متحررًا من ملابس الرهبنةِ، استند الأب باتريك رايان إلى قاعدة السرير الخلفية، يتمتم مقاطع قصيرة من الكتاب المُقدس. كان الهلعُ على وجهه بقعًا من الحُمرة، والوجل بين أصابعه رجفٌ خفيف. أما قلبه فقد غمره يقينٌ بحلول المُصاب جعله يبتسم حين سمع الطرق القوي على باب شقته الصغيرة في بروكسل، وحين فتح الباب انهمر سيل من رجال الشرطة يصوبون بنادقهم نحوه. لم يرفع يديه عاليًا. لم يتكلم. وحين تقدم منه قائد المجموعة أمسك بصليبه الصغير وأخفاه تحت القميص. وبينما كان ينزل الدرجَ مغلولًا بالحديد، كان الصليب يهتزُ ملامسًا أعلى صدره. وكلما لمسه شعر ببرودة المعدن تمده بدفقٍ عجيبٍ من الطاقة، ثم غرِقَ في صمت مديد.
قبلها بشهرين، في الأول من أيار 1988، قُتل ثلاثة من العسكريين البريطانيين خارج الخدمة في هولندا. حامت الشكوك حول الجيش الجمهوري الأيرلندي، وتشابكت أجهزة الأمن الأوروبية على قلبٍ واحدٍ للإيقاع بالفاعل، لتصل إليه في الثلاثين من حزيران. لقد كان الأب باتريك رايان، الراهب الثوري، الذي تبين أنه عقل العقول داخل وحدة العمليات الخاصة للمنظمة الثورية الأيرلندية. وفي شقة بروكسل صادرت الشرطة كمية من معدات صنع القنابل والأدلة ومبلغًا كبيرًا من العملات الأجنبية.
في بلدة روس مور الصغيرة التابعة لمقاطعة تيبراري وُلِد رايان عام 1930، في عائلة كثيرة العدد، تشتغل بالزراعة. ومنذ طفولته تشرّب ميلًا نحو القومية الأيرلندية من والدته المتحمسة لاستقلال أيرلندا عن الإنجليز. وبعد الدراسة في كلية بالوتين في ثورليس رُسّم عام 1954 كاهنًا، ليلتحق بالبعثة الكنسية الكاثوليكية في أبرشية مبولو في تنزانيا. أُعجب رايان بالحياة في الشرق الإفريقي، ولم يكن حافلًا بالوعظ بقدر ما كان مهتمًا بمساعدة الناس على حفر آبار المياه والمساهمة في بناء العيادات للمجتمعات المحلية وكان ينوي الاستقرار هناك لبقية حياته.
لكن فيما كان يقضي ما تبقى من إجازته في روس مور صيف العام 1969، اندلعت أعمال العنف مجددًا في أيرلندا، بين القوميين الكاثوليك الذين أرادوا أن تصبح أيرلندا الشمالية جزءًا من جمهورية أيرلندا والاتحاديين البروتستانت الذين أرادوا أن تظل جزءًا من المملكة المتحدة، والتي قمعها الجيش البريطاني بقوةٍ. في 24 آب 1969 اجتمع في أندرسونستاون، إحدى ضواحي بلفاست، العديد من مؤيدي إعادة تسليح المنظمة الجيش الجمهوري سرًا، سواء من المحاربين القدامى أو المتطوعين الجدد، وكان أغلبهم من أقصى اليسار، وقرروا المضي في نهج الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإنجليزي. وسط هذا الجو المفعم بروح التحرر وجد الأب رايان نفسه منجذبًا للانخراط في حرب التحرير. «شيء ما انطلق ولا يمكن لأي قوة إيقافه»، هكذا وصف رايان ما جرى، قائلًا :«اقترب مني بعض قادة الجيش الجمهوري الأيرلندي وعرضوا عليّ ما إذا كان بإمكاني العمل معهم، وقد فعلت ذلك».
رغم وهن الجسد ما زال في عينيه بريق النمور، في بلدة روس مور الصغيرة لا يزال الأب باتريك رايان يعيش غير نادمٍ. وبين لحظة ولوج الحرب والخروج منها قضى حوالي ثلاثة عقودٍ في الصراع والعمل المسلح وبين جدران السجون، لم يكن ضنينًا بأن يحكي تفاصيلها للصحافية جينيفر أوريلي، التي وثقت قصته المثيرة في كتابها «الأب الروحي: القصة الحقيقية للكاهن الأيرلندي الذي سلّح الجيش الجمهوري الأيرلندي بأموال القذافي».
الراهب المسلّح
مستفيدًا من غطاء طوقه الكهنوتي، كان الأب باتريك رايان السفير الأمثل للجيش الجمهوري في الخارج، فقد كانت مهمته الأساسية تأمين المال والسلاح لاستمرار الكفاح والاتصال مع عناصر المنظمة في أوروبا، بسبب وضعه الخاص الذي يمنحه مساحة حركة واسعة بعيدًا عن مراقبة أجهزة المخابرات.
ورغم إقامته الرسمية في إسبانيا، فقد كان المشرف على الحسابات المصرفية السرية للجيش في سويسرا. وهناك، اكتشف بطريق الصدفة فاعلية مؤقت التذكير، الذي يستعمل عادةً في تذكير المستخدم بأشياء مثل مُهل ركن السيارات. وبعد شراء الجهاز تمكن من إعادة تصميمه ليصبح مؤقت تفجير أكثر موثوقية. كان رايان على علم بأن صانعي القنابل في أيرلندا الشمالية يواجهون مشاكل بسبب انفجار بعضها قبل الأوان. أصبحت هذه الأجهزة بعد ذلك علامة مميزة لهجمات الجيش الجمهوري الأيرلندي، حيث تم العثور على شظاياها في كمين وارينبوينت عام 1979 الذي قتل خلاله 18 جنديًا بريطانيًا. بالإضافة إلى تفجير الغرفة 629 في فندق برايتون عام 1984 الذي كان يستهدف اغتيال رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، وأودى بحياة خمسة أشخاص بينهم عضو البرلمان نورمان تيبيت، فيما أصيبت زوجته مارغريت بالشلل وأصيب 34 آخرون.
مستفيدًا من غطاء طوقه الكهنوتي، كان الأب باتريك رايان السفير الأمثل للجيش الجمهوري في الخارج، فقد كانت مهمته الأساسية تأمين المال والسلاح لاستمرار الكفاح والاتصال مع عناصر المنظمة في أوروبا.
تزامنت عودة الكفاح المسلح الأيرلندي مع سقوط الملكية في ليبيا، وصعود العقيد معمر القذافي إلى السلطة. منذ اليوم الأول لحكمه طالب «مجلس قيادة الثورة في ليبيا» القوات البريطانية والأمريكية المتواجدة في البلاد بالجلاء التام وهو ما حدث بعد شهورٍ قليلةٍ، وأدى -إلى جانب عوامل أخرى- إلى توتر العلاقات بين ليبيا وبريطانيا. في المقابل، بدأت طرابلس بنسج علاقاتٍ مع حركات تحررية كثيرةٍ في العالم، بينها الجيش الجمهوري الأيرلندي. كان الأب باتريك رايان، عنصر الاتصال بين المنظمة الثورية الأيرلندية والمخابرات الليبية، ضمن علاقةٍ بلغت أوجها منتصف الثمانينيات، عندما دخل القذافي في حربٍ مباشرةٍ مع الغرب، كانت سمتها الأساسية عمليات تخريبية في مناطق متفرقةٍ من أوروبا، ثم الرد العسكري الذي نفذته القوات الجوية الأمريكية ضد طرابلس في «عملية إلدورادو كانيون»، في 15 نيسان 1986.
كان معمر القذافي ينظر إلى عناصر الجيش الجمهوري الأيرلندي باعتبارهم «رفاق سلاح يقاتلون الإمبريالية البريطانية»، وعلى مدى عقدٍ من الزمن نقل الأب رايان ملايين الجنيهات من طرابلس إلى حسابات المنظمة في سويسرا، فضلًا عن الأسلحة والمعدات اللوجستية والوثائق. وقد ساعد الدعم الليبي في الحفاظ على قوة الجيش الجمهوري الأيرلندي واستدامة عمله. وأظهرت وثائق الأرشيفات الوطنية الأيرلندية، التي رفعت عليها السرية في نهاية العام 2022، حجم الدعم الكبير الذي قدمه القذافي للجيش الجمهوري، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. وتوضح الوثائق كمية الأسلحة التي قدمها الليبيون للجيش الجمهوري الأيرلندي في عدة شحنات سرية من عام 1973 حتى أواخر عام 1987.
تضمنت الشحنات مجتمعة 1450 بندقية كلاشينكوف أوتوماتيكية، و66 مدفع رشاش، و180 مسدسًا نصف آلي، و26 قاذفة قنابل صاروخية، و10 صواريخ أرض-جو، و765 قنبلة يدوية، ونحو ستة آلاف كيلوغرام من مادة سيمتكس المتفجرة، وأكثر من ألف صاعق، ونحو 1.5 مليون طلقة ذخيرة، فضلًا عن عدة قاذفات لهب. وانتهت شحنات الأسلحة السرية في تشرين الأول 1987، عندما تمكنت المخابرات العسكرية الفرنسية من اعتراض كميات كبيرة من الأسلحة والمواد الحربية التي أخفاها طاقم السفينة إم في إكسوند الأيرلندية. ولكن الليبيين استمروا في تمويل الجيش الجمهوري سرًا، وبحلول عام 1992 كانت طرابلس قد قدمت للمنظمة الأيرلندية أكثر من 12.6 مليون دولار نقدًا، أي ما يعادل نحو 45 مليون دولار بأسعار اليوم، فضلًا عن المئات من متطوعي الجيش الجمهوري الذين سافروا إلى ليبيا وتلقوا تدريبات على حرب العصابات.
وخلال النصف الثاني من عقد السبعينيات، ربطت بين الجيش الجمهوري والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين علاقات قوية، كان الأب رايان جزءًا منها، بوصفه فاعلًا أساسيًا في نشاط المنظمة الأوروبي، لا سيما مع شبكات الجبهة وحلفائها في القارة. وقد شملت العلاقات تدريب متطوعي الجيش الجمهوري في قواعد الفدائيين بلبنان، ومحاولاتٍ للتسليح والدعم اللوجستي. لكن الدعم تراجع على نحو كبير منذ منتصف الثمانينيات. وبحلول أواخر ثمانينيات القرن انكشفت هوية ونشاط الأب باتريك رايان لدى الاستخبارات البريطانية، وصار «الرجل الأخطر في المملكة المتحدة» كما وصفته تاتشر. وبمجرد أن وصل بروكسل عام 1988، نبه البريطانيون نظراءهم البلجيكيين إلى مكان وجوده.
سنوات الوقيعة
في بلجيكا رفض رايان ترحيله إلى لندن، مفضلًا الموت على مواجهة محكمة بريطانية لأنه يعتقد أن الشعب الأيرلندي لا يمكنه أبدًا الحصول على العدالة من خلال النظام القانوني الاستعماري البريطاني. كما رفضت السلطات البلجيكية جميع طلبات المملكة المتحدة بتسليمه، وبدلًا من ذلك رحّلته إلى جمهورية أيرلندا.
في بريطانيا، ثارت ثائرة الجدل حول المسألة بعد نشر رسالة في صحيفة الغارديان بتاريخ السابع من كانون الأول 1988 من دبلوماسي بريطاني يتهم تاتشر «بالمعايير المزدوجة بشأن الإرهاب لإصرارها على تسليم رايان بينما فشلت في متابعة تسليم أعضاء فريق كوفنتري الأربعة من جنوب إفريقيا قبل أربع سنوات»، الذين هرّبوا عام 1984 أسلحة من بريطانيا إلى جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري، في انتهاك لحظر الأسلحة الإلزامي الذي فرضته الأمم المتحدة. جاء هذا الجدل في صالح رايان، بعد أن أعلنت الحكومة الأيرلندية عن أن فرصه في الحصول على محاكمة عادلة في بريطانيا قد تضررت بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب التقارير التي نشرتها الصحافة البريطانية والتصريحات التي أدلى بها نواب في البرلمان. ثم أعلنت النيابة العامة لاحقًا إسقاط كل التتبعات ضده، في خريف العام 1989.
في العام نفسه، خاض الأب رايان انتخابات البرلمان الأوروبي في دائرة مونستر بصفته مستقلًا بدعم من حزب شين فين، الجناح السياسي للجيش الجمهوري، وقد ظهر في المعلقات الدعائية بثوب الرهبنة، في حدث فريدٍ وغير مسبوق في عموم أوروبا. ورغم فشله في الصعود إلى المجلس فقد حصل على أكثر من 30 ألف صوت. أعقب ذلك فصله رسميًا من رهبنة بالوتين في عام 1990، بسبب «غيابه غير القانوني لفترة طويلة عن الجمعية ورفضه المستمر الامتثال للتعليمات المشروعة لرؤسائه»، فلم يعد يُسمح له بتقديم القداس أو إدارة الأسرار المقدسة.
دفع تشبث الأب باتريك رايان بخيار الكفاح المسلح نحو القطيعة التدريجية بينه وبين الجيش الجمهوري. ثم تعمقت أكثر عندما أعلنت المنظمة وقف إطلاق النار عام 1997، الذي تلاه اتفاق سلام «الجمعة العظيمة» عام 1998. عاد الراهب الثوري إلى مكانه الأول في بلدة روس مور دون ذرةِ ندمٍ. وحين سُئل عن ذلك قال: «الندم الوحيد الذي أشعر به هو أنني لم أكن أكثر فعالية؛ وأن القنابل المصنوعة من المكونات التي زودت المنظمة بها، لم تقتل المزيد من الناس. هذا هو ندمي الوحيد».
دفع هذا الثبات على العمل المسلح النائب توم إليوت عن حزب أولستر الاتحادي، إلى دعوة المملكة المتحدة إلى إصدار أمر تسليم جديد إلى جمهورية أيرلندا بشأن باتريك رايان العام الماضي، وذلك بعد صدور الكتاب الذي يروي قصته، قائلًا :«بعد تذكيرنا في الأيام الأخيرة بالكاهن الذي تحول إلى إرهابي، فقد حان الوقت لكي تصدر السلطات البريطانية أمر تسليم جديد لتقديم هذا الرجل إلى العدالة البريطانية (..) إنه لأمر محبط للغاية بالنسبة لأحباء أولئك الذين فقدوا حياتهم في الحوادث التي شارك فيها رايان أن يعيش أيامه الأخيرة كرجل حر. في سن 93 عامًا، يجب أن يكون خلف القضبان». لكن جينيفر أوريلي كاتبة سيرته تقول في وصفه: «إنه من النوع الذي يفعل كل ما يفعله بكل إخلاص، لكن الذكاء والمكر هي السمات الرئيسية التي يتميز بها».