من البحيرات إلى الصحارى: كيف بنت الصين نظامها الصناعي؟

الأحد 16 شباط 2025
عاملة في إنتاج وحدات كهروضوئية في مصنع في نانتونغ بمقاطعة جيانغسو. أ ف ب.

«من أجل الارتقاء بالمستوى العلمي والتكنولوجي للصين، علينا أن نعتمد على جهودنا، وأن نطور قدرتنا الإبداعية، وأن نتمسك بسياسة الاستقلال والاعتماد على الذات… كما تمكن حزبنا من قيادة الشعب في إسقاط نظام الاستغلال وتغيير المجتمع، سيتمكن بلا شك من استيعاب القوانين التي تحكم العمل العلمي والتكنولوجي وقيادة الشعب نحو التفوق في عالم العلوم».
– دينغ شياو بينغ، 1978.

كما جرت العادة، مع كل اختراق تحققه الصين في المجالات الصناعية والتكنولوجية، تعلو أصوات الساسة والإعلاميين في الولايات المتحدة للقول إن التفوق الصيني في هذا المجال أو ذاك لا علاقة له بالابتكار أو طبيعة النظام الصناعي في الصين أو هيكل الاقتصاد ودور المؤسسات التعليمية ونوعية العمالة وغيرها، بل يعود لأسباب أخرى تستدعي توسيع الحرب التجارية على الصين تحت شعار حماية «الأمن القومي». فالسيارات الكهربائية والأجهزة الذكية والألواح الشمسية ما كان لها أن تتطور لولا الدعم المالي الحكومي الذي عمل على «إغراق الأسواق»، والسرقة والتقليد ونظام العمل الصارم كانت دومًا عوامل أساسية للاختراقات التي تحققها الشركات التكنولوجية، حتى إن بعض المسؤولين الأمريكيين تحدث صراحة عن أن DeepSeek سرق نماذج عمله من OpenAI.

في الحرب التجارية، فقدت الولايات المتحدة قدرتها على منافسة المنتجات الصينية في إطار الأسواق المفتوحة، ولم يعد أمامها سوى اللجوء للحمائية وبناء جدران التعرفات الجمركية وتسليح التجارة وتسييج البلاد وإغلاقها في وجه المنتجات الصينية، بحجة «العودة للصناعة» أو حماية صناعاتها التي أفرغتها بنفسها على مدى العقود الماضية. لا يؤشر هذا فقط إلى أي مدى وصلت قوة المنتجات الصينية، بل إلى أي حد تغير هذا العالم. في الماضي، جاءت الولايات المتحدة والدول الغربية إلى الصين بسفن ومدافع حربية لفرض «التجارة الحرة» وفتح البلاد عنوة، لكنها اليوم تغلق بلادها وتخشى على نفسها من قواعد التجارة التي فرضتها على العالم بالقوة.

رغم هذه المبررات، إلا أن الإدارة الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية، تدرك أنه لا الدعم الحكومي -على أهميته- ولا التقليد والسرقة ولا ظروف العمالة تكفي لتحقيق اختراقات صناعية وتكنولوجية بهذا الحجم. فما تملكه الصين ليس مجرد صناعات كبيرة تضخ الدولة فيها الأموال لتطويرها، وميزتها الصناعية لا تأتي من «ممارسات تجارية غير عادلة» أو من «مؤامرة دبرتها حكومة استبدادية»، بل تكمن في نظام صناعي متكامل إلى حد كبير يتمتع بمزايا لا مثيل لها في المنافسة من حيث التكلفة، ويسعى باستمرار للاعتماد على الذات وكسر كل «حلقات الخنق» في سلاسل الإنتاج والتوريد التي تتحكم فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها.

بالنظر لتعقيده وفرادته، ليس من السهل فهم طبيعة النظام الصناعي في الصين وبنيته والفاعلين المختلفين فيه. لذا من أجل فهم دور الابتكار في هذا النظام، وكيفية إدارة الدولة له من حيث تخصيص الموارد وتوجيهها، ودور السوق والمبادرات الخاصة فيه، يمكن تناول مثالين من عالمين وحجمين مختلفين تمامًا، أحدهما هو صناعة الكافيار، والآخر هو صناعة الطاقة الشمسية.

بيض من ذهب

بالنسبة لمعظمنا، الكافيار هو شيء نسمع عنه ولا نراه. نعرف أنه أحد مأكولات الأثرياء البيض، تقدمه أفخم المطاعم الغربية، ومقصورات الدرجة الأولى في الطائرات، وقد نعرف أنه يأتي من بيض السمك، خاصة من بحر قزوين، وأن روسيا تقليديًا هي أكبر مصدّريه. لكن ما قد لا نعرفه لا نحن ولا حتى بعض مستهلكي الكافيار هو أن أكثر من 60% من إنتاجه عالميًا اليوم يأتي من الصين التي لم يكن لها علاقة بصناعة الكافيار ولا يوجد فيها أي تقليد لتناوله. فكيف حدث ذلك؟

يُصنع الكافيار من بيض سمك الحفش البري. عبر الوقت ومع الإفراط في الصيد، تقلصت أعداده بشكل خطير، حيث صنف عدد كبير من أنواعه ككائنات مهددة بالانقراض، الأمر الذي دفع المجتمع الدولي واتفاقيات التجارة الدولية لوضع تدابير تنظيمية صارمة على صيد الحفش وتجارة الكافيار البري. بحلول أواخر القرن العشرين، ومع استمرار نمو الطلب، بدأت العديد من الدول بالاستثمار في تقنيات تربية سمك الحفش اصطناعيًا. من هذا الباب دخلت الصين الصناعة، بعد أن استطاعت تحقيق اختراقات تكنولوجية فريدة ومتطورة.

قادت الأكاديمية الصينية لعلوم الأسماك مشروع التربية الاصطناعية لسمك الحفش. وفي غضون سنوات قليلة، وتحديدًا في عام 1997، أعلنت الأكاديمية عن ابتكارات غير مسبوقة في تكنولوجيا تربية السمك وتكاثره اصطناعيًا. الاسم الكامل لهذه المؤسسة التي تعد مفتاح نجاح الصناعة في الصين هو الأكاديمية الصينية لعلوم الحفاظ على المياه ومصائد الأسماك، وكانت قد تأسست في خمسينيات القرن الماضي ووفرت لها الدولة عبر السنوات مخصصات مالية ضخمة، لتدرب الآف الباحثين المحترفين، وتراكم خبرات واسعة في مجال تربية الأحياء المائية، وتصبح واحدة من أقوى المؤسسات البحثية المائية في العالم.

لم يكن دعم الصين التمويلي للأكاديمية وغيرها من المؤسسات البحثية المائية (مثل جامعة تشجيانغ للمحيطات، وجامعة شنغهاي للمحيطات، وجامعة داليان للمحيطات، وجامعة المحيط الصينية) نتاجًا لمتطلبات السوق، بل لأن الدولة أخذت على عاتقها مهمة الحفاظ على ثرواتها المائية والزراعية باعتبارها ثروة وطنية وأساسًا لتنمية الاقتصاد ومعيشة الناس. ولهذا تملك الصين اليوم مؤسسات وجامعات متخصصة في العلوم المائية من الدرجة الأولى على مستوى العالم.

يكمن أحد أسباب ندرة الكافيار في جودة المياه المطلوبة لتربية السمك، والمتطلبات العالية جدًا لبيئته المعيشية. فبمجرد تغير درجة حرارة المياه أو جودتها قليلًا، يموت السمك على الفور. وجدت الأكاديمية في بحيرة شيانداو بمقاطعة جيجيانغ مكانًا مناسبًا لتوفير هذه الظروف، لتنشئ فيها قاعدة تجريبية لتربية سمك الحفش بعد إعلانها عن الاختراقات التي حققتها في تقنيات التربية. رغم أن شيانداو تسمى بحيرة، إلا أنها ليست بحيرة طبيعية، بل هي خزان ضخم تبلغ مساحته مئات الكيلومترات المربعة، وهو أول خزان واسع النطاق يتم تصميمه وبناؤه بشكل مستقل في الصين الجديدة، امتد بناؤه من عام 1955 إلى عام 1960. استثمرت الصين في شيانداو قوى بشرية ومالية هائلة ليس لتربية الأسماك، بل للتحكم في الفيضانات وتوليد الطاقة وتوفير المياه للناس، وهو مصدر وطني لمياه الشرب من الدرجة الأولى يحظى بحماية الدولة.

بعد ثماني سنوات من المشروع التجريبي، وهي مدة دورة تربية سمك الحفش وتكاثره التي تتراوح ما بين سبع إلى 10 سنوات، وُلد أول كافيار مزروع صناعيًا في الصين عام 2006. وبالمناسبة، هذه المدة تعد طويلة لدرجة ترفع مخاطر الاستثمار وتنفر المستثمرين، لهذا نجد أن الكثير من المستثمرين في القطاع في الصين هم باحثون وعاملون في الجامعات والأكاديميات المتخصصة في العلوم المائية.

بعد نجاح تجربة بحيرة شيانداو، رُوجت صناعة الكافيار على مستوى وطني، ودخلت مقاطعات جديدة إلى المجال، من أبرزها مقاطعة هوبي التي تعرف بـ«أرض الألف بحيرة» والتي استثمرت الدولة في تطوير قطاع تربية الأحياء المائية فيها، ومقاطعة سيتشوان التي ترفدها الثلوج الذائبة من هضبة التبت المحاذية لها بمياه مناسبة لتربية الحفش صيفًا وشتاءً. لكن الأهم هو وجود الخزانات التي تتجمع فيها هذه المياه الباردة، والتي استثمرت الدولة فيها لتطوير البنية التحتية في مقاطعة تعد قاعدة زراعية مهمة. تضم سيتشوان آلاف خزانات المياه التي لم تؤسس لكسب المال أو تربية السمك، لكنها وُظفت لهذا الهدف عند الحاجة، لتصبح مدينة ياآن الصغيرة فيها ثاني أكبر مصدّر للكافيار في العالم بعد بحيرة شيانداو.

كان تطور الصناعة إلى المستوى الذي جعل الصين رائدة في إنتاج الكافيار على مستوى العالم، في أقل من ثلاثة عقود، نتاجًا لوجود بنية مؤسسية علمية راسخة وتراكم معرفي لأجيال من الباحثين والفنيين، وتوفر بنية تحتية مائية من الأفضل في العالم، كلها أنشئت وتطورت بدعم كبير وممتد من الدولة. لا أحد يتحدث عن هذا الشكل من الدعم مقارنة بالدعم المالي المباشر الذي قد يقدم لتطوير صناعة هنا أو هناك، رغم أن الأول هو الأهم وبدونه لا معنى للثاني.

مع الوقت، بدأت الحكومات المحلية تتنافس على جذب الاستثمار، وحققت الشركات ابتكارات جديدة في تربية سمك الحفش عبر البحث الجيني الذي مكنها من اختيار الأسماك ذات السمات المرغوبة، مثل معدلات النمو الأسرع، والخصوبة الأعلى، والبيض الأعلى جودة. مكنت التربية الانتقائية المنتجين الصينيين من تطوير أنواع من سمك الحفش أكثر إنتاجية ومقاومة للأمراض، وبالتالي إنتاج كافيار أعلى جودة.

رغم تطور الصناعة، واجه الكافيار الصيني صعوبة في تسويقه للدول الأجنبية. جاء الاختراق عام 2011، حين أجرت شركة لوفتهانزا للطيران اختبارًا أعمى جمع 13 صنفًا من الكافيار من مختلف أنحاء العالم، ليحتل الكافيار الصيني المرتبة الأولى. ومنذ ذلك الحين، دخل صناعة الطيران والسوق الدولية، وزادت صادرات الصين منه خمسة أضعاف بين عامي 2013 و2018. وكما في الكثير من الصناعات حين تدخلها الصين، انخفض سعر طن الكافيار على مستوى العالم من 850 ألف دولار إلى 350 ألف دولار، الأمر الذي جعل لوموند الفرنسية تتهم الصين «بزعزعة استقرار الأسواق»، تحديدًا أن سعر الكافيار الفرنسي يزيد عن ضعف سعر الكافيار الصيني، و80% من الكافيار المقدم في المطاعم الفرنسية يستورد من الصين.

بفضل جودته العالية وسعره الجذاب وإمداداته المستقرة، يُصدر الكافيار الصيني حاليًا إلى العديد من البلدان، بما في ذلك فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا. ورغم فرض ترامب تعرفة جمركية بنسبة 40% على الكافيار الصيني، إلا أن 60% من الكافيار المستورد إلى الولايات المتحدة يأتي من الصين. حاليًا، تسعى الشركات الصينية إلى توسيع السوق المحلي عبر خفض سعر الكافيار أكثر لتقبل عليه الطبقات الوسطى الآخذة في الاتساع. كما تسعى لاستدخاله إلى المطبخ الصيني، ودمجه مع الأطباق التقليدية. فهل تصبح الصين أكبر سوق للكافيار في العالم في السنوات القادمة؟ لنرَ.

حصاد الشمس

في الواقع، يبقى الكافيار صناعة صغيرة، لكنه مثال نموذجي لتفسير صعود صناعات أخرى أكبر تتمتع فيها الصين بمزايا استثنائية، كصناعة الطاقة الشمسية. فإلى جانب السيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم، كانت الخلايا الشمسية من الصادرات الصينية الأشد استهدافًا بالتعرفات الجمركية الأخيرة. تبسّط الرواية الغربية هيمنة الصين على صناعة الطاقة الشمسية بعزوها للدعم الحكومي، وانخفاض تكاليف العمالة، والقيود البيئية الأقل صرامة، مما مكنها من إنتاج الألواح الشمسية بتكاليف أقل بكثير من منافسيها الغربيين. لكن للمسألة قصة أخرى.

أوائل الألفيات، حين كانت الدول الغربية المتقدمة تروج للطاقة الشمسية باعتبارها إحدى المصادر الواعدة للطاقة المتجددة كبديل للوقود الأحفوري التقليدي، لم يكن في الصين أي صناعة للخلايا الشمسية. فحتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان إنتاج البولي سيليكون، المادة الخام الأساسية للخلايا الشمسية، وبراءات الاختراع المتعلقة بمعالجته، محتكرًا من قبل سبع شركات من الولايات المتحدة واليابان وأوروبا، أطلق عليها اسم «الأخوات السبع».

عام 2006، حققت شركة هوالو، المتخصصة في مجال الهندسة الكيميائية، اختراقًا في عملية إنتاج السيليكون، وظفته فيما بعد شركة GCL-Poly المملوكة جزئيًا للدولة، أدى إلى تخفيض كلف الإنتاج بشكل كبير، وبالتالي أسعار الخلايا الشمسية، وكسر الاحتكارات الغربية، وغيّر شروط اللعبة في هذا القطاع حول العالم.

تقليديًا، كانت صناعة البولي سيليكون تستهلك كمًا هائلًا من الكهرباء، من أجل استخلاصه من مركب ثلاثي كلورو السيلان عبر عملية ابتكرتها شركة سيمنز الألمانية في الخمسينيات وسميت باسمها، إذ تتطلب هذه العملية تسخين ثلاثي كلورو السيلان لدرجات حرارة تصل إلى 1150 درجة مئوية. عام 2006، طورّت هوالو آلية تسمى الهدرجة الباردة، تمكنت من خلالها من توظيف رباعي كلوريد السيلان، وهو أحد المنتجات الثانوية من عملية إنتاج البولي سيليكون، لإنتاج ثلاثي كلورو السيلان وإدخاله مجددًا للعملية، ما أدى لتقليل المدخلات المطلوبة للإنتاج والطاقة المستخدمة التي يحتاجها والمخلفات السامة التي يخلقها. بين عامي 2009 و2010، انخفضت كلف الإنتاج لدى GCL-Poly بنسبة 38%.

لكن الاختراق الأكبر جاء حين طورت هوالو آلية مختلفة نوعيًا عن عملية سينمز، توظف ما يسمى مفاعل القاع المميَّع (Fluidized Bed Reactor) لإنتاج حبيبات البولي سيليكون مباشرة من غاز السيلان. تستهلك هذه العملية من الكهرباء 10% مما تستهلكه عملية سيمنز، وتوفر مزايا أخرى مثل إنتاج السيليكون بشكل متواصل، وليس على مراحل متقطعة، واستخدام أجهزة أصغر وأبسط مما تحتاجه عملية سيمنز. كل ذلك ساهم في تخفيض الكلف بشكل أكبر، ومعها أسعار الخلايا الشمسية عالميًا، لتهبط بين عامي 2006 و2023 بنسبة 94%. بحلول عام 2022، أصبحت الصين تنتج ثمانية من أصل كل 10 ألواح شمسية في العالم.

لم تأت هذه الابتكارات التي حققتها هوالو ثم وظفتها GCL-Poly[1] على نطاق تجاري واسع من الفراغ. يعود تاريخ هوالو إلى معهد التصميم السادس التابع لوزارة الصناعة الكيميائية الذي تأسس عام 1965 ووجهته الدولة لتطوير تقنيات كيميائية حاسمة في مشروع «قنبلتان وقمر اصطناعي واحد» (قنبلة ذرية وقنبلة هيدروجينية وقمر اصطناعي). في ظل «العزلة الدولية» ومحدودية الوصول للتكنولوجيا الغربية والسوفييتية، طور المعهد التقنيات الكيميائية والصناعية الأساسية اللازمة للبرامج النووية والفضائية، وراكم الخبرة في تنقية المواد وتصميم العمليات الكيميائية، والتي أصبحت فيما بعد ضرورية لإنتاج السيليكون عالي النقاء.

غيرت هذه الاختراقات التكنولوجية شكل الصناعة وخلقت سوقًا واسعًا للخلايا الشمسية في الصين، لكن حين فرضت الدول الغربية عليها تعرفات جمركية بحجة «مكافحة الإغراق»، أفلست العديد من الشركات الصينية. في لحظة حرجة، تدخلت الدولة مجددًا ووجهت طاقة الإنتاج للداخل وأعلنت عام 2009 عن مشروع «الشمس الذهبية» لتعزيز تطوير وتبني الطاقة الشمسية على مستوى واسع في البلاد.

قدمت الحكومة الصينية إعانات كبيرة لدعم تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، تحديدًا في المناطق الريفية والنائية التي لم تكن متصلة بالشبكة الوطنية. لكن الدعم الحقيقي الذي قدمته الدولة للمصنعين لم يكن دعمًا مباشرًا، بقدر ما تمثل في ضمان مستوى الطلب من المرافق العامة الذي سمح لهم بالنمو وتحقيق الأرباح، كما يشرح ديفيد فيكلينغ، في مقالته «كيف خسرت الولايات المتحدة سباق الطاقة الشمسية أمام الصين». كان المفتاح لشراء كل الكهرباء المتجددة التي ولدها مشروع الشمس الذهبية في أن الصين تمتلك واحدة من أكبر شبكات نقل الطاقة في العالم، استثمرت فيها الدولة عبر السنوات من أجل «نقل الكهرباء من الغرب إلى الشرق»، وهي الفكرة التي اقترحت في الثمانينيات. سمحت شبكة نقل الطاقة ببناء مزارع شمسية واسعة النطاق في مواقع مثالية كالصحاري الشمالية الغربية، ونقل الكهرباء إلى المراكز الحضرية والصناعية المتعطشة للطاقة في الشرق. كما عملت خطوط النقل المتقدمة ذات الجهد العالي للغاية (التي طُورت قبل وبالتوازي مع مشاريع الطاقة المتجددة) على ضمان النقل الفعال للكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية إلى مراكز الطلب البعيدة، وتقليل خسائر النقل لمسافات طويلة، مما جعل مشاريع الطاقة الشمسية واسعة النطاق قابلة للتطبيق اقتصاديًا.

كما في صناعات عديدة، كانت قدرة الصين على نقل صناعة الخلايا الشمسية إلى مستوى آخر والنمو الكبير في إنتاج الطاقة الشمسية مستندة إلى سلسلة من المؤسسات والاستثمارات السابقة التي فرضتها الأولويات التنموية التي حددتها الدولة. فلولا الاستثمار في البحث العلمي والتطوير من أجل مشاريع سيادية في مرحلة حرجة من تاريخ البلاد، لما تمكنت الصين من تحقيق ابتكارات في الهندسة الكيميائية يمكن توظيفها على نطاق تجاري واسع. ولولا البنية التحتية الضخمة التي جاءت كنتيجة لسعي الدولة لإيصال الكهرباء لكل الصينيين لما تمكنت من توفير سوق داخلي للطاقة الشمسية. وفي الوقت نفسه، وجدت الدولة في هذه المشاريع فرصة لتحقيق أهداف أخرى ذات أولوية استراتيجية، كالدفع نحو التحول للطاقة المتجددة والمساهمة في نشرها حول العالم.

على مدى العقدين الماضيين، تضاعفت كميات الكهرباء المنتجة عبر الطاقة الشمسية في الصين بشكل هائل، لتصبح في المركز الأول عالميًا من حيث قدرة الإنتاج التراكمية، بأكثر من 886 غيغاواط عام 2024، وهو ما مثل أكثر من 44% من قدرة الإنتاج عالميًا. بين عامي 2023 و2024، ركبت الصين من الخلايا الشمسية أكثر مما ركبت بقية دول العالم مجتمعة. ويظهر تتبع تطور قدرة الإنتاج العالمية بوضوح كيف كانت الصين العامل الأكبر للتحول العالمي نحو الطاقة المتجددة في خاصة في العقد الأخير.[2]

الابتكار في وجه الاحتكار

حين انخرطت الصين في السوق العالمي والتجارة الحرة، ثم لعبت دورًا أساسيًا في التحول نحو العولمة لتصبح «مصنع العالم»، كان لدى الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة افتراضان جوهريان يعبران عن غطرسته وثقته بامتلاك المستقبل وبمعرفة الصين حتى أكثر من الصينيين أنفسهم: أولًا، أن الصين ستبقى محصورة في الشرائح الدنيا والوسطى من الصناعة، ولن تستطيع تهديد الاحتكار الغربي للصناعات المتقدمة والتكنولوجيا الفائقة، وستقبل بهذا التقسيم العالمي للعمل بين المركز والمحيط وتظل توفر الأيدي العاملة «الرخيصة» لخدمة الاستهلاك الغربي. وثانيًا، أن الانفتاح الاقتصادي فيها سيتبعه بالضرورة انفتاح سياسي، أو بكلمات أدق تخلي الصين عن أيديولوجيتها ونظامها السياسي لصالح اللبرلة السياسية، وحتى الثقافية والاجتماعية، وهو افتراض عبر عنه كثيرون من بيل وهيلاري كلينتون إلى جورج بوش الابن.

أثبتت السنوات الأخيرة خطأ هذين الافتراضين، لأن الصين لم «تتحايل» على الغرب للحصول على التكنولوجيا ثم «سرقتها»، بل قايضتها مقابل توفير موارد بشرية وبنى تحتية استثمرت الدولة دم قلبها في تنميتها، ولأن دينغ شياو بينغ لم ينقلب على ماو تسي تونغ كما فعل آخرون في الاتحاد السوفييتي، بل بنى على مساره رغم التحولات الكبيرة التي أدخلها. فقد ظلت الدولة متمسكة بأحد أهم الأفكار المؤسسة للثورة الصينية، وهي أولوية السيادة والاعتماد على الذات من أجل الارتقاء بالشعب الصيني وتحريره من الارتهان. وهذا ما يعكسه ظهور وتطور صناعات استندت إلى عقود من المراكمة في تطوير المؤسسات والبنى التحتية وعدم التفريط بها بأي شكل كان.

على مدى تاريخهم القريب، اعتاد الصينيون على العمل في ظروف خانقة وضاغطة، اضطرتهم لاختراع سبل النجاة والتقدم، حين كان الابتكار في أحيان كثيرة الحل الوحيد. وحتى اليوم، ما زالوا يستحضرون بفخر مشاريع كبرى مثل «قنبلتان وقمر صناعي واحد» ويستلهَمونها لتحفيز العمل على مشاريع جديدة، مثل «صنع في الصين 2025»، ولسان حالهم يقول: «إن استطعنا تحقيق ما حققناه حين كنا أضعف وأفقر وتحت حصار أشد وطأة بكثير، فما الذي نستطيع تحقيقه اليوم؟». ما باتت الصين تمتلكه من إمكانات ونظام صناعي متكامل يمنحها قدرة غير مسبوقة على التحكم باقتصادها بشكل لا يمكن للتعرفات والعقوبات الأمريكية أن تغيره، وإن استطاعت عرقلة شركة هنا أو مشروع هناك. لكن إلى جانب هذه القدرات، برز عامل أساسي في تجاوز العقوبات، هو حالة التعبئة الوطنية التي يتكاتف فيها المواطنون والمؤسسات الخاصة والعامة من أجل إنقاذ الصناعات والشركات المستهدفة أمريكيًا. لقد انقلبت العقوبات إلى حافز للاجتهاد والارتقاء إلى حد دفع الصينيين على وسائل التواصل الاجتماعي إلى مطالبة الولايات المتحدة بفرض عقوبات على منتخبهم الوطني لكرة القدم.

  • الهوامش

    [1] عام 2022، أعيدت تسمية الشركة لتصبح GCL Technology.

    [2] هذه المساهمة لا تتوقف على ما تنتجه الصين من طاقة، بل تمتد إلى جعل هذا التحول متاحًا لبلدان أخرى وكسر الاحتكار الغربي له عبر تخفيض أسعار الخلايا الشمسية بشكل كبير، ما مكن دول مثل البرازيل وفيتنام والهند من التقدم في سلم الدول الأكثر قدرة على إنتاج الطاقة الشمسية. وبالنظر لما يحمله التحول نحو الطاقة المتجددة من أهمية لمستقبل العالم في ظل أزمة المناخ، فإن تمكن دول الجنوب من دخول هذا المجال ليس مجرد فرصة استثمارية أو تنموية، بل هو مساهمة في ضمان مستقبل شعوب هذه البلدان في عالم ما بعد النفط الآتي حتمًا.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية