هذا المقال هو الجزء الثالث والأخير من سلسلة من ثلاثة أجزاء حول قصة الطب في كوبا. لقراءة الجزء الأول: عصر البدايات. الجزء الثاني: الصحة في «الفترة الاستثنائية».
رغم ما حمله عقد التسعينيات من حصار ومصاعب وتحولات كبرى على مستوى الصحة والسياسة في العالم، دخلت كوبا الألفية الجديدة بنظام صحي مجهز بجيش من الكوادر الصحية التي باتت موردًا بشريًا هامًا استثمرت الدولة فيه من أجل التمسك بحق الكوبيين في الصحة مهما كانت الظروف، والالتزام بتصدير الطب خارج الجزيرة. مع مطلع القرن الجديد، كانت كوبا تملك أكثر من 66 ألف طبيب[1] وآلاف المهنيين والعلماء والباحثين في العلوم الطبية.
أخذت قصة الطب في كوبا مع بداية الألفية بعديْن جديدين هامين: أولًا التوسع في البعثات والبرامج الطبية في الخارج، وثانيًا تطور قطاع التكنولوجيا الحيوية وصناعات الدواء بشكل غير مسبوق. أدركت كوبا مبكرًا أن لهذين المجالين ميزات عديدة اكتسباها على طول مسار تطور الطب في الجزيرة وخارجها، وأن الدفع بهما للأمام سيفتح آفاقًا جديدة. إذ سيسمح تصدير الدواء والخدمات الطبية بتحقيق عدة أهداف: من جهة، تأمين مصدر آخر للدخل والدولار يحد من الاعتماد المفرط على السياحة، ويسمح لكوبا بإدارة وجودها في العالم الرأسمالي بما يتوافق مع تكوينها ومبادئها الاشتراكية. ومن جهة أخرى، تصحيح التفاوت في الدخل بين العاملين في المجال الصحي والعاملين في قطاعات أخرى، الذي سبّبه الاقتصاد المزدوج[2] طيلة عقد التسعينيات. ومن جهة ثالثة، مواصلة وتطوير جهود التضامن الأممي مع دول في أمس الحاجة للخدمات الصحية والإغاثية.
لكن هذا التوسع في البعثات الطبية الكوبية لم يكن ليصل لما وصل إليه لولا التحول السياسي في العديد من دول أمريكا اللاتينية في العقدين الماضيين، تحديًدا فنزويلا والبرازيل. فمع صعود اليسار ووصول هوغو تشافيز للحكم في فنزويلا عام 1999، كانت الرعاية الصحية على رأس أولويات هذه الأنظمة التي وعدت بالتنمية وإعادة توزيع الثروة في البلاد. في هذا السياق، ستبرز الحاجة للكوادر الصحية الكوبية. لكن حضور الأطباء الكوبيين في أمريكا اللاتينية وغيرها سيصبح موضوعًا لصراع محتدم بين أنظمة صحية وسياسية مختلفة، وسيكون مدخلًا للمحاولات الأمريكية المستمرة لتضييق الخناق على الجزيرة.
كوبا في الخارج: أنظمة صحية تتصارع
يتمركز غالبية أطباء فنزويلا في العاصمة كاراكاس والمدن الرئيسية الكبرى، وتعاني البلاد، كمعظم دول الجنوب، من نقص حاد في الكوادر والمنشآت الطبية تحديدًا في الأطراف والمناطق الفقيرة. إجمالًا، تقدر منظمة الصحة العالمية حاجة البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل إلى أكثر من 23 مليون عامل صحي إضافي وبناء أكثر من 400 ألف مرفق طبي جديد. قبل وصول تشافيز للسلطة، قلصت السياسات النيوليبرالية موارد الصحة العامة إلى درجة أن 17 من أصل 24 مليون فنزويلي كانوا يفتقرون إلى الوصول المنتظم إلى الرعاية الطبية،[3] وكان أكثر من أربعة ملايين طفل ومراهق يعانون من سوء التغذية. آنذاك، قُدرت حاجة البلاد بأكثر من 20 ألف طبيب لتأمين الرعاية الصحية الأولية في الأرياف والمناطق الفقيرة.[4]
على عكس كوبا، بقي القطاع الخاص في فنزويلا متحكمًا بمفاصل الاقتصاد، مهيمنًا على العديد من القطاعات كالنفط والصحة، لسنوات بعد وصول تشافيز للحكم. في المقابل، كان خروج نصف أطباء كوبا بعد الثورة ضارةً نافعة بحسب الكوبيين، فرغم أن خروجهم سبب صدمة للنظام الصحي، إلا أنهم كانوا سيعطلون بناء النظام الصحي الجديد. من هنا، فإن تجربة فنزويلا مهمة لكونها تعكس مدى هشاشة الحلول الإصلاحية في المنظومة الصحية في ظل تواجد القطاع الخاص كمقدم للخدمة الطبية، يتوسع باستمرار ويعمل بشكل مستقل عن القطاع العام.
في كانون الثاني 2003، دعت إحدى بلديات كاراكاس الكبرى الأطباء الفنزويليين للتقديم لبرنامج صحي أطلق عليه اسم «Barrio Adentro»، أو داخل الحي، بهدف تأسيس عيادات في المناطق الفقيرة والمحرومة من الرعاية الصحية. أمر الاتحاد الطبي الفنزويلي (FMV)، القريب من المعارضة والمهيمن عليه من قبل القطاع الخاص، أعضاءه بمقاطعة البرنامج، فتقدم 50 طبيبًا فنزوليًا فقط.[5] برر الاتحاد موقفه بعدم قدرة الحكومة على ضمان سلامتهم في التلال «حيث يوجد كل أنواع الأشخاص المهمشين».[6] على الفور، ناشد رئيس البلدية السفارة الكوبية للحصول على المساعدة. وبعد أسابيع، بدأ الأطباء الكوبيون بالانخراط في البرنامج الذي سيلاقي ترحيبًا كبيرًا بين الأهالي، وسيتم توسيعه على المستوى الوطني.
رغم أن المشهد بدا صراعًا بين نظامين صحيين إلا أنه في الجوهر كان انعكاسًا لصراع أعمق. يشرح الباحث الأمريكي ستيف براور في كتابه «أطباء ثوريون: كيف تغيّر فنزويلا وكوبا فهم العالم للرعاية الصحية» أن لكلمة «Barrio»، التي تعني الحي حرفيًا، معنى خاصًا في فنزويلا، حيث تشير ضمنًا إلى منطقة كبيرة تتكون من أحياء أصغر يسكنها الفقراء والطبقات العاملة. فأحياء الأغنياء والطبقات الوسطى ليست «باريوهات»، كما يقول.[7] كان يتوقع من الأطباء والكوادر الطبية الفنزويلية ليس تقديم الرعاية الصحية فحسب، بل العيش داخل هذه الأحياء وبين الناس. وحين رفض الأطباء الالتحاق بالبرنامج، بدا الصراع اجتماعيًا طبقيًا أكثر من أي وقت مضى. ينقل براور عن طبيبة فنزويلية تعمل في إحدى عيادات القطاع العام قولها «بالنسبة لهم، العمل في الباريو مسيء. إنهم يفضلون العمل في مستشفى كاراكاس المركزي. يقولون هذا الحي قبيح. إنهم ينظرون إلى الناس هنا على أنهم قذرون وخطيرون وكريهو الرائحة».[8] لذلك، بدأت الكوادر الطبية الكوبية بالتوافد إلى فنزويلا لتعويض النقص الناتج عن عدم رغبة الأطباء الفنزويليين بالعمل في هذه الأحياء.[9]
طبيبات ضمن برنامج «داخل الحي» يجرين زيارات تفقدية للكشف عن الإصابات بكورونا، في كاراكاس، نيسان 2020. تصوير إيفان رييز.
شكّك دوغلاس ليون ناتيرا، رئيس الاتحاد الطبي الفنزويلي، بمؤهلات الأطباء الكوبيين، ووصفهم بأنهم «أطباء مزعومون مدربون على الماركسية اللينينية وشيوعية كاسترو الديكتاتور»، واتهمهم علانية بأنهم «جواسيس» لفيديل وتشافيز. خرجت المجموعات اليمينية للشوارع للمطالبة برحيلهم ملوحة بشعار «كن وطنيًا، اقتل طبيبًا كوبيًا».[10] وفي عام 2004، تعاونت مجموعات كوبية تعيش في ميامي بفلوريدا مع المعارضة الرافضة لوجود الكوبيين في فنزويلا لتشجيع وتسهيل انشقاق الأطباء الكوبيين عن البرنامج عبر منظمة جديدة أطلقت على نفسها اسم «Barrio Afuera» أي خارج الحي.[11]
مشكلة الاتحاد وأطبائه لم تكن وجود الأطباء الكوبيين بحد ذاته، فغالبيتهم يخدمون في الأرياف والمناطق الفقيرة، حيث لا يملك المريض أجر أطباء القطاع الخاص، أي أنهم لم ينافسوا الأطباء الفنزويليين على مرضاهم. المشكلة تكمن في التهديد الذي نشأ مع النهج الطبي الكوبي. ففي فنزويلا، كما بلدان في أخرى، تشمل البرامج الكوبية في الخارج إنشاء برامج[12] لتعليم أطباء جدد من أبناء المناطق التي هي بحاجة ماسة للرعاية الصحية. تقول هيلين يافي، في كتابها «نحن كوبا: كيف صمد شعبٌ ثوري في عالم بعد ــ سوفييتي» إن الكوبيين بنهجهم هذا كانوا يزيلون العوائق المالية والطبقية والعرقية والجنسية والدينية أمام الانضمام إلى مهنة الطب. بالتالي، هدد النهج الكوبي المكانة الاجتماعية والمادية الناتجة عن التكسب من أمراض البشر. وحين بدأ الطلبة الفنزويليون بالتخرج من هذه البرامج عام 2012، شكك الاتحاد الطبي الفنزويلي مجددًا بقدراتهم وطالب بمنعهم من ممارسة المهنة.
لم تكن فنزويلا المثال الوحيد على الدور التخريبي للقطاع الخاص وتعطيله للبرامج العامة التي تستهدف من هم أشد حاجة للرعاية الصحية، ففي كل مكان عمل فيه الكوبيون وكان القطاع الخاص فيه أحد مزودي الخدمة الصحية، وُجد التوتر. حدث ذلك في جنوب أفريقيا، وبوليفيا، وهندوراس، وغواتيمالا، وأخيرًا في البرازيل التي كان الوضع فيها شبيهًا بفنزويلا.
تعاني البرازيل أيضًا من نقص حاد في الكوادر الطبية وخلل كبير في توزيعهم الجغرافي. عام 2012، كان أكثر من 42% من السكان يعيشون في مناطق يخدم فيها أقل من 25 طبيبًا لكل مئة ألف، وهذا بالمناسبة قريب من كثافة الأطباء للسكان في أفريقيا جنوب الصحراء.[13] لذا، طلبت حكومة ديلما روسيف عام 2013 من الأطباء البرازيليين الالتحاق ببرنامج «Mais Médicos» أو «المزيد من الأطباء»، في منطقة الأمازون والأحياء الفقيرة. ورغم أن الحكومة البرازيلية قدمت رواتب تنافسية للالتحاق بالبرنامج، إلا أن المنظمة المهنية للأطباء البرازيليين قاطعت البرنامج وشككت في حاجة البلاد للأطباء أصلًا. لم يتقدم للبرنامج سوى ألف طبيب برازيلي وكانت الحكومة البرازيلية تحتاج أكثر من ذلك بكثير،[14] الأمر الذي دفعها وبالتنسيق مع منظمة الصحة للبلدان الأمريكية (PAHO) التابعة للأمم المتحدة، إلى الإعلان عن الحاجة لأطباء من الخارج لملء هذه الوظائف الشاغرة بعد التدريب الأساسي في الرعاية الأولية والإشراف من جامعة معتمدة.[15] تعاقدت الحكومة مع 17 ألف طبيب كانت غالبيتهم من الكوبيين الذين واجهوا فور وصولهم اعتراضات قانونية من النقابات المهنية وتهديدات وإهانات مختلفة.
كان الكوبيين يزيلون العوائق المالية والطبقية والعرقية والجنسية والدينية أمام الانضمام إلى مهنة الطب. مما هدد المكانة الاجتماعية والمادية الناتجة عن التكسب من أمراض البشر.
تبنى هذان البرنامجان شكلًا جديدًا من العلاقات الاقتصادية المدفوعة بالضرورات الاجتماعية والحاجات المتبادلة. فإذا كانت كل من فنزويلا والبرازيل بحاجة ماسة للبرامج الطبية الكوبية لمعالجة الخلل العميق في قطاع الصحة في البلاد، فإن الكوبيين كانوا بحاجة للنفط والدولار. دفعت فنزويلا تكاليف البرامج الطبية الكوبية بالنفط الفنزويلي الذي تم بيعه لكوبا بأقل من السعر العالمي، وعرف البرنامج باسم «النفط مقابل الأطباء». أما البرازيل، فوفّرت للجزيرة المحاصرة مصدرًا مهمًا للدولار الأمريكي. شكلت عوائد هذا النوع من البرامج شريان حياة أنعش كوبا بعد الأزمة الاقتصادية وخفّف من أثر الحصار، وهو ما دفع الولايات المتحدة لاستهداف هذه البرامج عبر السنوات.[16]
سعت الولايات المتحدة إلى تقويض الصادرات الطبية الكوبية من خلال حث الأطباء الكوبيين على الانشقاق من البرامج مقابل الحصول على الجنسية الأمريكية، بعد أن أطلقت إدارة جورج بوش عام 2006 برنامج «الإفراج الطبي المشروط»[17] الذي صورهم كضحايا للاتجار بالبشر برعاية الدولة. رغم هذه الحوافز، تقول يافي، لم يترك البرامج سوى 2% من مجمل الكوادر الكوبية التي عملت في الخارج بعد أزمة التسعينيات. مع ذلك، كثيرًا ما يتحدث الإعلام الغربي عن نوعين من الأطباء الكوبيين: أطباء أحرار، يجابهون الصعاب ليصلوا شواطئ الولايات المتحدة، أو يرفضون أن يقايضوا علاج الناخبين الفنزويليين الفقراء بتصويتهم لتشافيز ومادورو؛ وأطباء عبيد «يؤجرهم [كاسترو] ويبيعهم ويهديهم ويقرضهم ويستبدلهم بالنفط أو يستخدمهم كذريعة لتبرير ديكتاتوريته».
لم تكتفِ الولايات المتحدة بتحقير الأطباء -العاملين والمنشقين- والتشكيك بقدراتهم العلمية فحسب، بل سعت لضرب أهم برنامجين لكوبا في الخارج، في فنزويلا والبرازيل. عام 2017، شدد ترامب العقوبات المفروضة على فنزويلا منذ بدء رئاسة باراك أوباما الثانية، وفرض حظرًا نفطيًا يمنع شركات العالم من شراء النفط الفنزويلي، كما استولى على أكثر من 5.5 مليار دولار لفنزويلا في حسابات دولية،[18] الأمر الذي شلّ البلاد بالكامل وتسبب بكارثة إنسانية، وقطع إمدادات النفط الفنزويلي عن كوبا بالكامل.[19] وفي نهاية عام 2018، وبعد أن وصل جايير بولسونارو للسلطة في البرازيل، رفض الدفع للحكومة الكوبية مباشرة مقابل برنامج «المزيد من الأطباء»، متهمًا إياها باستغلال الأطباء وواصفًا إياهم بـ«عبيد الديكتاتورية»، الأمر الذي دفع الحكومة الكوبية لسحب الأطباء من البلاد. وبعد شهور من خروجهم، الذي ترك ملايين البرازيليين دون رعاية صحية وفاقم تبعات الوباء، أضافت إدارة ترامب كوبا إلى قائمة الدول التي فشلت في مكافحة «الاتجار بالبشر».
طبيبات كوبيات يتابعن إجراءً لطب الأسنان في عيادة تدريبية في برازيليا، البرازيل، 2018. تصوير إيرالدو بيريز، أ ب.
انساق العديد من الصحفيين والعاملين في مجال حقوق الإنسان مع الاتهامات التي ساقها ترامب وبولسونارو حول وضع الأطباء الكوبيين وأجورهم، بعد أن طالب وزير خارجيته مايك بومبيو الدول المضيفة للبرامج الكوبية بإنهائها لأنها «تنتهك» حقوق الإنسان. لا تكشف الخطابات الحقوقية سرًا حين تؤكد باستمرار على أن الحكومة الكوبية تقاسم الطبيب راتبه في الخارج، أو أن أجور الأطباء قليلة مقارنة بنظرائهم. الأطباء الكوبيين أنفسهم يطالبون بزيادة أجورهم علانية والحكومة تفاوضهم باستمرار.[20] كما أن الحكومة الكوبية لا تخفي أنها لا تسمح لأطبائها بالدخول في عقود منفردة في الخارج، إضافة لوجود عدد من القواعد التي تحكم عملهم هناك. ينقل العديد من الباحثين[21] عن الأطباء الكوبيين الأسباب التي تدفعهم للتقدم للبرامج الخارجية بإرادتهم، والتي تتلخص بالأجر المرتفع مقارنة بما يتلقونه في الداخل، والقدرة على الوصول إلى سلع لا تتوافر في كوبا، والخبرة العملية والمكانة الاجتماعية التي تمنحها الخدمة في الخارج، فضلًا عن الشعور بالواجب تجاه البلد والبشر الذين يقدمون لهم الخدمة الصحية.
إحدى مشاكل الخطابات الحقوقية التي تقدم هؤلاء الأطباء كضحايا تكمن في فهم الأجر، وفي القراءات الرأسمالية التي تحصره بالدخل النقدي، بمعزل عن طبيعة الدولة وما تقدمه على مستوى الأمان والرعاية الاجتماعيين. كما أن تجاهل الحقوقيين الغربيين للحقيقة التاريخية في أن كوبا وأطباءها لديهم القليل، لأن الولايات المتحدة لديها الكثير، يؤدي إلى الحديث عن الأجر كمسألة داخلية مرتبطة بالدولة نفسها، وليست نتاج السياسات الاستعمارية والحصار.[22]
يذهب دخل العديد من البرامج الطبية في كوبا لتأمين الرعاية الصحية وتعزيزها في الداخل، فكما يقول الكوبيون، «ما يأتي من الصحة يذهب للصحة». يحدث هذا في الوقت الذي يزيد فيه متوسط الإنفاق الشخصي في الدول منخفضة الدخل عن 40% من مجمل الإنفاق على الصحة، وتؤدي المدفوعات الشخصية على الصحة إلى دفع أكثر من 100 مليون إنسان إلى الفقر المدقع كل عام. في المقابل، في كوبا، لا يدفع أي كوبي شيئًا على الصحة والتعليم، كما أن المرء في الجزيرة لا يصبح طبيبًا بأموال الوالد أو منصبه، ولا يتخرج وهو وعائلته مشلشلون بالديون. من يجعل الطبيب في كوبا طبيبًا هو الدولة والمجتمع.
منذ حملة ترامب على البرامج الطبية، كثّف الإعلام الغربي ملاحقة الأطباء الكوبيين في الخارج، بحثًا عمّن يكرس سردية كونهم عبيدًا تستغلهم الدولة. تعكس بعض تلك التقارير نفسها أن المعترضين جوهريًا على ظروف عملهم قلة قليلة، مقابل غالبية تعبر عن رضاها وتفهمها للاتفاقات التي تقضي بأن يأخذ الأطباء جزءًا فقط مما تدفعه الدولة المستضيفة. فالأطباء أنفسهم يشرحون أنهم لم يدفعوا شيئًا لقاء دراستهم وتدريبهم، وأن ما تأخذه الحكومة من هذه الاتفاقات يعود لقطاع الصحة في الداخل، وأنه رغم أن رواتبهم تقل عما يتلقاه حملة جنسيات أخرى في الخارج، إلا أنها بالتأكيد أفضل بكثير مما يتلقونه في كوبا، وتشكل نقلة فارقة بالنسبة لهم ولعائلاتهم. لكن كل ذلك لا يذكر سوى ليُهمل في الصحافة الغربية، وتبقى صورة «الطبيب المستغل» هي السائدة، حتى حين ينكرها الأطباء أنفسهم.
عملية المعجزة: «شعب يترك الظلام وراءه»
مع توسع حضور كوبا في أمريكا اللاتينية من بوابة التعاون مع فنزويلا، باتت البرامج الصحية والتعليمية التي انخرط فيها الكوبيون في القارة تقود إلى بعضها البعض. عام 2004، كان المعلمون الكوبيون ينفذون في فنزويلا البرنامج الكوبي لمحو الأمية «Yo, sí puedo» أو «نعم، أنا أستطيع»، الذي طُبق في 30 دولة وعلّم أساسيات القراءة والكتابة لنحو ثمانية ملايين شخص. حينها، اكتشف المعلمون أن العديد من الطلبة يعانون من اعتلالات بصرية تعيق تعلّمهم. في العام نفسه، أطلقت كوبا وفنزويلا برنامجًا طبيًا جراحيًا يسعى لتصحيح أو استعادة بصر هؤلاء الطلبة، ثم توسع البرنامج شيئا فشيئًا ليشمل من يعانون من اعتلالات بصرية تؤثر بشكل مباشر على حياتهم ولا يستطيعون تحمل تكلفة العلاج. كانت هذه بداية «عملية المعجزة» التي أعيد عبرها البصر لملايين البشر.
أدت عملية المعجزة لتصحيح أو استعادة بصر أكثر من أربعة ملايين شخص في 39 دولة، دون أن يدفع المرضى مقابل ذلك قرشًا واحدًا.
في عالمنا 285 مليون شخص يعانون من ضعف متوسط أو شديد في الرؤية، من بينهم أكثر من 39 مليون كفيف،[23] يعيش 90% منهم في دول الجنوب.[24] تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن للتغذية والسيرة المرضية دورًا مهمًا في اعتلالات العين. فنقص فيتامين أ الناجم عن سوء التغذية المزمن عند الأطفال، يمكن أن يسبب عتامة القرنية،[25] وقد يقود السكري وارتفاع ضغط الدم والولادة المبتسرة إلى مجموعة من المشاكل البصرية. لكن الأهم هو أن العديد من هذه المشاكل يمكن الوقاية منها أو عكسها عبر تدخلات جراحية بسيطة. مرض الساد مثلًا الذي قد يتسبب بالعمى يمكن عكسه بعملية جراحية تستغرق 15 دقيقة. تقدر منظمة الصحة العالمية أن 65 مليون شخص ممن أفقدهم الساد بصرهم أو أضعفه يمكن تصحيح رؤيتهم فورًا عبر هذا التدخل الجراحي البسيط. كما يمكن منع تفاقم أو تأخير بعض الاعتلالات المرتبطة بتقدم العمر، مثل الزَرَق، عبر علاجات وتدخلات جراحية فعالة.[26]
خلال السنة الأولى من عملية المعجزة، التي حملت شعار «شعب يترك الظلام وراءه»، أعيد البصر كليًا أو جزئيًا لـ14 ألف فنزويلي نُقلوا إلى كوبا. يقول جون كيرك، أستاذ دراسات أمريكا اللاتينية في جامعة دالهاوسي في كندا، في كتابه «رعاية صحية بلا حدود: نحو فهم الأممية الطبية الكوبية»، إن غالبية المرضى كانوا فقراء، ومعظمهم لم يكونوا قد غادروا مناطقهم قط. تكفلت الحكومة الفنزويلية بنقل المرضى مع مرافقيهم جوًا إلى هافانا، فيما غطت كوبا تكاليف علاجهم وأدويتهم وإقامتهم بالكامل. ومع توسع البرنامج عام 2005 ليشمل مرضى من 15 دولة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بدأت المستشفيات الفنزويلية بالمشاركة بإجراء عمليات تصحيح البصر، بإشراف أطباء كوبيين وفنزويليين.
فريق طبي كوبي يجري عملية لمصاب بالساد من أمريكا اللاتينية في مستشفى باندو فيرير في هافانا. تصوير سفن كروتزمان.
في نهاية العام نفسه، أنشأت كوبا الكلية الكوبية لطب العيون، كلية الدراسات العليا الوحيدة المتخصصة في طب العيون في كل أمريكا اللاتينية. لكن التحول الأهم الذي طرأ على البرنامج كان عام 2006، حين بدأ الكوبيون بتمويل فنزويلي بتأسيس عيادات طب عيون في عدد من بلدان الإقليم ورفدها بالطاقم الطبي المتخصص والتكنولوجيا الحديثة. كان الهدف هو تأمين رعاية مستدامة لطب العيون، نظرًا لأن كثير من الحالات بحاجة إلى رعاية مستمرة، والكثير من الاعتلالات يمكن تداركها ومنع تفاقمها عبر الكشف والإجراء المبكر.
بحلول عام 2017، كانت كوبا قد أنشأت 69 عيادة طب عيون في 15 دولة، تعمل تحت إشراف الأطباء الكوبيين وأطباء محليين دربتهم كوبا عبر السنوات.[27] بين عامي 2004 و2019، أدت عملية المعجزة لتصحيح أو استعادة بصر أكثر من أربعة ملايين شخص في 39 دولة، دون أن يدفع المرضى مقابل ذلك قرشًا واحدًا. كان الرقيب البوليفي ماريو تيران الذي قتل تشي جيفارا عام 1967 واحدًا من هؤلاء المرضى. تقول يانيت موراليس، وهي طبيبة عيون كوبية تعمل في بوليفيا: «نحن جزء من عملية تجلب الشفاء والأمل لبعض أفقر سكان العالم. أن نرى الناس يأتون إلى عهدتنا، وحيدين في الظلام، وأن نعيد إليهم بصرهم، هذا أعظم شعور بالرضى لطبيبة مثلي».
مرضى في طريقهم للخروج بعد إجراء عملية الساد ضمن عملية المعجزة. تصوير سفن كروتزمان.
هنري ريف: الأممية الطبية مقابل سياحة الكوارث
عند كل وباء أو كارثة طبيعية اجتاحتنا خلال العقدين الماضيين، كان النقاش السياسي والأكاديمي يعود ليتحدث عن ضرورة إصلاح نظام الأمن الصحي العالمي وتعزيز قدرات الدول للاستجابة لحالات الطوارئ على المستويين الوطني والعالمي. حدث ذلك عند ظهور السارس في جنوب شرقي آسيا عام 2003، والإيبولا في غرب إفريقيا عام 2014، وفي كل مرة تضرب فيها الأعاصير الولايات المتحدة، فضلًا عن الجائحة الحالية.
أدى العدد المتزايد من الكوارث الطبيعية الناتجة عن تغير المناخ إلى ظهور نمط عام من الاستجابة الدولية يمكن تلخيصه بـ«الكثير من الأموال والجنود، والقليل من الصحة»، إذ يقوم بالغالب على إرسال المساعدات والمنح والقروض، جنبًا إلى جنب مع الجنود، للمناطق المتضررة من الكوارث. صدّرت الولايات المتحدة نفسها كقائدة للعالم في الاستجابة للكوارث رغم أنها فشلت مرارًا بحماية مواطنيها، كما حدث مع إعصار كاترينا وفيروس كورونا المستجد. في المقابل، ورغم ما قدمته كوبا على صعيد الأمن الصحي الوطني والعالمي، وما أظهرته من احترافية عالية للاستجابة للكوارث والأوبئة، إلا أن رؤية كوبا ومنهجها يغيبان دومًا عن هذه النقاشات، كما تقول كلير وينهام، أستاذة السياسة الصحية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، في ورقتها «دور كوبا في الأمن الصحي العالمي».
تقارن موسوعة أكسفورد للصحة العامة العالمية بين استجابة الولايات المتحدة لإعصار كاترينا عام 2005 واستجابة كوبا للأعاصير الأربعة التي ضربت الجزيرة بين عامي 1998-2002. إذ تشير الموسوعة إلى أن الاستجابة الفعالة والسريعة لكوبا تفسر عدد الوفيات القليل جدًا (قرابة 12 شخصًا) الناتج عن هذه الأعاصير، إضافة إلى عوامل أخرى مثل المستويات العالية لمحو الأمية، وتوفير المرافق الأساسية في جميع المناطق الريفية، ونظام الرعاية الصحية الأولية الشاملة سهلة الوصول، والمشاركة المجتمعية القوية. تقول الموسوعة إن هذه العوامل تجعل الحماية تمتد إلى جميع الفئات الاجتماعية، وليس فقط من لديهم موارد شخصية. في المقابل، توضح الموسوعة أن العدد الكبير من الوفيات المرتبطة بإعصار كاترينا (أكثر من 1800 شخص) كان نتيجة أوجه القصور الخطيرة في نظام الصحة العامة الأمريكي، ونقص الحماية للفئات الاجتماعية الأكثر فقرًا وتهميشًا.[28]
حين ضرب إعصار كاترينا لويزيانا ونيو أورلينز وميسيسيبي في الولايات المتحدة، عرض فيديل كاسترو إرسال فريق طبي مكون من 1500 طبيب وكادر صحي وثلاثة مستشفيات ميدانية. حمل الفريق اسم «هنري ريف» تكريمًا لمواطن أمريكي من ولاية نيويورك قاتل مع قوات الاستقلال الكوبية في حرب السنوات العشر (1868–1878) ضد إسبانيا، وقتل نفسه قبل أن يعتقله المستعمرون الإسبان. لم تكتفِ إدارة جورج بوش بعدم الرد على العرض الكوبي رغم حاجة مواطنيها -السود الفقراء تحديدًا- الماسة للمساعدة، بل حذفت كوبا من قائمة الدول التي عرضت المساعدة.[29] بعد شهر من «كاترينا» أعلن فيديل عن تأسيس «الوحدة الدولية للأطباء المتخصصين في حالات الكوارث والأوبئة الخطيرة»، المعروفة باسم لواء «هنري ريف» الطبي.
مؤخرًا، استُقبل أعضاء اللواء بحفاوة في العديد من البلدان التي ضربتها الجائحة. يضم اللواء حاليًا أكثر من سبعة الآف طبيب وعامل طبي مدربين على إجراءات طب الطوارئ ولديهم خبرة واسعة في التصدي للكوارث والأوبئة.[30] ما يميز استجابة الكوبيين عبر هذا اللواء، ليس أنهم أول من يصل وآخر من يغادر البلد المتضرر فحسب، بل أنهم يسعون إلى المساهمة في خلق حلول مستدامة لما بعد الطوارئ في هذه البلدان.
في تشرين الأول 2005، تعرضت كشمير لزلزال مدمر أودى بحياة 80 ألف شخص وخلّف 130 ألف جريح وأكثر من 3.5 مليون مشرد، ودمر الزلزال 80% من المراكز الصحية في المناطق المتضررة. في الوقت الذي أرسلت الدول المساعدات ووعدت بمليارات الدولارات، أرسلت كوبا 30 مستشفى ميدانيًا ضمت 600 سرير وأكثر من 2300 كادر طبي مختص من لواء هنري ريف.
رجل من البشتون يقف أمام مستشفى ميداني كوبي في مخيم مييرا لنازحي الزلزال، تشرين الأول 2006. تصوير بيث والد.
بقي اللواء في كشمير سبعة أشهر، وقدم خدماته الطبية لأكثر من مليون و700 ألف شخص (قرابة 70% من الحالات التي تلقت المساعدة الطبية في جميع أنحاء باكستان بعد الزلزال)،[31] وأجرى آلاف العمليات الجراحية. وبعد أن درب الكوبيون عددًا من الأطباء على استخدام المعدات الطبية المختلفة، تبرعوا بالمستشفيات حتى تتمكن المناطق المتضررة من الحصول على الرعاية الصحية بعد مغادرتهم. إضافة لذلك، نقل الكوبيون العديد من حالات البتر إلى هافانا للعلاج، وقدموا 1000 منحة للطلاب في المناطق الريفية لدراسة الطب في كوبا. وبحلول عام 2015، تخرج 900 طبيب باكستاني من كلية أمريكا اللاتينية للطب وعادوا إلى ديارهم.[32] رغم كل ما قدمته كوبا، بالكاد نجد خبرًا في الإعلام الغربي يتحدث عن دور لواء «هنري ريف» في باكستان.
أدى العدد المتزايد من الكوارث الطبيعية إلى ظهور ما يسميه كيرك «سياحة الكوارث»،[33] حيث يذهب مواطنو الدول الغنية «ليحظوا بتجربة» بدلًا من تقديم مساعدة ذات مغزى للمتضررين. حدث ذلك بشكل جلي في هايتي حين ضربها زلزال مدمر مطلع عام 2010، حيث شاركت 10 آلاف منظمة غير حكومية في عمليات الإنقاذ. وعلى الرغم من نواياهم الحسنة، إلا أنهم أعاقوا «محاولات الإنقاذ الجادة وزادوا الأمور سوءًا»، ورغم أن معظمهم غادر بعد أسابيع قليلة، إلا أنهم حصلوا على قدر هائل من التغطية الإعلامية.
منذ وصول كريستوفر كولمبوس لهايتي عام 1492 حتى يومنا هذا، ابتلي شعبها بالمستعمرين والكوارث الطبيعية. في آخر مئة سنة، تعرضت هايتي، الدولة الأفقر في نصف الكرة الغربي، في كل عقد تقريبًا لكارثة طبيعية من نوع مختلف، كان زلزال 2010 أكثرها مأساوية. قتل الزلزال قرابة 230 ألف شخص وأصاب ربع مليون آخرين، وترك أكثر من مليون ونصف شخص بلا مأوى. على الفور، أرسلت الحكومة الأمريكية 22 ألف جندي نقلوا بالسفن والطائرات المحملة بالمساعدات، إضافة إلى سفينة واحدة تم تخصيصها للرعاية الصحية.[34] استقبلت السفينة المكونة من 1000 سرير 8600 مريض خلال سبعة أسابيع، ثم أدارت ظهرها لهايتي وأبحرت باتجاه الولايات المتحدة.[35] أما «إسرائيل»، فقد وظفت سياحة الكوارث سياسيًا بشكل أكثر احترافية. فقد أرسلت مستشفى ميدانيًا واحدًا، انهمرت عليه المقالات والتعليقات السياسية والتغطيات الإعلامية وحتى الدراسات الطبية التي نقلت للعالم بأشكال مختلفة بطولات الجيش الإسرائيلي وكرمه وتضحياته في هايتي، دون أن يذكر غالبيتها، أن الجنود والأطباء الإسرائيليين غادروا هايتي بعد 10 أيام من وصولهم.
أطباء أمام خيمة طبية كوبية في كروا دي بوكيه في هاييتي بعد أسبوعين على الزلزال، كانون الثاني 2010. تصوير ستان هوندا، أ ف ب.
بقي الجنود الأمريكيون يحمون المستشفيات ويحافظون على النظام العام. وبعد أقل من شهرين، غادرت معظم الفرق الطبية واختفت هايتي من نشرات الأخبار والصحف الغربية. في ذلك الوقت، كان في هايتي 748 طبيبًا كوبيًا وصلوا بعد الزلزال وعملوا إلى جانب 481 طبيبًا هايتيًا تخرجوا من كلية أمريكا اللاتينية للطب في كوبا. انضم هؤلاء إلى 350 كادرًا طبيًا كوبيًا يعملون في هايتي منذ أن ضربها إعصار جورج عام 1998. منذ الإعصار حتى الزلزال، حافظت كوبا على وجود طبي يتراوح بين 300-500 كادر طبي في هايتي، فضلًا عن تدريب مئات الأطباء الهايتيين في كوبا. في المناطق التي عمل فيها الأطباء الكوبيون انخفض معدل وفيات الرضع من 80 لكل 1000 مولود حي عام 1998 إلى 33 عام 2003، وبحلول عام 2007، تلقى الهايتيون مليون جرعة من لقاحات كوبية مختلفة، وبالمجان.[36]
في تشرين الأول 2010، وفي الوقت الذي كان فيه الأطباء الكوبيون يعالجون السكان من آثار الزلزال، تفشى وباء الكوليرا في هايتي. أرسلت كوبا فرقًا طبية جديدة من لواء هنري ريف، وأنشأت مراكز لعلاج الكوليرا ومعالجة الجفاف، وانتقل كوادرها من خيمة لخيمة لإجراء الفحوصات. كما أطلق الكوبيون حملة توعية صحية باللغة الكريولية المحلية، للتقليل من فرص الإصابة بالعدوى، وأجروا حملة تطعيم ضخمة ضد الكزاز شملت 400 ألف شخص بلقاحات كوبية الصنع.
في منتصف عام 2012، أعلنت الحكومة الهايتية، أنه منذ وصولهم للبلاد بعد إعصار جورج، أجرى الأطباء الكوبيون أكثر من 330 ألف عملية جراحية، و140 ألف ولادة، وأنقذوا حياة أكثر من 300 ألف هايتي، وصححوا أو استعادوا بصر 60 ألف شخص عبر برنامج «عملية المعجزة»، كما تخرج 878 طالب طب هايتي من كلية أمريكا اللاتينية للطب في كوبا. وفي نيسان 2020، أرسلت كوبًا فريقًا جديدًا للتصدي لوباء كورونا في البلاد. ذات مرة، اختصر رينيه بريفال رئيس هايتي السابق، أكثر من عقدين من الوجود الطبي الكوبي في البلاد ببضعة كلمات قائلًا: «بالنسبة للهايتيين، الله أولًا، ثم الأطباء الكوبيون».[37]
مصاب بالكوليرا يعالج في مستشفى ميداني كوبي في أركاهاي في هاييتي، تشرين الأول 2010. تصوير نيكولاس كام، أ ف ب.
لكن، رغم كل ما قدمته كوبا في باكستان وهايتي وغيرها من الدول، بقيت كوبا تظهر في الإعلام الغربي من زاوية وضع الأطباء وتدني رواتبهم واستغلالهم من قبل الحكومة الكوبية. لكن، في ليلة وضحاها، وبعد أن ظهرت الإيبولا في غرب أفريقيا (الوباء الذي تصل نسبة الوفاة منه إلى 50% من الإصابات وأحيانًا أكثر)، تحول العبيد فجأة إلى أبطال مخلصين يضحّون بحياتهم للتصدي للوباء القاتل. كما هو معروف، في الأوبئة والجوائح تغيب سياحة الكوارث، فالتجربة هنا قد تكلفك حياتك. وفي كثير منها، تفوق فائدة الكوادر البشرية المدربة أهميةَ الأموال والمساعدات المقدمة للبلدان المتضررة.
بعد أن بدأت حالات الإصابة بالإيبولا بالازدياد وأصيب العديد من العاملين الصحيين، وانتقلت الإصابة إلى بضعة أفراد من الولايات المتحدة وأوروبا، رمت العديد من دول العالم الدولَ المتضررة بالمساعدات والأموال. في أيلول 2014، قالت مارجريت تشان، مديرة منظمة الصحة العالمية آنذاك «إن الأموال والمواد مهمة ولكن هذين الأمرين وحدهما لا يوقفان انتقال فيروس الإيبولا… من الواضح أن الموارد البشرية هي أهم احتياجاتنا».[38] حين فتحت وزارة الصحة الكوبية باب التطوع الطبي لمجابهة الإيبولا في غرب أفريقيا، قالت إنه نظرًا لخطورة الوضع الوبائي، فإن من يذهب قد لا يعود. في غضون أسبوعين، تقدم أكثر من 10 ألف عامل صحي كوبي «للمقامرة بحياتهم»، كما يقول خورخي بيريز، مدير معهد بيدرو كوري للأمراض الاستوائية في هافانا، وأحد أبرز الشخصيات التي ساهمت في التصدي للوباء في العالم.[39]
كانت استجابة كوبا لنداء منظمة الصحة العالمية، أسرع وأوسع استجابة تقدمها دولة للتصدي للوباء على وجه الأرض. اختارت وزارة الصحة الكوبية أكثر من 400 عامل صحي بناءً على خبرتهم السابقة في حالات الأوبئة، وأخضعتهم لتدريب مدته أربعة أسابيع، ثم أرسلت أكبر وحدة طبية من بينهم إلى غينيا وسيراليون وليبيريا، مكونة من 256 شخصًا. أشادت سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة سمانثا باور ووزير خارجيتها جون كيري بالجهود «الرائعة» التي قدمتها كوبا. نظرًا لأن الأطباء الكوبيين عملوا بالتعاون المباشر مع منظمة الصحة العالمية في حملة واحدة، فقد صعّب ذلك مهمة تشويه أو تجاهل دور كوبا هذه المرة. وفي الوقت نفسه، درّب معهد بيدرو كوري بإشراف مباشر من بيريز عشرات الآلاف في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي للتعامل مع الفيروس.[40] كما عقد المعهد برنامجًا تدريبيًا في هافانا لقرابة 300 متخصص في الأمراض المعدية من 34 دولة، بما فيها الولايات المتحدة، وهي المشاركة التي أغضبت الجمهوريين الأمريكيين، الذين يبدو أنهم وجدوا فيها إهانة للإمبراطورية وتاريخها.
ممرضة ومدرِّبة كوبية تغسل يديها في خيمة طبية كوبية لمرضى الإيبولا في سيراليون، أيلول 2014. تصوير ليديرين بيريز، أ ب.
حين رافق بيريز (وهو بالمناسبة، ابن سائق حافلة، درس الطب في كوبا، وابتعثته الدولة ليكمل تعليمه العالي في بريطانيا والولايات المتحدة) وزير الصحة الكوبي إلى جنيف لتنسيق العمل مع منظمة الصحة العالمية، أخبر بيريز مسؤولي المنظمة أن الكوبيين سيبقون لمدة ستة أشهر على الأقل، وكان ردهم، كما تنقل هيلين يافي: «أنت مجنون، لا يمكن لأحد أن يبقى هناك لستة أشهر، إنه خطر كبير. بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع سوف يمرض الأطباء».[41] في الواقع، خلال فترة وجود البعثة الطبية الكوبية في غرب أفريقيا، لم يُصب سوى طبيب كوبي واحد، هو فيليكس بايز، أخصائي الطب الباطني، الذي عمل سابقًا في باكستان ودول أخرى.
أرسلت منظمة الصحة العالمية فيليكس بطائرة خاصة ومجهزة إلى جنيف، باعتباره يعمل ضمن حملة دولية. وعلى الفور، طار بيريز لهناك للاطمئنان عليه والوقوف إلى جانبه. «عندما رأيت خورخي، كان الأمر أشبه برؤية الضوء في نهاية نفق مظلم»، يقول فيليكس. أشرف فريق طبي كوبي-سويسري-بريطاني على حالته، وبعد أيام على إقامته بمستشفى جامعة جنيف، استيقظ فيليكس وأخبر بيريز بأنه سينجو ويعود مجددًا إلى سيراليون. وهذا ما حدث بالفعل.
خورخي بيريز يمينًا وفيليكس بايز يسارًا، عام 2015. من مجلة ميديك ريفيو.
أثناء إقامته في المستشفى، تلقى فيليكس كلمات رائعة من زملائه وأصدقائه وابنه، طالب الطب في حينه، وغطت وسائل الإعلام قصته بشكل واسع. يقول فيليكس كما تنقل يافي، إن التغطية الإعلامية الواسعة لمهمة كوبا في التصدي للفيروس «جعلت البعض يعتقد أننا قمنا بشيء غير عادي، مما يجعلنا أبطالًا»،[42] لكنه يتساءل عن الفرق بينه هو وزملاؤه الذين واجهوا الإيبولا في غرب أفريقيا، وأولئك الكوبيين الذين عملوا في الغابات البرازيلية بمفردهم لشهور وسنوات، أو الذين يعملون في أفريقيا في درجات حرارة تصل إلى 48 درجة.
عام 2017، منحت منظمة الصحة العالمية لواء هنري ريف جائزة «لي جونغ ووك» التذكارية للصحة العامة، تقديرًا للمساعدة الطبية الطارئة التي قدمها اللواء لأكثر من 3.5 مليون شخص في 21 دولة تضررت بالكوارث والأوبئة منذ تأسيسه عام 2005، وتسلم فيليكس الجائزة مع وزير الصحة الكوبي. مؤخرًا، طالبت حملة عالمية تضم أكثر من 35 ألف شخص، بينهم فنانون وأكاديميون ورؤساء دول، بمنح اللواء جائزة نوبل للسلام لهذا العام، لما قدمه من خدمات طبية لملايين الأشخاص حول العالم، منذ تأسيسه وحتى جائحة كورونا الحالية.
عن السيادة ولقاحها
رغم محدودية مواردها وأثر الحصار الأمريكي عليها، لم تتذرع الدولة الكوبية بظروفها الصعبة لترفع يدها وتتخلى عن أدوارها الاجتماعية. على العكس، شكلت كوبا نموذجًا يعكس لأي مدى يمكن أن تكون الدولة عامل تطوير للمجتمع وقوى الإنتاج فيه، في حال امتلكت قرارها السياسي وتحكمت بمواردها، مهما كانت محدودة. ولعل تطور قطاع التكنولوجيا الحيوية في الجزيرة المحاصرة خير دليل على ذلك.
عنى الحصار أن كوبا لن تتمكن من توفير الأدوية واللقاحات اللازمة لشعبها إلا بتطوير معظمها محليًا. كانت الأدوية واللقاحات التي يمكن جلبها، عبر طرق تلتف على العقوبات الأمريكية، مكلفة للغاية. لم يكن أمام كوبا حل إلا بالاستثمار في القطاع، سواء في البنية التحتية أم في إنتاج الكوادر والعلماء، حتى في أصعب ظروف الفترة الاستثنائية. فبعد أن استثمرت كوبا مليار دولار في القطاع في عقد الثمانينيات، استثمرت بين عامي 1990 و1996 مليار دولار آخر (1.5% من ناتجها القومي الإجمالي). الأمر الذي اعتبره عديدون مقامرة من رئيس جزيرة مشكوك في بقائها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ناهيك عن تطويرها قطاعًا يحتاج إلى تمويل وفير.
لم يكن الهدف هو الإنتاج المحلي لما هو متوافر من أدوية ولقاحات في السوق «العالمي» فحسب، بل حل مشاكل الجزيرة ومعالجة أمراضها، حتى وإن تطلب ذلك تطوير لقاحات وأدوية غير موجودة، وبطرق مبتكرة وغير مألوفة بشهادة كثير من العلماء. ولعل أحد أوضح الأمثلة على ذلك تطوير عدة لقاحات علاجية ضد أنواع مختلفة السرطان، من أبرزها لقاح سيمافاكس إي جي إف (Cimavax-EGF) الذي طوره مركز المناعة الجزيئية في هافانا، وتمت الموافقة على استخدامه لأول مرة عام 2008، وأثبت أنه يطيل عمر 15% من مرضى سرطان الرئة لخمس سنوات أو أكثر.
اختيار اسم «سيادة» للقاح كورونا يعبر عن كونه نتاج مسار طويل وصعب امتلكت فيه الجزيرة مصيرها وتحكمت فيه بمواردها، وسخّرتها من أجل تنمية عادلة ومنتجة.
السرطان هو المسبب الأول للوفاة تحت سن الخامسة والستين في كوبا، والثاني فوق سن الخامسة والستين، بعد أمراض القلب. من هذه الناحية، يعد الملف الصحي لكوبا أقرب للدول الغنية، التي يميزها انتشار الأمراض المزمنة أكثر من الأمراض المعدية. إلا أن هناك فرقًا، فبحسب منظمة الصحة العالمية، 23% من حالات السرطان في الدول النامية تسببها الأمراض المعدية والجراثيم المعوية والفيروسات الحليمية البشرية، مقابل 8% فقط في الدول المتطورة. لذلك، كان على كوبا أن تبحث في علاج السرطان بشكل مختلف عن تلك الدول. المجال الذي ركزت فيه كوبا بحثها كان العلاجات المناعية، التي كانت تعتبر في الغرب خيارًا مستبعدًا ولا يتوقع نجاحه، بالتالي لم تُستثمر مليارات الدولارات في تطويره.[43]
قادت سنوات من دراسة الأورام السرطانية إلى اكتشاف كوبي مهم: هناك بروتين ينتجه الجسم يسمى عامل نمو البشرة (EGF)، تحتاجه الخلايا السرطانية للتكاثر والانتشار.[44] فورًا، بدأ التفكير بطريقة لمحاربة البروتين في الجسم من أجل «تجويع» الورم، ومنعه من إلحاق الضرر بأعضاء الجسم. اتجه العلماء نحو توظيف الجهاز المناعي لمهاجمة البروتين وتقليل وجوده، لكن العقبة الأساسية كانت أن البروتين عنصر طبيعي في الجسم. من أجل دفع المناعة للتعرف على الـEGF بوصفه عنصرًا دخيلًا، وبالتالي مهاجمته، وظّف العلماء الهندسة الحيوية لربط البروتين بجزء من البكتيريا المسببة للالتهاب السحايا ب (التي طور الكوبيون أول لقاح في العالم ضدها عام 1985)، لتصبح غريبة على الجسم. شكّل هذا المركب العنصر الفعّال في لقاح سيمافاكس، الذي أثبت قدرته على كبح انتشار أورام الرئة.[45]
يقول سيمون ريد-هنري في كتابه «العلاج الكوبي: المنطق والمقاومة في العِلم العالمي» إنه رغم احتمالات الفشل العالية لمقاربة العلاجات المناعية، كان لها أفضلية أنها، إن نجحت، فستتطلب جرعات أقل، وسيكون تطويرها أقل كلفة. لكنها ستكون كذلك ذات مخاطر مالية، ولن توفر عوائد من عمليات العلاج الطويلة، مما جعلها نقيض ما تبحث عنه شركات الأدوية العالمية. لذلك، فإن هذه المقاربة للعلاجات المناعية كانت ممكنة في كوبا أكثر من غيرها من الأماكن لأن العلم في كوبا يقع خارج نموذج الجدوى والقابلية للتطبيق الذي يسيطر على بحوث السرطان في الغرب. لم تكن العلاجات المناعية في كوبا تُرى بوصفها حلًا تقنيًا علميًا للسرطان، لأن الكوبيين لم يكونوا يبحثون عن «حل» موضعي أو نهائي، بل كانوا في عملهم حول الـEGF يبحثون عن طريقة لمساعدة الجسم على مساعدة نفسه.
كما حدث مع الأطباء في الخارج، قوبل قطاع التكنولوجيا الحيوية الكوبي بالتشكيك والاستخفاف، فكيف يمكن لدولة فقيرة محاصرة أن تبتكر ما عجزت كبرى شركات الأدوية في الدول العظمى عن تطويره؟ تجيب كانديس جونسون، رئيسة معهد روزويل بارك الأمريكي لبحوث السرطان، في مقابلة حديثة، بأن العلماء الكوبيين «كان عليهم أن يستخدموا عقولهم»، في غياب أجهزة المختبرات باهظة الثمن، والتي يمنع دخول كثير منها كوبا. منذ 2014، يتعاون معهد روزويل بارك مع مركز المناعة الجزيئية الكوبي على اختبار لقاح سيمافاكس في الولايات المتحدة من أجل اعتماده وتوفيره للمرضى الأمريكيين. تقول جونسون إن العلماء الكوبيين لم يقلّوا صرامة والتزامًا بالمعايير العلمية عن أقرانهم في الولايات المتحدة، بل كانوا «بعض ألمع وأشد العلماء الذين حظيت بفرصة العمل معهم ابتكارًا».
الأمر الآخر الذي ساهم في هذا الاختراق الكوبي هو أن مؤسسات القطاع تعمل وفق مبدأ «الدورة المغلقة»، بحيث تقوم كل مؤسسة بالعملية كاملة، من البحث إلى التطوير ما قبل السريري إلى التجارب إلى التصنيع وثم التسويق. يضمن هذا المبدأ ألا تدخل الابتكارات الكوبية في ما يسمى وادي الموت في سوق صناعة الدوائيات، حيث تقتل معظم الأفكار والبحوث بعد خروجها من المختبر، ولا تكمل طريقها لإنتاج علاجات فعالة، لأسباب مرتبطة بالمخاطر والتكلفة والعائد وغيرها. فضلًا عن ذلك، فإن المؤسسات المختلفة تنسق بشكل مستمر بينها وتعمل بشكل متكامل، تحت مظلة واحدة هي «بيو كوبا فارما»، وهي أشبه بشركة قابضة مملوكة للدولة، تضم 38 شركة و60 منشأة صناعية يعمل فيها 22 ألف شخص، حوالي ثلثهم علماء ومهندسون. بحلول عام 2017، كانت بيو كوبا فارما تصدّر الأدوية إلى قرابة 50 دولة، ولديها أكثر من 2000 براءة اختراع منحت في الخارج.[46]
مبنى مركز الهندسة الجينية والتنكولوجيا الحيوية (CIGB) في هافانا، التابع لبيو كوبا فارما.
اليوم، يعِد اللقاح العلاجي سيمافاكس بأن يكون له أثر وقائي من سرطان الرئة، بحسب جونسون، وهو أمر إن تحقق فقد يغير بالكامل النظرة العلمية لبحوث السرطان، وآفاق القضاء عليه. لذا، قد لا يكون مستغربًا أن الإعلام الأمريكي لم يعد قادرًا على التعتيم على الإنجازات الكوبية، حتى وإن كانت لا تزال تستدعي دهشته. تقول جونسون إنه بالنظر للتكنولوجيا التي طورها الكوبيون لإنتاج لقاح سيمافاكس، ليس غريبًا أن يكون لدى الكوبيين اليوم أربعة لقاحات ضد كوفيد-19 يجري اختبارها، أبرزها لقاح «Soberana 2»، أو «سيادة 2».
في الوقت الذي استحوذت فيه عشرة دول على ثلاثة أرباع اللقاحات المنتجة عالميًا حتى منتصف شباط، كانت كوبا تنتج لقاحاتها التي ستتوفر مجانًا لسكانها. دخل لقاح «سيادة 2» المرحلة الثالثة والأخيرة من التجارب السريرية، التي تشمل تطعيم 44 ألف شخص في كوبا، فيما بدأ التطعيم ضمن هذه التجارب في إيران أيضًا، وتدرس المكسيك المشاركة فيها. يقول العلماء إنه في حال سارت التجارب على ما يرام، يمكن تطعيم جميع سكان كوبا الأحد عشر مليونًا قبل نهاية العام. فيما يستمر العمل على اللقاحات الثلاثة الأخرى، «سيادة 1»، و«عبد الله» الذي سمي على اسم قصيدة لبطل الاستقلال الكوبي خوسيه مارتي، و«مامبيسا» وهو اسم يطلق على المقاتلين الكوبيين في حرب الاستقلال عن الإسبان.
لعل اختيار اسم «سيادة» لهذا اللقاح يعبر عن كونه نتاج مسار طويل وصعب امتلكت فيه الجزيرة مصيرها وتحكمت فيه بمواردها، وسخّرتها من أجل تنمية عادلة ومنتجة. كانت الاشتراكية بخصوصيتها الكوبية الضامن لهذه السيادة، فقد وفرت الحماية للمجتمع والدولة من الانصهار في السوق، داخليًا ودوليًا. ما تعلمنا إياه كوبا هو أن السيادة ليست معطى تلقائيًا للدول، ولا شعارًا يردده السياسيون في المناسبات الوطنية، بل كانت مكتسبًا انتزعه الكوبيون ودفعوا الأثمان الباهظة للمحافظة عليه، وهو ما جعل كل إنجازاتهم ممكنة. العديد من دول الجنوب أخذت خلال العقود الأربعة الماضية مسارًا معاكسًا لمسار التنمية الكوبية هذا. أدى تسييل الأصول العامة، وضعف الاستثمار في الموارد البشرية، والتخلي عن الزراعة والإنتاج، والخضوع لآليات السوق، إلى سلب هذه الدول سيادتها، ودفع الناس ثمن ذلك من صحتهم وتعليمهم وأمنهم الاجتماعي.
ليست التجربة الكوبية لغزًا بحاجة إلى تفكيك، المسألة بوضوح هي أن كوبا امتلكت قرارها ووجهت مواردها لخدمة شعبها وحمايته والنهوض به. لا شك أن التجربة لم تكن وردية، بل على العكس، كانت صعبة ومريرة وهي كذلك لليوم،[47] لكن البديل هو الخضوع للهيمنة الإمبريالية ونزف موارد البلد والتخلي عن الناس وإفقارهم وتجهيلهم. لسنا بحاجة لخيال واسع لتصور مصير كوبا لو فرّطت بسيادتها؛ ها نحن نعيش في قلبه.
-
الهوامش
[1] طبيب واحد لكل 169 شخص.
[2] قبل الانفتاح، كان كل موظفي البلد تقريبًا يعملون لصالح الدولة التي تسيطر على الاقتصاد بالكامل. في بداية التسعينيات فتحت بعض القطاعات للاستثمار الخاص، وسمح بتداول الدولار إلى جانب العملة المحلية.
[3] Healthcare without Borders: Understanding Cuban Medical Internationalism, John Kirk, University Press of Florida, 2015, p. 190.
[4] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World,Helen Yaffe, Yale University Press publications, 2020, p. 162.
[5] Ibid. p. 160-161.
[6] Healthcare without Borders: Understanding Cuban Medical Internationalism, John Kirk, University Press of Florida, 2015, p. 189.
[7] Revolutionary Doctors: How Venezuela and Cuba Are Changing the World’s Conception of Health Care, Steve Brouwer, Monthly Review, New york, 2011, p. 83.
[8] Ibid. p 84.
[9] في نهاية عام 2003 كان هناك قرابة 10 آلاف موظف طبي كوبي في فنزويلا، غالبيتهم أطباء وأكثر من نصفهم من النساء، عاشوا في الأحياء التي عملوا فيها وقدموا رعاية صحية مجانية وكانوا متاحين للتشاور على مدى 24 ساعة. المصدر السابق.
[10] Ibid. p 164.
[11] Ibid. p 171-172.
[12] برنامج الطب المجتمعي الشامل (Medicina Integral Comunitaria) هو برنامج تدريسي-تدريبي مدته ست سنوات يليه برنامج إقامة لمدة سنتين، ويسمح للطلبة منذ السنة الأولى بمرافقة الأطباء الكوبيين في العيادات والمستشفيات، بالتوازي مع الفصول الدراسية في قاعات ومباني خاصة قريبة من مجتمعاتهم. كانت كوبا قد بدأت بتطبيق برنامج «الطب المجتمعي الشامل» في أجزاء من كوبا منذ عام 2004، ثم طبقته في فنزويلا ودول أخرى مثل غامبيا وتيمور الشرقية وغيرهما.
Healthcare without Borders: Understanding Cuban Medical Internationalism,John Kirk, University Press of Florida, 2015, p. 199-202.
[13] Impact of the Programa Mais médicos (more doctors Programme) on primary care doctor supply and amenable mortality: quasi-experimental study of 5565 Brazilian municipalities,Thomas Hone and others, BMC Health Services Research, 2020.
[14] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World, Helen Yaffe, Yale University Press publications, 2020, p. 171.
[15] Impact of the Programa Mais médicos (more doctors Programme) on primary care doctor supply and amenable mortality: quasi-experimental study of 5565 Brazilian municipalities,Thomas Hone and others, BMC Health Services Research, 2020.
[16] بعد الأزمة وخلال الألفينات استمرت كوبا بتقديم مساعدتها المجانية لعشرات الدول. عام 2017، تقول هيلين يافي، كان الأطباء الكوبيون في 62 دولة. 27 دولة من هؤلاء لم تدفع الحكومة المضيفة شيئًا، بينما دفعت الدول المتبقية حسب مقياس غير ثابت، مرتبط بوضع الدول وقدرتها. كما أن كل الخدمات الطبية التي يقدمها لواء هنري ريف المختص في الكوارث والأوبئة، لا تدفع مقابلها البلدان المتضررة شيئًا.
[17] أبقى باراك أوباما على البرنامج حتى الأيام الأخيرة من رئاسته، قبل أن يلغيه ويعاود ترامب إقراره مجددًا بعد أشهر من رئاسته. ومن الجدير بالذكر، أنه في اليوم الذي ألغى به أوباما البرنامج، ألغى معه ما يعرف بسياسة «قدم رطبة-قدم جافة» التي أقرتها الولايات المتحدة في التسعينيات حين كان الشعب الكوبي يعاني من الأزمة الاقتصادية والحصار المفروض عليهم من قبلها. بموجب السياسة، منحت الولايات المتحدة حق الإقامة الدائمة بعد عام ويوم من وصول أي كوبي يهرب بحرًا من كوبا بشرط أن تطأ قدمه شواطئ الولايات المتحدة، فيما تعيد من يلقى القبض عليه بالبحر إلى كوبا. لم يرجع ترمب هذه السياسة الإمبريالية، توددًا للأمريكيين الكوبيين المحافظين (الذين صوتوا لترمب بعد أن وعدهم بتضييق الخناق أكثر على شعبهم في الجزيرة) وتوافقًا مع سياساته بخصوص المهاجرين.
[18] بعد أن جمدت الولايات المتحدة أموال فنزويلا في المصارف الخارجية، بدأت بتخصيص جزء من الأموال المصادرة لدفع رواتب بعض العاملين في القطاع الصحي وأعضاء مجلس النواب المحسوبين على المعارضة الفنزويلية، الذي يقول زعيم المعارضة غواديو إن مادورو قطع عنهم رواتبهم، على أن يتم صرف الأموال للنواب والكوادر الصحية بالتنسيق مع غواديو وبإشراف مباشر منه.
[19] يحاجج العديد من أصحاب الخط الإنساني في الصحف الأمريكية أن الاقتصاد الفنزويلي يعاني أصلًا من أزمة هبوط أسعار النفط منذ سنوات، لتبرير الأثر الكارثي للحصار الأمريكي على صحة الفنزويليين وحياتهم. لا يمكن لأي أزمة اقتصادية «طبيعية» أن تتسبب بمقتل أكثر من 40 ألف شخصًا بين عامين 2017-2018 وتحرم أكثر من 300 ألف فنزويلي من الأدوية بما فيها أدوية غسيل الكلى والسرطانات والإيدز، كما يقدر الاقتصاديين الأمريكيين جيفري ساكس ومارك وايسبروت. من المهم أن نتذكر أنه حين وصل تشافيز للسلطة كانت أسعار النفط تسجل أدنى سعرًا لها منذ 22 عامًا، ومع هذا نمى الاقتصاد بشكل متسارع قبل أن يتعرض لصدمة كبيرة على إثر الإضراب الذي قادته المعارضة في قطاع النفط عام 2002، والذي أدخل الاقتصاد بأزمة عميقة. كما أن الأزمة المالية 2007-2008 سببت تباطؤ في النمو وزيادة في التضخم وأثار عديدة، لكن أثرها لا يقارن بالأثر الذي يتركه الحصار على البلاد منذ عام 2017. هبوط النفط يؤثر كثيرًا على الاقتصاد الفنزويلي غير الإنتاجي لكنه لا يصنع كارثة. فنزويلا ليست إيران التي تنتج معظم احتياجاتها الأساسية في الداخل وحجم وارداتها لا يقارن بفنزويلا. يدرك الأمريكيون أن الحصار النفطي على فنزويلا، وحرمانهم من العملات الأجنبية، يعني عمليًا قطع إمدادات الحياة من أدوية وغذاء عن البلاد، و هذا ما يسبب الكارثة الحالية.
[20] حصل أخصائيو الرعاية الصحية في كوبا على زيادات في الرواتب تتراوح بين ضعفين وثلاثة أضعاف ما قبل زيادة الرواتب الممنوحة في تموز 2019.
[21] Sarah Blue, Helen Yaffe, John Kirk.
[22] عام 2018، قدّر التقرير السنوي للحكومة الكوبية إلى الأمم المتحدة تكلفة الحصار الأمريكي على مدى ستة عقود بـ 134 مليار دولار أمريكي بأسعار اليوم. تقدر كوبا تكلفة الحصار عليها بـ12 مليون دولار أمريكي في اليوم.
[23] تعود هذه النسب والأرقام إلى عام 2010، حين أجرت منظمة الصحة العالمية تقريرها الجديد عن الإبصار في العالم، شملت كل من هم يعانون من مشاكل بصرية بكل أنواعها وقد بلغ عددهم أكثر من ملياري مصاب.
[24] Healthcare without Borders: Understanding Cuban Medical Internationalism, John Kirk, University Press of Florida, 2015, p. 116.
[25] مجموعة من الاعتلالات تؤدي إلى تندب القرنية أو تغيُّمها.
[26] تقدر منظمة الصحة العالمية أن مليون شخص في العالم مصابون بحالات ضعف البصر المتوسط أو الوخيم أو بفقد البصر بفعل الزَرَق، واعتلال الشبكية السكري، والرمد الحُبيبي، من الممكن تفاديها برعاية صحية وإجراءات فنية مختلفة.
[27] كل عيادة من هذه العيادات تتكون من :أخصائي طب العيون، طبيب تخدير، أخصائي إكلينيكي، طاقم تمريض، فني بصريات، صيدلي، أخصائي مختبر، أخصائي وبائيات.
[28] Oxford Textbook of Global Public Health, Roger Detels and others, Oxford University Press, 2015, p. 211-212.
[29] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World, Helen Yaffe, Yale University Press publications, 2020, p. 164.
[30] يطلب من كل فرد من أفراد اللواء حضور دورة تدريبية مدتها 315 ساعة تختص في الزلازل والأعاصير والانفجارات البركانية والكوارث الصحية بأنواعها. إضافة إلى دورات خاصة بأنواع معينة من الجوائح كما حدث بالإيبولا. ويوزع الكادر الطبي حسب تخصصاتهم إلى ثلاث أقسام داخل اللواء، ولكل قسم مسؤولياته الخاصة أثناء الاستجابة الميدانية وحسب طبيعة الكارثة.
[31] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World,Helen Yaffe, Yale University Press publications, 2020, p. 166.
[32] Ibid. p. 167.
[33] Healthcare without Borders: Understanding Cuban Medical Internationalism, John Kirk, University Press of Florida, 2015, p. 136-137.
[34] Ibid. p. 221.
[35] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World, Helen Yaffe, Yale University Press publications, 2020, p. 166.
[36] Healthcare without Borders: Understanding Cuban Medical Internationalism, John Kirk, University Press of Florida, 2015, p. 211-215.
[37] Ibid. p. 209.
[38] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World, Helen Yaffe, Yale University Press publications, 2020, p. 147.
[39] Ibid. p. 148.
[40] قام الكوبيون بتدريب قرابة 13 ألف شخص في 28 دولة في أفريقيا و66 ألف شخص في أمريكا اللاتينية و 620 شخص في منطقة البحر الكاريبي.
Cuban Health Care :The Ongoing Revolution, Don Fitz, Monthly Review Press, 2020, p. 11.
[41] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World, Helen Yaffe, Yale University Press publications,2020, p. 146.
[42] Ibid. p. 150.
[43] The Cuban Cure :Reason and Resistance in Global Science, S. M. Reid-Henry, The University of Chicago Press, 2010, p. 110.
[44] تمتلك أسطح الخلايا السرطانية عددًا أكبر من مستقبلات بروتين الـEGF مما هو موجود في الخلايا السليمة، مما يجعل حرمانها من البروتين يؤثر مباشرة على قدرتها على التكاثر، وهو ما يحد قدرتها على إصابة أعضاء الجسم.
[45] The Cuban Cure :Reason and Resistance in Global Science,S. M. Reid-Henry,The University of Chicago Press, 2010, p. 113-116.
[46] We Are Cuba: How a Revolutionary People Have Survived in a Post-Soviet World,Helen Yaffe, Yale University Press publications,2020, p. 141.
[47] إلى جانب الأثر الكبير الذي تركته الجائحة على اقتصاد كوبا، خاصة قطاع السياحة فيه، عزز ترامب حصاره بـ60 قرارًا اقتصاديًا في العامين السابقين، استهدفت تحويلات الدولار الشخصية إلى كوبا، وصناعة السياحة، وإمدادات النفط، والاستثمارات الأجنبية والبرامج الصحية في الخارج.