في الذكرى العشرين للحرب على العراق، أعادت مجلة جلوبال ريسيرتش نشر هذا المقال، المنشور لأول مرة في 30 نيسان 2004، كمحاولة لتقديم إحدى الإجابات الممكنة على سؤال لماذا احتاجت الولايات المتحدة الحرب على العراق، و«الحرب على الإرهاب» بصورة أوسع. أدناه ترجمة حبر لنسخة مختصرة من هذا المقال.
الحرب هدرٌ رهيبٌ للأرواح والموارد، ولهذا يعارضها معظم البشر من حيث المبدأ. ولكن على النقيض، يبدو أن الرئيس الأمريكي يحبها، فلماذا؟ بحثَ الكثير من المعلقين عن الإجابة في العوامل النفسية. وعبّر آخرون عن رأيهم في أن جورج دبليو بوش اعتبر أن من واجبه إنهاء مهمة بدأها والده، زمن حرب الخليج، ولكن لسبب ما لم يكملها، فيما يعتقد آخرون أن بوش الابن توقع حربًا قصيرة ومظفّرة تضمن له فترة رئاسية ثانية في البيت الأبيض. أمّا أنا فأعتقد بأنه يتوجب البحث عن تفسير لموقف الرئيس الأمريكي في مكان آخر.
لا علاقة لنفسية بوش بحرصه على الحرب، بل يتعلق الأمر إلى حد بعيد بالنظام الاقتصادي الأمريكي. هذا النظام -أي الطراز الأمريكي من الرأسمالية- يعمل أولًا وأخيرًا لجعل الأمريكيين فاحشي الثراء، أي «السلالات المالية» من أمثال عائلة بوش، أكثر ثراءً. من دون حروب باردة أو حارة، لا يستطيع هذا النظام جني الثمار المرتقبة على هيئة أرباح متصاعدة، تشكّل حقًا طبيعيًا بالنسبة لرأسماليي الولايات المتحدة المتنفذين.
بيد أن قوة الرأسمالية الأمريكية هي نقطة ضعفها أيضًا، أي إنتاجيتها العالية على وجه الخصوص. فقد صنعت عدة عوامل عبر التطور التاريخي للنظام الاقتصادي العالمي الذي ندعوه بالرأسمالية، زيادة هائلة في الإنتاجية، على سبيل المثال، مكنكة عملية الإنتاج التي انطلقت في إنجلترا في وقت مبكر من القرن الثامن عشر. ثم قدم الصناعيون الأمريكيون إسهامًا حاسمًا في بدايات القرن العشرين، على شكل أتمتة العمل من خلال تقنيات جديدة مثل خطوط التجميع، التي كانت ابتكارات أدخلها هنري فورد، وأصبحت تعرف جمعيًا باسم «الفوردية». وهكذا تصاعدت إنتاجية الشركات الأمريكية الكبرى بصورة مذهلة.
فمثلًا، كان هناك عدد لا يحصى من المركبات في عشرينيات القرن العشرين، تنزلق عبر خطوط التجميع في مصانع السيارات في ولاية ميشغان يوميًا. ولكن مَن كان من المفترض أن يشتري كل هذه السيارات؟ حيث لم يكن لدى معظم الأمريكيين آنذاك موارد مالية قوية بما يكفي لمثل هذه المقتنيات. أغرقت سلع صناعية مشابهة أخرى الأسواق، مما نجم عنه حصول لا تناغمٍ مزمن بين إمدادات اقتصادية تزداد باستمرار وبين طلب متباطئ. وهكذا نشأت الأزمة الاقتصادية التي عرفت عمومًا بالكساد العظيم. فقد كانت في جوهرها أزمة إفراط وتضخم في الإنتاج. حيث كانت المستودعات تكتظ بالسلع غير المباعة، وسرحت المصانع عمالها، وانفجرت البطالة، وتقلصت القوة الشرائية للشعب الأمريكي أكثر فأكثر، لتزيد من تفاقم الأزمة.
لا يمكن إنكار أن الكساد العظيم في الولايات المتحدة لم ينته إلا خلال الحرب العالمية الثانية وبفعلها. (حتى إن أكبر معجبي الرئيس روزفيلت يعترفون بأن سياسات برنامج الصفقة الجديدة الشهيرة لم تأت سوى بالقليل من العون). تصاعد الطلب الاقتصادي بشكل مذهل عندما أتاحت الحرب التي بدأت في أوروبا، والتي لم تكن الولايات المتحدة طرفًا فاعلًا فيها قبل عام 1942، للصناعات الأمريكية إنتاج كميات غير محدودة من معدات الحرب. حيث قامت الدولة الأمريكية ما بين الأعوام 1940 و1945، بإنفاق ما لا يقل عن 185 مليار دولار على مثل هذه المعدات، وارتفعت حصة النفقات العسكرية من الناتج القومي الإجمالي بين الأعوام 1939 و1945 من رقم تافه يقارب 1.5% إلى ما يقارب 40%. كما أن الصناعات الأمريكية زودت البريطانيين بكميات هائلة من المعدات وحتى السوفييت. وهكذا تم حل المشكلة الرئيسة للكساد العظيم -عدم التوازن بين العرض والطلب- لأن الدولة ضخت النشاط في الطلب الاقتصادي من خلال طلبات هائلة تحمل طابعًا عسكريًا.
دون حروب باردة أو حارة، لا يستطيع هذا النظام جني الثمار المرتقبة على هيئة أرباح متصاعدة، تشكّل حقًا طبيعيًا بالنسبة لرأسماليي الولايات المتحدة المتنفذين.
وبالنسبة للأمريكي العادي جلبت عربدة الإنفاق العسكري توظيفًا كاملًا، بل وأجورًا أعلى من أي يوم مضى؛ فقد انتهى البؤس المتفشي المرتبط بالكساد العظيم في غضون الحرب العالمية الثانية، وحققت غالبية الشعب الأمريكي درجة غير مسبوقة من الرفاهية. إلا أن أعظم المنتفعين من الازدهار الاقتصادي في زمن الحرب كانوا رجال الأعمال والشركات في البلاد، والذين حققوا أرباحًا استثنائية. يكتب المؤرخ ستيوارت د. برنديز، أن الربح الصافي لأضخم 2000 شركة أمريكية، ما بين عامي 1942 و1945، كان أعلى بأكثر من 40% عنه خلال الفترة ما بين عامي 1936 و1939. إن مثل هذا «الانتعاش في الأرباح» أصبح ممكنًا، كما يفسر، لأن الدولة اشترت معدات عسكرية بمليارات الدولارات، وفشلت في السيطرة على الأسعار، وفرضت ما لا يكاد يذكر من الضرائب على الأرباح. أفاد هذا السخاء عالمَ التجارة الأمريكية عمومًا، والنخبة المحدودة نسبيًا على وجه الخصوص، من الشركات الكبرى المعروفة باسم «كوربوريت الولايات المتحدة»، حيث حازت، خلال الحرب، أقل من ستين شركة على 75% من كافة طلبات الدولة المربحة في المجال العسكري وغيره. وكشفت الشركات الكبرى -فورد وآي بي إم، وغيرها- عن كونها «خنازير حرب» كما يكتب برنديز، التهمت القدر الوفير من نفقات الدولة العسكرية. فمثلًا، زادت آي بي إم من مبيعاتها السنوية ما بين عامي 1940 و1945 من 46 مليون دولار إلى 140 مليون دولار، وجاءت قفزة الأرباح هذه بفضل الطلبات المرتبطة بالحرب.
استغلت شركات الولايات المتحدة الضخمة خبراتها الفوردية إلى أقصى مدى في سبيل زيادة الإنتاج، لكن حتى هذا أيضًا لم يكن كافيًا لتلبية احتياجات زمن الحرب للدولة الأمريكية. فقد كانت هناك حاجة للمزيد من المعدات، وتطلب إنتاجها مصانع جديدة وتقنيات أكثر فعالية. استُخرِجت هذه الموجودات الجديدة حسب الأصول، وبناءً عليه ازدادت القيمة الإجمالية لكافة المرافق الإنتاجية للأمة ما بين عامي 1939 و1945 من 40 مليار دولار إلى 66 مليار دولار. لكن لم يكن القطاع الخاص وحده من تعهّد كافة هذه الاستثمارات الجديدة؛ وجد رجال الأعمال الأمريكيون، بناءً على تجاربهم المرهقة في الإنتاج الزائد خلال الثلاثينيات، أن هذه المهمة محفوفة بالمخاطر. لذلك قامت الدولة بهذه المهمة من خلال استثمار 17 مليار دولار فيما يربو على ألفي مشروع متعلق بالصناعات الدفاعية. وسُمِح للشركات الخاصة باستئجار هذه المصانع الحديثة مقابل رسوم رمزية وكسب المال من خلال إعادة بيع الناتج للدولة. أضف إلى ذلك أنه بانتهاء الحرب، وعندما قررت واشنطن تجريد نفسها من هذه الاستثمارات، اشترتها الشركات الضخمة بنصف السعر، بل وحتى بثلث القيمة الحقيقية في الكثير من الأحيان.
كيف تمكنت الولايات المتحدة من تمويل الحرب، وكيف دفعت واشنطن الفواتير الباهظة التي قدمتها جنرال موتورز وآي تي تي (ITT)، وغيرها من الشركات الموردة لمعدات الحرب؟ الجواب هو من خلال الضرائب جزئيًا بنسبة 45%، فيما الجزء الأكبر، بنسبة 55% جاء من القروض. بناء على ذلك، ازداد الدين العام بشكل هائل، أي من ثلاثة مليارات دولار عام 1939 إلى ما لا يقل عن 45 مليار دولار عام 1945. كان يفترض أن يتقلص هذا الدين، نظريًا، أو يمسح كليًا، من خلال فرض الضرائب على الأرباح الضخمة التي جمعتها شركات الولايات المتحدة الكبرى خلال الحرب، إلا أن الواقع كان مختلفًا تمامًا. فكما لاحظنا، فشلت الدولة الأمريكية في تحصيل الضرائب بشكل معقول على الأرباح الهائلة للشركات الأمريكية، وأتاحت للدين العام أن يتزايد، ودفعت فواتيره وفوائد القروض من الإيرادات العامة، أي من خلال الدخل المتولد من الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وخاصة بحسب قانون الإيرادات الرجعي الذي شرّع في 1942، بحيث قام العمال وغيرهم من الأمريكيون أصحاب الدخل المنخفض، بدفع هذه الضرائب بشكل متزايد، بدلًا من أصحاب الثراء الفاحش. عبء تمويل الحرب كان يقع على عاتق أفقر أعضاء المجتمع، كما يقول المؤرّخ شين دينيس كاشمان.
بالنسبة للأمريكي العادي جلبت عربدة الإنفاق العسكري توظيفًا كاملًا، بل وأجورًا أعلى من أي يوم مضى؛ فقد انتهى البؤس المتفشي المرتبط بالكساد العظيم في غضون الحرب العالمية الثانية، وحققت غالبية الشعب الأمريكي درجة غير مسبوقة من الرفاهية.
بيد أن جمهور الأمريكيين المنشغل بالحرب، والذي أعماه نور التوظيف الكامل والأجور المرتفعة، فشل في إدراك ذلك. بينما كان الأثرياء الأمريكيون من جهة أخرى، على علم تام بالطريقة المذهلة التي ولّدَت الحربُ من خلالها المالَ لهم ولشركاتهم. وبالمناسبة، اقترضت واشنطن المال اللازم لتمويل الحرب أيضًا من رجال الأعمال الأثرياء وأصحاب البنوك والمؤمنين وغيرهم من كبار المستثمرين؛ وهكذا استفادت الشركات الأمريكية أيضًا من الحرب، عبر الحصول على حصة الأسد من الفوائد المتولدة من شراء سندات الحرب الشهيرة. وفي حين يُعتَبر أثرياء الولايات المتحدة المتنفذون، وإن نظريًا على الأقل، أبطال ما يسمى بالاقتصاد الحر العظيم، والمعارضون لأي شكل من أشكال تدخل الدولة في الاقتصاد، إلا أنهم لم يحركوا ساكنًا أثناء الحرب اعتراضًا على الطريقة التي أدارت بها الدولة الأمريكية الاقتصاد وموّلته، لأنه من دون الانتهاك واسع النطاق لتدخل الدولة في قوانين الاقتصاد الحر، ما كان لثرائهم الجمعي أن يزداد إطلاقًا كما حصل في تلك السنوات.
تعلمّ أصحاب الشركات الأثرياء والمدراء الكبار للشركات الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، درسًا في غاية الأهمية: هنالك مال يجنى خلال الحروب، مال وفير. أي بكلمات أخرى، إن المهمة الشاقة لتعظيم الأرباح -النشاط المفتاحي داخل الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي- يمكن أن تحقّق بكفاءة في الحرب أكثر منها في السلم؛ إلا أن التعاون الخيّر للدولة مطلوب.
بدا واضحا في ربيع 1945 أن الحرب، المنبع الرائع للأرباح، على وشك الانتهاء. فماذا سيحدث حينها؟ استحضر الكثير من المتنبئين، من بين رجال الاقتصاد، سيناريوهات بدت بغيضة جدًا لقادة الولايات المتحدة السياسيين والصناعيين. فقد كانت مشتريات واشنطن للمعدات العسكرية خلال الحرب، ولا شيء غيرها، هي ما رمّم العرض الاقتصادي وجعل من التوظيف الكامل إمكانية، بل وحقق أرباحًا غير مسبوقة أيضًا. ولكن مع عودة السلام، خيم شبح عدم التوازن بين العرض والطلب مهددًا بمطاردة الولايات المتحدة مجددًا، حيث سيُسَرّح العمال في اللحظة التي سيعود فيها ملايين المحاربين إلى الوطن بحثًا عن عمل مدني، كما أن البطالة الجديدة وتدهور القوة الشرائية ستفاقم عجز الطلب. من منظور أثرياء ومتنفذي الولايات المتحدة، لم تكن البطالة القادمة مشكلة؛ وإنما تكمن الأهمية في العصر الذهبي للأرباح الطائلة التي ستصل إلى نهايتها. لذلك توجب إيقاف مثل هذه الكارثة، ولكن كيف؟
كانت نفقات الدولة العسكرية مصدرًا مرتفعًا للأرباح. لذلك باتت هناك حاجة ماسة لإيجاد أعداء جدد، وتهديدات حربية جديدة للحفاظ على تدفق الأرباح بعد هزيمة ألمانيا واليابان. ولحسن الحظ كان الاتحاد السوفييتي متواجدًا، دولة كانت شريكًا مفيدًا أثناء الحرب على وجه الخصوص، حيث خلصت الحلفاء من ورطة في ستالينغراد وغيرها، ولكنها كانت أيضًا شريكًا سمحت أفكاره وممارساته الشيوعية بتحويله إلى بعبع جديد للولايات المتحدة بسهولة. يعترف أغلب المؤرخين الأمريكيين اليوم أن الاتحاد السوفييتي، الدولة التي عانت بشكل هائل أثناء الحرب، لم تشكل عام 1945 تهديدًا للولايات المتحدة التي كانت تتفوق عليها اقتصاديًا وعسكريًا بمراحل، وأن واشنطن لم تنظر إلى السوفييت كتهديد. كما يعترف أولئك المؤرخون بأن موسكو كانت حريصة جدًا على العمل مع واشنطن بشكل وثيق في حقبة ما بعد الحرب.
هل من المستغرب أن يُعرض، بشكل روتيني، على جنرالات البنتاغون المتقاعدين حديثًا وظائف كمستشارين من جانب الشركات الكبرى العاملة في الإنتاج العسكري، وأن يُعيّن رجال الأعمال المرتبطون بهذه الشركات مسؤولين كبار في وزارة الدفاع، ومستشارين للرئيس وإلخ؟
بالتأكيد لم يكن لموسكو ما تكسبه، وإنما الكثير لتخسره من صراع مع قوة عظمى كالولايات المتحدة، التي كانت تمتلئ بالثقة بفضل احتكارها للقنبلة الذرية. إلا أن الولايات المتحدة -أمريكا الشركات، وأمريكا فاحشي الثراء- كانت في أمسّ الحاجة إلى عدو جديد لتبرير نفقاتها العملاقة في ميدان «الدفاع» والتي كانت ضرورية للحفاظ على دوران عجلات اقتصاد الأمة بأقصى سرعة، حتى بعد انتهاء الحرب. ولهذا السبب أُطلق العنان للحرب الباردة عام 1945، ليس من جانب السوفييت، بل من جانب المجمع «الصناعي العسكري» الأمريكي.
في هذا الصدد، تجاوزت الحرب الباردة أفضل توقعاتهم. فتوجب إنتاج المزيد من المعدات العسكرية، لأنه كان يجب أن يُدجج الحلفاء داخل ما سمي «العالم الحر» بالسلاح الأمريكي، والذي تضمّن فعليًا الكثير من الدكتاتوريات الكريهة. فضلًا عن أن جيش الولايات المتحدة نفسها لم يتوقف أبدًا عن المطالبة بدبابات ومقاتلات وصواريخ وأسلحة كيماوية وجرثومية أكبر وأفضل وأكثر تعقيدًا، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل. وكان البنتاغون على جاهزية دائمة لدفع مبالغ طائلة مقابل هذه البضائع، دون طرح تساؤلات صعبة. (هل من المستغرب أن يُعرض، بشكل روتيني، على جنرالات البنتاغون المتقاعدين حديثًا وظائف كمستشارين من جانب الشركات الكبرى العاملة في الإنتاج العسكري، وأن يُعيّن رجال الأعمال المرتبطون بهذه الشركات مسؤولين كبار في وزارة الدفاع، ومستشارين للرئيس وإلخ؟)
كما قامت الدولة الأمريكية خلال الحرب الباردة بتمويل نفقاتها العسكرية المرتفعة أيضًا عن طريق القروض، مما تسبب بارتفاع المديونية العامة إلى مستويات مذهلة. بلغ الدين العام عام 1945 258 مليار دولار «فقط»، ولكن عندما قاربت الحرب الباردة على نهايتها عام 1990، وصل إلى ما لا يقل عن 3.2 تريليون دولار! كانت هذه زيادة مذهلة، خاصة عندما يأخد المرء معدل التضخم بالحسبان، ودفعت هذه الزيادة بالدولة الأمريكية لتصبح أكبر مَدين في العالم. كان بإمكان واشنطن، كما كان يجب عليها، تغطية تكلفة الحرب الباردة من خلال فرض الضرائب على الأرباح الهائلة التي حققتها الشركات المتورطة في عربدة التسلح، إلا أنه لم يدر يومًا أي نقاش حول هذا الأمر. عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في عام 1945، وحلت الحرب الباردة محلها، استمرت الشركات الكبرى بدفع 50% من كافة الضرائب، ولكن كانت هذه الحصة تضمحل في غضون الحرب الباردة باستمرار، وتصل اليوم [2003] إلى حوالي 1% فقط.
إن تخفيض العبء الضريبي عن الشركات كان سهلًا، نظرًا لكونها قد حولت نفسها بعد الحرب العالمية الثانية إلى شركات متعددة الجنسيات، وأصبح سهلًا بالتالي تفادي دفع ضرائب ذات قيمة في أي مكان. وفي حين خُصخِصت الأرباح المتولدة من الحرب الباردة لصالح نخبة فاحشة الثراء، فإن تكاليفها أُمّمت دون رحمة على حساب باقي الأمريكيين. خلال الحرب الباردة، تحوّل الاقتصاد الأمريكي إلى مجرد خدعة كبرى، إلى إعادة توزيع فاسدة لثروات الأمة لصالح الأثرياء، وغبن ليس للفقراء والطبقة العاملة فحسب، بل وللطبقة الوسطى أيضًا، التي يميل أفرادها إلى تصديق أسطورة كون النظام الرأسمالي الأمريكي يخدم مصالحهم. وبينما راكم الأثرياء والمتنفذون الأمريكيون ثروات متعاظمة، كان الازدهار الذي حققه الكثير من الأمريكيين الآخرين خلال الحرب العالمية الثانية يتآكل تدريجيًا، كما بدأ مستوى المعيشة العام ينخفض، ببطء، ولكن باطراد.
وفي حين خُصخِصت الأرباح المتولدة من الحرب الباردة لصالح نخبة فاحشة الثراء، فإن تكاليفها أُمّمت دون رحمة على حساب باقي الأمريكيين.
شهدت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية إعادة توزيع متواضعة للثروات الجمعية للأمة لصالح أفراد المجتمع الأقل حظًا. إلا أنه خلال سنوات الحرب الباردة أصبح الأثرياء الأمريكيون أكثر ثراء بينما أصبح غير الأثرياء -وليس الفقراء فقط بالتأكيد- أكثر فقرًا. وجدت النسبة الضئيلة من فاحشي الثراء الأمريكيين هذا التطور مرضيًا للغاية. ذلك أنهم رغبوا بإبقاء الأمور على حالها، أو إذا أمكن، جعل هذا المخطط السامي أكثر فعالية. ولكن، كافة الأمور الجيدة يجب أن تصل إلى نهاية ما، فانقضت الحرب الباردة في عام 1989/1990. شكل هذا الأمر معضلة جدية، حيث توقع الأمريكيون العاديون، الذين علموا أنهم تحملوا تكلفة هذه الحرب، أن يحصلوا على «عائدات للسلام».
اعتقد الأمريكيون أن المال الذي دفعته الدولة على التسلح سوف يستخدم الآن لإنتاج منافع لهم، على هيئة تأمين صحي وطني على سبيل المثال، وغيره من المنافع الاجتماعية التي لم يتمتع بها الأمريكيون يومًا بالمقارنة مع أغلب الأوروبيين. في الواقع، كسب بيل كلينتون الانتخابات الرئاسية من خلال وعوده بخطة تأمين صحي، والتي، بالطبع، لم تتجسد أبدًا. إلا أن «عائدات السلام» لم تكن ذات أهمية بالنسبة للنخبة الثرية من الأمة، لأن توفير الخدمات الاجتماعية من جانب الدولة لا يطرح مكاسب للشركات ورجال الأعمال، وخاصة المكاسب والأرباح الطائلة التي ولدتها نفقات الدولة العسكرية. لذلك كان لابد من فعل شيء ما، وبسرعة، لمنع النفقات العسكرية للدولة من الانهيار.
فقدت الولايات المتحدة، أو بالأحرى، الشركات الأمريكية، عدوها السوفييتي المفيد، واحتاجت بشكل عاجل إلى استحضار أعداء جدد وتهديدات جديدة لتبرير المستويات المرتفعة من الإنفاق العسكري. وفي هذا السياق، ظهر صدام حسين عام 1990 في المشهد بوصفها تدخلًا إعجازيًا. لقد اُعتُبِر هذا الدكتاتور الثانوي سابقًا كصديق جيد، ودُجج بالسلاح من قبل الولايات المتحدة -والحلفاء مثل ألمانيا- حتى يشن حربًا بشعة ضد إيران. إلا أن واشنطن كانت في حاجة ماسة إلى عدو جديد، وفجأة أشارت إليه على أنه «هتلر جديد» خطر للغاية، مما يستدعي شن حرب عاجلة عليه، رغم أن إمكانية إيجاد حل تفاوضي لمسألة احتلال العراق للكويت بدت واضحة.
كان جورج بوش الأب منسق الأدوار الذي اكتشف هذا العدو الجديد المفيد للولايات المتحدة، وهو الذي أطلق العنان لحرب الخليج، التي أُمطِرت بغداد خلالها بالقنابل، وذُبِح جنود صدام التعساء في الصحراء. وأصبح الطريق إلى العاصمة العراقية مفتوحًا تمامًا، بيد أن الدخول المظفر إلى بغداد ألغي فجأة. تُرك صدام حسين في السلطة حتى يستدعى التهديد الذي يفترض أنه شكله مرة أخرى كي تبقي الولايات المتحدة على تسلحها. فرغم كل شيء أثبت سقوط الاتحاد السوفييتي المفاجئ كم هو مزعج خسارة عدو مفيد.
وكي يبقى المريخ (إله الحرب) شفيع الاقتصاد الأمريكي، أو بدقة أكثر، عرّاب مافيا الشركات التي تتلاعب بهذا الاقتصاد المدفوع بالحرب وتجني مكاسبه الهائلة دون تحمل التكاليف، تصاعدت النفقات العسكرية دون توقف في التسعينيات. فمثلًا، وصلت عام 1996، إلى ما لا يقل عن 260 مليار دولار، ولكن عند إضافة النفقات العسكرية غير الرسمية و/أو غير المباشرة، مثل الفوائد المدفوعة على القروض المستخدمة لتمويل الحروب السابقة، وصل المبلغ الكلي عام 1996، إلى ما يقارب 494 مليار دولار، لتصل إلى حد إنفاق 1.3 مليار دولار يوميًا! ولكن رغم وجود صدام إلى حد كبير كبعبع وحيد، وجدت واشنطن أن من الملائم البحث في مكان آخر عن أعداء جدد وتهديدات جديدة. وقد بدت الصومال واعدة مؤقتًا. لكن حُدّد «هتلر جديد» في الوقت المناسب في شبه جزيرة البلقان، في شخص الزعيم الصربي ميلوسوفيتش. وقد مَنحت الصراعات في يوغسلافيا السابقة، خلال فترة طويلة من التسعينيات، المبرر للتدخلات العسكرية، وعمليات قصف جوي على نطاق واسع، وشراء سلاح أحدث وأكثر.
وهكذا سيتمكن «اقتصاد الحرب» من الاستمرار في الجريان على أكمل وجه حتى بعد حرب الخليج. إلا أنه ليس من السهل إبقاء هذه النظام ساريًا في ظل الضغط الشعبي من حين إلى آخر، مثل المطالبة بعائدات السلام. (لا يشكل الإعلام أي مشكلة، حيث إن الصحف والمجلات ومحطات التلفزة وغيرها، إمّا مملوكة من جانب الشركات الكبرى، أو تعتمد عليها من أجل أرباح الإعلانات). وكما ذكر سابقًا، على الدولة أن تتعاون، وهنالك حاجة في واشنطن لرجال ونساء يعتمد عليهم، ويفضل أفرادٌ من صفوف الشركات ذاتها، أفراد ملتزمون تمامًا باستخدام أداة النفقات العسكرية من أجل توفير الأرباح الطائلة اللازمة لجعل أثرياء الولايات المتحدة أكثر ثراءً. ولم يرقَ بيل كلينتون إلى مستوى التوقعات في هذا الصدد، ولم تتمكن أمريكا الشركات من غفران خطيئته الأصلية، أي أنه نجح في الحصول على منصب الرئيس من خلال وعوده للشعب الأمريكي «بعائدات السلام» على شكل نظام تأمين صحي.
بناء على ذلك، رُتب عام 2000 أن لا ينتقل إلى البيت الأبيض آل غور، مستنسخ كلينتون، وإنما فريق من العسكريين المتشددين، ممن يمثلون عمليًا وبدون استثناء، أمريكا الشركات والأثرياء، من أمثال ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكونداليزا رايس وبالطبع جورج دبليو بوش نفسه، ابن الرجل الذي أثبت بحرب الخليج التي شنها كيف يجب أن تتم الأمور؛ وقد مُثِّل البنتاغون بشكل مباشر أيضًا في مجلس وزراء بوش في شخص باول المحب للسلام زعمًا، بينما كان في الواقع ملاك موت آخر. انتقل رامبو إلى البيت الأبيض، ولم يطل الانتظار حتى ظهرت النتائج.
شهدت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية إعادة توزيع متواضعة للثروات الجمعية للأمة لصالح أفراد المجتمع الأقل حظًا. إلا أنه خلال سنوات الحرب الباردة أصبح الأثرياء الأمريكيون أكثر ثراء بينما أصبح غير الأثرياء -وليس الفقراء فقط بالتأكيد- أكثر فقرًا.
بعد أن قُذف بجورج بوش الابن إلى الرئاسة، بدا لفترة من الزمن أنه سيعلن الصين عدوًا جديدًا للولايات المتحدة. إلا أن صراعًا بهذا الحجم بدا محفوفًا بالمخاطر؛ فضلًا عن أن الكثير من الشركات الكبرى تجني الكثير من المال من التجارة مع الصين الشعبية. لذلك تطلب الأمر وجود تهديد آخر، ويفضل أن يكون أقل خطرًا وأكثر معقولية، لإبقاء النفقات العسكرية في مستوى عال بما يكفي. لذلك لم يكن بوش ورامسفيلد وشركاؤهم ليتمنوا شيئا أكثر ملاءمة من أحداث 11 سبتمبر 2001؛ ومن المرجح أنهم كانوا على دراية بالتحضيرات الجارية لهذه الهجمات الوحشية، ولم يحركوا ساكنًا لمنعها، كونهم مدركين مدى استفادتهم منها. على أي حال، استغلوا هذه الفرصة تمامًا من أجل عسكرة الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى، وقصف شعب ليست له علاقة بأحداث 11 سبتمبر، بوابل من القنابل، وشن حرب تحبها قلوبهم، وكي تستطيع الشركات المتعاملة مع البنتاغون تسجيل مبيعات غير مسبوقة. لم يعلن بوش الحرب على دولة، بل على الإرهاب، مفهوم مجرد لا يمكن للمرء فعليًا شنّ حرب عليه، ولا تحقيق نصر حاسم أبدًا. ولكن عنى شعار «الحرب على الإرهاب» في التطبيق، أن واشنطن تحتفظ بحقها الآن بشن حرب على مستوى عالمي ودائم ضد من يحدده البيت الأبيض كإرهابي.
وهكذا، حلت مشكلة نهاية الحرب الباردة نهائيًا، حيث توفر من الآن فصاعدًا مبرر للزيادة الدائمة في الإنفاق العسكري. تتحدث الإحصائيات عن نفسها؛ لقد كان مجموع 265 مليار دولار للنفقات العسكرية، عام 1996 بحد ذاته فلكيًا، ولكن بفضل بوش الابن، سمح للبنتاغون بإنفاق 350 مليار عام 2002، [وأكثر من 400 مليار عام 2003]. ومن أجل تمويل عربدة النفقات العسكرية هذه وجب توفير المال من مكان آخر، على سبيل المثال، من خلال شطب وجبات الغذاء للأطفال الفقراء؛ فكل قطرة تساعد.) ولذا لا غرابة أن يتبختر جورج بوش بسعادة وفخر، فهو الذي كان في الأصل -طفلًا ثريًا مدللًا بذكاء ومواهب محدودة- قد تجاوز أقصى التوقعات ليس لعائلته وأصحابه فحسب، ولكن لأمريكا الشركات ككل، والتي يدين لها بوظيفته.
لقد زود 11 سبتمبر جورج بوش بشيك على بياض لشن الحروب أينما يشاء وضد من يختار، وهو ما تسعى هذه المقالة لتوضحه في المحصلة، إذ لا يهم من الذي سيشار إليه كعدو اليوم. ففي 2002، أمطر بوش أفغانستان بغاراته، على افتراض أن قادتها منحوا بن لادن المأوى، لكن هذا العدو بطلت موضته، وعاد صدام حسين ليشكل التهديد الظاهري للولايات المتحدة. لا يتاح المجال هنا لتفصيل الأسباب المحددة وراء الرغبة القطعية للولايات المتحدة زمن بوش بشن حرب على عراق صدام حسين، وليس كوريا الشمالية مثلًا. لكن أحد الأسباب الرئيسة لخوض هذه الحرب بالتحديد كان أن احتياطات العراق النفطية الكبيرة باتت مشتهاة من جانب مجمع الشركات البترولية الأمريكية التي ترتبط بها عائلة بوش ذاتها ارتباطًا وثيقًا. كما أن الحرب على العراق مهمة كدرس مفيد لغيرها من دول العالم الثالث التي تفشل في الرقص بحسب إيقاع واشنطن، وكوسيلة لإخصاء المعارضة الداخلية، وإقحام برنامج أقصى اليمين لرئيس لم ينتخب في حلق الأمريكيين أنفسهم.
إن أمريكا الثراء والامتيازات مدمنة على الحرب، ومن دون جرعات منتظمة ومتزايدة باستمرار منها لا يمكن لها أن تعمل كما يجب، أي لا يمكنها أن تحقق الأرباح المشتهاة. وجرت تلبية هذا الإدمان، وهذا التوق، من خلال صراع ضد العراق، والذي يصادف أنه عزيز على قلب بارونات النفط. ولكن هل يجزم أحد بأن إشعال الحروب سيتوقف متى ضُمّ العراق إلى جوار أفغانستان في خزانة عرض تذكارات جورج دبليو بوش؟ لقد أشار الرئيس بإصبعه نحو أولئك الذين سيحين دورهم، وعلى رأسهم دول «محور الشر»: إيران وسوريا وليبيا والصومال وكوريا الشمالية، وبالطبع تلك الشوكة القديمة في خاصرة الولايات المتحدة، ألا وهي كوبا. فأهلا بكم في القرن الحادي والعشرين، أهلا بكم في حقبة جورج دبليو بوش الجديدة من الحرب الدائمة.