تختلف القراءة لفرانز فانون عن القراءة لغيره من المشاهير، إذ يظهر جليًا في كل سطر وكل كلمة أن الكاتب ينطلق من انحياز واضح لشعوبنا ولقضية التحرير. ولكي نقدر كم أن هذا الأمر نادر (وإن لم يكن مستحيل الحدوث)، وكم أن المجال الفكري والأكاديمي السائد يتبرأ منّا، يكفي أن نتذكر أن إدوارد سعيد، الذي قدم نقدًا من أهم ما يكون للاستعمار والإمبريالية الثقافية، والذي يعده البعض صوتنا في الأكاديميا الغربية، كان يذكر قراءه بمناسبة وبدون مناسبة أنه لا يدافع عن المسلمين أو العرب عندما ينقد الانحيازات الثقافية الغربية.
أمّا فانون فيدافع عن المجتمع الجزائري والثورة الجزائرية وينحاز لهما انحيازًا مطلقًا، مدركًا أن التحيزات الثقافية لا تنفصل عن المواجهة مع المستعمر. نشعر أننا نقرأ لأخ لنا قد يصيب ويخطئ ولكنه لا يتخلى عن انحيازه المطلق لقضايانا.
هذا الانحياز لا ينفصل عن السيرة الذاتية لفانون، الذي هجر موقعه في الجهاز الطبي الاستعماري الفرنسي وانضم للثورة الجزائرية. وبينما نعرف فانون في كتاباته الأخرى محللًا للأثر النفسي للاستعمار ومنظرًا للمقاومة، وخطيبًا مفوها باسم الثورة الجزائرية وداعية للتحرر الوطني في إفريقيا وسائر العالم المستعمَر، فإنه في كتاب «العام الخامس للثورة الجزائرية» (أو «سوسيولوجيا ثورة» بحسب عنوان الطبعة الفرنسية الثانية، أو «استعمار يحتضر» كما في عنوان الترجمة الإنجليزية) يتحدث من واقع الثورة الجزائرية ويَنظُر عن قرب إلى أثرها في المجتمع الجزائري.
منهج فرانز فانون: علم اجتماع لثورة التحرر الوطني
يسخر فانون في هذا الكتاب ممن يسميهم «علماء الاجتماع» الذين ينظرون إلى الثقافة الجزائرية نظرة جامدة. وحتى عندما تحتوي التفسيرات التي تستند إلى رؤية معينة للتقاليد الجزائرية أو الإسلامية «على قسم من الحقيقة، إلا أن تعليل واقعة جديدة، ناشئة عن وضع استعماري، انطلاقًا من سلوكيات موجودة قبل الاحتلال الأجنبي (..) حتى وإن كانت (..) تحافظ على صلات وثيقة الشبه برسوم متخيلة تقليدية، يبدو لنا تعليلًا خاطئا في بعض نواحيه».[1]
يقدم فانون في المقابل تحليلًا يقول إن الثقافة شيء متحرك ومتغير وإن هذه الثقافة المتغيرة تعطي معاني مختلفة للشيء ذاته في مراحل مختلفة، ويؤكد على أن الثورة الجزائرية هي في حد ذاتها عامل تجديد للثقافة المحلية. «وستكون لدينا الفرصة لكي نبيّن»، يقول فانون، «بأن معارضة مبدأ السيطرة الأجنبية ذاته، تقود إلى إلى تحولات أساسية في ضمير المستعمَر (..) وفي موقعه هو كإنسان في العالم».
في الفصل الأول (وهو الأهم في رأيي)، الذي يحمل عنوان «الجزائر تسفر عن نفسها» (أو «الجزائر تنزع الحجاب» في الترجمة العربية) يتحدث فانون عن حملات الاحتلال الفرنسي لنزع حجاب الجزائريات، ويربط هذه الحملات بالمجال البصري الاستعماري الذي يريد أن يرى كل شيء ويشعر بالإحباط والاستفزاز أمام ما لا تصل إليه عيناه. في كتاب تيموثي ميتشل «استعمار مصر» نرى نمطًا شبيهًا إذ يريد المستعمر أن تصبح كل شؤون البلد الذي يستعمره مرئيةً لسلطته فيعيد تنظيم الأمور بحيث يصبح قادرًا على المراقبة والتعداد. رغبة المستعمِر في تملّك المستعمَر، والتي تسبقها رغبته في الاستحواذ البصري عليه في الحالتين واحدة: «يريد الأوروبي وهو يقابل الجزائرية» بحسب فانون «أن يرى. وهو يتصرف بطريقة عدائية أمام هذا التقييد لرؤيته، ويمضي الحرمان والعدائية هنا في تناسق تام».
هذه العدائية، على المستوى النفسي وعلى مستوى السياسات الاستعمارية، أعادت إحياء الحجاب، الذي كان قد مات بحسب فانون، بمعنى أنه كان قد كف عن إنتاج معنى ثقافي جديد. ففي مقابل الحملات الفرنسية لنزعه اكتسب الحجاب في حد ذاته قيمة ثقافية في مواجهة المستعمر. كما أصبح نزع الحجاب سبيلًا للجزائريات اللواتي انضممن للثورة لتخطي الحواجز التي أقامها المحتل في قلب المدن الاستيطانية، تمامًا كما كان الحجاب قبل ذلك وسيلة لإخفاء الأسلحة أو المتفجرات التي كانت النساء تحملنها. هذه الملابسات ساهمت في دخول النساء بقوة إلى الحيز العام وإلى العمل الثوري، وفي قبول العائلة الجزائرية، بحسب فانون، لخروج بناتها إلى الحيز العام وتخطيها لأي أفكار سلبية مسبقة عن المرأة السافرة. تستمر هذه الفكرة في الفصل الثالث إذ يتحدث فانون عن أن الثورة قد جعلت الأسرة الجزائرية أكثر مساواة وأدخلت نوعًا من الندية في علاقة الأب بأبنائه وبناته، خاصة المنخرطين منهم في النضال الوطني.
وفي الفصل الثاني («هنا صوت الجزائر») يتعامل فانون مع الراديو تعاملًا شبيهًا. إذ يرصد رفض الجزائريين في البداية للراديو، ويسخر من «علماء الاجتماع» الذين عزوا ذلك الرفض إلى «رجعية» المجتمع الجزائري أو «محافظته»، وبدلًا من ذلك يقول إن ظهور الراديو في الجزائر قد بدأ مع الاستعمار، وإن الجزائريين فطنوا إلى دوره الاستعماري. وإنه حتى الذين لم يفطنوا إلى ذلك بشكل واعٍ لم يغب عنهم أن محتوى راديو الاستعمار لم يزد عن «فرنسيين يتحدثون إلى فرنسيين».
وعلى مستوى التحليل النفسي يذهب فانون إلى أن صوت الراديو هذه المرحلة لم يكن «مباليًا [ولا] محايدًا: إنه صوت المضطهِد، صوت العدو. فالكلمة لا تُقبل وتُفك رموزها وتفهم وإنما تُنبذ. والاتصال ليس موضوع بحث أبدًا وإنما هو مرفوض، ذلك أن الانفتاح الذاتي على الآخر، يكون بالضبط ممنوعًا عضويًا في الوضع الاستعماري».
ثم تبدل الحال مع اندلاع الثورة، وبدأ انتشار أجهزة الراديو أول الأمر للاستماع إلى الإذاعات العربية بالذات التي تبث من مصر وسوريا ولبنان. هنا شعر الجزائريون، من خلال الراديو، أن لهم إخوة في النضال في في مختلف القارات، وأن معظم العالم، باستثناء فرنسا، يناصر قضيتهم. وبدل رفض الجزائريين السابق للراديو أصبحوا مقبلين عليه؛ «وقد أخذ الجزائري، في هذه الحقبة، يحس بالحاجة إلى النهوض بحياته إلى مستوى الثورة (..) وهو بحاجة للولوج إلى عالم تجري فيه أمور، ويوجد فيه حدث، وتتحرك فيه قوى».
كما شعر الجزائري، بحسب فانون، أنه بحاجة إلى أن يواجه الكذب الذي ينشره المستعمِر الفرنسي بمصدر معلومات آخر. ثم انطلقت إذاعة صوت الجزائر الحرة الناطقة باسم جبهة التحرير، وأصبح اقتناء الراديو بالنسبة للجزائري هو «وسيلة وحيدة لمباشرة الاتصال بالثورة ومن أجل معايشتها». هذا الاتصال مع الثورة، كان أيضًا اتصالًا ما بين أبناء مختلف المناطق والفئات من خلال أخبار الثورة، وقد أعطى كذلك للمتحلقين حول الراديو ومن حولهم شيئًا يجتمعون عليه: ويرصد فانون هنا دور الراديو في خلق مجتمع جزائري متخيل (لم يستخدم هذا المصطلح الذي سيصيغه بنديكت أندرسن بعدها بعقود، إلا أن فانون كالعادة سبق الكثير من مشاهير المفكرين فيما ذهبوا إليه).
وبهذه الطريقة جعل الراديو من عموم الجزائريين شهودًا على المعارك المختلفة في حرب التحرير، بل ولم يعد من المهم أن يستمعوا إلى التفاصيل، فحتى عندما يكون البث ضعيفًا ومشوشًا ولا تكاد تُسمع تفاصيله يعطيهم مادة خام ليبنوا عليها روايتهم ولتصبح لهذه الرواية مصداقية، فيشارك الناس من خلال هذا الجهاز بخيالهم في حرب التحرير. وإزاء هذه التغيرات أمعن الاحتلال الفرنسي في التضييق على الراديو. وفي غياب الكهرباء عن الكثير من أنحاء الجزائر كان الراديو المشحون بالبطارية أنسب للكثير من الجزائريين؛ وكان أن منع الفرنسيون بيع أجهزة الراديو من دون تصريح من السلطات العسكرية الفرنسية، كما سحبوا البطاريات من الأسواق، فبدأ الجزائريون في تهريبها من المغرب وتونس. وهكذا انقلب الحال، فبعد أن كان الفرنسيون يحاولون فرض هذه التقنية الحديثة ويرفضها الجزائريون أصبحت الثورة الجزائرية هي التي تنشرها رغم التضييق الفرنسي.
وفي الفصل الخامس نرى شيئًا شبيهًا كذلك مع الطب إذ يعزو رفض الجزائريين في أول الأمر للطب الحديث لا إلى نزوع إلى التقاليد والخرافة (كما يظن «علماء الاجتماع») وإنما إلى أن الطب الحديث في الجزائر كان جهازًا من أجهزة الاستعمار، وكان الطبيب الفرنسي ينظر إلى الجزائري نظرة احتقار ويشارك في بعض الأحيان في استجواب الجرحى والأسرى. فقد شارك الأطباء الفرنسيون في التحقيق عن طريق استخدام «مصل الحقيقة» إذ يحقن الأطباء الفرنسيون السجين ببطء بكميات محددة من المخدر تجعله بين الوعي واللاوعي مما يجعله أكثر عرضة للبوح بما يخفيه من أسرار. ويقول فانون بأن هذه الوسيلة تترك في نفسية السجين أثرًا دائمًا ومدمرًا. كما أشرف الأطباء الفرنسيون على التعذيب، وكان واجبهم أن يبقوا السجين حيا بينما يجري «استجوابه». هذا بالإضافة إلى إبلاغ بعض الأطباء للسلطات الفرنسية عن الجرحى، وعدا عن إجراء بعضهم تجارب طبية على الجزائريين والتي بحسب فانون لم تكن بالضرورة «القاعدة» ولكنها كانت «تمارس بنسبٍ لا يمكن التغاضي عنها».
استمرار معركة التحرر من الاستعمار، التي تحقق الانتصارات أحيانًا وتعاني من النكسات والهزائم أحيانًا، تعني أننا ما زلنا بحاجة إلى رؤية هذا الكتاب النافذة وروحه المتقدة.
وفي الوقت نفسه، استخدم الاستعمار الفرنسي الطب الحديث كوسيلة من وسائل إخضاع الشعب الجزائري، وأصبح ذهاب الجزائري إلى الطبيب يفسر على أنه اعتراف بفوقية المنظومة الثقافية الفرنسية وتسليم للهيكل العلمي والسياسي لفرنسا. وأصبح الجزائري الذي يذهب للطبيب في «امتحان عسير» ما بين التسليم للمرض أو التسليم بالمنظومة الاستعمارية، ولذا «يعتبر المستعمَر نفسه منتصرًا عندما ينجو من الطبيب». ولهذا، بحسب فانون، انتشرت ظواهر مثل ابتلاع المرضى للأقراص دفعة واحدة بدل أخذها على مدى الفترة الزمنية التي يحددها الطبيب: وبينما عزا «علماء الاجتماع» هذه الظاهرة إلى جهل الجزائري وخلطه ما بين الطب والتعاويذ التي تشفي من المرض دفعة واحدة، فإن فانون كان يرى في ذلك تعجلًا في الخروج من قبضة الطب الاستعماري.
ثم، كما حدث مع الراديو، تنقلب الحال، إذ تتبنى الثورة الجزائرية الطب الحديث وتعطي جبهة التحرير تعميمًا يقتضي بحقن من يصاب من المجاهدين بمصل الكُزاز (التيتانوس) وإن بدت الإصابة طفيفة. وفي المقابل حرمت السلطات الفرنسية على الصيدليات بيع هذا المصل والمضادات الحيوية والمطهرات الكحولية للجزائريين، فأصبح تهريب هذه العقاقير من مهام الثورة الجزائرية. وهكذا، مرة أخرى، بعد أن كان الفرنسيون يحاولون فرض شكل من أشكال الحداثة يقاومه الجزائريون، أصبحت الثورة الجزائرية هي التي تنشر الحداثة والفرنسيون هم الذين يحاولون وأدها.
ويختتم الكتاب بفصل عن المجتمع الأوروبي في الجزائر والمشاعر المؤيدة للثورة الجزائرية فيه، ويشفعه بشهادة اثنين من المستوطنين الفرنسيين الذين انضموا إلى جبهة التحرير.
فانون وإشكالية الحداثة والاستعمار
يفتح فانون الباب لمناقشة إشكالية مهمة تتعلق بالحداثة وعلاقة المستعمَرين بها في إطار استعماري. فلأن المستعمَر يجد نفسه مضطرًا أن يغلق نفسه أمام عالم المستعمِر (إذ «ليس ممكنًا أن يتوصّل المجتمع المستعمِر والمجتمع المستعمَر إلى أن يكونا على اتفاق لاحترام قيمة وحيدة في وقت واحد ومكان واحد»)، ولأن المستَعمر يجعل من منتجات الحداثة ومنافعها أدواتٍ للتحكم في المستعمَر، تصبح الحضارة في المستعمرة وسيلة لتأكيد فوقية الأوروبي وتميزه بما يتفضل به على الشعوب الأخرى من منتجات الحضارة. يخنق الاستعمار فرص التقدم والحياة في المستعمرة ويمنع المستعمَر من تطوير أدواته وحضارته؛ ويصبح السبيل الوحيد للتنعم بمنتجات الحضارة في ظل الاستعمار هو إلغاء الذات والتسليم للمستعمِر بالفوقية، وترك المجال له لتوجيه هذه المنتجات لمصلحته على حساب المستعمَر. وفي المقابل تصبح الثورة على الاستعمار هي ما يخلق للمجتمع المستعمَر فرصة للتقدم والحياة؛ وحينئذ يحاول الاستعمار سحب منتجات الحضارة بينما تتمسك بها الثورة وتعيد إنتاجها بما يوافق مصلحة شعبها. وفي كتابات فانون تكف هذه المحاججة عن أن تكون كلامًا نظريًا (وهذه من عناصر القوة في كتاباته) فهي تستند بشكل واضح إلى تجارب ثورات التحرر التي عايشها عن قرب (في الجزائر في هذا الكتاب، وفي سائر إفريقيا في كتاب «معذبو الأرض»).
قد يكون فانون قد انحاز للحداثة ونَقَدَ الاستعمار من دون أن ينقد محتواه المعرفي الحداثي. فهو يدافع عن المجتمع الجزائري في وجه التصورات السلبية الاستعمارية من دون أن يشكك في منظومة الحداثة ذاتها أو يسائلها. بالعكس، فإن فانون في بعض الأحيان يقبل تمامًا بهذه المنظومة وأحيانًا ببعض تحيزات الحداثة الغربية، فلا ينكر مثلًا ما تدعيه التحيزات الفرنسية بخصوص بعض القيم «المحافظة» أو «الرجعية» التي سادت بحسب هذه المزاعم في الجزائر في فترة ما، ولا يجادل في التراتبية التي تعطي لقيم «الحداثة» الفضل على القيم الأخرى، وإنما يرفض اعتبار المجتمع الجزائري ثابتًا في القيم القديمة «الرجعية»، ويحاجج بأن الثورة هي التي تدفعه نحو الحداثة. هذا القبول بمنظومة الحداثة وانحيازاتها المعرفية مع سحب ميزة الحداثة من المجتمع الغربي وربطها بثورة التحرر الوطني يتفق مع النسق السائد وقتها في معسكر العالم الثالث؛ وقد كان فانون بطبيعة الحال من كبار منظري هذا المعسكر.
يقدم فانون تحليلًا يقول إن الثقافة شيء متحرك ومتغير وبأن هذه الثقافة المتغيرة تعطي معاني مختلفة للشيء ذاته في مراحل مختلفة ويؤكد على أن الثورة الجزائرية هي في حد ذاتها عامل تجديد للثقافة المحلية.
ونرى كذلك في هذه الحركة التي تبدأ من الانحيازات المعرفية للمجتمع الغربي وتذهب إلى ثورة التحرر الوطني إلى أقصى مدى، حركة فانون نفسه، الذي كان يظن نفسه فرنسيًا في الكاريبي، ليجد نفسه كاريبيًا في فرنسا (ويشرح هذه الحالة النفسية في كتاب «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء») ثم لينتقل بعدها إلى الثورة الجزائرية ويصبح متحدثًا باسمها.
يظهر كل ذلك بشكل واضح في مثال الطب؛ خاصة وقد سلك فانون طريق الطب بدوافع إنسانية، ليجد الطب في الجزائر في خدمة الاستعمار، مما شكل القشة الأخيرة التي نقلت فانون إلى معسكر الثورة. وعندما يتحدث فانون مثلًا عن أن الطبيب في المعتاد تحدوه قيم إنسانية بينما الطبيب في الجهاز الاستعماري في الجزائر يجد نفسه يخدم قيمًا مختلفة، فهو يتحدث عن تجربته.
تظهر هنا بوضوح إشكالية الحداثة: فهل الاستخدام السلطوي للجهاز الطبي طارئ استعماري مرتبط بانتقال هذا الجهاز من أوروبا إلى المستعمرات أم أمر أصيل في بنية الجهاز الطبي كجهاز «للمراقبة والمعاقبة» كما وصفه فوكو؟
ليس هدفي من هذا السؤال تسليط الضوء على الجهاز الطبي دون غيره، ولا أن أُخطّئ أخانا فانون لحساب أفكار الفرنسي ميشيل فوكو؛ على العكس، ما أهدف إليه هو الإشارة إلى إمكانية تطعيم الفكرتين ببعضهما؛ ليتضح مثلًا أننا حتى لو قبلنا بما قاله فوكو عن أجهزة الحداثة، ومن بينها الطب، كونها مجالات لعلاقات القدرة ومؤسسات رقابية وعقابية،[2] فإن هذا المجال من المقدرة والمعرفة لا يتساوى في يد الاستعمار وفي يد ثورة التحرير. ففي لحظة معينة وجدت ثورة الجزائر نفسها مسؤولة عن مجال الصحة العامة في المجتمع الجزائري وخلقت بذلك حياة جديدة، كفًا بكف مع الحياة الجديدة التي كان يفرضها المجاهدون في الجبال ومن ثم «صدر الأمر [من جبهة التحرير] في أثناء هذه الحقبة، إلى الطلاب في الطب وإلى الممرضين وإلى الطلاب بالانضمام إلى المقاتلين. ونظمت اجتماعات بين مسؤولين سياسيين وبين مختصين في الصحة. وبعد وقت قليل سوف ينضم إلى كل خلية مندوبون عن الأهالي متخصصون في شؤون الصحة العامة. ونجد أن جميع المسائل تعالج بفكر ثوري ممتاز. ولم يكن في ذلك أي نظام أبوي ولا أي استحياء. وإنما على العكس كان في ذلك جهد مشترك صادر عن عزائم مصممة على تحقيق مشروع صحي متقن. فلا يمارس الخبير في الصحة «أعمالا سيكولوجية ترغيبية لإقناع الشعب المتخلف» [بل] تكون المسألة في ظل الإرادة التابعة للسلطة الوطنية هي السهر على صحة الشعب وصيانة حياة نسائنا وأطفالنا ومقاتلينا».
كما يتضح من تطعيم الفكرتين أن الجهاز الذي يمارس السلطة عن طريق نشر الحياة في أوروبا هو نفسه الجهاز الذي ينشر الموت في المستعمرة (أو يرتبط ارتباطًا وثيقًا به إن لم يكن هو ذاته)، فالاستعمار «[يضفي] على الحياة [في المستعمرة] مسحة من الموت غير المكتمل».[3] نتذكر هنا كيف استلهم المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي أفكار فانون ليقول إن فوكو عندما كان يخط خارطة المؤسسات التي تمارس السلطة عن طريق نشر الحياة لم يفطن إلى الوجه الآخر من هذه الحياة، وهو الموت، الذي كان ينتج على نطاق واسع، في المستعمرات.
يبقى أن فانون يتحدث عن الثورة كعامل حياة تخرج المحتل من حالة المقاومة بالموت إلى حالة المقاومة بالحياة. وعلى العكس من مبيمبي الذي يتوقف عند الموت الذي يخيم على الحياة في المستعمرات وينظر إلى المستعمَر الذي يقاوم الاستعمار بموته (مستخدمًا مثال العمليات الاستشهادية في فلسطين)، فإن فانون يشدد على أن الثورة تلد الحياة الجديدة لشعبها وتستنفره لـ«الكفاح ضد الموت (..) عن وعي وحماس لا مثيل لهما». وحتى في العمليات الفدائية أو الانتحارية/ الاستشهادية يقول فانون إن الفدائي الجزائري يختلف عن «الإرهابي الفوضوي» الفرنسي من حيث إنه لا يحمل الموت بل يحمل حياة الأمة حتى وهو ذاهب إلى موته.
هذه الأفكار وإن كانت قد قُدمت في خمسينيات القرن الماضي وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بأحداث الثورة الجزائرية، فإنها تجيب على أسئلة ما تزال راهنة وملحة، ما دام الاستعمار الجديد ما زال يشهر الحداثة سلاحًا في وجه الشعوب المستعمَرة التي يعدها متخلفة. وما دامت الرأسمالية الاستعمارية توزع الحياة والموت ما بين العالم «المتحضر» والعالم «المتخلف»، وما دمنا نجد أنفسنا مضطرين لمقاومة المستعمرين تارة بحياتنا وتارة بموتنا، وما دامت الحاجة إلى مواجهة الاستعمار متجددة.
قد يبدو أن الكتاب قد بلي في ضوء النكسات التي عانت منها حركات التحرر منذ ذلك الحين، وأن نبوءة عنوان الترجمة الإنجليزية باحتضار الاستعمار لم تتحقق. ولكن بالعكس، استمرار معركة التحرر من الاستعمار، التي تحقق الانتصارات أحيانًا وتعاني من النكسات والهزائم أحيانا، تعني أننا ما زلنا بحاجة إلى رؤية هذا الكتاب النافذة وروحه المتقدة.
-
الهوامش
[1] جميع الاقتباسات العربية هي من ترجمة ذوقان قرقوط الصادرة عن دار الفارابي.
[2] لا يعني كلام فوكو إنكار فائدة الطب -أو أي من مؤسسات الحداثة- ولكن يعني أن ما تمنحه من فائدة هو جزء من مجال القدرة الذي تقوم هذه المؤسسات عليه. بمعنى آخر: كلما عالجت المستشفيات الناس ووقتهم من الأمراض كلما زادت سلطتها (الطوعية والقسرية) عليهم وهو ما رأيناه جليًا في أزمة كورونا.
[3] ينظر كذلك تشريح فانون لتوزيع الحياة والموت ما بين مدينة الأوروبيين وبين مدينة أصحاب الأرض في كتابه «معذبو الأرض».