بعد 13 شهرًا من الإبادة في قطاع غزة، حملت معها أيضًا حربًا على لبنان، يبدو اليوم للكثيرين أن «الدور جاء على الضفة الغربية»، التي شهدت هجمة متصاعدة طيلة هذه الفترة، لكنها اليوم تواجه تهديدًا من نوع مختلف يتمثل في تكريس احتلالها عبر الضم الكامل أو ما يسمى إسرائيليًا «فرض السيادة».
تُذكّر المشاريع الإسرائيلية الراهنة بخصوص الضفة الغربية بالمخططات المعلنة في حكومة بنيامين نتنياهو السابقة، التي تزامنت مع إدارة ترامب الأولى. في تلك الفترة، التقت رؤية اليمين الإسرائيلي مع خطة ترامب التي كانت تقضي بضمّ 30% من الضفة الغربية. لم يكن هذا التلاقي كاملًا، لأنّ خطة ترامب كانت خطة تسوية نهائية، والإسرائيليون لم يكونوا في وارد التسوية، علاوة على ما تضمنته الخطة من «عيوب أمنية»، إلا أنّ المهمّ هو أنّ الإسرائيليين بدؤوا بطرح مشروع الضمّ صراحةً، بصرف النظر عن التسوية مع الفلسطينيين. حينها قال نتنياهو: «حتى اليوم، كانت إسرائيل هي الطرف الذي يضطر دائمًا إلى التنازل، والتخلي، والتجميد، والانسحاب، الآن يقول الرئيس ترامب إن الفلسطينيين، وليس إسرائيل، هم من ينبغي عليهم التنازل». في هذا الإطار، بدأت سيناريوهات الضمّ تُطرح في الدوائر الإسرائيلية، دون أن يتفق الإسرائيليون على السيناريو الأمثل لذلك.
الآن، يعود الحديث عن الضمّ مجددًا مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، واستقرار حكومة نتنياهو بما قد يوفّر الفرصة لها للاستمرار حتى نهاية فترتها عام 2026، وهو ما يجعل العام المقبل حاسمًا بالنسبة للتيار الديني القومي، أو تيار الاستيطان التوراتي على وجه التحديد، ممثلًا في حكومة نتنياهو بحزبي «الصهيونية الدينية» و«العظمة اليهودية»، وببعض التجليات الخاصّة به في الليكود نفسه. يأتي ذلك في محاولة لاستثمار ما يعدّه الإسرائيليون إنجازات لحرب الإبادة الجماعية على غزّة، يمكن أن ترسخ وقائع جديدة في ساحة الضفّة الغربية. هذا ما عبر عنه بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب الصهيونية الدينية، ووزير المالية، والوزير الثاني في وزارة الحرب الإسرائيلية، بقوله: «عام 2025 سيكون، بمشيئة الله، عام السيادة في يهودا والسامرة. لقد منحتُ أمرًا لإدارة الاستيطان في وزارة الأمن وللإدارة المدنية للبدء في العمل ضمن طاقم مهني ومؤهل، لتحضير البنية التحتية اللازمة لفرض السيادة. حان الوقت في حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجديدة لفرض السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة، وآمل أن يدعم الرئيس ترامب هذا التحرك».
بين الضمّ و«فرض السيادة»
احتلت «إسرائيل» الضفّة الغربية عام 1967، وأدارتها منذ ذلك الوقت بواسطة الحكم العسكري، وذلك رغم فرض نمط من الاحتلال المدنيّ فيها تمثّل بالمستوطنات. إلا أن القانون المفروض على الضفّة الغربية، بما في ذلك المستوطنات، هو الأوامر والقرارات والقوانين التي يوقّع عليها قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي هو الحاكم العسكري لمجال الضفّة الغربية كلّه. ومن ثمّ كان للضفّة الغربية ما يمكن أن يوصف بكونه «قانون المنطقة»، بما يجعل لها، بما تشمله من مستوطنات، وضعًا قانونيًّا وإداريًّا مختلفًا عمّا هو عليه الحال في «إسرائيل».
اضطرت «إسرائيل» لهذا الحكم العسكري لسببين، الأوّل هو القانون الدولي الذي يعدّ الضفّة الغربية أرضًا محتلّة وليست جزءًا من «إسرائيل»، ومن هنا غطّت «إسرائيل» الاحتلال المدني بكونه كذلك خاضعًا للحكم العسكري، والثاني أنّه لم يكن لدى «إسرائيل» تصوّرات ناجزة لكيفية نقل الضفة الغربية من الاحتلال العسكري المؤقت إلى الاحتلال المدني الدائم، أي ما يمكن وصفه بالضمّ، بالنظر إلى أعداد السكان الأصليين الذين لا يملك الإسرائيلي إزاءهم حلًا سحريًّا. بالتالي كان السبيل الإسرائيلي هو فرض الوقائع باطراد، على طريق الانتقال للضم، أو الاحتلال المدني الدائم.
بهذا، يمكن أن يُفهم أن مفهوم «فرض السيادة» هو توحيد الضفّة الغربية قانونيًّا وإداريًّا مع «إسرائيل» بإلغاء «قانون المنطقة» الذي تختص به الضفة الغربية بوصفها منطقة حكم عسكري. وهكذا تسري القوانين الإسرائيلية على الضفة الغربية كما تسري على الأراضي المحتلة عام 1948، وتصبح قوانين البناء مثلًا في أيّ مستوطنة مثل قوانين البناء في «تل أبيب». وبهذا يبدو أن «فرض السيادة» له مدلولات قانونية توحي بالشرعية، بخلاف الضمّ الذي يعني صراحة إلحاقًا أحاديّ الجانب لأراضي الضفة الغربية بـ«إسرائيل» وعدّها داخلة في حدودها، بما يتعارض مباشرة مع القانون الدولي.
إلا أنّ ذلك، سواء كان ضمًّا معلنًا، أو إخضاعًا للضفة الغربية للقانون الإسرائيلي، لا يعني أنّ الأمر سيشمل الضفّة الغربية كلّها، ولكنّه سيشمل مناطق منها، بنحو متدرج، وفي إطار السياسة الإسرائيلية المتبعة منذ العام 1967، أي سياسة فرض الوقائع وتكريسها وعدّها مرجعية أيّ خطوة قادمة.
سيناريوهات الضمّ
لم يطرح الإسرائيليون خطّة واحدة للضمّ تتبين فيها الحدود الجغرافية له. ويمكن القول إنّ الأفكار العامّة المطروحة، تكاد تنحصر في ثلاثة خيارات: الأوّل، ضمّ غور الأردن في مساحة تُقدّر بـ 22% من مساحة الضفّة الغربية. والثاني، ضمّ المناطق المنصوص عليها في خطة ترامب والتي تقدر بنصف مناطق (ج)،[1] أي ما يساوي 30% من مساحة الضفّة الغربية. والثالث، ضمّ محدود يهدف إلى ضمان بقاء المستوطنات القائمة.
ضمّ غور الأردن هو الخيار الذي ألحّ عليه الإسرائيليون في حكومة نتنياهو السابقة، ويحظى بإجماع إسرائيلي لكونه يقوم على حاجة أمنية وبعد إستراتيجي. ما يمكن أن يكون خلافًا حول هذا الخيار ليس مبدأ ضرورة استحواذ «إسرائيل» الأبدي على الغور، وإنما على السياق الذي يأتي فيه الضمّ، إن كان في إطار تسوية أم لا، والتخريج القانوني والسياسي لذلك.
سبق أن قدّم بنيامين نتنياهو في حكومته السابقة خارطة مقترحة لضمّ الغور، تهدف أمنيًّا واستراتيجيًّا إلى تكريس الحدود الشرقية للكيان الإسرائيلي، بما يشمل السفوح الشرقية للضفة الغربية وعلى طول طريق «ألون»، الذي شُقّ استنادًا إلى خطة الوزير العمّالي إيغال ألون التي قدّمها بعد حرب العام 1967. يستند هذا الخيار إلى رؤية إسرائيلية تأسيسية إجماعية، ويطال 22% من مساحة الضفّة، ويشمل 30 مستوطنة، لكن عدد سكانها لا يتجاوز 3% من مجموع مستوطني الضفة. ويدخل في هذا الإطار مدينة أريحا وبلدات فلسطينية أصغر، إلا أنّ القانون الإسرائيلي لن يطبق على هذه المناطق الفلسطينية، أي لن يشملها «فرض السيادة»، وهو ما يجعل لها وضعًا أمنيًّا خاصًّا، لأنّها ستكون محاطة من جميع جوانبها بالأراضي المضمومة، ممّا قد يعني وضع ترتيبات أمنية خاصة للدخول إلى هذه البلدات الفلسطينية والخروج منها.
بالنسبة للخيار الثاني، أي ما هو مقترح في خطة ترامب، فإنّه لا يشمل الغور كلّه، وإنّما ما مجموعه 17% من أراضي الضفّة الغربية، يُضاف إليه جميع الكتل الاستيطانية و17 مستوطنة معزولة مع شبكة طرق تربط بينها، أي ما يساوي 13% من مساحة الضفّة. ليكون مجموع ما سوف يُضمّ وفق هذه الخطة 30% من أراضي الضفّة، وهي نسبة تساوي نصف مناطق (ج).
بالرغم من كون خطة ترامب تمنح «إسرائيل» السفوح الشرقية للضفة جهة الأردن، والسفوح الغربية للضفة المطلة على وسط «إسرائيل» ومطار بن غوريون، والحزام المحيط بالقدس، إلا أنّها غير محبّذة إسرائيليًّا في الوضع الراهن بصيغتها الكاملة لأنها خطة تستند إلى تسوية، أي ستكون «إسرائيل» بدورها مطالبةً بنقل أجزاء من «أراضيها» للدولة الفلسطينية المقترحة بما يعادل 15% من مساحة الضفة الغربية. وهو يحتاج من الناحية القانونية إلى موافقة 80 عضو كنيست، أو إلى استفتاء شعبيّ. ومن الناحية الأمنية، لا تفصل الخطّة تمامًا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ تبقى مجالات احتكاك واسعة بين الطرفين. يُضاف إلى ذلك أنّ المستوطنات بحسب هذه الخطة سوف تتصل بـ«إسرائيل» بطرق طويلة وضيقة مما يصعب الدفاع عنها. ومن ثمّ فالضمّ المطابق لهذه الخطة غير مناسب للإسرائيليين في وضع مؤقت تنعدم فيه ثقتهم بالفلسطينيين.
يبقى السيناريو الأكثر محدودية، وهو ضمّ المناطق ذات الصلاحية الإدارية للمستوطنات، بمساحة تبلغ 10% من الضفة الغربية، بما لا يشمل الطرق المؤدية إلى المستوطنات، وهو خيار لا يضمن أيّ ميزة استراتيجية، ولكنّه قد يكون مفيدًا مؤقتًا في إطار متدرج. إذ تُفرض «السيادة الإسرائيلية» على المستوطنات دون أن يضطر الإسرائيليون لحلّ معضلة السكان الفلسطينيين، إذ لن يطال «فرض السيادة» وفق هذا السيناريو أكثر من 1% من سكان الضفة الغربية الفلسطينيين.
بين هذه الخيارات الثلاثة، يتراوح النقاش الإسرائيلي، بما يسمح بعمليات دمج وتركيب بين مجموع الخيارات. ومن الواضح أنّ جانبًا مهمّا من النقاش يدور حول وضع السكان الفلسطينيين المشمولين بالضمّ. لذا تجري هندسة هذه السيناريوهات بما يضمن أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقلّ عدد ممكن من السكان الفلسطينيين. فكلّما قلّ عددهم، أمكن التفكير إسرائيليًّا بمنحهم وضعًا خاصًّا، ولا يعني ذلك منحهم الجنسية، وإنّما وضعية «سكان في دولة إسرائيل»، مثل سكان مدينة القدس الفلسطينيين. وكلّما زاد عدد الفلسطينيين صار التفكير إلى ترتيبات أمنية خاصّة تصلهم بمجال السلطة الفلسطينية فحسب.
الضمّ بوصفه أمرًا واقعًا
ليس ثمّة إجماع إسرائيلي على تقنين الضمّ، لما يمكن أن يترتب عليه من مخاطر على الطابع «الديمقراطي» والديمغرافي لـ «إسرائيل» إذ يضعها أمام احتمالات الانزلاق نحو الدولة الواحدة، أو تحمّل تبعات سياسات الفصل العنصري المكشوفة، بحيث تنتفي تمامًا صورتها كـ«دولة يهودية ديمقراطية». فحتّى لو هندست «إسرائيل» خيارات الضمّ لتشمل أقلّ عدد ممكن من السكان الفلسطينيين، فإنّ انهيار السلطة الفلسطينية يبقى احتمالًا واردًا بشدّة، وهو ما يفرض على «إسرائيل» تحمّل مسؤولياتها وفق القانون الدولي تجاه السكان بوصفها قوّة احتلال.
للهروب من نتائج حالة كهذه تأتي أطروحات الترحيل البشري، أي تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، أو إخضاع السكان الفلسطينيين في الضفّة الغربية للسلطة الأردنية، دون أن يكون لهذه السلطة سيادة على الأرض، أي في حالة تشبه ما قبل فك ارتباط المملكة الأردنية الهاشمية عن الضفة الغربية الذي أعلن عنه في 1 تموز 1988. ويبدو هذا الخيار محبذًا لليمين الإسرائيلي، وهو الخيار النهائي في رؤية الصهيونية الدينية.
لأجل هذه الاحتمالات كلّها، يجادل بعض الإستراتيجيين والأمنيين الإسرائيليين، أنه لا حاجة لتقنين الضمّ أو الإعلان عن فرض السيادة، إذ يمكن الاكتفاء بما هو أمر واقع من حيث كونه ضمًّا فعليًّا. فالإجماع الإسرائيلي إذن هو على الضمّ، سواء في إطار تسوية، أو في فرض وقائع دون الاضطرار إلى تقنينه. فـ«إسرائيل» تسيطر على الغور بالفعل، وتتمتع بحرية مفتوحة لتنفيذ العمليات الأمنية في كامل مجال الضفّة الغربية، حتى في المناطق المصنفة (أ)،[2] وتنسّق مع السلطة الفلسطينية وتستفيد من وضعية احتلالها للضفّة بجعلها عمقًا إستراتيجيًّا لها، وتفرض نمطًا مقنّعًا من الاحتلال المدني بواسطة المستوطنات، وهو صورة مخاتلة من الضمّ، جرى تعزيزها بسياسات متعددة.
تكريس الضمّ، بدءًا بالاحتلال
تتأسس رؤية «إسرائيل» للضفة الغربية بوصفها عمقًا إستراتيجيًّا لها من الجهة الشرقية، بالإضافة لقيمة هذه المنطقة في أيديولوجيا الاستقطاب الصهيوني، سواء العلماني أم الديني. ومن هنا، يرى الإسرائيليون أنه في إطار أيّ تسوية، يجب على الأقل الاحتفاظ بمناطق من الضفة الغربية، وفي ظروف الوضع المؤقت كما هو قائم، يجب تعزيز السيطرة الإسرائيلية عليها، ليس فقط بما يحصّن «إسرائيل» أمنيًّا، ولكن أيضًا بما يعزّز موقفها السياسي المستقبلي في أيّ مفاوضات. وعليه، فالاستيطان في الضفّة الغربية هو سياسة إسرائيلية أساسًا، قبل أن يكون رؤية خاصة لليمين الإسرائيلي.
لذا، يمكن النظر لاحتلال الضفّة الغربية عام 1967 كأوّل خطوة في ضمّها، تلتها الرؤية التأسيسية لوضع الضفّة في أيّ تسوية مستقبلية، والتي تمثّل الحدّ الأدنى المشترك بين جميع الإسرائيليين، وهي الرؤية التي عرفت بخطة ألون، والتي عرض على أساسها بنيامين نتنياهو في حكومته السابقة خياره المحبذ للضم.
تستند رؤية إيغال ألون، وزير العمل في حكومة ليفي أشكول، إلى ضرورة تعزيز الضامن الذاتي للاستمرارية الإسرائيلية لكون الضمانات الدولية، بما في ذلك حماية القوى الكبرى، متحوّلة. ولذلك تأتي الأرض في صدارة الضمانات، لتكون العمق الإستراتيجي وقواعد الدفاع والمناورة المتقدمة لكيان محدود جغرافيًّا مثل «إسرائيل». يقول ألون: «إن الأمن لا يتحقق بالضمانات الدولية ولا بالقوات الدولية ولا بمعاهدات السلام، إنه يتحقق فقط بالأرض، تلك الأرض التي تصلح لأن تكون قواعد صالحة للهجوم الإسرائيلي في المستقبل». وبناء على ذلك عرض خطته، التي تشمل السيطرة على الغور، والسفوح الشرقية للضفة الغربية في منطقتي نابلس وجنين، والسيطرة على القدس وضواحيها، ومدينة الخليل، مع إخضاع السكان الفلسطينيين للحكومة الأردنية، وتهجير سكان قطاع غزّة، وضمّ القطاع لـ«إسرائيل».
لقد ظلّت خطة ألون مضمنة في الرؤية السياسية لحزب العمل لأيّ تسوية مستقبلية، ومن ثمّ بدأت سياسة الاستيطان مباشرة بعد احتلال الضفّة الغربية عام 1967. وقبيل توقيع اتفاقية أوسلو، أعلن إسحاق رابين، رئيس حكومة «إسرائيل» حينها، عن رؤيته للضفة الغربية بتقسيمه المستوطنات إلى أمنية وسياسية، فالأمنية هي تلك التي على طول خطوط المواجهة، بحيث ينبغي تعزيزها بما في ذلك تمددها، وأمّا السياسية فيمكن تجميدها فقط دون إخلائها. يمكن القول إن هذا الحدّ وفّر الحدّ الأدنى المشترك في الرؤية للضفة الغربية من جهة أمنية وإستراتيجية.
جرت تغطية سياسة الاستيطان، التي هي احتلال مدنيّ وضمّ فعليّ للضفة الغربية، بكون المستوطنات داخلة في مجال الحكم العسكري الإسرائيلي، بالرغم من أن المستوطنين مواطنون إسرائيليون يتمتعون بالمواطنة الكاملة، ويستفيدون من التأمين الوطني، ولهم حقّ التصويت في الكنيست، والوصول الكامل إلى الموارد. فبحلول تموز 1967، أي بعد بضعة أسابيع فقط على احتلال الضفة الغربية، أَقرّ الكنيست الإسرائيلي أوّل قانون يُخضِع المستوطنين في الضفة الغربية للقانون الجنائي الإسرائيلي وكانت هذه خطوة أولى نحو إخضاع مستوطني الضفة الغربية للولاية القضائية للقانون المدني الإسرائيلي العادي، بينما ظلّ الفلسطينيون يخضعون للقانون العسكري الإسرائيلي. فقط من الناحية الفنية ظلّت السلطة القانونية التي تحكم الحياة اليهودية في المستوطنات ضمن صلاحيات الجيش.
وبحسب ما يمكن فهمه من تصريحات رابين سالفة الذكر، فهذه المستوطنات وجدت لتبقى. ودون احتساب شرقيّ القدس، بنيت في الضفة الغربية منذ عام 1967 وحتى 2017 أكثر من 200 مستوطنة يسكنها حتى ذلك التاريخ 620 ألف مستوطن، ترتبط بشبكة مواصلات، وتخدمها بنية تحتية أمنية استعمارية، مما يجعل الضفّة الغربية كلّها في قبضة تلك المستوطنات.
سياسات الحسم
لا يفكر التيار الديني القومي، بالاستيطان في الضفة لأغراض أمنية وإستراتيجية فحسب، وإنّما للقضاء على أيّ أمل قومي للفلسطينيين. عام 2015، قال سموتريتش أمام الهيئة العامة للكنيست: «توجد هنا دولة واحدة فقط، دولة يهودية، ولن تقوم إلى جانبها أبدًا دولة فلسطينية. من يريد العيش معنا: أهلًا وسهلًا، أمّا من لا يريد فإمّا أن يرحل أو سنراه في مهداف البنادق». وبعد عام كتب على «تويتر»: «كل ما تبقى الآن هو الانتقال من الأقوال إلى الأفعال: إطفاء الأضواء في السلطة الفلسطينية وفرض السيادة، والقيام بكل ما ستفعله أية دولة مستقلة تحترم نفسها»، وفي العام الذي يليه طرح خطته لحسم الصراع، داعيًا إلى التوقف عن «إدارته».
تقوم خطة حسم الصراع على ضمّ الضفة الغربية بالكامل، والقبول بالسكان الفلسطينيين (الذين يراهم سموتريتش عربًا فقط بلا هوية فلسطينية) مواطنين من الدرجة الثانية، لهم حقوق لا تتضمن التصويت في الكنيست، بما يضمن أغلبية يهودية في صناعة القرار، وفي إطار تسوية نهائية يمكن لسكان الضفة الغربية التصويت في البرلمان الأردني، وهو ما يعود مرّة أخرى بفكرة الترحيل السياسي، أي سكان أردنيون يعيشون في أراضي دولة أخرى هي «إسرائيل»، فيما تبقى المواطنة الكاملة في «إسرائيل» مرهونة بالولاء المطلق وأداء الخدمة العسكرية. وهو لا يرى في هذا فصلًا عنصريًّا طالما تمتع سكان الضفة الغربية بحقوقهم كاملة ناقصة الانتخاب في الكنيست، ولأنّ سموتريتش يعلم أنّ كثيرًا من الفلسطينيين لن يقبلوا بذلك، فسوف توفّر لهم «إسرائيل» إجراءات هجرة طوعية مريحة، ومن يرفض التخيير بين الهجرة الطوعية والفصل العنصري، فلا مجال أمام «إسرائيل» إلا معاملته بعنف يزيد على العنف الإسرائيلي الراهن، أي وقت خطته عام 2017.
رغم ذلك، سار هذا التيار الديني في مسار من شأنه تكريس الضم المقنع، سواء عبر إجراءات تنفيذية على الأرض أو تعديلات تشريعية.
في تشرين الثاني 2022، فاز ائتلاف بنيامين نتنياهو بأغلبية برلمانية، وسريعًا ما عدلت هذه الأغلبية «القانون الأساس» الذي هو بمثابة الدستور، من أجل السماح بتعيين وزير ثانٍ في وزارة الحرب الإسرائيلية. وبالفعل في شباط 2023، اتفقت الحكومة الائتلافية على مهمات الوزير الثاني، التي تمثلت في تولّي سلطات مدنية في إطار الضفة الغربية، بمعزل عن الحكم العسكري. مُنحت هذه الوزارة لسموتريتش، وبدأ فعليًّا الضمّ الرسمي للمستوطنات بما يلغي الطابع المؤقت للاحتلال العسكري للضفة الغربية، دون ضجيج من شأنه استثارة الانتقادات الدولية والإقليمية، ودون الحاجة لتقنين ذلك بإعلان فرض السيادة أو الضمّ. بكلمات أخرى، أصبح هناك وزير مدني يتولّى إدارة شؤون المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، وهناك حاكم عسكري يتولّى إدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية.
لقد أنشأ سموتريتش، بوصفه وزيرًا ثانيًا في وزارة الحرب الإسرائيلية، «وحدة إدارة الاستيطان» وعيّن مسؤولًا عنها، ليتولى هذا القسم مسؤولية تنظيم الاستيطان فيما يتعلق بمشاريع البناء والبنية التحتية، واستكمال «المواطنة المتساوية»، بما يضمن تطابق الخدمات الإدارية والمدنية في المستوطنات بتلك التي داخل «إسرائيل». كما سيكون لرئيس «الإدارة المدنية» العسكري نائب مدني، يتبع مهنيًّا لرئيس وحدة الاستيطان المدني، وهو ما يعني أنّه لأوّل مرّة سيتولّى المستوطنون إدارة التوسع الاستيطاني برؤيتهم الخاصة (التوراتية) بمعزل عن الجيش. ومن خلال موقع سموتريتش بوصفه وزيرًا للمالية، والواقع الائتلافي الذي يحتاج قوى التيار الديني القومي، يمكن فرض العديد من التشريعات والوقائع، بحكم موازين القوى، وهو ما قد يفضي خلال فترة حكومة نتنياهو الراهنة إلى أن تتمكن الصهيونية الدينية من السيطرة الكاملة على كل أجهزة الاستيطان داخل الإدارة المدنية.
يمكن النظر إلى بعض التشريعات والقرارات الإسرائيلية الأخيرة في هذا الإطار، مثل قرار إلغاء فك الارتباط. ففي عام 2005، أصدرت حكومة آرئيل شارون، قرار فكّ الارتباط، الذي يتضمن إخلاء مستوطنات قطاع غزّة، وإخلاء شماليّ الضفة الغربية من أربع مستوطنات هي سانور، وغانيم، وكاديم وحومش، وهو القرار الذي عادت عنه «إسرائيل» في أيار 2024، في غمرة الحرب القائمة، لتسمح بعودة المستوطنين إلى مستوطنات سانور وغانيم وكاديم، بعدما كان جيش الاحتلال أصلًا أصدر قرارًا في 20 أيار 2023، يلغي فيه «خطة فك الارتباط» ويسمح بعودة المستوطنين إلى مستوطنة حومش. مما يعني أنّ هذا المسار المتدرج من فك الارتباط سابق على عملية طوفان الأقصى، بل بدأ في كانون الأول 2022، مع مشروع قانون إلغاء فك الارتباط الذي قُدّم للكنيست في حينه.
من ذلك أيضًا، ما أصدره الكابينت الإسرائيلي في حزيران 2024، بمصادرة محمية صحراء الضفة الغربية من السلطة الفلسطينية، إذ يفترض أنّها مصنفة منطقة (ب)، وكذلك مدّ الصلاحيات الإدارية للحكم العسكري الإسرائيلي ليشمل حقّ الهدم في مناطق (ب). وهذه القرارات جرت دراستها في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست بطلب من سموتريتش في تموز 2023، أي قبل عملية «طوفان الأقصى». وعلى أية حال، فإنّ ما سبق كلّه هو ضمّ فعليّ للضفة الغربية. بيد أنّ السياسات الإسرائيلية في الكنيست الحالية أخذت تزحف نحو الضمّ التشريعي منذ عام 2015، من خلال ما يُسمى مشاريع «قوانين الضم».
بين هذه السيناريوهات الإسرائيلية المختلفة، من خطة سموتريتش الطموحة بالوصول إلى ضمّ صريح كامل يلغي الكيانية الفلسطينية تمامًا، إلى الضم الفعلي «الهادئ» المتدرج على الأرض، يبقى المشترك هو أنها جميعًا تلغي الأساس الذي قامت عليه السلطة الفلسطينية، وتحوّلها إلى مجرد إدارة بلدية بصلاحيات أمنية محدودة مشروطة بالأمر الإسرائيلي، داخل تجمعات معزولة عن بعضها. وهو ما يمكن عدّه نهاية فعلية لمشروع منظمة التحرير الفلسطينية، بلا أيّ رؤية بديلة من قيادة المنظمة للخروج من المسار الذي انتهى إلى هذه اللحظة.
-
الهوامش
[1] مناطق (ج) هي أحد تصنيفات الأراضي المنصوص عليها في اتفاقية أوسلو، وتسيطر فيها «إسرائيل»، وفق الاتفاقية، على الجوانب الأمنية والإدارية والقانونية فيما تعد السلطة الفلسطينية مسؤولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم. وتشكل هذه المناطق حوالي 61% من أراضي الضفة الغربية.
[2] مناطق (أ) هي أحد تصنيفات الأراضي المنصوص عليها في اتفاقية أوسلو، وتحظى السلطة الفلسطينية فيها نظريًا بالسيطرة الأمنية والقانونية والمدنية، وتشمل المدن الفلسطينية وبعض المناطق المحيطة بها، بما يشكل أقل من 18% من مجمل مساحة الضفة الغربية.