حركة القطار بين محطة شاتليه، وسط باريس، ونانتير، غربًا، تبدو عاديةً. الأحاديث الجانبية بين الرُكاب تدور جميعها حول ما حدث ويحدث كل ليلةٍ. يوم غائم على غير عادة أيام حزيران في الحوض الباريسي. عندما وصلت إلى نانتير كان الجو هادئًا، لكن آثار معارك الليل تبدو واضحةً للعيان: سيارات محترقة ومحلات شبه محطمةٍ. فيما يجاهد عمال البلدية لإخراج الركام من وسط الطرق الرئيسية. هي دورة جديدة من دورات العصيان التي تعيشها فرنسا كل بضع سنوات، منطلقةً من الضواحي وشرارتها التقليدية عنف الشرطة، هذه المرة ربما تفوق في عنفها دورة العصيان في 2005، وربما تنتهي سريعًا.
قبل ثلاثة أيام كانت الحياة تسير بشكل عادي: شباب الضواحي سجناء داخل أحيائهم البائسة، والمركز الباريسي يمارس هيمنته، والشرطة قائمة على حماية هذه العلاقة المختلة، بالقوة والسلاح. لكن هذا التوازن الهش انهار فجأةً. حين وجه الشرطي فلوريان سلاحه الناري نحو نائل مرزوق، الشاب الفرنسي من أصول جزائرية، صارخًا في وجهه: «سأطلق النار على رأسك». لم يكن الأمر مجرد تهديد، فقد أطلق رجل الأمن الرصاص فعلًا، بذريعة الدفاع عن النفس. وربما كانت تلك الذريعة كافيةً كي يتم طي القضية، كما حدث مع قضايا أخرى سابقة، لكن مقطع فيديو تسرب على وسائل التواصل الاجتماعي قلب وجه الحقيقة البوليسية تمامًا. كشف المقطع أن القتل كان مجانيًا، مجرد شهوة رجل يملك امتياز احتكار السلاح.
تكتظ حيطان نانتير بالعبارات التالية: «نائل الأخ الصغير لكل نانتير، لا سلام بلا عدالة». أحياء المدينة الشعبية أصبحت مركز الانتفاضة ضد عنف الشرطة ذي الجذور العنصرية. أما أطرافها فقد تسربت باكرًا نحو شمال باريس، حيث المعقل التاريخي لأحياء الطبقات الشعبية من أصول مهاجرة، مغاربية وإفريقية. في سان دوني وأوبيرفيلييه وأولني سو بوا، ثم نحو بقية مدن فرنسا الكبرى، لاسيما مرسيليا في أقصى الجنوب. رغم مأساة نائل الشخصية، بوصفه نجل أمه الوحيد، إلا أن موته الغادر لم يكن سوى قطرة أفاضت كأس الصبر الطويل، وكشفت عن تراكم هائل للعنصرية المؤسسية التي تمثلها الأجهزة الأمنية في فرنسا ضد مواطني الجمهورية غير البيض. قبل أسبوعين، أصيب الحسين كامارا برصاصة في صدره من قبل ضابط شرطة في ظروف مماثلة بالقرب من أنغوليم، غرب البلاد. في عام 2022، قُتل 13 شخصًا خلال «رفض الامتثال» بإطلاق النار من قبل الشرطة، واللافت أن أغلبهم من أصول غير فرنسية.
وسط المدينة أقام أصدقاء نائل تجمعًا صامتًا. الشباب الذين كانوا ليلًا في جولات الكرّ والفرّ مع قوات الشرطة والدرك، يقفون نهارًا بكل خشوع حاملين صور رفيقهم وحزمة من الورود. يرافقهم جمع كبير من نشطاء حقوق الإنسان والمجموعات اليسارية الراديكالية والمجموعات الشبابية المعادية للفاشية والعنصرية. ألمح بالقرب من التجمع أسا تراوري، الشقيقة الكبرى لأداما تراوري، الشاب الفرنسي من أصول أفريقية (مالية)، الذي قتل في عام 2019 على يد الدرك في منطقة فال دواز، قرب باريس. تقود أسا منذ ذلك الوقت «لجنة الحقيقة والعدالة لأداما»، تقول أسا: «إن دائرة الموت هذه لن تتوقف، لأن البوليس يحمل عقيدةً عنصرية متجذرةً في التكوين الأصلي للجهاز، وليست مجرد ممارسات فردية لرجال شرطة لهم ميول يمينية متطرفة. قضيتنا، قضية أحياء الطبقة العاملة والشعبية، ليست مسألة اجتماعية تتعلق بالفقر والبؤس، بل قضية عنصرية مؤسسية، ذلك أن البؤس، يجد جذره الأساسي في النظرة العنصرية للدولة لهذه المناطق. نحن نشهد إدارة استعمارية حقيقية للأحياء التي تواجه عنف الشرطة».
الأحياء الفقيرة في نانتير، 1962-1965. تصوير: مونيك هيرفو. المصدر: Revue Ballast.
نانتير: من حي الصفيح إلى الضاحية
نانتير ليست مجرد مدينة تضم أحياء شعبية على حواف باريس، كغيرها من أحياء الطبقة العاملة التي ولدت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بل تمثل رمزًا طبقيًا وسياسيًا لحقبة كاملة من تاريخ فرنسا المعاصر. رمزًا لسياسات اللاعدالة، ورمزًا في الوقت نفسه لإرادة المقهورين في الخروج من الهامش. في نانتير تشكلت أولى أحياء الصفيح لتضم العمال المغاربة القادمين لإعادة إعمار فرنسا، وفيها خاضت الحركة العمالية المغاربية نضالاتها الأولى ضد اللامساواة، ومن جامعة نانتير، بدأت الشرارة الأولى لثورة مايو 1968، عندما احتل 150 طالبًا، بقيادة دانيال بنديت، المقر الإداري المركزي لكلية الحقوق.
بدايةً من نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كان آلاف العمال المغاربة يعيشون في غرف صنعت من الصفائح المعدنية في نانتير. كانت فرنسا في خضم خطة مارشال لإعادة بناء البلاد بعد حرب عالمية طاحنة. وكان لابد من يد عاملة رخيصة وذات قدرة على تحمل قسوة العمل ومناخ فرنسا البارد. كانت أرياف المستعمرات السابقة في المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء الخزان الأساسي لهذه الطبقة العاملة، التي تتوزع نهارًا على حظائر البناء وتعود ليلًا للنوم في أحياء الصفيح. إلى حدود عام 1964، كان حوالي من 43% من المهاجرين الجزائريين في فرنسا يعيشون في هذه الأحياء. في نانتير وحدها كان هناك أكثر من 1400 شخص بينهم أطفال، ليست لديهم مياه شرب مستدامة ولا تدفئة. عندما تقف على أسطحة مباني نانتير ترى بوضوح الضواحي الباريسية الغنية، حيث لا يفصل بين البؤس والثراء سوى عبور غابة بولونيا أو الإبحار للضفة الأخرى من نهر السين. في قلب هذه المفارقة ولد وتربى الجيل الأول من المهاجرين المغاربة في فرنسا.
لكن «ماي 68» قلبت فرنسا رأسًا على عقب. كانت ثورة الشباب ورحيل شارل ديغول عن السلطة والصعود القوي لليسار الجديد، عوامل ساهمت في دفع ظروف المهاجرين إلى الأمام. أصبحت صور أحياء الصفيح في التلفزيون وفي الجرائد، وبدا الأمر كأنه «عار» يلاحق الجمهورية. بدايةً من السبعينيات ستشرع الدولة في بناء مساكن اجتماعية على أنقاض أحياء الصفيح، ستبدو أكثر رفاهةً قياسًا للبؤس الذي كان. لكنها ستحافظ على نفس المنطق في عزل هؤلاء عن بقية المجتمع الفرنسي، بوصفهم جزءًا غريبًا عن المجتمع. في الوقت نفسه بدأت الحركة العمالية المغاربية تعي ذاتها ومشاكلها. في 21 أيار 1973، في منطقة صناعية معزولة خلف خطوط السكك الحديدية، اندلع الإضراب الأول للعمال غير الشرعيين في فرنسا. قرر العمال المغاربة ورفاقهم البرتغاليون، الذين يفرغون الشاحنات في مصانع إعادة تدوير الورق في نانتير، التوقف عن العمل والتنديد بوضعيتهم «العبودية» بسبب عدم تسوية وضعيتهم القانونية.
بعد إلقاء القبض على المضربين، سرعان ما تحول الإضراب إلى حركة عمالية طالت مصانع السيارات «رينو» في المنطقة وبقية الحي الصناعي، بدعم قوي من المجموعات اليسارية الماوية. ثم تحولت التجمعات النقابية إلى منبر لنشاط لجان التضامن مع فلسطين. بعد أسابيع قليلة من الإضراب، وافق وزير العمل الجديد جورج غورس على تعميم يسمح بتسوية أوضاع الأجانب بشرط تقديم عقد عمل. تحقق الحركة العمالية نصرًا صغيرًا، ثم تشرع في كفاح جديد من أجل حق لمّ شمل الأسرة.[1] تلتحق العائلات تباعًا، ويولد الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، داخل أحياء مسيجةٍ، أفضل حالًا من أحياء الصفيح، لكن وصم الوضاعة يلاحقها، والسلطة تتعامل معها كملف أمني في يد جهاز الشرطة حصرًا.
كانت هذه الأحياء تسمى في معجم السلطة الفرنسية «مدن عبور» يتم من خلالها إعداد المهاجرين الذين كانوا داخل أحياء الصفيح للاندماج في المشهد الحضري الفرنسي. لكن العبور الذي كان من المفروض أن يكون محدودًا في الزمان، أصبح هو القاعدة الدائمة. منذ الثمانينيات ستبدأ حوادث القتل تطال شبيبة الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المغاربة والأفارقة.
في تشرين الأول 1982، سقط عبد النبي قميحة برصاص عنصري في حي غوتنبرغ، في مدينة نانتير. كان ذلك أول العنف، الذي انهمر على مدى سنوات، برصاص الشرطة أو على أيدي عناصر يمينية متطرفة، وانتشر إلى بقية أحياء «العبور الدائم» لاسيما في ضواحي شمال باريس الفقيرة والملونة. ورغم ذلك لم تغادر السلطة الفرنسية خيارها الأمني في منح امتياز إدارة هذا الملف لجهاز الشرطة.
مدن العبور، 1973-1976. تصوير: مونيك هيرفو. المصدر: Revue Ballast.
الشرطة والعنصرية المؤسسية
منذ أذار 2017، أصبحت قوات الشرطة الفرنسية والدرك تملك الحق في استخدام السلاح الناري «عند عدم امتثال أشخاص للتوقف، والذين من المحتمل أن يرتكبوا، أثناء هروبهم، اعتداءات على حياتهم أو حياة الآخرين». وسّع هذا التعديل التشريعي مساحة الشرطة في استعمال السلاح، وتحت طائلته ارتفعت حالات القتل بشكل لافت، حيث قُتل حوالي 26 شخصًا بين عامي 2021 و2022 بسبب ذلك، أي أكثر من ضعف العدد المسجل في السنوات العشر السابقة. لكن المسألة لا تتعلق فقط بإطلاق يد الشرطة، بل بنوع الضحية، حيث يكون ضحايا إطلاق النار بانتظام من غير البيض. في ضوء هذه الحقيقة، فإن المناقشة حول رفض الامتثال هي بالضرورة مناقشة حول عنصرية الشرطة.
يذهب مؤلفو كتاب «عنصرية الدولة في فرنسا؟ (كتاب جماعي، 2020)،[2] إلى أن هذه العنصرية البوليسية تنقسم إلى قسمين: عنصرية إيديولوجية يمثلها جناح من رجال الشرطة من ذوي التوجهات اليمينية المتطرفة، والذين يعلنون عن أفكار عنصرية ولديهم ممارسات تمييزية أكثر من غيرهم. في فرنسا، صوت 51% من ضباط وجنود الشرطة للجبهة الوطنية (يمين متطرف) في الانتخابات الإقليمية لعام 2015، وقال 51% من الدرك المتنقل إنهم يريدون التصويت لهذا الحزب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
حي نانتير في 1964. المصدر: أ ف ب.
يبدو أن هذه الحقيقة تنبع بشكل خاص من حقيقة أن اليمين المتطرف يحمل خطابًا قريبًا من خطاب قوة الشرطة المحترفة عندما يدين «أولئك الذين يفسدون» أو «يغزون» أو «يستفيدون» من الدولة الاجتماعية. يمكن أن تجد أيديولوجية الشرطة الاحترافية -التمسك بالنظام والأيديولوجية الجمهورية، والميل إلى التفكير في المهنة على أنها آخر معقل أخلاقي للدولة- في خطابات اليمين المتطرف سياسات تمثيلية. لكن قرب الخطاب الأيديولوجي لا يجعله كافيًا لعنصرية الشرطة.
أمّا القسم الثاني فهو العنصرية الاحترافية، أي التكوين العنصري لطبيعة الجهاز في حد ذاته. أولًا من خلال التراث الاستعماري للجهاز، والذي رغم نهاية الاستعمار ظل يرى في الأشخاص المنحدرين من هجرة ما بعد الاستعمار «عناصر تخريبية». وثانيًا التنشئة الاجتماعية للشرطة، القائمة على علاقات الطاعة التي يخضع لها عناصر الجهاز، ثم يعيدون إنتاجها تجاه أبناء الأحياء الشعبية ضمن علاقات القوة العنصرية. وثالثًا إعادة إنتاج خطاب السلطة السياسي في أشكال عنف مادية، حيث دأبت السلطة على إنتاج سياسات وخطابات تمييز ضد هذه الأحياء، اقتصاديًا واجتماعيًا، والتي لاقت مقاومة واضحة، لم تجد لمواجهتها سوى حائط الصد الأول وهو الجهاز القمعي. وهو الجهاز نفسه الذي تقوم من خلاله السلطة بتدبير التعامل مع نتائج برنامجها النيوليبرالي الكارثية، في مواجهة عموم الطبقات الشعبية والمتوسطة الفرنسية.
نانتير تستعيد موقعها كضابط إيقاع الحركة الشعبية المغاربية في فرنسا. ما يحدث فيها لا يبقى فيها، بل ينتشر ويتسرب نحو الكلّ الفرنسي المقهور بمرض العنصرية. لذلك لا أحد قادر على تخيل المدى الذي يمكن أن تصله هذه الانتفاضة، ولا النتائج التي يمكن أن تسفر عنها، ولكن المؤكد أنها ستكون دافعًا نحو الأمام لصالح هذه الفئة المضطهدة من مواطني الجمهورية، كما دفع تراكم نضالات الستينيات والسبعينيات وانتفاضة الضواحي في 2005 أوضاعهم، وخاصة موقعهم داخل المجتمع نحو الأحسن.
-
الهوامش
[1] Victor Collet, Nanterre, du bidonville à la cité, Marseille, Agone, «Mémoires sociales», 2019.
[2] Fabrice Dhume, Xavier Dunezat, Camille Gourdeau, Aude Rabaud, Du racisme d’État en France?, Ed. Le Bord de l’Eau, 2020.