في بداية عام 2021، اندلعت احتجاجات شعبية حاشدة في ساحل العاج ومالي والسنغال بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، ثم انتشرت الأحاديث حول كيف أن عملة «الإيكو» البديلة عن الفرنك الإفريقي هي محاولة فرنسية جديدة لاختطاف مستقبل غرب إفريقيا الاقتصادي. في العام نفسه، صدر كتاب «آخر عملة استعمارية في إفريقيا: قصة فرنك CFA» للاقتصادي السنغالي ندونغو سامبا سيلا والصحفية الفرنسية فاني بييجو، ليحلل باستفاضة آثار السياسات والإصلاحات الاقتصادية الفرنسية في آخر عقد من الزمن في جميع الدول الفرانكفونية في غرب ووسط إفريقيا. ويحظى الكتاب بإشادات واسعة حيث شُبهت أهميته بأهمية الدراسة الرائعة التي كتبها المفكر سمير أمين في السبعينيات بعنوان «الاستعمار الحديث في غرب إفريقيا».
يضع المؤلفان في البداية توطئة لأي قارئ محدود المعرفة بالعلاقات الأفرو-فرنسية، بدءًا من تدخل قصر الإليزيه المستمر في إفريقيا من خلال «الميثاق الاستعماري»، الذي يتضمن الاتفاقيات الاقتصادية مع المستعمرات السابقة في غرب القارة، واعتمادها القسري على صادرات المواد الخام واحتكار الشحن والتصدير والواردات، إلى الفرنك الإفريقي أو فرنك CFA، وهي العملة التي صممتها فرنسا لضمان بقاء سيطرتها في غرب إفريقيا.
في عام 1958، عندما أحس الفرنسيون أن الاستقلال في إفريقيا أصبح حتميًا، نظم شارل ديغول استفتاءً في دول إفريقيا جنوب الصحراء الواقعة تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، يسأل إذا كانت تريد الاستقلال بسلام لكن بشروط اقتصادية – سياسية. كانت غينيا بقيادة أحمد سيكو توريه، أحد القادة الأفارقة القلائل الذي كان نقابيًا وليس حليفًا مخلصًا لفرنسا، صوتت ضد هذا الاستفتاء رافضة الاندماج الذي دعا إليه الجنرال ديغول. أُعلنت غينيا دولة مستقلة في الثاني من تشرين الأول 1958، وأصبح أحمد سيكو توريه رئيسًا لها، في حين لم يكن في هذه الدولة الحديثة سوى 200 خريج جامعي، وبلغت نسبة الأمية 95%، ومتوسط الدخل السنوي لمعظم الفلاحين حوالي 40 دولارًا.
عندما قررت غينيا إصدار عملتها الوطنية الخاصة بها في عام 1960، نظمت فرنسا عمليات تخريبية لزعزعة استقرار الدولة الجديدة، ودعمت عملاء محليين، وأغرقت الاقتصاد بأوراق نقدية مزيفة. كان هذا بمثابة رسالة واضحة إلى البلدان الأخرى: «إذا كنتم تريدون السير في هذا الطريق، فأنت تعلمون ما سيحدث». منذ ذلك الحين، حكمت هذه الفكرة النهج الذي اتبعه العديد من رؤساء وقيادات الدول الفرانكفونية: «إذا كنت تريد البقاء في السلطة، فيجب أن تكون على علاقة جيدة مع فرنسا». ينطلق المؤلفان من هذه النقطة لإيصال فكرة أنه بالنسبة لفرنسا، جاء استقلال المستعمرات الإفريقية دون تملكها السيادة الكاملة، وبشرط توقيع «اتفاقيات تعاون اقتصادية-سياسية» تصب في مصلحة باريس.
في الفترة التي سبقت الاستقلال، أدارت فرنسا علاقاتها مع هذه البلدان الجديدة من خلال اختيار القادة الذين تفضلهم. يوضح المؤلفان أن هذه الآلية النيوكولونيالية مستمرة إلى يومنا، بوجود قادة أفارقة تابعين لا يجرؤون على التصرف دون موافقة من باريس. وإذا حاولوا التصرف بشكل مختلف، فستكون هناك أعمال انتقامية. فقد احتفظت فرنسا بقواعد عسكرية في العديد من البلدان الإفريقية منذ الاستقلال، مثل ساحل العاج، والجابون، والسنغال، وغيرها. ولديها حاليًا خمسة آلاف جندي في منطقة الساحل الإفريقي. ورغم مزاعمها بوجود الجيش الفرنسي هناك «لمحاربة الإرهاب»، فمن الواضح أنه موجود أيضًا للحفاظ على السيطرة على هذه البلدان (وحديثًا، كبح النفوذ الصيني). ورغم أن فرنسا استخدمت القوة العسكرية في ساحل العاج عام 2011، إلا أن التدخل العسكري الفعلي ليس مطلوبًا لتنفيذ الأجندة الباريسية. فحين تعاني من مشاكل أمنية واقتصادية واجتماعية ومالية وتجد الجيش الفرنسي وأجهزة المخابرات على الأرض من حولك، من الصعب أن تعتقد أنك حر في اتخاذ قراراتك الخاصة.
عملة مقيدة
كانت عملة الفرنك CFA بمثابة إعادة تغليف الاستعمار الفرنسي بشكل حديث. في كانون الأول عام 1945 أصدرت فرنسا مرسومًا بإنشاء «نظام مصرفي خاص» تحت مسمى «منطقة فرنك» في «مستعمرات فرنسا الإفريقية»، وتم تحديد عملة خاصة بهذا النظام قيمتها 2 فرنك فرنسي، ما يعني أنه تم ربط العملة بالفرنك الفرنسي مباشرةً، وظل الوضع هكذا إلى أن نالت هذه الدول استقلالها. وبعد المضي في الاستقلال السياسي، أخذت منطقة الفرنك الإفريقي شكلًا جديدًا بموجب اتفاقيات خاصة، حيث تم التوقيع عام 1975 على اتفاقية «الاتحاد النقدي لدول غرب إفريقيا» (U.M.O.A). رفضت مالي بقيادة موديبو كيتا التوقيع على هذه الاتفاقية، وبقيت مستقلةً بعملتها المحلية حتى عام 1984، وهو ما حدث أيضًا في بوركينا فاسو حتى عام 1987 حين اغتيل المناضل توماس سانكارا صاحب المشروع التحرري.
واليوم، يضم الاتحاد ثمانية دول هي: مالي، والسنغال، وبنين، وبوركينا فاسو، والنيجر، وساحل العاج، وتوجو، وغينيا بيساو. ويختص البنك المركزي لدول غرب إفريقيا (B.C.E.A.O) بالإدارة النقدية لهذه الدول. فيما أنشأت فرنسا اتحادًا نقديًا موازيًا باسم البنك المركزي لدول وسط إفريقيا (B.E.A.C)، يضم اليوم ستة من دول وسط القارة، هي الكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو، والجابون، وتشاد، وغينيا الاستوائية. وخاضت هذه المؤسسات النقدية جملة من الإصلاحات منذ إنشائها بعد الاستقلال إلى أن استقرت على حالها اليوم بمجموع 15 دولةٍ إفريقيةٍ، ثمانٍ منها في الغرب الإفريقي، وست في الوسط الإفريقي، بالإضافة إلى جزر القمر في شرق القارة.
البنوك المركزية الإفريقية ملزمة لعقود من الزمن بإيداع نسبة كبيرة من احتياطياتها من العملات الأجنبية في الخزانة الفرنسية، بمبالغ تمثل ضعف حجم المساعدات التي تقدمها فرنسا إلى إفريقيا جنوب الصحراء.
كانت عملة الفرنك الإفريقي تطبع في مدينة شاماليير في فرنسا، بحيث يضمن البنك المركزي الفرنسي سيولة العملة مقابل ضريبةٍ تقدر بمليارات تدفعها حكومات هذه الدول من جيوب شعوبها، ما عنى أن هذه البلدان كانت رهينة سياسات البنك المركزي الفرنسي التي تدار وتؤطر من قبل وزارة المالية الفرنسية، ما جعلها في حالة تبعية اقتصادية وبالتالي سياسية. فالاتفاقية الموقعة بين فرنسا والجمهوريات الأعضاء للاتحاد النقدي للفرنك فرضت التدخل المباشر لفرنسا في الإدارة، إذ نصت المادة العاشرة منها على تعيين عضوين فرنسيين في المجلس الإداري للبنك المركزي لدول غرب إفريقيا. وعلى هذا الأساس، ووفق المادة 81 من النظام الأساسي للبنك، فإن لهذين العضوين من بين 16 عضوًا للمجلس حق النقض علي أي تصويت تتخذه إدارة المجلس، ولهذا كان من البديهي أن أي قرار يعارض سياسة فرنسا الاقتصادية يصعب التصديق عليه من المجلس الإداري للبنك.
تكمن الإشكالية الكبرى في أن مبدأ مركزية الحسابات يترتب عليه تسليم احتياطات نقدية إلى خزانة فرنسا كضمان للعملة. ﻓمنذ ﻋﺎﻡ 1947 ﺇﻟﻰ 1975 ﻛﺎﻧﺖ ﺩﻭﻝ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﻔﺮﻧﻚ ﺍﻷﻓﺮﻳﻘﻲ ﺗﻀﻊ كامل ﺃﺻﻮﻟﻬﺎ ﺍﻷﺟﻨﺒﻴﺔ في ﺧﺰﻳﻨﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ. وبين ﻋﺎمي 1976 و2007 ﺗﻢ ﺗﺨﻔﻴﺾ ﺍﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ 64%، ﻭﻣﻦ 2007 ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬﺍ ﺗﻘﻮﻡ ﺩﻭﻝ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﺑﺈﻳﺪﺍﻉ 50% ﻣﻦ ﺃﺻﻮﻟﻬﺎ ﺍﻷﺟﻨﺒﻴﺔ في ﺍﻟﺨﺰﻳﻨﺔ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ، وهو ما يقارب 600 مليار دولار.
تشكل الفوائد العائدة من هذه الأصول كمًا هائلًا من الثروة لا تتحكم فيه الدول المودعة بشكل مباشر، وهذا ما سمح للإدارات المتعاقبة على الإليزيه بتنظيم ووضع سياسات عملة «الفرنك الإفريقي» بشكل يخدم مصالح فرنسا. فالبنوك المركزية الإفريقية ملزمة لعقود من الزمن بإيداع نسبة كبيرة من احتياطياتها من العملات الأجنبية في الخزانة الفرنسية، بمبالغ تمثل ضعف حجم المساعدات التي تقدمها فرنسا إلى إفريقيا جنوب الصحراء.
من الفرنك CFA إلى الإيكو: إصلاحات شكلية
يوضح المؤلفان أن فرنسا تنتهج نفس السلوك الآن مع ما يسمى بالإصلاحات الاقتصادية وعملة «الإيكو» البديلة، التي يمكن اعتبارها مبادرة تسويقية، ولكن في الواقع، كل شيء يظل كما هو. إذ تقدم التغييرات الأخيرة التي أجراها إيمانويل ماكرون على منطقة الفرنك الوسط إفريقي باعتبارها انتقالًا إلى نظام تحكم غير مباشر بدرجة أكبر. ومن المتوقع أن تتغير ثلاثة أشياء: الأول هو اسم العملة (يطلق عليها الآن «eco»)، والثاني هو أن الممثلين الفرنسيين لن يجلسوا بعد الآن في هيئات البنوك المركزية المسؤولة عن إصدار الأوراق النقدية ومراقبة حجم العملة والائتمان. والثالث هو إلغاء الالتزام بإيداع 50% من احتياطيات النقد الأجنبي الإفريقية في الخزانة الفرنسية. لكن الرابط الرئيسي سيبقى؛ إذ لا يزال يتعين على هذه البلدان تقديم تقارير يومية إلى فرنسا لـ«ضمان قابلية التحويل» من العملة الجديدة إلى العملات الصعبة، فيما تتعهد فرنسا بإقراض اليوروهات التي يحتاجها البنك المركزي لدول غرب إفريقيا، وهو الوعد الذي لم تف به.
صممت «الإصلاحات» لإعطاء حياة جديدة للهيمنة النقدية وتوسيع منطقة فرنك CFA إلى بلدان أخرى في غرب إفريقيا مثل غينيا وغانا. كما صمم الاسم الجديد لـ«eco» لتقويض مجموعة إقليمية من 15 دولة تسمى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS)، حيث إن كلمة «إيكو» هي اختصار لـECOWAS وستكون اسم العملة الموحدة الإقليمية لغرب إفريقيا. سرق ماكرون والحسن واتارا (رئيس ساحل العاج الحالي، موظف صندوق النقد الدولي السابق) الاسم وأعلناه في نفس اليوم الذي اجتمع فيه معظم رؤساء ECOWAS لتحديد موعد إطلاق عملتهم. ورغم مرور أكثر من سنة ونصف على ذلك، لم تظهر حتى الآن الأوراق النقدية أو العملات المعدنية للإيكو، فيما يبدو أنها كانت مجرد استراتيجية للتخلص بسرعة من الاسم القديم.
نظام الفرنك CFA يربط الاقتصادات الإفريقية عضويًا بالديون، إذ يتطلب الحفاظ على قيمة العملة مستوى كافيًا من احتياطيات النقد الأجنبي، وبالتالي تلجأ الدول إلى الاقتراض وتقليل تمويل الاقتصاد للحفاظ على ربط العملة.
يقول ماكرون إن الممثلين الفرنسيين في مجالس البنوك المركزية قد رحلوا، لكنهم وقعوا اتفاقيات تعاون نقدية جديدة تنص على أنه يمكن إعادتهم دائمًا. وبينما تؤطر فرنسا إزالة التزامات الإيداع كهدية، إلا أن الهدية الحقيقية كانت تمويل إفريقيا للخزانة الفرنسية. فقد كان الأفارقة يخسرون في ودائع الخزانة الخاصة بهم، وليس فقط بسبب أسعار الفائدة المنخفضة. فسداد رأس المال الإفريقي المودع في فرنسا لا يتم في أقساط متساوية، وإنما بنسب ثابتة من رأس المال المودع بداية، بالإضافة لنسبة الفائدة على رأس المال المستحق، ما يعني أن قيمة السداد السنوي تنخفض مع الوقت. فمثلًا، إذا اقترضت فرنسا 100 مليون دولار لمدة 10 سنوات بسعر فائدة ثابت قدره 5%، فإنها في السنة الأولى تسدد عُشر رأس المال الذي اقترضته مبدئيًا بالإضافة إلى 5% من رأس المال المستحق، أي ما مجموعه 15 مليون دولار. في السنة الثانية، ستسدد مرة أخرى 10% من رأس المال المقترض، لكن الـ5% الآن تنطبق فقط على الـ90 مليون دولار المتبقية، أي 4.5 مليون دولار، أو ما مجموعه 14.5 مليون دولار، وهكذا إلى نهاية المدة. لذا، ففي ظل التضخم، فإن قيمة الفائدة المستحقة تتضاءل مع الوقت، ما يعني أن أنه كان بإمكان الدول الإفريقية استخدام هذه الأموال التي تشكل نصف احتياطياتها من العملات الأجنبية بطرق أكثر إنتاجية على مر السنين.
يؤكد المؤلفان أن هذه التغييرات تحدث الآن بسبب وجود العديد من الاحتجاجات المستمرة في غرب إفريقيا ضد منظومة فرنك CFA الاقتصادية، في الوقت الذي يتساءل فيه الشباب عن سبب إجبار بلدانهم على تسليم احتياطياتها من العملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية. فقد أرادت باريس معالجة هذه الاحتجاجات دون وضع حد لفرنك CFA. من جهة أخرى، سعت فرنسا عبر هذه الإصلاحات الشكلية إلى معالجة التوتر الذي تثيره فرنك CFA داخل أوروبا فيما يتصل بمسألة الهجرة، وخاصة مع إيطاليا. ففي عام 2019، قالت جورجيا ميلوني، التي أصبحت بعدها رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية إن سبب تدفق المهاجرين الأفارقة إلى إيطاليا هو أن الفرنك الإفريقي يُفقِر إفريقيا، وأن التخلص منه سيؤدي إلى التخلص من المهاجرين الأفارقة. ورغم الأهداف الانتخابية الشعبوية لهذه التصريحات، إلا أنها لفتت الانتباه إلى قضية فرنك CFA على نطاق أوسع. لذا، تريد باريس أن تقول إنها فهمت رسالة أولئك الذين لم يعودوا يريدون فرنك CFA، لكنها في الواقع تحاول الحفاظ على سيطرتها وكسب الوقت.
دوامة الديون
يناقش المؤلفان كذلك المزاعم التي تحذر أي دولة إفريقية تسعى لمغادرة منطقة فرنك CFA من مصير مشابه للبنان أو زيمبابوي كدليل على مخاطر العملات الورقية. لكن أي دولة ذات سيادة تريد تطوير قدراتها المحلية تحتاج إلى عملتها الخاصة. لكن هذا وحده ليس كافيًا، فهناك العديد من الأمثلة على البلدان الإفريقية التي لديها عملتها الوطنية الخاصة بها، إلا أنها ليست ذات سيادة حقًا. إذ نادرًا ما تفي بلدان الجنوب العالمي بالشرط الرئيسي لكونها دولًا ذات سيادة مالية: وهو عدم وجود ديون بالعملة الأجنبية. إذا كنت ترغب في الحصول على عملة سيادية، فعليك تطوير استراتيجية تستند أولًا وقبل كل شيء إلى حشد مواردك المحلية واستثمارها. بدون ذلك، سيتعين عليك الاعتماد على الديون بالعملة الأجنبية والاستثمار الأجنبي ومساعدات التنمية، وهذه ليست استراتيجية مستدامة.
في الوقت نفسه، فإن نظام الفرنك CFA يربط الاقتصادات الإفريقية عضويًا بالديون، فهو يعتمد ربط الفرنك CFA باليورو، ما يعني أن الحفاظ على قيمة العملة يتطلب مستوى كافيًا من احتياطيات النقد الأجنبي. لكن معظم البلدان في المنطقة لا تستطيع توليد دخل أجنبي كافٍ من خلال التجارة، وبالتالي فهي مجبرة على الاقتراض وتقليل تمويل الاقتصاد للحفاظ على ربط العملة.
تتحدث الحكومة الفرنسية عن وجود «مشاعر معادية للفرنسيين»، كما لو أن الأفارقة لديهم كراهية غير عقلانية لفرنسا، أو أن تاريخ استعمار فرنسا لإفريقيا وممارسات الشركات الفرنسية فيها ليست سببًا للعداء.
من جهة أخرى، يتحدث الكتاب أيضًا عن دور السياسات الاقتصادية التي يفرضها صندوق النقد الدولي في رفع مديونية الدول الإفريقية، عبر تطبيق سياسات التعديلات الهيكلية في أوائل عام 1980 لتأهيل البلدان للحصول على قروض جديدة أو لإعادة جدولة الديون من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بهدف ضمان قدرة الدولة على خدمة ديونها الخارجية مرة أخرى. عادةً ما يجمع التعديل الهيكلي بين العناصر التالية: تخفيض قيمة العملة الوطنية (من أجل خفض أسعار السلع المصدرة وجذب العملات القوية)، ورفع أسعار الفائدة (من أجل جذب رأس المال الدولي)، وخفض الإنفاق العام (تسريح موظفي الخدمات العامة، وتخفيض الميزانيات المخصصة للتعليم والقطاع الصحي، وما إلى ذلك)، والخصخصة الواسعة، وتخفيض الدعم الحكومي لبعض الشركات أو المنتجات، وتجميد الرواتب العامة (لتجنب التضخم نتيجة الانكماش).
لم تساهم برامج التكيف الهيكلي هذه بشكل كبير في رفع مستويات المديونية في البلدان المتضررة فحسب، بل أدت في الوقت نفسه إلى ارتفاع الأسعار (بسبب ارتفاع معدل ضريبة القيمة المضافة وأسعار السوق الحرة) وإلى انخفاض كبير في دخل السكان المحليين (نتيجة لارتفاع معدلات البطالة وتفكك الخدمات العامة، من بين عوامل أخرى).
يعبر المؤلفان عن تأييدهما لإلغاء الديون بالعملة الأجنبية في جنوب الكرة الأرضية وليس إفريقيا فحسب، لكنهما يعتبران أن هذا ليس حلًا جذريًا، فما يتعين «إلغاؤه» في الواقع هو النظام الذي ينتج هذا الدين. فقد عمل النظام العالمي هيكليًا بطريقة تضع جنوب الكرة الأرضية في وضع دائم من المديونية، إذ يعاد تكوين أي ديون تم إلغاؤها بسرعة كبيرة. ولا يمكن للبلدان النامية أن تتطلع نحو الازدهار إذا كانت تنميتها تقوم على الموارد الأجنبية. لذا يقترح الكاتبان صياغة قضية الدين الخارجي وفق مبدأ إلغاء آلية التبادل غير المتكافئ على المستويين العالمي والمحلي، ومساعدة البلدان النامية على حشد مواردها المحلية باستخدام قوتها النقدية والاقتصادية.
تستمر موجة الاحتجاجات الكبيرة التي حدثت في منطقة الفرنك الإفريقي، والتي توجهت في الأساس ضد سياسات وزير المالية الفرنسي في مجلس إدارة البنك المركزي، وجرى خلالها تدمير العديد من الممتلكات والشركات الفرنسية. إذ تواجه فرنسا ضغوطًا متزايدة في إفريقيا، ومعارضة شعبية متصاعدة لتدخلاتها. وبينما تتحدث الحكومة الفرنسية عن وجود «مشاعر معادية للفرنسيين»، كما لو أن الأفارقة لديهم كراهية غير عقلانية لفرنسا، أو أن تاريخ استعمار فرنسا لإفريقيا وممارسات الشركات الفرنسية فيها ليست سببًا للعداء، فإن تصاعد المعارضة الشعبية ينقل لفرنسا رسالة مفادها: «نحن نعرف ما تفعلونه، ونعلم أنكم تدعمون قادة غير شرعيين، وأنكم تفرضون شركات تستنزف مواردنا، وتجبرنا على توقيع اتفاقيات غير عادلة. ولن نقبل بذلك بعد الآن».