حرب «الكهوف» المسمومة: عن جرائم فرنسا المدفونة في الجزائر

الأربعاء 19 آذار 2025
عنصران في وحدات الأسلحة الخاصة الفرنسية في مدينة طولقة في الجزائر في عام 1959.

يبدو أنه كلما قيل لصناديق فظائع الحرب الفرنسية في الجزائر هل امتلأت، تقول هل من مزيد. وكلما استقر المؤرخون على حدٍ -ظنّوا أنه الأقصى- لمستوى الإبادة التي تعرض لها الجزائريون، تكشّفت حقائق جديدة لتثبت أن حرب التحرير الوطني بين عامي 1954 و1961 ما تزال قادرةً على إذهالنا، سواء من جهة الملحمة التي نحتها المجاهدون، أو لجهة الوحشية التي أبدع الاستعمار الفرنسي في تنويع أساليبها وتجريب أسلحتها.

قبل أيامٍ قررت إدارة القناة الفرنسية الخامسة سحب فيلم وثائقي يكشف عن استخدام فرنسا للأسلحة الكيميائية في الجزائر، والذي يعتمد على الأبحاث التي أجراها المؤرخ العسكري الفرنسي كريستوف لافاي، والأرشيفات التي جمعها. ومن خلال توسيع تحقيقاتها بشهادات قدامى المحاربين الفرنسيين والجزائريين وخبراء في مجال الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، تكشف المخرجة كلير بيلي سياق هذه الحرب الكيميائية وحجمها، وكيف أمر المسؤولون في ذلك الوقت باختبار الغاز السام ثم استخدامه على نطاق واسع للقضاء على المجاهدين المختبئين في الكهوف.

لم يمنع قرر سحب البث من وضع الفيلم الذي حمل عنوان «الجزائر، أقسام الأسلحة الخاصة» على موقع القناة الفرنسية بعد الضجة التي أحدثها. لكنه يأتي في سياق دبلوماسي متوتر، حيث تشهد العلاقات الفرنسية الجزائرية أسوأ فتراتها منذ استقلال الجزائر عام 1962، وجزء منها مشتبك بقوة بفترة الاستعمار، حيث يسعى قطاع من النخبة الحاكمة الفرنسية إلى مراجعة فصولٍ من اتفاقيات إيفيان، التي تم بموجبها خروج الاستعمار من الجزائر. وفي بيان صحفي، بررت القناة الفرنسية هذا الإلغاء بضرورة التركيز على الأحداث الجارية، ولذلك رأت هيئة الإذاعة العامة من المناسب بث فيلمين وثائقيين مخصصين للولايات المتحدة وروسيا. وعلى هامش هذا الجدل، قررت قناة RTL طرد الصحفي جان ميشيل أفاتي، بعد مقارنته التي اعتبرت «غير لائقة» بين مجزرة «أورادور سور غلان» واستعمار الجزائر. وقد شهدت قرية أورادور سور غلان مجزرةً راح ضحيتها أكثر من 600 مدني في حزيران 1940 على يد القوات النازية في إقليم نورماندي، وفي تعليقه على الجدل الدائر حول الوثائقي قارن الصحافي الفرنسي بين المجزرة النازية واستعمال الغاز في جبال الجزائر. ليحتدم بينه وبين المذيع توماس سوتو نقاش حاد، تساءل فيه سوتو مستنكرًا: «لكن هل تصرفنا مثل النازيين؟» فأجابه  ميشيل أفاتي: «لقد تصرف النازيون مثلنا».

مطاردة الحقيقة 

بدأت قصة الفيلم الوثائقي قبل ثلاث سنوات، عندما نشرت مخرجته كلير بيلي تحقيقًا استقصائيًا حول الموضوع في مجلة «Revue21» كشفت فيه للمرة الأولى عن السرّ الذي حاولت فرنسا دفنه أكثر من ستة عقودٍ. وقد شكلت شهادات قدامى المقاتلين الفرنسيين الأساس المرجعي للتحقيق، فضلًا عن أبحاث كريستوف لافاي، التي فتحت الباب أمام إمكانية الاشتغال التاريخي التوثيقي على المسألة في التحقيق الذي نشر في آذار 2022 تحت عنوان «حرب الكهوف في الجزائر». عندما شرعت كلير بيلي في العمل مع لافاي، اكتشفت حذرًا مريبًا في المؤسسات الأرشيفية الفرنسية المتعددة بشأن الموضوع. مشيرةً إلى أنها لم تجد أي أثرٍ للقصة في مركز الأرشيف السمعي البصري للجيش، سوى عدد قليل من الصور والأفلام، دون معلومات دقيقة. حيث أخفي كل ما يتعلق بالأسلحة الكيميائية عن أنظار الكاميرات العسكرية: لم تصور الأقنعة، والبدلات، والذخائر، والعمليات الكيميائية. لكن عملًا غير مكتملٍ للمخرج الفرنسي لويس مال ربما هو الذي سينقذ القصة من الضياع.

قبل أن يصنع مال فليمه الشهير «مصعد إلى المشنقة» (1958) ذهب إلى الجزائر، التي ما زالت حتى ذلك الوقت تحت الاستعمار الفرنسي، للعمل على فيلمٍ مقتبسٍ عن رواية «الكهف» للضابط الفرنسي في الهند الصينية، جورج بويس، والتي تحكي قصة معركة تحت الأرض. في أرشيفات المخرج المحفوظة في المركز السينمائي الفرنسي، ستعثر كلير بيلي في أحد دفاتر لويس مال عن كنية دوّنها، تعود إلى أحد المحاربين القدامى الذين التقى بهم المؤرخ كريستوف لافاي. وأثناء بحثٍ عشوائي على الإنترنت، ظهر اسم جديد لمحارب فرنسي قديم، كان يناقش داخل مجموعة خاصة استخدام الأسلحة الكيميائية. ومن خلالهما بدأت المخرجة والمؤرخ في التعرف على شهود جدد وافقوا على التحدث علنًا، وقرروا فتح أرشيفاتهم بعد عقودٍ من الصمت.

ثم انتقل العمل إلى الجزائر، من خلال البحث عن آخر الشهود وضحايا هذه الحرب الكيميائية، بالتعاون مع المؤرخة صفية أرزقي. وقد ساعدهم في ذلك خارطة العمليات المكانية والزمنية التي نجح المؤرخ كريستوف لافاي في إعادة رسمها، وتلك التي ذكرها الشهود الفرنسيون. ومن ثم نجحوا في تحويل هذه العناصر إلى مواقع على الأرض. ورغم اتساع مجال المناطق الجبلية في الجزائر، إلا أن فريق الفيلم اختار التركيز على منطقة القبائل والأوراس، التي شهدت أكثر العمليات رعبًا من حيث الكم والنوع. ورغم ما توصلوا إليه من قرائن وشهادات، إلا أنهم كانوا في حاجة إلى وثائق، ولكن هيئة التاريخ العسكري الفرنسية رفضت طلبهم، كما رفضت من قبل نتائج أبحاث كريستوف لافاي ما أفضى إلى معركة قانونية طويلة معه للحصول على بعض الوثائق الإدارية العسكرية.

عملت المؤسسة العسكرية والسياسية الفرنسية بشكل منهجي منذ عام 1962 على الحد من إمكانيات الوصول إلى أي وثائق تتعلق بأسرار الحرب في الجزائر، ولا سيما ما يتعلق بالأسلحة النووية والكيماوية وعمليات الاغتيال. فطوال 61 عامًا، ظل اختفاء موريس أودان، عالم الرياضيات الشيوعي الذي عمل في جامعة الجزائر وقاتل في صفوف جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، قضية غامضة. ورغم التحقيقات الصحافية والأفلام الوثائقية التي نشرت حول موته تحت التعذيب، إلا أن السلطات الفرنسية لم تعترف بذلك سوى في أيلول 2018. كما اعترفت بأنها أقرت قانونًا خاصًا في عام 1956، يسمح بتفويض صلاحيات الشرطة للجيش، ويجيز لعناصر الجيش التعذيب. وفي تشرين الثاني 2024 اعترف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، بأن القيادي في جبهة التحرير الوطني الجزائرية العربي بن مهيدي «قتله عسكريون فرنسيون»، تحت قيادة الجنرال الجلاد بول أوساريس، بعد أن ادعت السلطات الفرنسية لعقود بأنه انتحر في زنزانته.

«كنا جرذان المجاري»

خلال حرب التحرير، شكلت التضاريس الجبلية، وخاصة في منطقة القبائل والأوراس، القواعد الرئيسية للمجاهدين الجزائريين للاختباء وتنفيذ عمليات ضد القوات الفرنسية، التي كانت تعاني في مواجهة تكتيكات حرب العصابات. وفي مواجهة هذه المعضلة، أنشأ الجيش الفرنسي «أقسام الأسلحة الخاصة» المتخصصة في القتال تحت الأرض. وكانت مهمة هذه الوحدات هي تحييد مقاتلي جيش التحرير الوطني باستخدام الأسلحة الكيميائية. وشملت هذه الأسلحة القنابل اليدوية الغازية والقذائف المحملة بالغاز السام، وخاصة CN2D (كلوراسيتوفينون في محلول ثنائي كلورو الإيثان). وتسبب هذه المادة الكيميائية السامة تهيجًا في العينين والرئتين والأغشية المخاطية، بالإضافة إلى الصداع والغثيان والقيء. وثنائي فينيل أمين كلورو أرسين (DM)، وهو غاز يحتوي على الزرنيخ ويسبب القيء والتهيج الشديد للجلد والجهاز التنفسي. فضلًا عن استخدام مواد كيميائية أخرى، بما في ذلك القنابل الدخانية العسكرية التي تعتمد على الفوسفور الأبيض والشموع الدخانية المخصبة بالمواد الكيميائية السامة، لإجبار المجاهدين على الخروج من مخابئهم أو قتلهم بالتسمم. وكان الهدف الرئيسي هو شل قدرة سكان الكهوف أو القضاء عليهم تمامًا دون مواجهة مباشرة. وقد اعتبرت هذه الطريقة أكثر فعالية وأقل خطورة بالنسبة للجنود الفرنسيين. ورغم اعتبار هذه الغازات غير قاتلة، إلا أنها تصبح قاتلة في البيئات المغلقة، مثل الكهوف، وخاصة عندما يتم تفجير مداخلها بالديناميت، مما يؤدي إلى حبس شاغليها في الداخل.

 يروي أحد عناصر الجيش الفرنسي، ويدعى جان فيدالينك (85 عامًا)، كيف شارك في استخدام الغاز السام لمطاردة مقاتلي جيش التحرير المتحصنين في الكهوف، واصفًا عملية نفذها عام 1959 في طولقة قرب بسكرة، حيث أطلق «وعاء غاز» في مخبأ لجيش التحرير، ما أدى إلى مقتل عشر أشخاص: «رصدنا كهفًا يستخدمه الفلاحون. لم يكن هناك سبيل لدخوله؛ كان خطيرًا للغاية. ألقينا عبوة غاز وانتظرنا، عندما عدنا، لم يكن هناك شيء يتحرك». كان جان يبلغ من العمر 21 عامًا عندما انضم إلى فرقة كوماندوس متخصصة في القتال تحت الأرض في جبال الأوراس، فقد تم استدعاؤه للخدمة العسكرية في عام 1957 ودمجه في سلاح المهندسين، حيث قضى 28 شهرًا في جبال الجزائر. «عندما كنت في العشرين من عمري، كان لدي الحق في الذهاب إلى الحرب ولكن ليس لدي الحق في التصويت (..) لم أنم مرة واحدة خلال ستين عامًا دون أن أفكر في الأمر، في أولئك الذين لم يفعلوا لي شيئًا، وأطلقت النار عليهم. لقد شعرت بالخجل من كوني فرنسيًا. لقد كنا جرذان المجاري، تلك التي تُطلق لفتح المجاري المسدودة».

ويعترف شاهد آخر يدعى إيف، يبلغ من العمر 86 عامًا، بأنه شارك في 95 عملية مماثلة، معربًا عن ندمه بشأن عواقب هذه الأفعال، وخاصة على المدنيين الذين ربما عادوا إلى هذه الكهوف الملوثة. «لم يشكك أحد في ذلك. قيل لنا إنها حرب، وعلينا تحييد العدو. (..) كنا نعلم أن الرجال في الداخل لن يخرجوا أحياءً. كانت هذه طريقةً لحل المشكلة دون تعريض أنفسنا للخطر». مشيرًا أيضًا إلى تدمير الكهوف بالديناميت بعد استخدام الغاز، مما منع أي انتشال للجُثث وأي تحقيق مستقبلي. ولم تقتصر آثار هذه الغازات على مدة القتال، إذ ظلت بقايا غاز CN2D ملتصقة بجدران الكهوف، مما جعلها خطيرة على أي شخص يدخلها لاحقًا. ويقول شهود عيان جزائريون إنه حتى بعد مرور عقود من الزمن، لا تزال بعض الكهوف تنبعث منها رائحة الغاز، مما يدل على استمرار التلوث. ويتحدث بعض الأطباء المحليين عن حالات من أمراض الرئة غير المألوفة بين الرعاة أو المستكشفين الذين زاروا هذه الكهوف بعد عقود من الحرب.

لكن اللافت أكثر أن فرنسا لطالما قدمت نفسها منذ مطلع القرن العشرين على أنها البلد الرائد عالميًا في الدفع نحو حظر استخدام الأسلحة الكيمائية، ولا سيما بعد فظائع الحرب العالمية الأولى. حيث أصرت على تضمين معاهدة فرساي بعض الأحكام التي حظرت على ألمانيا تصنيع أو استيراد الأسلحة الكيميائية. وحظرت معاهدات مماثلة على الجمهورية النمساوية الأولى، ومملكة بلغاريا، ومملكة المجر، امتلاك الأسلحة الكيميائية. وفي مؤتمر جنيف عام 1925 لمراقبة الاتجار الدولي بالأسلحة، اقترح الفرنسيون بروتوكولًا لحظر استخدام الغازات السامة. وقد أقره المؤتمر في حزيران 1925، ودخل حيز التنفيذ في 8 شباط 1928، وقد عرف بـ«بروتوكول جنيف» لحظر استعمال الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات والوسائل البكتريولوجية في الحرب.

بعد مرور أكثر من ستين عامًا على انتهاء الحرب، لا تزال التوترات بين فرنسا والجزائر قويةً بشأن ذكرى هذا الصراع. فقد أدت الروايات المتضاربة، والمطالبات بالحقيقة، والمناظرات حول الاعتراف بالجرائم إلى نشوء حرب ذاكرةٍ تجري على مستويات متعددة، دبلوماسية وسياسية واجتماعية. فقد ظلت الحرب الجزائرية موضوعًا محرمًا في فرنسا لعقود عديدة، وقد اعتُبرت رسميًا مجرد «عملية إنفاذ قانون» حتى عام 1999، ولم يعترف بها كـ«حرب» إلا بعد كفاحٍ طويل من قبل المؤرخين. ولكن الدولة الفرنسية قللت دائمًا من شأن مدى العنف الذي مارسه الجيش، بما في ذلك التعذيب والإعدامات بإجراءات موجزة واستخدام الأسلحة الكيميائية. ورغم فتح الأرشيف العسكري جزئيًا، لكن العديد من الوثائق لا تزال غير قابلة للوصول. وتطالب الجزائر منذ عقود باعتذار رسمي عن الاستعمار والحرب. وفي عام 2021، استبعد ماكرون أي طلب للعفو، مفضلًا الحديث عن «الإيماءات الرمزية». بدت كل لفتة للمصالحة هشة، وكل كلمة كانت موضع وزنها بعناية. كانت هذه الإيماءات بمثابة خطوة أولى، ولكنها لم تكن تعويضًا حقيقيًا للجرح الجزائري المفتوح. بالنسبة للداخل الفرنسي، كان ذلك بمثابة خطوة أعادت إحياء التوترات في المجتمع، حيث لا يزال البعض يرفض مواجهة التاريخ.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية