منذ سنوات، يناقش الاستراتيجيون الإسرائيليون ما يسمّونه حربًا متعددة الجبهات، وهي حرب يخوضها كيان الاحتلال على مجموعة من محاور القتال، وقد شملت هذه المحاور دومًا إيران وجنوب لبنان وغزة، وفي سيناريوهات أخرى شملت مجموعات مقاومة في سوريا، وأخرى في العراق، وأنصار الله في اليمن. تحدثت هذه السيناريوهات حول جهوزية المجتمع الصهيوني لخوض مواجهة مثل هذه، وقدرة جبهته الداخلية على الصمود والعمل في ظلّ تلك الظروف المتوقعة، ومدى قدرة الجيش بشكله الراهن على القيام بدوره، وشكل المساعدة المتوقعة من الولايات المتحدة وحلفائها.
واليوم، بعد اغتيال الاحتلال للقيادي في حزب الله فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، ولرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران، وما أعلنته إيران والمقاومة اللبنانية من نيتهما الردّ على هذه الاعتداءات، سواء أكان هذا الردّ جماعيًا متزامنًا من مختلف عناصر محور المقاومة، أو ردًا منفصلًا تقوم به كلّ جهة على حدة، وما قد يستتبعه من ردّ إسرائيلي ما، وسلسلة الردود المحتملة التالية، باتت الحرب التي كانت هذه السيناريوهات تتحدث عنها أقرب من أي وقت مضى، ومعها ستكون هذه السيناريوهات، والمجتمع الإسرائيلي من ورائها، موضع اختبار.
وفي انتظار ذلك الردّ، دون معرفة حجمه أو تفاصيله وسيناريوهاته، فضلًا عن الجهات المشاركة فيه، تشهد دولة الاحتلال حالة من الترقب التي دفعت صحفيًا إسرائيليًا للقول إن «إسرائيل» تطهى اليوم على نار هادئة. ويتأثر المجتمع الإسرائيلي بهذا الترقب، ومعه انخفض سعر العملة المحلية في مواجهة الدولار، على الأقل في الساعات الأولى التالية على الاغتيالات. ومع بداية الأسبوع، استيقظت «إسرائيل» على تراجع المؤشر الرئيس في بورصة تل أبيب إلى أدنى مستوى في ثلاثة أشهر، وفي الأيّام التالية أعلنت أكثر من 15 شركة طيران عالمية وقف رحلاتها إلى الكيان.
حالة الترقب هذه، وما تحمله من تأثيرات، دفعت جهات في كيان الاحتلال لمطالبة الجيش وحكومته بعدم الانتظار، وتوجيه ضربة استباقية ضد إيران وحزب الله، وهو ما يتخيل الداعون له أنه سيلجم هذه الجهات عن توجيه ضربة تالية. وعندما سئل الناطق باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري عن هذه الفكرة، في مؤتمر صحفي مساء الأحد أعاد تكرار تلك اللازمة التي يبدو أنها وسيلته المعتادة لإلقاء العبء عن كاهل الجيش نحو الحكومة، إذ قال إن الجيش لديه خطط واسعة النطاق، و«أي تعليمات نتلقاها من القيادة السياسية سننفذها فورًا».
على المستوى العسكري، وضمن هذا الترقب، أعلن جيش الاحتلال عن حالة «تأهب قصوى» في قواته وعلّق إجازات الجنود في كل الوحدات المقاتلة في سلاح البر والبحر والجو، وفي جميع تشكيلات التدريب. ونشر جيش الاحتلال مختلف منظومات الدفاعات الجوية الإسرائيلية في كافة مناطق فلسطين المحتلة، ومن ضمنها القدس المحتلة. وكثّف سلاح الجو من طلعاته فوق فلسطين، وسعى لتحصين قواعده بالمُسيّرات والقوات البرية لضمان استمرارية عمل القواعد الجوية خلال الحرب.
كما أجرى سلاح البحرية في جيش الاحتلال مناورات تحاكي اعتراض صواريخ دقيقة ومُسيّرات قد تستهدف منشآت الطاقة والغاز والموانئ. واستهداف مصادر الطاقة في الكيان واحد من مصادر الأرق لمستوياته السياسية، ومصدر ذعر حقيقي عند جمهوره. وسبق لحزب الله أن وجّه ثلاث مسيّرات نحو حقل كاريش للغاز قبل سنوات، ورغم تصدي الاحتلال للمسيّرات إلّا أن الموضوع بقي هاجسًا إسرائيليًا لا يُكفّ عن التطرق إليه، وقبل أيّام تصدت «إسرائيل» لمُسيّرة ضمن المجال الجوي لحقل كاريش، رغم أنه لم يعرف إن كانت تلك المسيّرات مذخرة أم أنها للمراقبة فقط.
استهداف آبار الغاز في البحر يعني أزمة حقيقية للكيان، إذ وبحسب صحيفة يديعوت آحرنوت، فإن نحو 70% من الغاز الطبيعي المستخدم في إنتاج الكهرباء في «إسرائيل» يأتي من منصات الغاز «تامار» و«كاريش» و«ليفيثان». وسبق أن صرّح مسؤول في قطاع إدارة الطاقة في «إسرائيل» بالقول: «إن منصات الغاز حساسة، وعندما تكون منصة نشطة فإنها قد تتحول إلى قنبلة موقوتة. وإذا أصابها صاروخ دقيق فإننا سنخسر المنصة وربما خزان الغاز أيضًا».
كما أثيرت مسألة انقطاع الكهرباء عن المستوطنين مرارًا منذ بداية الحرب، وتحديدًا في حال تصاعد المواجهة مع المقاومة اللبنانية. وسبق أن أثار شاؤول جولدشتاين، الرئيس التنفيذي للشركة التي تدير قطاع الكهرباء في «إسرائيل»، حالة من الذعر عندما صرّح بالقول «لسنا مستعدين لحرب حقيقية. نحن نعيش في رأيي في عالم خيالي»، وإن شبكة الكهرباء في «إسرائيل» معرضة للخطر وإن «نصر الله يمكنه بسهولة إسقاط شبكة الكهرباء في البلاد».
وضمن حالة الرعب ذاتها، انتشر في الأشهر الفائتة نمط الشراء المدفوع بالذعر لمولدات الطاقة، ولم يقتصر هذا الشراء على الأفراد، بل تعداه بحسب تقارير لشركات كبيرة عاملة في مجال الهاي تيك. وكان جولدشتاين قد قال في التصريح نفسه: «ماذا لو ضرب صاروخ نظام الكهرباء وحدث انقطاع في الكهرباء لمدة ساعة، ثلاث ساعات، 24 ساعة، 48 ساعة، 72 ساعة وأطول. ماذا يحدث في مثل هذه الحالة لإسرائيل؟ النتيجة النهائية هي أنه بعد 72 ساعة – لا يمكن العيش في إسرائيل».
من التبعات المحتملة لانقطاع التيار الكهربائي، في حال وقوع المواجهة الأوسع، انقطاع الاتصالات الخلوية، إذ لا تستطيع محطاتها الصمود حاليًا أكثر من ساعتين دونما كهرباء، ولذا عملت سلطات الاحتلال منذ أيّار 2023 على تحديث هذه المحطات بحيث تكون قادرة على الصمود لـ12 ساعة في حال انقطاع التيار الكهربائي، على اعتبار أنه يمكن لفرق الطوارئ أن تكون قد تمكنت من استعادة التيار الكهربائي خلال تلك الفترة. هذا الانقطاع في التيار الكهربائي، وبالتالي لشبكة الهواتف الخلوية يعني أن المستوطنين في مختلف مدن الشمال لن يكونوا قادرين على الحصول على تعليمات الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وتحسبًا لانهيار شبكة الاتصالات الخلوية زوّدت سلطات الاحتلال بعض الوزراء والرؤساء التنفيذيين وكبار المسؤولين بهواتف «فضائية»، وكذلك فعلت مع بعض المستشفيات، فيما ستعمل مستشفيات أخرى بشبكة هواتف سلكية.
كما تمّ تزويد المستشفيات بمولّدات كهرباء تكفي للعمل لأسبوع، وأصدرت وزارة الصحة الإسرائيلية تعليمات لتجهيز المستشفيات لحالة الطوارئ واستقبال آلاف الجرحى والامتناع عن العطل للطواقم الطبية، ونقل معظم الأقسام إلى طوابق محمية تحت الأرض، وتجهيز مواقف السيارات الأرضية لنقل المرضى.
وضمن المسار الترقبي ذاته، فتحت المدن الإسرائيلية المختلفة الملاجئ، ودعا هاغاري الإسرائيليين لمتابعة توجيهات الجبهة الداخلية في الكيان، وأعلن بالأمس أنها سترسل رسائل للمستوطنين مباشرة بمجرّد حصول تهديد ما، رغم أنه لم يوضح ما الذي سيحصل في حال انهيار شبكة الاتصالات. كما دعا مسؤولون إسرائيليون لتخزين الطعام والماء والدواء في الغرف المحصنة. فيما قالت صحيفة تايمز أوف إسرائيل إن الجمهور الإسرائيلي، وتحديدًا في شمال فلسطين المحتلة كان قد خزّن تلك المؤن أصلًا منذ بدء المواجهة مع حزب الله في الثامن من أكتوبر الفائت.
ولأن شكل الردّ الذي يتم تحضيره اليوم غير معروف، وقد يكون على شكل اغتيالات لقيادات في الكيان، على اعتبار أن الاعتداء الإسرائيلي كان في أحد أوجهه اغتيالًا لشخصيات في محور المقاومة، طلب جهاز الأمن العام الإسرائيلي، الشاباك، من رئيس الوزراء ووزرائه عدم المشاركة في أي فعاليات دونما التأكد من وجود مكان محصن بالقرب، كما منعهم من التوجه في جولات دون الحصول على إذن من مدير الشاباك شخصيًا، ورفع من درجة الحراسة الأمنية لهم. كما جهّز الشاباك الملجأ المحصّن لنتيناهو وعدد من أعضاء حكومته في القدس، والذي يفترض أن تتم إدارة كيان الاحتلال منه في حالة الحرب.
وضمن الاستعداد للرد، أعلنت «إسرائيل» إجراءها أعلى مستويات التنسيق مع الولايات المتحدة لمواجهة الضربة. وتتجهز الولايات المتحدة للدفاع مجددًا عن كيان الاحتلال، كما فعلت رفقة جهات إقليمية ليلة «الوعد الصادق» في الثالث عشر من نيسان الفائت، عندما وجهت إيران حوالي 350 صاروخًا ومسيّرة نحو الاحتلال عقابًا على استهداف الاحتلال للقنصلية الإيرانية في دمشق.
وضمن هذه الإجراءات العسكرية، بدأ مايكل كوريلا القائد الأعلى للقيادة المركزية للقوات الأمريكية زيارة للمنطقة، وسيكون في كيان الاحتلال اليوم، وهو ما فعله قبل ليلة 13 نيسان، ضمن الجهود الأمريكية الحالية لمحاولة صدّ الهجوم الإيراني.
كما أمر وزير الدفاع الأمريكي بإرسال حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لينكولن للمنطقة، لتستبدل حاملة طائرات أخرى، إضافة لنشر سرب مقاتلات في المنطقة. وتشمل الإجراءات العسكرية الأمريكية كذلك إرسال طرادات ومدمرات إضافية قادرة على الدفاع الصاروخي الباليستي إلى مناطق القيادة الأميركية الأوروبية والمركزية. كما نقلت وكالة «أسوشيتد برس» عن مسؤول أميركي قوله إن مدمرتين تابعتين للبحرية الأميركية ستتجهان إلى البحر المتوسط عبر البحر الأحمر، مضيفًا أن إحدى المدمرتين «قد تبقى في البحر الأبيض المتوسط إذا لزم الأمر».
في الأثناء، وفي ظلّ هذا القلق من الضربة، والذي دفع محللين إسرائيليين للتساؤل حول قدر الأمن الذي وفرته لهم عمليات الاغتيال هذه، وصف الكاتب الإسرائيلي أوري مسغاف عمليتي الاغتيال قائلًا: ما هو المدهش بالضبط في عمليات التصفية في بيروت وطهران التي ستنزل علينا حربًا شاملة مع إيران وامتداداتها في لبنان وفي كل المنطقة، وستحسم مصير المخطوفين القلائل الذين ما زالوا على قيد الحياة بعد عشرة أشهر في أنفاق غزة؟