبرز عواصم النشاط السياسي على المستوى العربي، القاهرة وبيروت ودمشق. وفي القاهرة، أصبح عيسى اسمًا طلابيا بارزًا وفق شهادة زملائه.
يتذكره زميله الدكتور سليمان الدحابرة بالقول: «كنت طالبًا صغيرًا وجديدًا في القاهرة، وكنت أستعد لإتمام آخر صف[1] من المدرسة في القاهرة، وعندما اجتمعنا مع السفير، وبعد أن ألقى علينا كلمته، وقف طالب أردني من الحاضرين، وتكلم مع السفير الذي كان قد استدعي للتعيين وزيرًا بمنتهى القوة، وكان يقول له: عليك بعد أن تصبح وزيرًا، أن تعمل كذا وكذا، والمطلوب منك أن تقوم بكذا (..) وقد كانت هذه اللغة مستغربة من قِبَلنا، ولم يحصل أن سمعناها قبل ذلك. لقد كان ذلك الطالب هو عيسى مدانات، وقد أثر فينا المشهد كثيرًا».
البيت الذي ولد فيه مدانات في قرية أدر بالكرك عام 1927.
أول الماركسيين
وفق ما كتبه عيسى مدانات لاحقًا؛ كان عدد قليل من الشباب الأردنيين، ومعظمهم من خريجي الجامعات السورية واللبنانية والمصرية، قد تعرفوا وتبنوا الأفكار الماركسية- اللينينية. وكان عددهم حتى النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين لا يتجاوز أصابع اليدين، وكانوا على صلة بالشخصيات الوطنية المعارضة ذات الميول الاشتراكية، وخاصة مع مجلة «الميثاق» التي عرفت نفسها بأنها «لسان حال الكتلة الوطنية المعارضة»، وكتب فيها عيسى أول مقال باسمه عام 1949.
وفي أوائل عام 1950، شكّل هؤلاء الشباب الماركسيون قيادة مركزية للشيوعيين الأردنيين (شرق الأردن)، وكانت تتكون من الدكتور نبيه ارشيدات، وعيسى مدانات، وفايز الروسان، والدكتور فريد العكشة، والمحامي حنا هلسة، وحنا حتر، وإبراهيم الطوال. وأقامت هذه الهيئة صلات مع عصبة التحرر الوطني في فلسطين (الحزب الشيوعي) بقيادة فؤاد نصار، الذي كان ملاحقًا من قبل السلطات العسكرية المصرية. ووفق ما كتب عيسى مدانات لاحقًا في ورقة بحثية بعنوان: «الحركة الاشتراكية في الأردن عبر نصف قرن» كانت تلك القيادة توفر للعصبة المساعدات اللوجستية، من ورق وحبر ومعدات طباعة، ومساعدات مالية كانت بأمس الحاجة إليها بسبب المضايقات والملاحقات والاعتقالات التي كان أعضاؤها يتعرضون لها من طرفي النزاع العربي والصهيوني». وقد سهلت قيادة الشيوعيين الأردنيين تلك عملية انتقال قيادة العصبة بمن فيهم فؤاد نصار إلى عمان، وتأمين «بيت حزبي» سري. وكانت ظاهرة «البيوت الحزبية» جديدة في العمل السياسي في الأردن، ولكنها منذ ذلك الحين أصبحت مألوفة، ويحتفظ قدامى الشيوعيون بذكريات حميمة عنها.
وفق مدانات، فقد طلب الشيوعيون الفلسطينيون من الأردنيين أن يكتبوا تقريرًا عن الوضع في الأردن، فكتب عيسى مدانات التقرير، وسلمه للفلسطينيين الذين قرروا القدوم إلى الأردن، وأعلن عن إنشاء الحزب الشيوعي الأردني. وجاء في وثيقة الإعلان: «فاللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني ترى أن هذا الجزء من القسم العربي الفلسطيني مع شرق الأردن، أصبحا يكونان دولة واحدة، وأن هذه الدولة خاضعة خضوعًا تامًا لسيطرة الاستعمار البريطاني (..)». وبهذا تكون عصبة التحرر قد أقرت بالوحدة (الضم) وبأن الشيوعيين سيعملون في حزب واحد.
العمل معلمًا
التحق عيسى بعد عودته من القاهرة معلمًا في مدرسة السلط، التزامًا بتعليمات المنحة، وحصلت نشاطات طلابية في المدرسة، فصل على إثرها من العمل. وصف عيسى مدانات الحادثة بنفسه؛ إذ جرى اتهامه برفقة زميله في المدرسة إبراهيم العايد، خريج الجامعة الأمريكية في بيروت، بنشر «معتقدات سياسية يسارية في أوساط الطلبة»، وقد أوفدت الحكومة وكيل وزارة المعارف صياح الروسان (الذي وقع على ابتعاث عيسى للدراسة) للتحقيق معه ومع زميله إبراهيم، وقام الروسان باستجوابهما، كما استجوب عددًا من طلاب المدرسة، وتوصل إلى أن التهمة غير صحيحة، وبعث نتيجة التحقيق تلك إلى رئاسة الوزراء. ومع هذا فقد صدر قرار فصل عيسى من العمل في مدرسة السلط الحكومية.
كانت شخصية عيسى تزداد نضجًا، فقد غادر العاصمة مفصولًا من عمله، وتوجه إلى قرية الحصن في إربد للعمل في مدرسة القرية هناك. ووفق تقاليد العمل السياسي المعارض في ذلك الزمان، كان الانتقال إلى مكان جديد يعني انتقالًا إلى ساحة نضال جديدة، ولهذا واصل عيسى نشاطه السياسي، وسرعان ما برز في المحيط الجديد الذي عمل فيه. ويقول إبراهيم الحصري، الذي زار عيسى في الحصن كمسؤول موفد من قبل اللجنة المركزية للحزب، إنه رأى عيسى «مُتمكنًا» و«مسيطرًا» في المدرسة، وكان حضوره يفوق في مهابته حضور مدير المدرسة.
كان قانون مكافحة الشيوعية في صيغته الأولى قد صدر عام 1948، وكان يقضي بسجن من ينتمي للحزب الشيوعي ثلاث سنوات، وبعد قيام الحزب في ربيع 1951 بما يزيد قليلًا عن سنة واحدة، وتحديدًا في نهاية عام 1952، عُدّل القانون ليصبح الحد الأعلى لعقوبة المواطن المنتمي للحزب الشيوعي أو منظمة أنصار السلام 15 عامًا من السجن مع الأشغال الشاقة.
وفي مسوغات تعديل القانون، قالت الحكومة –وفق ما نشر في الصحافة آنذاك- (في الخامس من كانون ثاني 1953)، إنها رأت أن قانون مقاومة الشيوعية رقم 17 لسنة 1948 لا يفي بالغرض الذي سُنّ من أجله، وهو مقاومة المبادئ الشيوعية مقاومة فعالة، لأنه يختص بالنشاط العلني فقط!
نتوقف هنا قليلًا مع حدث استثنائي في سيرة عيسى مدانات، وهو حدث غريب وطريف، ولكنه في الوقت ذاته، يعطي إشارة واضحة على جوانب من شخصية عيسى الشاب؛ فقد أجريت في الأردن انتخابات نيابية عام 1951، فترشح لها رغم أنه كان في الـ24 من عمره، فيما يشترط القانون إتمام المرشح للثلاثين من عمره! لكن القانون كان يشترط أن يتقدم أحد للطعن في موضوع العمر، وهو ما حصل في يوم الانتخابات فقط، حيث تروي شقيقته أنهم كانوا يعدون أنفسهم للاحتفال بالفوز.
تقدم عيسى مدانات وحسن النابلسي، عام 1954، بطلب ترخيص لصحيفة باسم «الفجر الجديد» وتمّ الإعلان عن قرب صدورها باعتبارها فتحًا جديدًا في عالم الصحافة، وذلك وفق وصف أحد الإعلانات التي نشرتها صحيفة «الحوادث» عن اقتراب صدور «الفجر الجديد». يقول النابلسي، الذي شغل منصب رئيس تحرير الجريدة بصفته سكرتير لجنة السلم، إن الاسم المقترح الأول الذي فكر به للصحيفة كان «الرغيف»! ويعلق النابلسي عليه بالقول إن «الرومانسية الثورية كانت مسيطرة على تفكير الشباب آنذاك». ورفضت الحكومة منحهما تصريح إصدار للصحيفة، فرفعا دعوى وكسبانها، غير أنهما لم يتمكنا من إصدار سوى عدد واحد، لتصادر الصحيفة بعدها.
كان لعيسى مدانات نصيب من أول حملة اعتقالات تعرض لها الشيوعيون، فقد اعتقل في مدرسة الحصن، وأرسل إلى سجن المحطة ثم إلى سجن الجفر. وكتبت جريدة الحزب «المقاومة الشعبية» في عدد أواسط أيار عام 1952، أن طلاب المدرسة ومعلميها أضربوا احتجاجًا على اعتقال المدرّس عيسى مدانات، وزميله إبراهيم الطوال المدرس في مدرسة أخرى في مدينة إربد، والذي كان يقيم مع عيسى في البيت ذاته، وتضيف النشرة أن الطلاب وأهاليهم، طالبوا بالإفراج عنهما، غير أن الرد من السلطات المحلية جاء «إن الأمر بيد أبو حنيك».[2]
عمومًا، يؤكد حسن النابلسي أن حضور عيسى مدانات كان لافتًا منذ تلك الأيام؛ من حيث قدرته الفائقة على التحليل، وذهنه «المرتّب»، ودماثته، وجاذبية حديثه، ولغته الفصحى القوية، ويتذكر أنهما كتبا في السجن قصيدة هزلية.
عمل عيسى مدانات مؤقتًا بعد الإفراج عنه لعدة أشهر في صحيفة «الحوادث» الأسبوعية التي أصدرها الصحفي مسلم بسيسو، ويعلق الأخير بأنه لم يستطع تحمل اندفاع عيسى وحماسه وجرأته، فهو لم يكن يميز بين النشر الحزبي والنشر الصحفي العلني التابع لمؤسسة مرخصة تستهدف الربح، مثل صحيفته «الحوادث»، فأوقف بسيسو عيسى مدانات عن العمل، لكن عيسى كان قد نشر باسمه العلني مقالة بعنوان «نحو بناء جبهة وطنية» تشير إلى النقلة الجديدة في وعيه، وفي وعي وموقف الحزب الشيوعي عمومًا.
مدانات خطيبًا جماهيريًا بارزًا
في انتخابات تشرين أول 1954، ظهر اسم عيسى مدانات كخطيب رئيسي في حملة رئيس الجبهة عبدالرحمن شقير.
يتذكر الشيوعي نبيل جعنيني، رفيق عيسى، أنه إلى جانب حشد كبير من أهالي مادبا، هرعوا لمشاهدة عيسى مدانات وهو يخطب في لقاء انتخابي عقد للمرشح شقير في المدينة، فقد كان اسم عيسى قد اشتهر وعرف بين الجمهور.
كان عيسى مدانات يثبت ويعزز شخصيته كرجل عمل جماهيري وخطيب في اللقاءات العامة، وهو ما دفع الملك الراحل الحسين إلى ذكره بالاسم في مذكراته التي صدرت بعنوان «مهنتي كملك»: «خطب رئيس الوزراء سليمان النابلسي في جمهور لا يحصى عدده، احتشد في ساحة عمان الرئيسية، وكان واقفًا على يساره عيسى مدانات، أحد مثيري الفتن من الشيوعيين المعروفين».
تشكلت حكومة سليمان النابلسي، ولكن التوتر بينها وبين القصر بدأ بسرعة، «برسالة أذاعها الملك شخصيًا في اليوم الثاني من شباط 1957 يطالب فيها رئيس الوزراء سليمان النابلسي ووزارته بوضع حد لما أسماه النشاط الشيوعي في البلاد، وإلغاء رخصة جريدة «الجماهير» التي كان الحزب الشيوعي يصدرها».
حاول النابلسي إقناع مدانات بإيقاف الصحيفة، فرفض ذلك، لتصادر الصحيفة وتوقف بالقوة. وتوالت الأحداث المعروفة، من إقالة حكومة النابلسي، وتشكيل حكومة أخرى، قامت كما كتب مدانات نفسه: «بحملة اعتقالات شملت ألوف المواطنين الوطنيين وملأت بهم السجون في المحافظات كافة، وحولت الألوف إلى سجن الجفر الصحراوي، وفرضت الإقامة الجبرية على سليمان النابلسي في بيته (..) وساد ظلام دامس على امتداد ثماني سنوات عجاف (منذ أواخر نيسان 1957 وحتى أواخر نيسان 1965)».
غادر عيسى عمان إلى مدينة نابلس في الضفة الغربية ليختفي هناك من الملاحقة لمدة عام كامل، وقد تم استخراج بطاقة شخصية «مزورة» له. وتروي السيدة عصمت الشعار، زوجة النقابي موسى قويدر، أن عيسى حضر إلى بيتهم، وجرى استدعاء أحد المصورين من معارفهم، بحجة التقاط صور عائلية خاصة في المنزل، أما الهدف الحقيقي فكان التقاط صورة لمدانات وهو يرتدي اللباس العربي وغطاء الرأس للتمويه، ووفق الترتيب، يُدعى مدانات كضيف لأخذ صورة في يوم التصوير هذا، ولكن صورته تلك تستخدم في إعداد هوية مزورة باسم مزور، لكي يتمكن من الانتقال من عمان إلى نابلس.
إلى جانب دماثته وظرافة النقاش معه، يسجل رفاق مدانات أنه كان صلبًا وحادًا مع إدارات السجون، إلى درجة أن بعض المدراء، عندما كان يريد التفاوض على أمر مع المساجين، كان يطلب ألا يكون عيسى ضمن وفد التفاوض.
رغم الملاحقة المكثفة تمكن مدانات من الاختفاء في نابلس لمدة عام، قبل أن يقبض عليه عام 1958 ويعتقل في سجن نابلس، ثم ينقل إلى سجن الجفر. كانت تلك الفترة الأقسى التي أمضاها في السجن، من حيث التعذيب الجسدي، ذلك أن اسم عيسى كان من أبرز الأسماء المطلوبة، فهو صاحب الخطبة التي أغضبت الملك ورجال الحكم، وقد تمكن من الاختفاء لمدة عام، ولهذا كان الغضب الشديد بانتظاره.
يروي الدكتور المحامي أنيس القاسم، الذي كان حينها طالبًا في السنة الأخيرة في المدرسة، أنه اعتقل في سجن نابلس في الأيام ذاتها التي اعتقل فيها عيسى مدانات، وأنه شاهد أصناف التعذيب الجسدي الذي مورس ضده، ومن بين ذلك حقنه بالشطّة الحادة لكي تفتك بمعدته، ويضيف أنه كان يزوّده بكميات من زيت الزيتون لعلها تخفف ألم المعدة ذاك.
يكتب عيسى في مخطوطة مذكراته عن اعتقاله بعد أن أمضى سنة متخفيًا: «إثر عودتي من زيارة رفيق في العمل السري كان متخفيًا آنذاك في نابلس، أُوقِفْتُ من قبل رجال أمن كانوا يتسكّعون في تلك المنطقة، وقادوني إلى مركز الأمن في نابلس، ولسوء الحظ، كان المسؤول في ذلك الوقت بهجت طبارة، الذي عرفني على الفور».
رغم وصول عيسى مدانات المتأخر نسبيًا إلى سجن الجفر، حيث كان أغلب القياديين قد اعتقلوا في نيسان 1957، فيما التحق بهم مدانات بعد أيام من القبض عليه في نابلس، لكنه بمجرد وصوله احتل موقعه القيادي بين رفاقه، وشكل فورًا مع رفيقه فائق وراد زعيمي المعتقل للشؤون الحزبية.
إلى جانب دماثته وظرافة النقاش معه، يسجل رفاق عيسى في السجون، أنه كان صلبًا وحادًا مع إدارات السجون، إلى درجة أن بعض المدراء، عندما كان يريد التفاوض على أمر مع المساجين، كان يطلب ألا يكون عيسى ضمن وفد التفاوض، وقد ظلت هذه الصفة ملازمة له حتى بعد خروجه من السجن.
كان عيسى مدانات ضمن الدفعة الأخيرة التي أفرج عنها في نيسان 1965، ليمضي بذلك سبعة أعوام في السجن، ولكنه أصر حتى اللحظة الأخيرة يوم الإفراج على ترك بصمته الخاصة؛ فعندما جرى تجميع المعتقلين الشيوعيين في ساحة السجن، حضر رئيس الوزراء وصفي التل وألقى كلمة فيهم، وبعد أن أنهى، رد فائق وراد وألقى كلمة نيابة عن المعتقلين، لكن عيسى مدانات -وفق رواية نبيل جعنيني وهو شاهد عيان- وقف من بين الحضور وخاطب رئيس الوزراء وصفي التل مبتدئًا بالقول: «نحن الشيوعيين نحب الحرية ونرحب بخروجنا من السجن، ولكننا نرفض الإقامة الجبرية»، فرد عليه وصفي التل نافيًا وجود توجه لفرض الإقامة الجبرية على من يفرج عنهم. ومن الجدير بالذكر هنا، أنه رغم ذلك التأكيد، فقد أقدمت الأجهزة الأمنية على فرض مثل هذا الإجراء على عدد من المعتقلين.
شارك عيسى في دورة دراسة حزبية طويلة، لمدة سنتين دراسيتين كاملتين، بعد خروجه من السجن عام 1965، وكان برفقة شريكه وصديقه وكاتم أسراره وتوجهاته الحزبية، وصديق الأسرة، بشير البرغوثي، أحد خريجي سجن الجفر وأحد قادة الحزب، الذي أصبح فيما بعد أول أمين عام للحزب الشيوعي الفلسطيني. وتشير الدفاتر التي ظل يحتفظ بها، على مدى جدية الطالب الحزبي عيسى مدانات في الدراسة، من خلال حجم ونوع الملاحظات والتلخيصات والتحضيرات التي كان يجريها.
لعل تجربته الدراسية تلك، إلى جانب سيرته النضالية، هي التي وضعته لاحقًا في مركز «مثقف الحزب» أو «منظر الحزب»، وهو موقع مهم في الأحزاب الشيوعية.
في تلك الفترة، شكّل أبو عامر مع فؤاد نصار وبشير البرغوثي ثلاثيًا حزبيًا حيويًا، فقد تفرغ أبو عامر للكتابة والنشر الحزبيين، بينما تفرغ نصار والبرغوثي للتنظيم.
الخلافات الحزبية
لعل أبرز ما يحضر إلى الذهن عند ذكر الشيوعيين الأردنيين، أو الحزب الشيوعي الأردني، مسألتان: النموذج النضالي الرفيع الخاص بهم، الذي شكلوه على المستوى الوطني في مقارعتهم للسلطة؛ «عدوهم الطبقي»، والثانية مسألة الخلافات والانشقاقات التي رافقت مختلف مراحل مسيرتهم. كانت المسألة الثانية تثير الحيرة عند المتابع الذي يعرف الأولى، ولكن الشيوعيين واظبوا على الاثنتين معًا، وبانسجام كامل مع الذات، لأنهم عندما كانوا يمارسون الخلافات والانشقاقات، كانوا يعبئون أنفسهم وأنصارهم، بأنهم يختلفون وينشقون خدمة للمسألة الأولى «النضال والكفاح»! وقد كانت الأطراف المختلفة تتنافس وتتبادل التهم حول أي فريق منهم أكثر كفاحًا ونضالًا ومبدئية.
في نهاية عام 1970 عاش الحزب أول انشقاقاته، وبقي عيسى مدانات في التنظيم الذي حاز على «الشرعية»، محتفظًا بالاسم الأصلي للحزب، الذي ظل في حالة من التماسك النسبي إلى لحظة وفاة الأمين الأول فؤاد نصار في تشرين أول 1976. قبل ذلك، وفي عام 1975، وعندما قرر الحزب إرسال فؤاد نصار للخارج لتلقي العلاج، رشح نصار عيسى مدانات نائبًا له طيلة فترة غيابه، لكن نصار عاد بعد أشهر إلى الأردن من ألمانيا الديمقراطية، في حالة مرضية صعبة، وقضى أيامه الأخيرة طريح الفراش في بيت يعقوب زيادين.
توفي فؤاد نصار، ونظم الشيوعيون جنازة كبرى له، وألقي عيسى مدانات كلمة الحزب في التشييع، وكانت الكلمة والتشييع حدثًا هامًا استثمره الحزب في تأكيد حضوره في الحياة السياسية في البلاد، فالحدث شكّل الاجتماع العلني الأوسع للحزب ومؤيديه منذ مطلع السبعينيات.
لكن قيادة الحزب لم توافق على اختيار الأمين العام الراحل، وبدأت مشكلة تنظيمية جديدة وخلاف جديد، وقف عيسى على رأس فريق منه، واستمر الخلاف داخليًا إلى أن انفجر في العام 1981. وبالنتيجة توزع الشيوعيون بين ثلاثة تنظيمات، هي الحزب الرسمي بقيادة فائق وراد، والثاني مثله الانشقاق الأول بقيادة فهمي السلفيتي، والثالث المجموعة التي قادها عيسى مدانات.
في العام 1984، شعرت كل المجموعات الحزبية بأنها استنفدت حالة الانشقاقات، وبدأت بطرق أبواب بعضها البعض، سعيًا للتوحد من جديد، وبالطبع برعاية وتشجيع وسطاء من أحزاب شيوعية أخرى.
لكن عيسى مدانات تميز مرة أخرى بأنه الوحيد، الذي كان يكتب ويوثق ويحاول أن يرتفع بالنقاش بعيدًا عن الشفوية! إن الكتابة والتوثيق أثناء الخلافات داخل الحزب الشيوعي أمور تحتاج إلى جرأة، ذلك أن المواقف الشفوية سوف تكون قابلة للتأويل والتبديل، وهي توفر قدرًا كافيًا من المرونة، وحتى الاعتذار عنها يكون أهون من الاعتذار عن الكلمة المكتوبة.
تحتوي أوراق مدانات ورقة نادرة؛ إذ يقدم ورقة مكتوبة فيها الكثير من النقد الذاتي، لمجمل الفترة ما بين عامي 1977 إلى 1983، أي فترة الخلاف قبل أن تحصل القطيعة.
هذه الورقة النقدية التي قدمها أبو عامر تعد ممارسة جريئة واستثنائية إلى حد كبير في مجمل سيرة الحياة الداخلية للشيوعيين، فلأول مرة يملك قائد حزبي من هذا المستوى جرأة تقديم نقد ذاتي مكتوب.
ولكن حدثًا «إيجابيًا» من الزاوية النضالية الحزبية، جاءت أسبابه من الخارج هذه المرة، سيحدث نقلة ولو مؤقتة إلى الأمام في الأجواء الحزبية السائدة؛ ففي نيسان 1986 شنت الطائرات الأمريكية عدوانًا على ليبيا، فقرر الشيوعيون التضامن من خلال مسيرة احتجاجية أمام السفارة الأمريكية، وكان مثل هذا العمل يعد تحديًا كبيرًا واستثنائيًا، وكانت السفارة تقع على الدوار الثالث في جبل عمان، وهو ما أحدث ضجة كبرى، خاصة أن عمان كانت العاصمة الوحيدة التي شهدت مثل هذا الاحتجاج، وإثر ذلك اعتقل حوالي 15 شيوعيًا، من بينهم القياديون المكلفون بالمتابعة من المكتب السياسي، وهما عيسى مدانات وآمال نفاع، إضافة إلى اعتقال آخرين بينهم عدد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب.
في عام 1986، ومع حصول الهبة الطلابية في جامعة اليرموك في أيار من ذلك العام، شنت الأجهزة حملة اعتقالات شملت أعضاء المكتب السياسي وجزءًا من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، وبدأت سلسلة ضغوطات ومفاوضات عبر وسطاء أبرزهم المحامي إبراهيم بكر (كما أورد فائق وراد، أمين عام الحزب، في مذكراته). وكان عيسى بين المعتقلين، واستمر اعتقالهم قرابة ثلاثة شهور.
مدانات عضوًا في «النواب»
إثر هبة نيسان عام 1989، شنت حملة طالت عشرات الحزبيين، وبشكل خاص الشيوعيين، ليختفي مدانات لعدة أشهر، ثم بدأت الاستعدادات للانفتاح السياسي وعودة الحياة النيابية. أفرج عن المعتقلين وأخرج المختفون، وبسرعة جرت الانتخابات، وترشح مدانات عن محافظة الكرك، وفاز وحيدًا من قائمة مرشحي الحزب على المستوى الوطني.
خاض أبو عامر المعركة الانتخابية بشوق إلى الشارع والجماهير التي طالما خطب فيها وهو شاب، ولكن هذه المرة في مدينته وبلدته التي غادرها قبل ذلك بحوالي أربعين عامًا، للدراسة والعمل زمنًا، وللمعتقلات زمنًا آخر. وكانت أخبار حملته الأكثر بريقًا في أوساط الشيوعيين.
عاش عيسى مدانات أغلب العقدين الأخيرين من عمره في وضع صحي صعب، حال بينه وبين التواصل مع المحيطين، واعتزل الحياة العامة والتزم منزله.
وفق مرافقي الحملة الانتخابية في منطقة الكرك، فقد أسهم أبو عامر في نقل مستوى النقاش في تلك الحملات من الفردي والشخصي والمناطقي إلى الوطني العام، وراح يحدث الناس عن الحلول العامة للقضايا الفردية، وتكلم عن الاقتصاد والمديونية في معلومات لم تكن معروفة على نطاق واسع، وصار المرشحون عند سؤالهم عن الأمور الكبيرة يقولون: «اسألوا أبو عامر»!
على الصعيد الحزبي، كانت تلك الأحداث المحلية تترافق مع موجة الانهيارات في الحركة الشيوعية والدول الاشتراكية. وساد إرباك عام في الأحزاب الشيوعية، وبينها الحزب الشيوعي الأردني.
بذل مدانات جهده في الإجابة على الأسئلة المطروحة، وحاول تقديم بدائل، وتفسير ما جرى، ودخل في مشاريع وأفكار جديدة رأى أنها تشكل مسارًا جديدًا للمشروع الذي آمن به وعمل من أجله لعقود.
اختير مدانات لعضوية اللجنة الملكية لصياغة الميثاق الوطني برئاسة أحمد عبيدات، رئيس الوزراء ومدير المخابرات الأسبق، وقد ضمت اللجنة ستين عضوًا مثلوا أغلب التيارات السياسية والاجتماعية.
ووفق رئيس لجنة الميثاق، رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات، فإنه فوجئ باتساع قدرات عيسى ومعارفه في شؤون مختلفة، وبأنه سرعان ما أصبح مرجعًا للنقاش والمعلومات في بعض القضايا.
مع إقرار قانون الأحزاب، اختار عيسى مدانات اسمًا آخر، وسياسة أخرى للعمل، فقد أسس مع عدد من رفاقه «الحزب الديمقراطي الاشتراكي الأردني»، وأصدر صحيفة اسمها «الفجر الجديد»، وهو الاسم الذي سبق أن اختاره مع صديقه وشريكه حسن النابلسي عام 1954، كما أشير سابقًا.
لم تستمر تجربة الحزب الجديد طويلًا، ثم جرت محاولة التوحد مع أحزاب يسارية وقومية أخرى، ولكنها لم تستمر بدورها، وواصل عيسى ورفاقه محاولات البحث عن صيغ أخرى للعمل السياسي مع آخرين خرجوا من أحزاب أخرى.
ترك مدانات الكثير من الأوراق والملاحظات والتعليقات، وكان مشغولًا في فترة ما بعد النيابة بعنوانين رئيسيين، أولهما محاولات الكتابة حول تاريخ الأردن السياسي والاقتصادي، والثاني محاولة الكتابة حول الحزب الشيوعي الأردني. كان ذلك قبل أن يسوء وضعه الصحي. فقد عاش عيسى مدانات أغلب العقدين الأخيرين من عمره في وضع صحي صعب، حال بينه وبين التواصل مع المحيطين، واعتزل الحياة العامة والتزم منزله، إلى أن وافته المنية في الحادي عشر من تموز الماضي.
-
الهوامش* ورد خطأ في نسخة سابقة من هذا المقال أن اسم والدة عيسى مدانات هو ثريا بينما الصحيح هو مرثا. وعليه جرى التصحيح.
[1] أي التقدم للتوجيهي المصري، وهو نظام كان معتمدًا ومعترفًا به رسميًا في الأردن.
[2] أبو حنيك هو لقب الجنرال كلوب قائد الجيش حينها، نظرًا لإصابة في فكه.