معاداة السامية سلاحًا: «إسرائيل» في بريطانيا

الثلاثاء 25 تموز 2023
وسط لندن ويظهر قصر وستمنستر وبرج إليزابيث. تصوير جاستين تاليس. أ ف ب.

كان 18 حزيران من عام 2017 اليوم المقرر لمسيرة «يوم القدس» في لندن؛ المسيرة التي بدأت باقتراح من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله الخميني، وأصبحت بعد ذلك مناسبة عالمية لدعم فلسطين. في لندن كان المواطن البريطاني دارين أوزبورن، صاحب الـ48 عامًا والقاطن بمدينة كارديف، يقود شاحنة مستأجرة في الطريق نحو منطقة فينسبري بارك حيث تجمع الحشد الداعم لفلسطين، وما أن وصل للمنطقة حتى اندفع بالسيارة نحو الحشد. وصف أوزبورن حينها بالإسلاموفوبيا، وتمّ جره للمحاكمة، وهناك أفصح عن شيء أخطر، لم يكن هدف أوزبورن قتل الحشد الداعم، رغم قتله لمكرم علي (51 عامًا)، لكنه اعترف في المحكمة أنّ هدفه الأصلي كان جيريمي كوربين، زعيم حزب العمال.

في عالم السياسة البريطانية المعاصرة، أثار عدد قليل من الشخصيات الكثير من الجدل مثل زعيم حزب العمال البريطاني السابق، جيريمي كوربين، الذي تميزت فترة ولايته بالتدقيق المكثف ومزاعم «معاداة السامية» داخل الحزب، وصولًا إلى تنحيته عن زعامة الحزب. 

كانت محاولة أوزبورن الفاشلة نتاج حملة ضخمة شُنّت لتقويض كوربين، قادتها وسائل الإعلام المحافظة والليبرالية على حد سواء، وفعلت كل ما في وسعها لمنع كوربين من أن يصبح زعيمًا لحزب العمال. وعندما فشلوا في ذلك، حاولوا قلب نتيجة الانتخابات. وعندما لم ينجح ذلك أيضًا، فعلوا كل ما في وسعهم لمنع انتخابه رئيسا للوزراء؛ وقد نجح ذلك. فمَن كان خلف كل هذا؟

في أيلول الماضي، صدر كتاب الصحفي البريطاني آيسا وينستانلي «معاداة السامية سلاحًا: كيف أسقط اللوبي الإسرائيلي جيريمي كوربين» للإجابة على هذا السؤال تحديدًا. يقدم وينستانلي، تحليلًا شاملًا للأحداث، ويستكشف الدور الذي لعبه اللوبي الإسرائيلي وتأثيره على مسيرة كوربين السياسية. 

يتعمق وينستانلي في كتابه بالديناميات المعقدة المحيطة بقيادة كوربين، ومزاعم معاداة السامية التي أدت في النهاية إلى استقالته من منصب زعيم حزب العمال. ويقدم فحصًا متعمقًا لكيفية قيام اللوبي الإسرائيلي، وهو مجموعة محددة بشكل فضفاض من الأفراد والمنظمات التي تدافع عن السياسات المؤيدة لـ«إسرائيل»، بتنظيم حملة منسقة لتشويه سمعة كوربين ووصفه بأنه معاد للسامية.

يمكن وصف كتاب وينستانلي البديع بـ«التأريخي» لتلك الفترة المفصلية في تاريخ السياسة البريطانية. حيث يتغلغل وينستانلي في شرح القضية في تسعة فصول، يتناول جميع الأحداث، حتى التي تبدو هامشية، موضحًا مدى تأثيرها على مجرى الأمور. ويشير وينستانلي بأصابع الاتهام مباشرة في عنوانه الفرعي تجاه اللوبي الصهيوني، وفي كتابه يذكر مرارًا وتكرارًا منظمات مثل حركة العمل اليهودية وأصدقاء العمل في «إسرائيل» على أنها «واجهات» للسفارة الإسرائيلية و«أسلحة دولة «إسرائيل»» في بريطانيا.

منذ البداية، يتتبع وينستانلي صعود كوربين نحو قمة حزب العمال، وتكاتف المحافظين وأجهزة الدولة و«إسرائيل» واللوبي الصهيوني وحشد قدرتهم من أجل إسقاطه، مشيرًا إلى أن أحد أهم الأسباب لهذا الحشد كان تاريخ كوربين ذاته. 

بدأت مسيرة جيريمي كوربين في الحركة النقابية، حيث انتُخب نائبًا عن دائرة أيسلينغتون الشمالية في لندن. غمس نفسه في القضايا العادلة، حتى وإن كان ذلك يجعله غير محبوب ضمن حزبه. عارض العنصرية والفاشية وناضل من أجل حقوق المهاجرين. وقاوم التخصيص وتقليصات الإنفاق والتقشف. قاد حملة ضد الحروب والاحتلالات العسكرية، وساند نضالات التحرر في إيرلندا وجنوب إفريقيا وغرب آسيا. «ظهرت صورة بالأبيض والأسود لكوربين في الثمانينيات، اشتُهرت لاحقًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تُظهر الشرطة وهي تجره بعيدًا عن سفارة جنوب إفريقيا وهو يحمل لافتة تنادي بـ«الدفاع عن حق التظاهر ضد الفصل العنصري: انضم إلى هذا الاعتصام»». 

كانت مهاجمة نُقاد الجرائم الإسرائيلية ووصفهم «بأنهم معادون للسامية» طريقة مجربة ومختبرة استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

عارض كوربين أيضًا الاحتلال البريطاني في شمال إيرلندا. وفي عام 2001، عندما أعلن توني بلير عن مشاركة القوات العسكرية البريطانية في حرب الرئيس جورج دبليو بوش ضد أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر، قاد كوربين الاعتراض عليها. لم يقتصر دوره على المعارضة فحسب، بل كان صوتًا مرموقًا في حركة معارضة الحرب، سواء ضد تلك الحرب أو الحرب في العراق بعد ذلك بفترة قصيرة. ونجح في تنظيم واحدة من أكبر المظاهرات في التاريخ، حيث خرج ما يقرب من مليوني شخص للتظاهر ضد غزو العراق في فبراير 2003، سواء في لندن أو في جميع أنحاء المملكة المتحدة. 

أثرت تلك الفترة على الكثير من الشباب البريطاني، وكان وينستانلي واحدًا منهم. إذ تحدث في لقاء حول تأثير حركة معارضة الحرب على حياته قائلًا: «بدأ كل شيء عندما انضممت، مثل الكثير من جيلي، لحركة معارضة الحرب في عام 2003. في تلك الفترة من التظاهرات والحركات المعارضة للحرب، كان هناك شيء واحد تراه دائمًا وهو الأعلام الفلسطينية، وكان الشعار الرئيسي للحركة في تلك الأيام: لا للحرب في العراق والحرية لفلسطين».

يتناول وينستانلي كافة الأحداث المحيطة بالانتخابات العامة لعام 2015، للتأكيد على تفردها كلحظة تاريخية في السياسة البريطانية. كان حزب العمال معروفًا دائمًا بتأييده لـ«إسرائيل» منذ قدوم هارولد ويلسون لرئاسة الحزب عام 1963، واستمرت سياسة التأييد حتّى عام 2015، حين تغير كل شيء. ما حدث حينها كان صعود كوربين لقيادة حزب العمال في انتخابات استثنائية تسببت في فقدان رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي لأغلبيتها، لتستقيل ويحل محلها الصحفي اليميني السابق بوريس جونسون. 

يشرح وينستانلي في كتابه تفاصيل تلك الانتخابات، وكيف حقق كوربين المفاجأة، ويفسر لماذا كانت النتيجة صادمة للكثيرين. «أحد الأسباب التي جعلت جيريمي كوربين يفاجئ المؤسسة الإعلامية والسياسية بأكملها في صيف عام 2015 هو أنه في البداية لم يكن العديد من الصحفيين الرئيسيين يعرفون من هو، على عكس الحركات الشعبية التي كانت تعرفه جيدًا».

لم ينتظر أعداء كوربين كثيرًا ليعلنوا الحرب. يقول وينستانلي إنّ نشاط كوربين النقابي والسياسي، قبل فترة طويلة من تولية قيادة حزب العمال خلق العديد من الأعداء، من بينهم رأسماليون، ومسؤولون في المؤسسة الاستخباراتية والعسكرية في المملكة المتحدة بما في ذلك MI5 وMI6، والجناح اليميني في حزبه، مستخدمين الإعلام الكاره لحزب العمال منذ نشأته. لكن من بين كل أعداء كوربين، كان العدو الأكثر صخبًا هو اللوبي الإسرائيلي.

كانت مهاجمة نُقاد الجرائم الإسرائيلية ووصفهم «بأنهم معادون للسامية» طريقة مجربة ومختبرة استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. يستعين وينستانلي بمئات الهوامش والروابط للتدليل على أنّ «التهديد بمعادة السامية كان قويًا جدًا لدرجة أنه منع الكثير من التحدث عن جرائم «إسرائيل» ضد الفلسطينيين تمامًا». كانت الحركة العمالية اليهودية، التي تمّ إحياؤها عام 2015 لمحاربة كوربين، جزءًا رئيسيًا من استراتيجية «إسرائيل» في المملكة المتحدة، لتقسيم حزب العمال ضد نفسه باتهامات كاذبة بمعاداة السامية.

في حملتهم ضد «نزع الشرعية» عن «إسرائيل»، كثيرًا ما استخدم المسؤولون الإسرائيليون اللغة العسكرية. فوفقًا للصحفي الإسرائيلي باراك رافيد، كان هناك «غرفة حرب» في السفارة الإسرائيلية في لندن: «كانت خريطة بريطانيا معلقة على الحائط في مكتب يفتاح كورييل، المتحدث باسم السفارة الإسرائيلية في لندن… وكأنها خريطة في غرفة حرب لواء على الحدود اللبنانية». صورت الخريطة الجامعات البريطانية بوصفها «الجبهة» التي تدور فيها المعارك، و«ينشر» فيها النشطاء الموالون لـ«إسرائيل»، بالإضافة إلى موقع «القوات المُعادية».

يرصد وينستانلي في الفصل الخامس من كتابه أول موجة لأزمة معاداة السامية الوهمية التي صنعها اللوبي الصهيوني، في نيسان 2016، والتي كانت ضحيتها النائبة ناز شاه، وكيف بدأت المدونة اليمينية المتخصصة في الشائعات، غيدو فوكس، بمهاجمة شاه في ربيع عام 2015 عندما تم اختيارها كمرشحة لحزب العمال لمحاربة غالاوي في الانتخابات الفرعية. وجاء عنوان غيدو: «حزب العمال يختار ناشطة فلسطينية لـ[دائرة] برادفورد الغربية»، مع صورة شاه وهي تقف في قافلة سيارات مزينة بالأعلام الفلسطينية. ورغم أن شاه فازت بتمثيل الدائرة، إلا أنها الهجوم ضدها استمر، وصولًا إلى تعليق عضويتها في الحزب مؤقتًا.

يتناول الكتاب في الفصول اللاحقة، كيف تم تلفيق تهمة معاداة السامية، ودفع الإعلام نحو تثبيت الإدانة وخلق أزمة وهمية داخل الحزب، للإطاحة بداعمي القضية الفلسطينية. كان أبرز ضحايا تلك الحملة الشعواء عمدة لندن السابق كين ليفينغستون، عبر هندسة اغتيال سياسي بوصمه «مؤيدا للنازية»، لأنه في أحد اللقاءات التلفزيونية تحدث عن تاريخ تعاون هتلر مع الحركة الصهيونية ودعمه لاستيطان اليهود في فلسطين؛ الحقيقة التي لا يريد أحد تذكرها بالطبع.

وفي أيار 2018، أجبر ليفينغستون على ترك الحزب الذي كرس حياته له. وقال في بيان: «أصبحت المشاكل المستمرة حول تعليق عضويتي في حزب العمال إلهاءً عن القضية السياسية الرئيسية في عصرنا، وهي استبدال حكومة المحافظين (..) أنا مخلص لحزب العمال وجيريمي كوربين. ومع ذلك، فإن أي إجراء تأديبي آخر ضدي قد يستمر لأشهر أو حتى سنوات، مما يصرف الانتباه عن سياسات جيريمي».

يقدم الكتاب فحصًا متعمقًا لكيفية قيام اللوبي الإسرائيلي، وهو مجموعة محددة بشكل فضفاض من الأفراد والمنظمات التي تدافع عن السياسات المؤيدة لـ«إسرائيل»، بتنظيم حملة منسقة لتشويه سمعة كوربين ووصفه بأنه معاد للسامية.

يشرح وينستانلي بعد ذلك لماذا كانت إزالة داعمي كوربين من الحزب، وليفينغستون تحديدًا، مهمة لأعدائه. فقد كان ليفينغستون واحدًا من حلفاء كوربين السياسيين القلائل من ذوي الوزن الثقيل، ودافع عن كوربين ضد مزاعم أنه غير قابل للانتخاب، كما دافع عن كوربين عندما اندلعت «أزمة معاداة السامية»، تلك التهمة التي ستطيح به نفسه من المشهد السياسي. وبينما لم يكن ليفينغستون أول شخص في الحزب يتم تلطيخه على أنه معاد للسامية، إلا أنه كان أعلى شخصية داخل حزب العمال وأكثرها نفوذًا في ذلك الوقت، وتم اتهامه على هذا النحو.

يشير وينستانلي إلى التحقيق الذي قام به مارتن فوردي كيه سي، المعين من قبل الزعيم الحالي لحزب العمال كير ستارمر، للتحقيق في العنصرية في الحزب، إلى أن «بعض العناصر المناهضة لكوربين في الحزب استولت على معاداة السامية كوسيلة لمهاجمة جيريمي كوربين».

يكمل كتاب وينستانلي الجديد العمل الذي التقطه كاميرا قناة الجزيرة، بقيادة كلايتون سويشر وفيل ريس، وأدارته وحدة التحقيقات في القناة، والصحفيون السريون الذين عملوا لمدة ستة أشهر في عام 2016، داخل المجموعات الموالية لـ«إسرائيل» في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. فقد فضح تحقيق الجزيرة تدخل السفارة الإسرائيلية في العملية السياسية في بريطانيا، وتصدر عناوين الصحف الدولية عندما تم إصدار المقاطع الأولى في كانون الثاني 2017. قدمت السفارة الإسرائيلية اعتذارًا للحكومة البريطانية، وأرسلت «الضابط السياسي الكبير» شاي مسعود، الذي عمل كحلقة وصل بين تلك المجموعات والسفارة إلى «إسرائيل». كان مسعود محور التركيز الرئيسي للفيلم، فقد عمل مع وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية المناهضة لحملة مقاطعة «إسرائيل» (BDS)، وبشكل أكثر جدية، كشف تحقيق الجزيرة تآمره مع موظف مدني لإسقاط النواب والوزراء الذين «ينتقدون إسرائيل بشكل معتدل».

يعترف وينستانلي أنّ كتابه الجديد مبني على كتاباته المستمرة منذ وقت طويل في هذا الصدد، خاصة في موقع إلكترونيك انتفاضة الذي يعمل فيه، لذا قد يشعر المهتمون بهذه القضية أنّ لا جديد في الكتاب. لكن من الواضح من حجم الهوامش الضخمة التي ألحقها وينستانلي أنّ هدفه الأهم لم يكن كشف حقائق جديدة بقدر ما هو التأريخ لتلك الحقبة. يقدم الكتاب تحليلًا مقنعًا لدور اللوبي الإسرائيلي في سقوط كوربين، إلى جانب استكشاف المؤلف للتحيز الإعلامي بشكل خاص، حيث يسلط الضوء على قوة التأطير والإبلاغ الانتقائي في تشكيل الرأي العام. 

من خلال الخوض في الديناميات المعقدة لهذه القضية المثيرة للجدل، يدعو وينستانلي القراء إلى إجراء تقييم نقدي للادعاءات والروايات المحيطة بمهنة كوربين السياسية، وقراءة «معاداة السامية سلاحًا» بمثابة مورد قيم للراغبين في فهم التقاطعات المعقدة للسياسة والإعلام وتأثير جماعات الضغط في المجتمع المعاصر.

Leave a Reply

Your email address will not be published.