بعد ليلة طويلة من الخوف والانتظار، جاء البيان الرسمي لحزب الله أمس ليقع كالصدمة على قلوب الملايين في لبنان والمنطقة، مؤكدًا استشهاد أمينه العام السيد حسن نصر الله، بعد 32 عامًا قضاها في منصبه، شهدت سلسلة من المحطات والمراحل التاريخية التي كان فيها الشهيد شخصية مركزية، وصولًا إلى الحرب على غزة، التي كان فتح جبهتها اللبنانية محطته الأخيرة.
في بيانه، قال حزب الله إن السيد التحق برفاقه الشهداء «الذين قاد مسيرتهم نحوًا من ثلاثين عامًا، قادهم فيها من نصر إلى نصر مستخلفًا سيد شهداء المقاومة الإسلامية [عباس الموسوي] عام 1992 حتى تحرير لبنان 2000 وإلى النصر الإلهي المؤزّر 2006 وسائر معارك الشرف والفداء، وصولًا إلى معركة الإسناد والبطولة دعمًا لفلسطين وغزة والشعب الفلسطيني المظلوم».
في فلسطين، توالت البيانات الصادرة عن حركات المقاومة وفصائلها المسلحة في نعي الشهيد. إذ قالت حماس في بيان لها إن الشهيد ارتقى «في معركة طوفان الأقصى وعلى طريق القدس، وإسناد شعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة في مواجهة العدو الصهيوني»، مستذكرة سيرته ومواقفه وإصراره على مواصلة جبهة الإسناد. كما أصدرت قيادة كتائب الشهيد عز الدين القسام بيانًا ودّعت فيه «قائدًا مجاهدًا تصدر قائمة المطلوبين للكيان الصهيوني وانتقل حزب الله خلال فترة قيادته نقلةً نوعيةً وأصبح أكثر قوةً وبأسًا، كما شكلت قيادته للحزب رافعةً مهمةً للعلاقة مع المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها كتائب القسام».
وفي كلمة متلفزة، أضاف نائب رئيس حركة حماس وعضو مكتبها السياسي، خليل الحية، أن دماء الشهيد «تمتزج مع دماء الشهيد القائد هنية ودماء الشهيد القائد صالح العاروري رحمهم الله جميعًا، ودماء عشرات الآلاف من شهداء فلسطين ولبنان ودماء شهداء الأمة»، وإن أبناء الحركة الذين خبروا إخوتهم في حزب الله «واثقون من قدرتهم على سرعة ترتيب صفوفهم والاستمرار على ذات النهج الذي سار به سماحة السيد حسن نصر الله، ولن يفلح العدو الصهيوني في خلق أي فراغ في مؤسساته القيادية».
أما حركة الجهاد الإسلامي، فقالت في بيانها «إننا إذ نشعر بألم الفراق ومرارته، وبفداحة فقدان هامة عربية وإسلامية مقاومة، اختطت طريق النصر للأمة، فإننا في الوقت ذاته نشعر بالفخر بإرثه المبارك بعشرات الآلاف من المجاهدين والكوادر والقادة الذين تربوا على نهج سماحته»، وإن «قامة عملاقة بحجم سماحة السيد حسن لا يليق بها سوى الشهادة على طريق القدس». كما صرح أمينها العام زياد النخالة بأن «المقاومة الفلسطينية وهي تودع سماحة السيد حسن نصر الله تدرك أنها فقدت سندًا كبيرًا لها ولمسيرتها طوال حياته»، التي أمضاها «وفلسطين تسكن قلبه وعقله».
كذلك، قالت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيان لها إن «فلسطين ولبنان والأمة جمعاء، بل والحركة التحررية العالمية بأسرها، فقدت قائدًا استثنائيًا ورمزًا من رموز المقاومة العربية والثورية في العالم»، تجاوز تأثيره الساحة اللبنانية «ليصبح رمزًا للمقاومة في المنطقة بأسرها، وقائدًا محوريًا في دعم فصائل المقاومة الفلسطينية، مقدمًا لها كل ما تحتاجه من دعم لوجستي، وتدريبات عسكرية، وأسلحة».
ونعت قيادة لجان المقاومة الشعبية في فلسطين وذراعها العسكري ألوية الناصر صلاح الدين «درة المقاومة»، مضيفة أن «الاغتيالات في تاريخ صراعنا الطويل مع كيان الإجرام والإرهاب والإبادة الجماعية الصهيونية [أثبتت] أنها لا تحسم المعارك ولا تحقق انتصارات استراتيجية بل يكون مردودها على نفوس وعقول وإرادة المقاتلين عكسيًا وتورث في نفوسهم الثأر والتحدي واستكمال الدرب على نفس النهج والطريق».
وفي اليمن، قال قائد حركة أنصار الله، السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، في خطاب متلفز إن استشهاد السيد حسن «خسارة للأمة الإسلامية كلها»، وإنه «كان نجمًا مضيئا في سماء المجاهدين». وأضاف أنه رغم حجم التضحيات، فإن جبهات الإسناد لن تتوقف، وأن اليمن «لن يخذل الشعبين الفلسطيني واللبناني ورفاق درب المجاهدين في لبنان وفلسطين». وصرح الناطق الرسمي باسم الحركة، محمد عبد السلام، إن السيد الشهيد قد تحول «من قائد فذ لأعظم حركة تحرر في العالم إلى قائد الشهداء على طريق القدس».
أما في العراق الذي أعلنت حكومته الحداد لثلاثة أيام، فنعى الأمين العام للمقاومة الإسلامية فيه، أكرم الكعبي، «يوسفَ المقاومة وسيد شهدائها»، مضيفًا «أن ما خبرناه وجربناه مع حزب الله منذ سنوات طويلة أنه يمتلك من الخبرات والكوادر الكثير والكثير، بل إن ارتقاء الشهداء السعداء على أعلى المستويات لن يثنيه أو يكسره بل سيزيده إصرارًا وتماسكًا وعنفوانًا».
وفي إيران، نعى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي الخامنئي، الشهيد قائلًا إن «العالم الإسلامي فقد شخصية عظيمة، وفقدت جبهة المقاومة رافعَ رايةٍ بارز، وفقد حزب الله في لبنان قائدًا قلّ نظيره، لكنّ بركات تدبيره وجهاده على مرّ عشرات الأعوام لن تنتهي أبدًا.. إذ لم يكن سيّد المقاومة مجرّد شخص، بل كان نهجًا ومدرسة، وهذا النهج سيستمرّ»، معلنًا الحداد العام لخمسة أيام في إيران. كذلك نعى الرئيس مسعود بزشكيان الشهيد قائلًا إن إيران «تقف حكومةً وشعبًا إلى جانب المقاومة»، مضيفًا أن «العالم لن ينسى أنّ قرار تنفيذ الهجوم الإرهابي صدر من نيويورك، وواشنطن لا يمكنها التنصل من التواطؤ مع الصهاينة».
وكان الشهيد قد قضى في غارة إسرائيلية يوم الجمعة على الضاحية الجنوبية لبيروت، أسقط جيش الاحتلال فيها أكثر من 80 قنبلة أمريكية تزن كل منها قرابة طن من المتفجرات على عدة مجمعات سكنية. ولم تتضح بعد الحصيلة النهائية للشهداء، مع استمرار فرق الدفاع المدني والإسعاف في رفع الأنقاض بعدما انهار بشكل كامل ما لا يقل عن 4 أبنية. وتواصلت يوم السبت الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان والبقاع، لتعلن وزارة الصحة اللبنانية عن ارتقاء ما لا يقل عن 33 شهيدًا وإصابة 195 أمس.
وعقب تأكيد حزب الله لاستشهاد أمينه العام، خرجت مسيرات عفوية بين من بقوا في الضاحية الجنوبية، تعالت فيها الصيحات وسط حالة من الذهول والحزن والغضب. وفي شمال غزة، أقيمت وقفة منددة بالاغتيال وجهت التحية «للشعب اللبناني الذي وقف مع مقاومتنا في غزة ضد الظلم والعدوان والاضطهاد». وأعلنت جنين ومخيمها الإضراب حدادًا على الشهيد، فيما خرجت مسيرات منددة بالاغتيال في كل من نابلس، ورام الله، وعمان، وبغداد، والمنامة، وتونس، وطهران، وصولًا إلى إسطنبول وإسلام أباد وكشمير وسيدني.
هول الحدث لم يوقف عمليات المقاومة اللبنانية، حيث أعلن الإعلام الحربي لحزب الله أمس عن ثمان عمليات شملت مستوطنات كابري وساعر وروش بينا ومتسوفا ومعالوت وكتسرين، إضافة لقاعدة ومطار رامات ديفيد وتحركًا لجنود الاحتلال في موقع الصدح. كما أعلنت المقاومة الاسلامية في العراق عن استهداف إيلات بالطيران المسيّر. فيما استهدفت القوات المسلحة اليمنية مطار بن غوريون بصاروخ بالستي من نوع «فلسطين 2»، أثناء وصول نتنياهو إليه عائدًا من نيويورك. ونقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية سقوط صاروخ قالت إنه أطلق من لبنان في مستوطنة بنيامين، فضلًا عن سماع دوي الانفجارات في كل من نهاريا وإيلات.
وفيما سادت حالة من النشوة تصريحات المسؤولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام العبرية، بعدما أسماه وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت «إحدى أهم عمليات الاغتيال في تاريخ إسرائيل»، قالت ناطقة عسكرية باسم جيش الاحتلال إن «نصر الله اختار الانضمام للحرب في الثامن من أكتوبر وبهذا اختار مصيره». ونقلت قناة إن بي سي الأمريكية عن مسؤول إسرائيلي لم تسمّه إن «إسرائيل» اتخذت قرار الاغتيال بعدما خلصت إلى أنه لن يقبل بأي حل دبلوماسي لوقف القتال في شمال فلسطين المحتلة دون وقف الحرب على غزة. وقال إن «ما استنتجناه بعد أكثر من 11 شهرًا هو أن نصر الله مصرّ على ربط نفسه بغزة.. ما قادنا لإدراك أنه لا يمكن أن يبقى جزءًا من اللعبة»، واصفًا المجزرة التي وقعت في الضاحية الجنوبية بـ«الضربة شديدة الدقة».
هذا «الربط» بغزة كان آخر ما أكد عليه الشهيد نصر الله، حين صرح في خطابه الأخير، عقب مجزرة تفجير آلاف أجهزة «البيجر» والأجهزة اللاسلكية في لبنان، إن الهدف منها هو «فصل الجبهتين وتوقف الجبهة اللبنانية»، ليرد: «أيًا تكن التضحيات، أيًا تكن العواقب، أيًا تكن الاحتمالات، أيًا يكن الأفق الذي تذهب إليه المنطقة، المقاومة في لبنان لن تتوقف عن دعم ومساندة أهل غزة وأهل الضفة والمظلومين في تلك الأرض المقدسة».