حتى بداية الأسبوع الماضي، كانت شاشة الحجوزات في شركة السياحة المجتمعية الصغيرة التي تديرها منى حداد مضيئة تمامًا بدون أي بقعة خالية لشهري آذار ونيسان. «ما بين حجوزات الغرف، والتجارب السياحية، وزيارات اليوم الواحد، كنت تتغلّب حتى تلاقي حجز فاضي»، تقول حداد، التي يتبع لشركتها نُزُل صغير في أم قيس وآخر في طبقة فحل شمالًا.
عندما وصلت أزمة فيروس كورونا المستجد إلى أوروبا وبدأ الوضع في إيطاليا بالتفاقم، بدأ التوجس والقلق في القطاع السياحي، لكن الأمور تسارعت بشكل لم يكن أحد منهم ليتصوّره. وما بين قرار الحكومة يوم الثلاثاء 10 آذار منع القادمين من ألمانيا وإسبانيا وفرنسا من الدخول إلى الأردن، إلى إعلانها مساء السبت 14 آذار تعليق جميع الرحلات الجوية إلى المملكة حتى إشعار آخر، انهمر شلّال إلغاء الحجوزات. «ما كنت مستوعبة لسّا حجم اللي عم بصير»، تقول حداد.
«هذه كانت رح تكون سنتنا، كنّا رح نجني ثمار كل اللي اشتغلنا عليه طوال الثلاث سنوات الماضية»، تقول حداد. «ومش بس إحنا، كل السياحة في الأردن. آخر ثلاث أربع سنين صار في شغل كتير منظّم على هذا القطاع، الأردن صار عليها كتير طلب، صارت على أغلفة أهم مجلات السفر والسياحة بالعالم، تغيّر الخطاب، بطّلنا مضطرين نشرح الوضع الأمني في المنطقة وبطّلنا دفاعيين، حطّينا صورة جديدة للأردن».
منذ الخريف الماضي، تزايدت التصريحات التي تتنبأ بموسم سياحي قوي في 2020، بعد نمو الدخل السياحي في العام السابق، بل إن وزيرة السياحة والآثار مجد الشويكة ذهبت إلى حد القول إن «السياحة هي نفط الأردن»، وأن «كل دينار يصرف على الترويج السياحي يقابله 100 دينار دخل». لتعلن مطلع العام الحالي عن «استثمارات سياحية كبيرة» في منتجعات في جنوب الأردن، في الوقت الذي كانت هيئة تنشيط السياحة تعدّ فيه استراتيجيتها للسنوات الثلاث المقبلة، للبناء على الزيادة في عدد السياح في الفترة الماضية واستهداف أسواق جديدة، خاصة الخليجية.
وبحسب المؤشرات الرسمية، ارتفع مجموع الدخل السياحي في الأردن عام 2019 بنسبة 25% عن عام 2017، من 3.293 مليار دينار إلى 4.108 مليار دينار، وارتفع عدد العاملين في مختلف الأنشطة السياحية بنسبة 4.1% بين نفس العامين، ليصل إلى أكثر من 53 ألف شخص، غالبيتهم اليوم يقفون عاجزين أمام أزمة شلّت قطاع السياحة في العالم كلّه ودون أدنى فكرة عن المدّة التي سيحتاجها ليتعافى.
يقول محمد القاسم، المتحدث باسم جمعية الفنادق الأردنية، إن نسبة إلغاء الحجوزات في الفنادق وحدها تعدّت 90%، بينما يؤكد محمد سميح، رئيس جمعية وكلاء السياحة والسفر، لحبر إلغاء الحجوزات بنسبة 100% عن طريق المكاتب السياحية لشهري آذار ونيسان في قطاع يوظف نحو ثمانية آلاف شخص، بحسبه.
الدليل السياحي علاء خليل يقول إن العمل في قطاع السياحة كان جيدًا خلال العامين الماضيين إذ عمل مع عدد من المكاتب وحصل على يومية تتراوح بين 80-100 دينار. وفي المواسم السياحية النشطة (آذار ونيسان وتشرين الأول) كان يعمل ما معدّله 20 يومًا في الشهر في مناطق سياحية مختلفة في البتراء جنوبًا وعجلون وجرش وأم قيس شمالًا وغيرها لمجموعات قادمة من دول أوروبية ومن الولايات المتحدة الأميركية.
لكن عمل خليل توقف بالكامل بعد إلغاء السياح حجوزاتهم في آذار ونيسان 2020، مما دفعه للتواصل مع المدرسة الخاصة التي يدرس فيها ابنه وبنته ليخبرهم أنه لن يستطيع دفع الأقساط حاليًا. «شغلنا بشهر خمسة على الورق موجود لكن على أرض الواقع ما بنعرف لسا».
عقب اجتماع لفريق حماية الاقتصاد الوطني في مركز إدارة الأزمات ظهر اليوم الأربعاء، أعلن وزير المالية، محمد العسعس، ووزير الصناعة والتجارة، طارق الحمّوري، ووزيرة الطاقة والثروة المعدنية هالة زواتي عن حزمة إجراءات تهدف للتخفيف من حدّة الأزمة على قطاعات مختلفة، أهمّها ما يتعلّق بحماية الموظفين في القطاعات الأكثر تضررًا ومنها السياحة، السماح للعاملين المجازين بدون راتب التقدم بطلبات صرف بدل التعطل عن العمل في حال توافر شروط الاستحقاق المنصوص عليها في القانون.
وشملت الإجراءات كذلك بالنسبة للفنادق عدم استيفاء تعرفة الحمل الأقصى للطاقة الكهربائية بدءًا من تاريخه وحتى نهاية حزيران 2020، إضافة إلى إجراءات لجميع مؤسسات القطاع الخاص منها إمكانية تقسيط اشتراكات الضمان المتأخرة بدون فوائد، وإمكانية استثناء الموظفين من تأمين الشيخوخة لمدّة ثلاثة شهور مما يقلل نسبة الاقتطاع المترتبة على المؤسسة.
وقالت الشويكة في تصريح لـ«حبر» إن «حزمة القرارات التي صدرت من الحكومة تعد حوافز أخذت بعين الاعتبار القطاع الحيوي الذي سيكون أكثر تأثرًا، ونحن على تواصل مباشر مع القطاع الخاص». وأضافت أنها لا تعتقد بأن القطاع السياحي يمكن أن يعود هذا العام بنفس حيوية العام الماضي «لكن على الأقل بس نخلص من الأزمة يكونوا جاهزين يرجعوا على نفس الوتيرة التي كنا فيها بالسابق».
إغلاقات مجهولة الأمد
في أحد فنادق وسط البلد في عمّان من فئة الثلاث نجوم، توقفت الحياة تمامًا. منذ افتتاحه قبل نحو خمس سنوات اعتاد الفندق استقبال حوالي ستين زائرًا يوميًا. لكن، بعد القرار الحكومي بتعليق حركة الطيران، ضمن جهود احتواء ومنع انتشار فيروس كورونا المستجد، انخفضت حجوزات الفندق إلى الصفر، وأعلن الإغلاق المؤقت وتعطيل موظفيه البالغ عددهم 15 موظفًا، بحسب سيف* (32 عامًا)، الذي يعمل طاهيًا في الفندق منذ عامين.
«بعد أزمة كورونا ما في سياحة»، يقول سيف، متأملًا قاعة الطعام الفارغة. يبلغ راتب سيف 300 دينار، وتعمل زوجته في الفندق نفسه في قسم التنظيف براتب 300 دينار كذلك، ولديهما طفلان في سن المدرسة، ويسكنان في شقة في إحدى مناطق عمان الشرقية إيجارها 200 دينار شهريًا.
سيحصل سيف وزوجته على آخر راتب في شهر آذار، وبعدها سيتوقف صرف راتبيهما لحين انتهاء الأزمة، بحسب قوله، وهو لا يعلم كيف سيعيل عائلته مع هذا الوضع، إذ بالكاد كان قادرًا على توفير مستلزماتهم قبلها.
قرار مجلس الوزراء الأخير بتعطيل القطاعين العام والخاص (مع استثناءات محددة)، ترافق مع قرار لوزارة العمل يقضي بمنع حرمان موظفي القطاع الخاص من رواتبهم أو تسريحهم من العمل بسبب الأزمة، واستحقاق العاملين أجرهم كاملًا خلال العطلة الممتدة من 18 آذار وحتى أسبوعين، ومن ثم 50% من الراتب إذا استمر التعطيل بعد ذلك وبحد أقصى 60 يومًا. إلا أن منى حداد ترى صعوبة في تطبيق القرار: «السنة كلها راحت، ما في دخل، ما رح نقدر نأمّن رواتب، وبتمنى إذا تم تطبيق القرار إنه الضمان الاجتماعي يدخل ويساعد في تغطية الرواتب»، خاصة وأن الكثير من الفنادق اضطرت لإعادة المبالغ المدفوعة مسبقًا للأشخاص الذين ألغوا حجوزاتهم، بحسب حداد.
يعمل في الشركة السياحية التي تديرها حداد 15 شخصًا، وبسبب الشراكات مع عدد كبير من الأشخاص في أم قيس من خلال تقديم الخدمات والمواد الغذائية للنزل أو تنظيم التجارب السياحية، يستفيد نحو 130 آخرين بشكل مباشر وغير مباشر، تعتقد حداد أنهم تضرروا بعد اضطرارها لإغلاق النزل ووقف جميع الأنشطة. «73% من دخلنا كان يبقى في أم قيس»، تقول حداد، لافتةً إلى أن آخر راتب ستتمكن من منحه لموظفيها هو لشهر آذار الحالي إلى حين انتهاء الأزمة. وإضافة إلى التعويل على تدخل الضمان الاجتماعي، تأمل حداد أن تقوم الحكومة بإعفاء الشركات من ضريبة المبيعات عن الشهرين الماضيين للمساعدة على تخفيف الضرر.
الناطق باسم وزارة العمل غيداء العواملة أوضحت لحبر أن على الموظفين المتضررين تقديم شكواهم لوزارة العمل، لافتةً إلى أن 70 شكوى وردت للوزارة بعدم التزام مؤسسات في القطاع الخاص بقرار الحكومة إذ أجبرت مؤسسات موظفيها على العمل وأنهت أخرى خدماتهم كما لم توفر مؤسسات أدوات سلامة وأخرى استمرت بالعمل في نظام البصمة.
لكن بعض موظفي الفنادق الصغيرة لا يلومون أصحاب العمل على عدم قدرتهم على الاستمرار بدفع الرواتب، منهم أسماء* (25 عامًا) التي خسرت عملها الذي حصلت عليه قبل ثلاثة أشهر كموظفة استقبال في نزل في وادي موسى جنوبي الأردن، إذ انخفضت نسبة الحجوزات في النزل الذي افتتح قبل ستة أشهر إلى صفر. وكان أغلب السياح الذين يقطنون النزل من الدول الأكثر تأثّرًا بالفيروس؛ إيطاليا وإسبانيا، وكذلك بعض الدول الآسيوية. إدارة النزل قررت توفير رواتب الموظفين لشهر آذار ومن ثم منحهم إجازات دون راتب، وهو ما تراه أسماء مفهومًا بعد انعدام دخل النزل. ولن تستفيد أسماء من راتب التعطّل عن العمل في هذه الحالة لأن الشروط المتمثلة بأن يكون لدى المؤمن عليه في الضمان فترة اشتراك لا تقل عن 36 اشتراكًا لا تنطبق عليها لأن هذه هي وظيفتها الأولى.
يقول مدير عام فندق في عمّان من فئة خمسة نجوم -فضل عدم ذكر اسمه- إن خسائر الفندق المتوقعة ربع مليون دينار شهري بعد إلغاء الحجوزات وإغلاق الفندق الذي يعمل فيه 300 موظف أردني، ويحاول الالتزام بقانون العمل وتحمل عبء رواتب الموظفين لمدة ثلاثة أشهر لكنّه بعد ذلك قد يلجأ لتفاهم مع موظفيه بتسليم نصف راتب إن استمرت الأزمة، ويطالب بدعم حكومي لقطاع السياحة. وحاولت حبر التواصل معه مجددًا بعد صدور القرارات الحكومية الأخيرة لمعرفة تأثيرها على القرارات المتعلقة بالموظفين لكن لم نتمكن من الوصول إليه.
محاولات للاحتواء
مع خلو الفنادق شبه التام من زوارها، لجأت الحكومة إلى اتفاق مع أكثر من 30 فندقا في عمّان والبحر الميت والعقبة لاستخدامها كمراكز للحجر الصحّي لمدّة 14 يوما لـ4892 مسافر عادوا يومي الإثنين والثلاثاء إلى الأردن قبل تعليق الرحلات الجوية، بحسب الموجز الإعلامي الحكومي. وبحسب تصريح وزيرة السياحة والآثار مجد الشويكة لـ«حبر»، تبلغ كلفة الشخص الواحد في هذه الفنادق ما بين 50 إلى 55 ديناراً يوميًا، بما مجموعه من 3.5 إلى 4 ملايين دينار «ماكل شارب نايم كلّه محسوب».
وفي الأردن أكثر من 600 منشأة فندقية يعمل فيها أكثر من 20 ألفًا، بحسب إحصائيات وزارة السياحة لعام 2019.
أمين عام وزارة السياحة عماد حجازين قال إن الوزارة اتخذت إجراءات لمواجهة الكورونا وفق تعليمات رئاسة الوزراء بإغلاق مراكز الزوار والمواقع الأثرية والمتاحف منذ ليلة السبت وتعقيمها، وإغلاق المسابح والنوادي الرياضية ومرافق أخرى مثل النوادي الليلية حتى إشعار آخر. وأضاف أن الوزارة وهيئة تنشيط السياحة تشاركان في جميع اللجان الحكومية وتعمل فرقها ضمن مسارين، الأول لمتابعة الأثر المترتب على قطاع السياحة ومتابعة تراجع أعداد الزوار والحجوزات، وفي المسار الثاني النظر في جاهزية القطاع بعد انتهاء الأزمة.
«ما بنعرف كم رح نصمد لإنه هاي الكارثة مش معروفلها نهاية»، يقول رئيس جمعية وكلاء السياحة والسفر محمد سميح، خاصّة وأن هناك نحو 1400 دليل سياحي سيتوقف عملهم، بحسبه.
وفي تعليقه على القرارات المالية والاقتصادية الأخيرة، اعتبر محمد القاسم الحزم المقدَّمة ممتاز، شاكرًا الحكومة «على تجاوبها السريع، لأنه في كلف تشغيلية لآخر الشهر أهمها الرواتب فأي سيولة تتوفر بتساعد بالحفاظ على الموظفين ودفع رواتبهم، ونتوقع إنه يكون في إجراءات إضافية مساندة بالمستقبل».
«قطاع السياحة متشعّب جدًا ويرتبط به قطاعات فرعية كثيرة»، تقول حداد، التي تتّفق مع جميع الإجراءات الحكومية المتخذة لمواجهة الأزمة وترى أنها جميعها ضرورية. «الكل كان متوقع يكسب لإنه هاد موسمنا لكن صار في كارثة عالمية والوضع مُرّ ع الجميع».
*تم تغيير الأسماء بناءً على طلب أصحابها
تنويه: ذكر التقرير سابقًا أن عدد الأشخاص في الحجر الصحي في الفنادق أكثر من ستة آلاف شخص، ومن ثم قمنا بتصحيحها إلى «قرابة ستة آلاف»، بناءً على تصريح مدير التوجيه المعنوي الناطق باسم القوّات المسلحة. لكن الموجز الإعلامي الحكومي ليوم الخميس 19 آذار ذكر أن العدد النهائي للمحجور عليهم في الفنادق هو 4892 شخصًا، وعليه تم التصحيح.