بعد أسابيع من الضوء الأخضر الذي منحه البيت الأبيض لحكومة نتنياهو لصبّ الجحيم على رؤوس الغزيين، بدأت الولايات المتحدة تستشعر الحاجة لما هو أكثر من القتل. فمنذ أيام، بدأت أصوات أميركية، وبدرجة أقل إسرائيلية، تطرح أسئلة «اليوم التالي»: ماذا بعد تحقيق الهدف الإسرائيلي المعلن بـ«القضاء على حماس»؟ أي طرح سياسي سيقدم لمستقبل القطاع؟ أي أطراف ستوكل إليها مهمة تنفيذ هذا الطرح وكيف؟ وطبعًا، قبل كل ذلك، هل ستصل «إسرائيل» أساسًا إلى «يوم تالٍ»؟
مع دخول العدوان على غزة شهره الثاني، أصبحت هذه الأسئلة أشد إلحاحًا بالنسبة للأميركيين، وإن كان الكثير من إجاباتها ضربًا من الخيال. مؤخرًا، وتزامنًا مع جولة وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن الجديدة في المنطقة، بدا واضحًا أن تصورًا أميركيًا سياسيًا قد بدأ بالتبلور. لكنه ما يزال بعيدًا عن الاكتمال، في ظل تباينات إسرائيلية داخلية، وإسرائيلية-أميركية، فضلًا عن التباينات مع الدول العربية؛ والأهم، في ظل صمود فلسطيني ميداني وشعبي في غزة يجعل العملية البرية الإسرائيلية تسير أبطأ بكثير مما يراد لها، وبكلف باهظة.
«عصف ذهني» وسط المذبحة
كانت المحطة الأولى في تطور الطرح السياسي الأميركي لمستقبل غزة هي مسألة تهجير سكان غزة إلى سيناء، التي طرحت في جولة بلينكن الأولى في المنطقة. لأسبابهما الخاصة، رفضت كل من مصر والأردن المخطط. كان من المفترض أن تأتي قمة عمّان الرباعية في 18 تشرين الأول لتمنح الأميركيين الفرصة لتدوير الزوايا، لكن مجزرة المعمداني جاءت لتحرج المشاركين العرب، فألغيت القمة، أو بالأحرى تأجلت إلى وقت لاحق شهد بدوره مجازر لا تقل فظاعة. بعدها بأيام، عقدت في القاهرة قمة دولية «للسلام»، فشلت في إصدار بيان ختامي بعد تمسك الولايات المتحدة بضرورة إدانة حماس، وتمسك دول عربية في المقابل بالدعوة لوقف إطلاق النار.
لم تكن فكرة التهجير مجرد استعادة لحلم إسرائيلي قديم. فقد سُرّبت وثيقة لوزارة الاستخبارات (التي تشرف على الموساد والشاباك)، صادرة في 13 تشرين الأول، تفصّل خطة التطهير العرقي عبر «إخلاء السكان المدنيين من غزة إلى سيناء»، وتوجيه المساعدات إلى مناطق لجوئهم، وتطبيق «عملية عميقة من التغيير الأيديولوجي». وكل ذلك يَفترض تحصيل الدعم الأميركي والعربي، وبالطبع «القضاء على نظام حماس».
لكن الرفض الرسمي العربي الأول لا يعني أن مخطط التهجير قد سقط. فقد نقلت النيويورك تايمز في الخامس من تشرين الثاني أن مسؤولين ودبلوماسيين إسرائيليين ما زالوا يضغطون «بهدوء» من أجل إقناع مصر، ودول عربية وغربية أخرى، بإدخال مئات آلاف الغزيين. وقال داني دانون، المندوب الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، إن ««إسرائيل» تتوقع ليس فقط من المصريين، بل من المجتمع الدولي برمته أن يبذل جهودًا حقيقية من أجل دعم وإدخال سكان غزة». وكل ما تلا ذلك من سيناريوهات مستقبلية لغزة شمل شكلًا من أشكال التهجير خارج القطاع.
لا يبدو أن «العصف الذهني» الأميركي قد أفضى إلى توافقات واضحة حول التصور السياسي لـ«غزة بعد حماس». لكن ذلك لم يمنع كثيرين في الولايات المتحدة و«إسرائيل» من إطلاق العنان لخيالاتهم في طرح سيناريوهات للمستقبل المنشود.
مع تفاقم المذبحة في غزة، وتزايد المطالبات العربية والدولية بوقف إطلاق النار، فضلًا عن تحوّل الرأي العام العالمي والمظاهرات المؤيدة لفلسطين، حاولت الولايات المتحدة مجددًا تقديم أفق سياسي للعدوان. في هذا الإطار، جاءت جولة بلينكن الأخيرة التي بدأت من تل أبيب، إلى عمّان، ورام الله، وبغداد، وأنقرة، وشملت لقاءً مع وزراء خارجية الأردن ومصر والسعودية والإمارات وقطر وممثل عن السلطة الفلسطينية، في سلسلة اجتماعات كان الهدف الأميركي المتوقع منها هو «العصف الذهني» حول مستقبل غزة.
لم تكن الجولة مرضية تمامًا للولايات المتحدة. إذ أظهر اجتماع عمّان «تباينًا» في الموقف بتعبير وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، من خلال الرفض الأميركي لوقف إطلاق النار، والحديث عن «هدنة إنسانية» لم تأتِ بعد، خاصة وأن نتنياهو رفض بوضوح في لقائه بلينكن إدخال الوقود لغزة. تحدث بلينكن أيضًا في جولته مرارًا عن ضرورة «تقليل الضحايا المدنيين»، وهو ما يبدو أن الكونغرس فسّره بالموافقة على إرسال ما قيمته 320 مليون دولار من القنابل الدقيقة وموجّهات الصواريخ، على اعتبار أن قصف المنازل والمستشفيات والمدارس والمخابز والمساجد والكنائس هو مسألة عدم دقة في الاستهداف. في بغداد، حضر بلينكن مرتديًا سترة واقية من الرصاص، ليؤكد لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن استمرار الهجمات على القواعد الأميركية في العراق وسوريا «غير مقبول». أما في أنقرة، فانتهى اللقاء الذي جمعه بنظيره هاكان فيدان دون أن يعقبه مؤتمر صحفي، فيما قال بلينكن قبيل مغادرته: «لا نتفق في كل المواضيع.. ولكننا نتعاون بخصوص العمل سويًا في أهم القضايا الحساسة».
بالإضافة لكل ذلك، كان واضحًا أن لا استعداد عربي بعد للحديث عن «اليوم التالي». في عمان، قال الصفدي إنه «لا يمكننا الحديث عن فكرة ما سيحدث في غزة ونحن لا نعرف ما الذي سيتبقى منها»، في حين قال وزير الخارجية المصري سامح شكري إن من السابق لأوانه الحديث عن مستقبل غزة. في رام الله، أبدت السلطة الفلسطينية مرونة أكبر. إذ نقلت الواشنطن بوست عن مسؤول كبير في الخارجية الأميركية أن محمود عباس أبدى خلال اجتماعه مع بلينكن «استعدادًا للمساعدة في إدارة غزة في حال خلع حماس»، في حين كان الموقف المعلن للسلطة هو رفض أي حل أمني وعسكري، وأنها لن تلعب دورًا في غزة إلا في سياق «حل سياسي شامل». فيما أثنى بلينكن على دور السلطة في «الحفاظ على الاستقرار» في الضفة، «في ظروف صعبة للغاية».
أما إسرائيليًا، فبدا ألا تصور جدي للمستقبل أساسًا. إذ نقلت هآرتس عن مسؤولين كبار في إدارة بايدن تعبيرهم عن «القلق والإحباط» لعدم وجود «استراتيجية خروج» إسرائيلية خلال زيارة بلينكن لتل أبيب يوم الجمعة. إلا أن ذلك لم يمنع البيت الأبيض من التأكيد على أن «حماس لا يمكن أن تكون جزءًا من المستقبل في غزة» وأن «المشاورات جارية بشأن شكل الحكم هناك».
بالمحصلة، رغم هذه الجهود، لا يبدو أن «العصف الذهني» الأميركي قد أفضى إلى توافقات واضحة حول التصور السياسي لـ«غزة بعد حماس». لكن ذلك لم يمنع كثيرين في الولايات المتحدة و«إسرائيل» من إطلاق العنان لخيالاتهم في طرح سيناريوهات للمستقبل المنشود.
عدوٌ زادُه الخيال
يمكن الحديث عن ثلاث مسائل أساسية تطرقت لها هذه السيناريوهات: شكل وأمد السيطرة الإسرائيلية المباشرة على القطاع، وشكل «المرحلة الانتقالية» التي يفترض أن تسلم «إسرائيل» بعدها غزة لجهة أخرى، وهوية هذه الجهة وصلاحياتها.
فيما يخص النقطة الأولى، دعا نواب ووزراء إسرائيليون من أقصى اليمين إلى إعادة احتلال غزة، بعد تطهيرها عرقيًا، إذ صرح وزير ما يسمى الأمن القومي، إيتمار بن غفير، بأن على «إسرائيل» «أن تتمسك بالأراضي» التي تعتقد أنها ستحتلها. لكن الرأي الغالب في «إسرائيل» هو ما عبر عنه وزير الحرب يوآف غالانت، من أن دولة الاحتلال لا تسعى لحكم غزة بشكل دائم، رغم ضرورة «بقاء المسؤولية الأمنية في يدها» عقب الحرب، حسبما صرح نتنياهو مؤخرًا. ويتقاطع هذا الرأي مع المنظور الأميركي الذي يرى أن على ««إسرائيل» مغادرة غزة فور انتهاء المهمة العسكرية»، ويعارض إعادة احتلال القطاع.
تصبح الأمور أقل وضوحًا عند التفكير بما يفترض أن يحدث بعدها. أشار بلينكن إلى أن الهدف النهائي يجب أن يكون تسليم الحكم إلى سلطة فلسطينية «فعالة بعد إعادة تنشيطها»، دون توضيح كيف ستُنقل السلطة إلى هذا المربع. وقد عيّن الجيش الإسرائيلي مؤخرًا الجنرال المتقاعد أودي ديكل مستشارًا «للتخطيط لليوم التالي للحرب»، دعا إلى «اندماج تدريجي للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة، أولًا في الأجهزة المدنية». جرى تداول عدة تصورات لشكل هذه السلطة، كان من بينها نموذج شبيه بمناطق (ب) التي تشكل 18% من مساحة الضفة الغربية، بحيث يكون للسلطة الفلسطينية سيطرة مدنية عليها، لكن «يتمتع الجيش الإسرائيلي والشاباك بحرية العمل فيها». في هذا الإطار، نقلت هآرتس عن مسؤولين عسكريين إسرائيليين أن الجيش بدأ بالفعل بدراسة نقل جزء من كوادر «وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق»، التي تشرف على الشؤون المدنية في الضفة، إلى غزة. كما تحدثت الصحيفة عن وجود «اقتراحات لآليات شبيهة بما كان موجودًا في جنوب لبنان» قبل التحرير عام 2000، «كإقامة منطقة أمنية داخل حدود غزة، وحتى تأسيس مليشيا محلية مثل جيش لبنان الجنوبي»، أي جيش لحد.
ورغم أن لا بديل إسرائيلي عن سلطة فلسطينية ما، فإن هذا الهدف محل خلاف، إذ يعارضه بن غفير ومعه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وغالبية الحكومة الإسرائيلية الحالية، وكذلك رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت الذي كرر رفضه التعامل مع السلطة بوصفها «شريكًا ممكنًا»، معتبرًا أن ذلك سيكون تكرارًا لـ«خطأ» الانسحاب من غزة، الذي فتح الباب لسيطرة حماس على القطاع. وردًا على مقترح رئيس الوزراء السابق يائير لابيد بتولي السلطة السيطرة على غزة بعد حماس، قال وزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان إن هذه المطالبات «وهم خطير.. وكلام فارغ ومنفصل عن الواقع»، مضيفًا أنه «بدون الدعم الإسرائيلي، لم يكن أبو مازن وحكومته ليتمكنا من البقاء ولو للحظة واحدة». كما يشهد الوسط العسكري تباينًا حول هذه المسألة، فآراء ديكل ليست بأي حال محل إجماع في المؤسسة الأمنية.
لذلك، لعل «المرحلة الانتقالية» المأمولة نوقشت إسرائيليًا أكثر من المرحلة التي يفترض الانتقال إليها. في هذا الصدد، أشار بلينكن إلى أن هناك «ترتيبات مؤقتة يمكن أن تشمل عددًا من دول المنطقة ووكالات دولية تساهم في توفير الأمن والإدارة». هذا التصور لـ«إدارة مؤقتة» يشكّلها «تحالف للراغبين» يَفترض بالضرورة تجاوبًا مصريًا، لكنه يستند بالأساس إلى تشكيل قوة متعددة الجنسيات، تدعمها الولايات المتحدة. فُسّرت تصريحات بلينكن على أنها دعوة لفرض وصاية دولية على غزة، شبيهة بما جرى في كوسوفو وتيمور الشرقية، يلعب مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة، وربما حلف شمال الأطلسي، دورًا أساسيًا فيها. وقد نقلت مجلة فورين بوليسي عن عامي أيالون، الرئيس السابق للشاباك، قوله «أستطيع أن أرى جنودًا مصريين وأردنيين وسعوديين مع قوات دولية، يتحكمون بالمنطقة في المرحلة الانتقالية، وكمًا ضخمًا من الأموال يأتي من الإمارات والسعودية لإعادة الإعمار»، بينما استبعد آخرون مشاركة السعودية ومصر والأردن في هكذا سيناريو، معولين أكثر على الإمارات والمغرب، ودول غربية. في الاتجاه ذاته، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بأن «إسرائيل» تتطلع لتسليم حكم القطاع لتحالف دولي، يضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودولًا إسلامية وقادة محليين.
المفارقة هي أن كثيرًا من هذه السيناريوهات، التي سرحت بعيدًا في تصور قيادة الشعب الفلسطيني، تحدثت في الوقت نفسه عن حاجة أي سلطة مطروحة إلى «الشرعية». ومن أجل توفير هذه الشرعية، تراوحت الاقتراحات من «الإصلاح الفعلي والهادف» للسلطة الفلسطينية لرفع ثقة الفلسطينيين بها، إلى الاستعانة بمجلس الأمن وجامعة الدول العربية من أجل منح تفويض لهذه الخطة، إلى إطلاق سراح الأسير مروان البرغوثي باعتباره اسمًا يحظى بشعبية واسعة في الضفة والقطاع، تمهيدًا لانتخابه رئيسًا للسلطة الفلسطينية.
بالعودة للواقع، لا شك أن كثيرين يدركون أن «إسرائيل» ما تزال بعيدة جدًا عن تحقيق أول شرط للحديث عن «ما بعد حماس». فلا إنجاز عسكري حقيقي على الأرض بعد قرابة أسبوعين على بدء العمليات البرية، في حين بات التأكيد على أن المعركة «صعبة ومؤلمة وستأخذ وقتًا طويلًا»، لازمة متكررة على ألسنة نتنياهو والناطقين باسم جيش الاحتلال. ورغم أن «إسرائيل» لم تتراجع جديًا بعد عن الهدف المعلن في «القضاء على حماس»، فقد بدأ هذا الهدف يتعرض للتشكيك. إذ قال الجنرال الإسرائيلي المتقاعد كوبي ماروم إن «التحدي الذي يواجهه الجيش الإسرائيلي الآن في القتال داخل غزة هو تحدٍ لم نعرفه من قبل، ولا يشبه أي تحدٍ واجهه الأميركيون في أي ساحة»، مضيفًا أنه يشك «فيما إذا كان الجيش الإسرائيلي قادرًا على تحقيق الأهداف الطنانة التي حددها له المستوى السياسي».
وفي حين يقول ماروم إن الحرب ستتطلب عدة أشهر، ويشدد غالانت على استعداد جيشه للقتال «ولو استغرق الأمر سنة»، يؤكد آخرون أن «إسرائيل» لا تملك كل هذا الوقت. فرغم تمسك إدارة بايدن بالهدف الإسرائيلي المعلن، إلا أنها تتعرض لضغط متزايد من الكونغرس من أجل تحديد سقف زمني ومادي للحرب، فضلًا عن أهداف قابلة للتحقق. هذا ما دفع بينيت للتوجه للولايات المتحدة في ما أسماه «جولة سياسية معلوماتية.. لتقوية الموقف الإسرائيلي لدى الرأي العام والكونغرس والإدارة»، لشراء الوقت للجيش. يدرك الإسرائيليون أنه في ظل المظاهرات العالمية المطالبة بوقف النار، فإن الضغط الدولي «يزداد ثقلًا» وأن هناك «قنبلة موقوتة تقول إن الدعم العالمي سيبدأ بالتبخر، وعلى «إسرائيل» أن تقدم رؤية قبل أن يحصل ذلك، وأن تكون حينها قد هزمت حماس».
لكن محللين آخرين يطرحون سؤالًا أهم بكثير: ما الذي يعنيه حقيقةً «القضاء على حماس»؟ فبعيدًا عن السردية الإسرائيلية العلنية حول «منظمة إرهابية تتخذ المدنيين دروعًا بشرية»، يدرك هؤلاء أن حماس حركة اجتماعية لها جناح عسكري وأجهزة مدنية عديدة وتتمتع بشرعية واسعة، وأن الهدف الإسرائيلي بالقضاء عليها منفصل عن الواقع، وأنه حتى لو قضت «إسرائيل» على قدرات حماس العسكرية، فلن يكون بمقدورها القضاء على أيديولوجيتها.
عن القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني
بطبيعة الحال، لم تكن القوى السياسية الفلسطينية بعيدة عن هذه النقاشات. إذ قال مسؤول العلاقات الخارجية في حماس، أسامة حمدان، في مؤتمر صحفي من بيروت، إن الشعب الفلسطيني «لن يقبل بحكومة فيشي جديدة، ولن يقبل بمن يأتي عميلًا على ظهر دبابة إسرائيلية أو أميركية»، وأنه «وحده من يقرر من يتولى حكمه وقيادته». وأضاف «نقول للذين يظنون أن حماس ذاهبة، ستبقى حماس ضمير شعبنا ولن تستطيع قوة في الأرض انتزاعها أو تهميشها». وقد عبرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الجهاد الإسلامي عن مواقف مشابهة. وتعليقًا على طروحات نشر قوات عربية أو دولية في القطاع، قال حمدان في مقابلة على قناة المنار، إن «من يطأ أرضنا بغير إذننا سيكون عدوًا لنا وسنقاتله، هو والإسرائيلي سواء».
تحيل تصريحات حماس إلى الدور المقترح للسلطة الفلسطينية في غزة. ورغم ما نُقل عن عباس حول «الاستعداد للعب دور» في هذا الإطار، إلا أن السلطة تبدو مدركة لمخاطر هذه الطروحات. إذ صرّح رئيس وزراء حكومة رام الله، محمد اشتيه، بأن «لا أحد يقبل.. أن تأتي السلطة لإدارة غزة دون حل سياسي وكأنها تأتي على متن طائرة F-16 أو دبابة إسرائيلية».
تعكس هذه التصريحات استشعار السلطة لهشاشة مشروعيتها في الضفة كما في القطاع. فعلى مدى السنوات الأخيرة، ترافق تصاعد عمليات المقاومة في الضفة وهجمات المستوطنين مع تراجع شعبية السلطة. وفي أحدث استطلاع رأي لمركز البحوث السياسية والمسحية (وهو مركز بحثي مستقل مقره رام الله)، أجري في حزيران الفائت، أعرب 80% من المستطلعين في الضفة والقطاع عن رغبتهم باستقالة عباس، فيما قال 63% إن السلطة عبء على الشعب الفلسطيني، وقالت النسبة ذاتها إن بقاء السلطة من مصلحة «إسرائيل».
بعيدًا عن الطروحات الأميركية والإسرائيلية لمستقبل غزة، دعت حماس العرب لاغتنام «الفرصة الذهبية» التي تقدمها المقاومة «للخروج من مربع انتظار الخرائط الأميركية الجاهزة إلى رسم خرائطنا نحن بأيدينا كأمة مع ذاتنا ومع جوارنا».
قبل عامين، كانت السلطة، التي يأمل بلينكن أن «تجدد نشاطها» تمهيدًا لسيطرتها على غزة، على موعد لاختبار شرعيتها. إذ كان يفترض أن تجرى انتخابات رئاسية وتشريعية في أيار 2021. إلا أن استطلاعات الرأي التي عكست تراجع شعبية عباس خلف مروان البرغوثي وإسماعيل هنية في السباق الرئاسي، وتراجع شعبية قائمة فتح الرسمية مقابل قائمة يشكلها البرغوثي في السباق التشريعي، دفعت السلطة لإعلان تأجيل الانتخابات في اللحظات الأخيرة، عازيةً ذلك لمنع الاحتلال إقامة الانتخابات في القدس، وهو ما رفضته حماس والجبهة الشعبية ومستقلون، واعتبره هنية «مصادرة لحق الشعب الفلسطيني» في اختيار ممثليه. لكن إن كانت شعبية فتح والسلطة مقلقة قبل أيار 2021، فقد تدنت أكثر بعد معركة سيف القدس، التي رأى 77% من المستطلعين في الضفة وغزة أن حماس خرجت منتصرةً فيها، وعبرّ 94% منهم عن شعورهم بالفخر من أداء المقاومة فيها.
على مدى أكثر من شهر من العدوان، لم يتوانَ المسؤولون الغربيون عن الحديث مرارًا بالنيابة عن الشعب الفلسطيني، ليقولوا إن حماس لا تمثله ولا تمثل تطلعاته، قبل أن يجتهدوا في البحث عن بديل لها. تناقش مسألة «إدارة غزة» وقيادة الفلسطينيين لا بمعزل عن إرادتهم فحسب، بل بمعزل عن حقيقة أن حماس فازت بآخر انتخابات عقدت في الضفة والقطاع شارك فيها 78% ممن يحق لهم التصويت؛ انتخابات أقرت الأمم المتحدة بأنها جرت بشكل «حر ونزيه وسلمي»، وتحسّرت هيلاري كلينتون على أن الولايات المتحدة لم تفعل ما يكفي لتزويرها.
لكن إن كانت المعركة الحالية قد فتحت الباب لسيناريوهات منفصلة عن الواقع، فقد فتحت الباب أيضًا لنقاش فلسطيني داخلي حول القيادة الفلسطينية. يقول حمدان إن حماس والجهاد والجبهة الشعبية وبعض القيادات في فتح قد بدأت الحديث حول ضرورة تشكيل قيادة فلسطينية موحدة، ستزداد الحاجة إليها بعد المعركة، مضيفًا أن انتصار المقاومة سيكون «عنوانًا لاستمرار معركة التحرير، بالتالي يجب أن يكون الجميع شريكًا، إلا من يريد أن يقصي نفسه». لكنه أضاف في الوقت نفسه أن المشروع السياسي لهذه القيادة «ينبغي أن يكون واضحًا: هو مشروع تحرير وليس مشروع مقايضة ولا مساومة مع الاحتلال. عملية التسوية انتهت»، داعيًا العرب إلى اغتنام «الفرصة الذهبية» التي تقدمها المقاومة «للخروج من مربع انتظار الخرائط الأميركية الجاهزة إلى رسم خرائطنا نحن بأيدينا كأمة مع ذاتنا ومع جوارنا».
«بعيدًا عن كل السيناريوهات، نحن لدينا سيناريو خاص بنا.. ملخّصه أننا سننتصر».