كيف كسبت فلسطين معركة الجامعات الأمريكية؟

الجمعة 26 نيسان 2024
فلسطين جامعة جورج واشنطن مقاطعة
آلاف الطلبة في اعتصام في جامعة جورج واشنطن تضامنًا مع فلسطين ومطالبة بمقاطعة جامعتهم لـ«إسرائيل»، 25 نيسان 2024. أليسون بايلي، أ ف ب.

تتلقى فلسطين الضربات، ولكنها مع ذلك لا تترك حجرًا على حجر في هذا العالم. أثر فلسطين على العالم اليوم، ليس مجرد «أثر فراشة لا يُرى»، بل تأثير زلزال لا ندري إلى حيث سينتهي مداه. فبينما صوتت إدارة بايدن للتو لصالح مساعدات مالية جديدة لـ«إسرائيل»، بدأ الغضب ينتشر في حرم الجامعات الأمريكية. بعد اعتقال مائة من طلاب جامعة كولومبيا، بسبب دعمهم لفلسطين، انتشر السخط كالنار في جامعات ييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة كارولينا الشمالية، وإيمرسون، وجامعة هارفارد، وجامعة نورث كارولينا تشابل هيل، وفاندربيلت، وبيركلي، واجهته الحكومة الأمريكية بمزيد من القمع، لكنه مع ذلك أصبح نموذجًا ينتشر في بلدان أخرى، في المملكة المتحدة وفرنسا وحتى في أستراليا. وكما حدث في جامعة كولومبيا، فإن مطلب الطلبة في جميع هذه الجامعات هو «إنهاء الاتفاقيات المبرمة بين جامعاتهم ومصنعي الأسلحة الإسرائيليين والشركات التي تشارك في الإحتلال والإبادة الجماعية». 

هذه الجذرية الطلابية -التي لم نرَ مثلها منذ عقود لا سيما في جامعات نخبوية يأتي أغلب روادها من الطبقات العليا- شجعت قطاعات أخرى في المجتمع الأكاديمي على الالتحاق بمعسكر التضامن مع فلسطين وإدانة الاحتلال الصهيوني، وهو قطاع المدرسين وموظفي الجامعات. فقد دفعت عمليات القمع التي نفذتها السلطات الإدارية والأمنية مئات أعضاء هيئة التدريس والموظفين للتوقيع على دعوات المقاطعة الأكاديمية، لعل أبرزها لائحة كلية كولومبيا وكلية بارنارد، التي وقعها أكثر من 1400 أكاديمي حتى يتم رفع العقوبات المفروضة على الطلاب. وهو أمر من شأنه أن يثير خوف السلطة، التي لا تريد أي تقارب بين اتحاد الطلاب واتحاد المدرسين والموظفين، لأن حدوث ذلك يعني ضمنيًا السيطرة على الجامعات. 

هذه الصحوة الجامعية الأمريكية المعادية للإمبريالية والاستعمار، ليست بالأمر غير المسبوق في تاريخ الجامعة الأمريكية، فقد كان دور المجتمع الأكاديمي -طلابًا ومدرسين- خلال حرب فيتنام أساسيًا في إقناع الرأي العام الداخلي بفداحة الحرب الاستعمارية الأمريكية. لكنها تبدو غير مسبوقة في كونها معادية للصهيونية وللسياسات الأمريكية المساندة لها. لذلك فهي تجلٍ لنجاح صوت عربي فلسطيني يعمل منذ سنوات، تحت ضغط سياسي وأمني وبإمكانيات ضعيفة، للتعريف بالقضية الفلسطينية في الوسط الجامعي. وكذلك هي أحد المكتسبات غير المباشرة لطوفان الأقصى، وما تلاه من صمود للمقاومة المسلحة وشعبها في غزة. 

فيتنام وتعميق التناقضات الداخلية

مطلع العام 1968، شنت القوات المشتركة للجبهة الوطنية لتحرير فيتنام «هجوم تيت» الاستراتيجي، ضد قوات الاحتلال الأمريكي. زعزع الهجوم هيبة الردع الأمريكية، رغم أنه لم يحقق النصر النهائي للحركة الوطنية الفيتنامية. كان تيت منعطفًا، ليس فقط عسكريًا في الصراع، ولكنه فتح أعين العالم على أهوال الاحتلال كذلك. في الولايات المتحدة، دفع الهجوم إلى تطور حركة رفض الحرب، التي أصبحت أكثر صلابةً بعد أن التحقت بها الحركة الطلابية. لمواصلة الحرب، واصلت حكومة ليندون جونسون (الديمقراطية) دعوة الشباب إلى الجبهة، على الرغم من موجة الاحتجاج المتزايدة. وبعد سلسلة من الأزمات وضعف استطلاعات الرأي، انتهى به الأمر بالانسحاب من الحملة الرئاسية لإعادة انتخابه في 31 آذار ذلك العام. في جامعة كولومبيا، كانت هذه السياقات السياسية، إلى جانب التعبئة ضد سياسات الجامعة العنصرية، هي التي دفعت ألف طالب إلى احتلال خمسة مبانٍ جامعية. كان احتلال كولومبيا بمثابة بداية الهبة الطلابية ضد الحرب في فيتنام، والتي بلغت ذروتها في إضراب طلابي في 900 حرم جامعي ومدرسة ثانوية عام 1970. جابهت السلطات الأمريكية انتفاضة جامعة كولومبيا بمزيد من القمع حيث احتل ألف ضابط شرطة الحرم الجامعي واعتقلوا 700 طالب. مما أدى إلى إغلاق الحرم الجامعي لبقية الفصل الدراسي.

كل الزخم العالمي الذي ما زال ينمو حول قضية فلسطين -رغم فداحة الثمن- هو بفضل صمود المقاومة الأسطوري.

في أعقاب «هجوم تيت»، احتفلت الحركة المناهضة للحرب بانسحاب جونسون باعتباره انتصارًا. وقد ازدهرت هذه الحركة سنة 1968 بعد مظاهرة واشنطن في 21 تشرين الأول 1967 التي شارك فيها 100 ألف شخص. فقد أدت مذبحة قرية ماي لاي الفيتنامية، بأوامر من الملازم ويليام كالي، في آذار 1968، إلى تجذر رفض الرأي العام للحرب. وقد تعزز ذلك بإضراب وطني للطلاب الجامعيين وطلاب المدارس الثانوية حشد حوالي مليون شخص في 26 نيسان 1968. لتشهد الحركة المناهضة للحرب تحركات أكثر قوةً وإثارة للإعجاب في عامي 1969 و1970، عندما كثّف ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر القصف ووسعّا نطاقه ليشمل لاوس.

لكن ذروة العصيان الطلابي الأمريكي في مواجهة الحرب بدأت في نيسان 1970، عندما أعلن الرئيس نيكسون أنه أمر بغزو كمبوديا. كان الجزء الشرقي من كمبوديا مليئًا بقوات من الجيش الشعبي الفيتنامي وحلفائهم من الحركة الوطنية للتحرير، الذين استخدموا المنطقة لشن هجمات على فيتنام الجنوبية. في ذلك الوقت، كان أغلب الأميركيين يعتقدون أن حرب فيتنام كانت في طريقها إلى الانتهاء بفضل سياسة «الفتنمة» التي كانت تهدف إلى استبدال القوات القتالية الأميركية بقوات فيتنامية جنوبية أفضل تدريبًا وتجهيزًا. وكانت كمبوديا محايدة وحربها الأهلية مستعرة. في اليوم التالي، وقد صادف عيد العمال، اشتعلت الجامعات الأمريكية غضبًا. شهدت جامعة ولاية كينت تظاهرات يومية رفعت شعار «لماذا لا يزال مبنى تدريب ضباط الاحتياط قائمًا»، في إشارة إلى ثكنة توجد داخل الحرم الجامعي وتتبع للقوات الأمريكية، يتم داخلها تدريب بعض الضباط. لكن مظاهرة الرابع من أيار كانت داميةً، عندما تقدمت قوات الحرس الوطني نحو الربوة التي يتجمع فيها المتظاهرون وأطلقت على النار على الحشد، مما أدى إلى مقتل أربعة وإصابة تسعة طلاب جامعيين. وقامت القوات الأمريكية بالأمر نفسه في كلية جاكسون ستيت في ولاية ميسيسيبي، وهي ذات أغلبية من السود، عندما فتحت النار وقتلت اثنين من الطلاب وأصابت 12 آخرين كانوا في مظاهرة ضد الحرب. وقبل ذلك حدثت مذبحة أكثر قسوةٍ في حرم جامعة ساوث كارولينا، بمقاطعة أورانجبورج، عندما طوّقت مدرعات الجيش الأمريكي وأكثر من 100 من الضباط المدججين بالسلاح الحرم الجامعي، وتمركز 450 آخرون في وسط المدينة. كان حوالي 200 طالب يتجمعون حول نار مشتعلة في حرم الجامعة بعد الفراغ من تجمع احتجاجي ضد الحرب. وبدون سابق إنذار، حطمت فرقعة نيران البنادق سكون الليل. واستمرت أقل من عشر ثوان، مخلفةً ثمانية وعشرين جريحًا وثلاثة قتلى وقد وثقها كل من جودي ريتشاردسون وبيستور كرام في فيلم «العدالة المشوهة: مذبحة أورانجبورج» (2009).

كان صمود المقاومة الفيتنامية وشعبها المحدد الأساسي لمسار الحرب، ولاحقًا الدافع الأول للانسحاب الأمريكي من فيتنام بدءًا من عام 1973. لكن هبة الجامعات الأمريكية ضد السياسات الاستعمارية لبلادها، والتي فتحت الباب واسعًا أمام فئات أخرى من المثقفين والناشطين للانخراط في مناهضة الحرب، شكلت أساس التناقضات الداخلية الأمريكية، والتي كانت أحد أسباب فشل المسعى الأمريكي في فيتنام. فهذه التناقضات الداخلية الثانوية في معسكر العدو، على قدر بالغ من الأهمية في تعميق جراحه، وتعطيل مسعاه المركزي في مواصلة الاحتلال، وبالتالي تعميق تناقضه الرئيسي. وليس أدل عن ذلك من الشعار الذي رفعته حركة السود المناهضة للحرب، الفصيل الأشد جذريةً، وهو «أعيدوا الحرب إلى الوطن!» أي تحويل التناقض الثانوي إلى رئيسي.

كيف نجح الصوت الفلسطيني وما أهمية هذا الكسب؟ 

يعود السبب الأول في نجاح فلسطين في كسب تعبئة غير مسبوقة في الجامعات الأمريكية إلى عدالة قضيتها. فحجم المأساة الإنسانية وجلاء صورة الإبادة المستمرة منذ نصف عام، والمذاعة على الهواء في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، قوية لوحدها بلا حجج ولا دعاية، لتفرض نفسها أمام العالم. ثانيًا، فقد بثّ طوفان الأقصى، وما فعله في العالم من تحول جذري، الروح في قضية فلسطين، التي كان التحالف الغربي-العربي-الإسرائيلي حتى أيلول الماضي يضع اللمسات الأخيرة على قرار تصفيتها نهائيًا. ثالثًا، صمود المقاومة الفلسطينية، الشعبية والمسلحة. ذلك أنه لو هزمت المقاومة خلال الأيام الأولى، لانتهى كل شيء، وربما كنا اليوم نشهد جلسات المنتصرين -«إسرائيل» وحلفائها الغربيين والعرب- يقسمون تركة غزة ويحددون مصيرها. فكل الزخم العالمي الذي ما زال ينمو حول قضية فلسطين -رغم فداحة الثمن- هو بفضل صمود المقاومة الأسطوري. رابعًا، انكشاف هشاشة الحجج الصهيونية وفقدانها لامتياز «قوة الضحية»، الذي سيطرت به على مدى عقود على الذهنية الغربية. خامسًا، العمل الطويل والشاق والمكلف، الذي قامت به أجيال متعاقبة من الحركة الطلابية العربية في الولايات المتحدة على مدى سنوات، رغم الضغوط في مواجهة الصهيونية للتعريف بالقضية الفلسطينية.

لكن السؤال ما أهمية هذا الكسبّ؟ أولًا، إن أي صوت نكسبه إلى جانب قضيتنا سيكون مهمًا في هذا العالم، فضلًا عن أن يكون صوتًا داخل مراكز تكوين النخبة في الولايات المتحدة، البلد الراعي للإبادة الجماعية في غزة بالسلاح والدعم السياسي. ثانيًا، فضلًا عن تعميق التناقضات الداخلية في المجتمع الأمريكي، ستعمق هذه الهبة الطلابية المساندة لفلسطين والمعادية للصهيونية جراح الرئيس بايدن الانتخابية والشعبية، وهذا يجب أن يكون أحد أهداف حركة التضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة لمعاقبة كل المشاركين في الإبادة. فالتعبئة الجارية اليوم في كولومبيا تحمل رمزيةً عاليةً بسبب مكانتها كجامعة نخبوية، وواحدة من ثماني مدارس في رابطة آيفي. تعمل هذه الجامعات الخاصة -ذات الميزانيات المرتفعة، والرسوم الباهظة، ومعدلات القبول الضئيلة في كثير من الأحيان- على تدريب النخبة في البلاد، ولكنها أيضًا مراكز بحثية مهمة وممولة جيدًا. وغالبًا ما يخدم العمل الذي يتم تنفيذه هناك مصالح المجمع الصناعي العسكري الأكاديمي. لذلك، فهي تتلقى تمويلات ضخمة من الشركات الكبرى، الرقمية والعسكرية، فضلًا عن تمويلات من «إسرائيل» نفسها، حيث تلقت حوالي 100 جامعة أمريكية تبرعات أو عقودًا من «إسرائيل» بقيمة إجمالية بلغت 375 مليون دولار على مدى العقدين الماضيين.

ولبيان أهمية ما يجري بالنسبة لفلسطين، لابد من بيان فداحته بالنسبة لمعسكر العدو، حيث وصف رئيس وزراء حكومة الحرب الإسرائيلية انتفاضة الجامعات الأمريكية بالأمر الصادم، الذي يجب أن يتوقف، قائلًا: «استولى حشد من المعادين للسامية على جامعات رائدة. إنهم يدعون إلى تدمير دولة إسرائيل. (…) لحسن الحظ، تصرف المسؤولون المحليون والفيدراليون بشكل مختلف، لكن لا يزال هناك المزيد الذي يجب القيام به».

رغم تراجعها العالمي، ما زالت الولايات المتحدة تقود المعسكر الغربي والعالم، لا فقط سياسيًا وعسكريًا، ولكن ثقافيًا. لذلك، فإن هذه الهبة الجامعية الأمريكية يمكن أن تكون منطلق انتفاضة جامعية عالمية عنوانها الأساسي فلسطين. أو تكون دافعًا للكثير من الجامعات العالمية لاتخاذ إجراءات استباقية لوقف التعامل مع «إسرائيل» درءًا للمشاكل المتوقعة. منذ بداية الحرب، أقرت ثماني جامعات على الأقل في كندا والبرازيل وإيطاليا وبلجيكا والنرويج إجراءات لوقف التعاون مع الجامعات الإسرائيلية بسبب احتجاجات الطلاب وإطار التدريس، وأدت الاحتجاجات إلى مقاطعة جزئية في جامعات أخرى. وبلا شكّ، فإن المقاطعة الأكاديمية واسعة النطاق ستلحق ضررًا جسيمًا بالأكاديميا الإسرائيلية، وبشكل غير مباشر أيضًا بالتكنولوجيا المتقدمة وقطاعات الطب والعلوم التي يعي المتخصصون بأنها لا يمكن أن تطور دون شراكات علمية خارجية. لذلك، فإن حركة المقاطعة الأكاديمية في حقوق العلوم التطبيقية ستكون أكثر فداحة للعدو من أي حركة مقاطعة أخرى في أي مجال، لأنها تضرب مباشرةً ركيزة أي عمل بحثي ذي أهداف تطبيقية تحتاجها حكومة الحرب ومؤسساتها العسكرية.

Leave a Reply

Your email address will not be published.