عند التفكير بحال نهر اليرموك كما هو عليه اليوم، يظهَر تواطئ مضمر في زوايا اللغة مع الواقع. فكلمة نهر بالعربية تعني مجرى الماء، لكن من معانيها أيضًا الزجر والردع،[1] وهي المهمة الأخرى التي أسقطت على هذا المجرى المائي. فعلى ضفاف النهر، توضح كل اللوحات الإرشادية وأجهزة المراقبة أن هذا الجسم المائي يشكل حاجزًا صلبًا يفصل ضفتيه عن بعضهما. ولا شك أن هذا يدفع إلى التساؤل: هل شكل نهر اليرموك دائمًا فاصلًا طبيعيًا وحدًا جغرافيًا، مانعًا البشر المتواجدين على ضفتيه من التواصل؟
تضعنا دراسة الحدود في مواجهة لا يمكن تفاديها مع الدولة الوطنية (nation-state)، وبالتالي مع فكرة الهوية الوطنية المنبثقة عن تأسيس هذه الدول. فكما يقول هاستينغ دونان وتوماس ويلسون: «الحدود هي عبارة عن علامات الهوية، التي تلعب دورًا في صناعة الهوية الوطنية، الهوية السياسية الفريدة/ المميزة للدولة الحديثة. وهذا جعل من الحدود والروايات المرتبطة بها عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه في بناء الدولة الوطنية».[2] فلحظة وضع حدود دولة ما هي لحظة خلق وحدة بين سكان المناطق ضمنها، والادعاء بأن هناك ما يمايزها عن غيرها، بالتالي فإن دراسة الحدود هي مساءلة لهذه الوحدة ومساءلة لادعاء تمايزها.
في هذا المقال الأول من سلسلة مقالات حول نهر اليرموك، سنتناول كيف تحول النهر من جسم مائي طبيعي إلى حاجز حدودي يفصل دولًا عن بعضها البعض، ويمارس دوره في تحديد الأراضي التي تخضع لسيطرة وهيمنة وتحكم كل دولة. وذلك عبر قراءة تنظر للأشياء والأحداث على أنها صيرورة مستمرة تحمل تاريخها، وإمكانيات مستقبلها، كما تحتوي بداخلها علاقات تربطها مع بقية الأحداث، فتشكلها وتتشكل معها ومن خلالها. لذا فإن فهم نهر اليرموك كما هو اليوم غير ممكن إلا عبر تتبع تاريخه، والنظر إلى الوقائع المادية التي شكلته وأعادت تشكيله عبر السنوات، بما يشمل فهم العلاقات التي ربطته بغيره.
سنحاول في هذه المادة البحثية الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، من ضمنها: هل شكل نهر اليرموك قبل القرن العشرين علامة تحدد مناطق أو أقاليم مختلفة؟ وكيف تَغير النهر وما هي العوامل التي أدت لتغييره؟ ومتى بدأ بممارسة الدور المناط به حاليًا كرادع للناس يحجّمهم عن تجاوزه؟ وما الذي عناه تحوله إلى جسم حدودي يحدد نطاق هيمنة وسيطرة الدول التي تحاذيه؟
نهر اليرموك حتى بداية القرن العشرين
عاشت المجتمعات المحلية في المنطقة المحيطة بنهر اليرموك لمئات السنين وهي تعتمد نمطًا من الإنتاج البدائي القائم على نشاطيْن اقتصاديين، إذ شكلت الزراعة النشاط الرئيسي مقترنة بالرعي كنشاط ثانوي. ففي نهاية القرن التاسع عشر كانت المنطقة قائمة على الاستغلال المباشر للأرض بشكل أساسي، وذلك غالبًا عبر العائلة كوحدة اقتصادية للإنتاج والاستهلاك.[3] وعلى خلاف المجتمعات التي سكنت في مناطق ما بين النهرين أو على ضفاف نهر النيل، والتي طورت أنظمة مختلفة من الزراعة المروية، ظلت معظم مناطق سوريا الطبيعية تعتمد على مياه المطر في زراعتها، بينما كانت الزراعة المروية محدودة. فنرى أن سكان المنطقة كان يتفاعلون مع محيطهم الطبيعي بنوع من التكيف الاجتماعي-البيئي.
محليًا، تسمى الزراعة الموسمية المعتمدة على مياه الأمطار «الزراعة البعلية»، وتوصف الأرض التي لا تسقى إلا بمياه الأمطار بأنها «أرض بعل». تساعدنا البحوث الميثولوجية على فهم مدى امتداد الزراعة الموسمية في ماضي المنطقة. فقبل آلاف السنين، سادت في منطقة بلاد الشام/سوريا الكبرى عبادة الإله «بعل»، وهو حسب الأساطير إله السحاب والمطر والندى، والذي عُبد جنبًا إلى جنب مع الإلهة عشتار/عناة والتي ترمز إلى الأرض والخصوبة. فالعلاقة بينهما وحبهما الأبدي ضرورة لا غنى عنها للمواسم الزراعية.[4] وعبادة الإله بعل، على ما فيها من أساطير، تكشف عن نوع من الفهم شكّله سكان المنطقة للنمط المناخي الذي كان سائدًا فيها. فحياة بعل المحصورة بدائرة من العود الأبدي تفسر تعاقب المواسم وما يعنيه هذا التعاقب من وجود سنوات من الخصب تعقبها سنوات من القحط. لذا فإن تسمية الزراعة البعلية أو الأراضي البعل تقوم بمد جسر بين الحاضر والماضي، كاشفةً عن نمط زراعي استمرت ممارسته على مدار آلاف السنوات.
بناءً على ما سبق، يتبين أن أهمية نهر اليرموك لا تعود لكونه مصدرًا مائيًا بارزًا، أو محطًا لزراعة مهمة بالمنطقة فحسب، وإنما تأتي من كونه نقطة وصل للمراكز الحضرية والتجمعات السكانية حوله. فكافة الإمبراطوريات الكبيرة، ذات الطموح، كانت تدرك مركزية المنطقة المحيطة بنهر اليرموك في مد حكمها وسيطرتها، فمنذ «الديكابولس» (Decapolis)، أو ما يعرف بحلف المدن العشر،[5] شكل نهر اليرموك والمنطقة المحيطة به عقدة وصل للمناطق الممتدة حوله. ونستطيع أن نستدل على ذلك بالجسور التي امتدت من فوقه، والتي يرجع أقدم آثارها إلى حقبة الوجود اليوناني والروماني بالمنطقة. أما أهم هذه الجسور وأقدمها، فهو جسر المجامع الموجود على نهاية نهر اليرموك على بعد مئتي متر من التقائه بنهر الأردن. ويكشف لنا اسم الجسر مهمته، فمصطلح المجامع يشير ليس لنقطة تجمع فقط، وإنما إلى نقطة تلتقي بها عدة نقاط تجمّع ومناطق ومسارات. فهو يربط المناطق الشرقية التي تصل العراق، بالمناطق الشمالية من حلب ودمشق، بالمناطق الجنوبية وصولًا إلى مصر أو شبه الجزيرة العربية.
فإذا كان هذا حال النهر بالنسبة للإمبراطوريات والجغرافيا، فكيف يراه سكان المنطقة؟
في جميع المقابلات مع سكان المنطقة المحيطة بنهر اليرموك من كلتا ضفتيه، سواء أكانوا سكان القرى الأردنية، أم من سكان القرى السورية والموجودين حاليًا في الأردن، جاءت الشهادات حول العلاقة التي ربطت سكان المنطقة بنهر اليرموك لتؤكد أن النهر لم يكن يشكل عائقًا أو محددًا لحركة المجتمعات المحلية، فتلك المجتمعات كانت مرتبطة ببعضها البعض بشكل وثيق، حيث شكلت الأسواق الكبيرة، التي كانت متواجدة في مناطق محددة، بؤرًا تربط بها ما حولها من قرى مشكلة مراكز لتبادل البضائع والسلع،[6] مع ما يتخلل هذه العلاقة الاقتصادية من نسج لعلاقات سياسية واجتماعية.
إن الشروط والظروف التي أدت إلى تحول نهر اليرموك إلى فاصل حدودي في بداية القرن العشرين هي نفسها الشروط والظروف التي قادت إلى ولادة الدول الوطنية في المنطقة بشكلها الحالي.
إلا أن عبور النهر لم يكن بسبب الذهاب إلى الأسواق فحسب، بل كانت العائلات تتنقل بين المناطق المترامية على طرفيه لأسباب متعددة، فإن حدوث فترات من الجفاف أو وقوع كوارث طبيعية أو نشوب اضطرابات سياسية كان يدفع العائلات لتغيير مكان سكنها والبحث عن مكان آخر. ويتبين من الوثائق التاريخية العثمانية والشهادات المحلية الموثقة وكتابات الرحالة أن المنطقة شهدت تنقلات سكانية كبيرة خاصة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.[7] بالعودة إلى الوثائق العثمانية وشهادات سكان المنطقة، يتأكد أنه لم يُشر لنهر اليرموك كعلامة حدودية تفصل بين ولايات أو متصرفيات، ولا كان علامة لتمييز مناطق عن بعضها. أما عبور النهر فكان مسألة اعتيادية وروتينية في تحركات سكان المنطقة.
شهدت نهاية القرن التاسع عشر تناميًا في أهمية نهر اليرموك كنقطة وصل وربط بين المناطق حوله، ففي تلك الفترة تم اقتراح مشروع لبناء سكة حديدية لتعمل على إعادة تثبيت السيطرة العثمانية على المناطق التابعة لها.[8] هذه السيطرة كانت قد واجهت تهديدًا وجوديًا بعد حملة محمد علي باشا الناجحة للسيطرة على أراضي الشام، إلا أن هذه الحملة شكلت كذلك تهديدًا للمصالح الاستعمارية المتنامية للدول الأوروبية، مما أدى إلى اجتماع الفرقاء واتفاقهم على تحجيم محمد علي وحصر حكمه بمصر.[9]
إلى جانب أهميتها العسكرية من خلال سرعة نقل الجنود حيثما تستدعي الحاجة، عملت السكةُ الحديدية، التي امتدت بين دمشق شمالًا والمدينة المنورة جنوبًا مع فرع يصل حيفا غربًا، على تعزيز الروابط الاقتصادية بين مناطق الإمبراطورية، مسهلةً حركة البضائع إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط ليتم تصديرها. وهنا، برز نهر اليرموك كجزء مهم من مشروع السكة، إذ إن الطريق إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط تمر من فوقه، خصوصًا إلى ميناء حيفا الذي كان قد أنشئ كميناء مركزي لكامل المنطقة. بالتالي، امتد جزء من السكة فوق نهر اليرموك في جسر يحمل اسمه ولا تزال آثاره شاخصة إلى يومنا هذا، بالقرب من قرية المخيبة الفوقا (الحمة الأردنية). كما تم بناء محطة للقطار بالقرب من هذا الجسر لكي يتاح للمسافرين الصعود إلى القطار والنزول منه، وتحميل البضائع ونقلها.
القطار مارًا من فوق نهر اليرموك، في جزء من سكة حديد الحجاز. مكتبة الكونغرس.
أحدثت السكة الحديدية التي بدأت بالعمل عام 1908، تأثيرًا ملحوظًا على الزراعة في المنطقة خلال فترة زمنية قصيرة، إذ اتسعت الزراعة بسبب القدرة على نقل البضائع بتكلفة أقل وسرعة أكبر. وإلى جانب ذلك، وُضعت مجموعة من الخطط الاستثمارية التي استهدفت ضفاف نهر اليرموك، من ضمنها خطة لاستغلال المياه الكبريتية الحارة الموجودة في قرية الحمة. كما تم الالتفات لإمكانيات النهر كمصدر مائي لإنشاء زراعة مروية، حيث أدخلت زراعة القطن إلى قرية العدسية في العام 1910، بالإضافة إلى زراعة الموز وأنواع معينة من أشجار الحمضيات، وذلك على أيدي البهائيين الذين انتقلوا من إيران بعد صدام مع سلطاتها، إلى عكا، ومن هناك قام عباس أفندي، ابن مؤسس البهائية، بشراء أراضي قرية العدسية، التي انتقل إليها مجموعة من البهائيين لزراعتها،[10] حيث تميزوا باستخدامهم لطرق ريّ جديدة مثل الريّ السطحي، وهي تقنيات لم تكن مستخدمة أو معروفة في المنطقة.
حدود متحركة: النهر من فاصل بين الإمبراطوريات إلى علامة نشوء دول
شكلّ مطلع القرن العشرين فترة مليئة بالإرهاصات التي أدت إلى تشكيل وإعادة تشكيل المنطقة. فزيادة حدة التناقضات داخل الإمبراطورية العثمانية، وعدم قدرتها على مجاراة التقدم الرأسمالي في دول أوروبا الغربية، وممارستها سياساتٍ قمعيةً اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا تجاه سكان المناطق التابعة لها، بالإضافة إلى المصالح الاستعمارية المتنامية للقوى الأوروبية التي كانت تطمح للحصول على حصة من المناطق التي تسيطر عليها الإمبراطورية العثمانية؛ كل ذلك شكّل الظروف التي تلاقت مع نشوب الحرب العالمية الأولى واتخاذ الإمبراطورية العثمانية طرفًا فيها. ومع أن الحرب كانت في بداياتها، إلا أن دول الحلفاء لم تدخر وقتًا لتتقاسم جثة الإمبراطورية العثمانية فيما بينها. ومن هنا، جاءت اتفاقية سايكس-بيكو ذائعة الصيت. حيث نصت الاتفاقية على تقسيم مناطق بلاد الشام وما بين النهرين بين القوتين الاستعماريتين الأبرز حينها، بريطانيا وفرنسا. فكلتاهما امتلكتا مصالح أرادتا الحفاظ عليها أو سعتا إلى إنشائها، فكانت هذه الاتفاقية بمثابة الضامن والكفيل لذلك.
رغم أن اتفاقية سايكس-بيكو، التي وقعت في العام 1916، هي الحدث الأبرز الذي يؤرخ به لتقسيم المنطقة إلى كيانات عدة، إلا أن هذه الاتفاقية لم تشكل سوى المرحلة الأولى لذلك، أو ما يمكن وصفه بأنه اتفاق ابتدائي تبعته العديد من المفاوضات والاتفاقيات لتحديد المناطق الخاضعة لكل طرف وتعيين فواصل بينها. لذا فإن الكيانات التي نشأت عن ذلك لم تتخذ شكلًا ثابتًا إلا بعد اتفاقية سايكس-بيكو بعشرات السنوات، اختلفت خلالها تبعية عدة مناطق بناء على نتائج تلك الاتفاقيات والمفاوضات. مثلًا، نجد أن الموصل وُضعت ضمن المناطق التي تتبع فرنسا في اتفاقية سايكس-بيكو ومن ثم ألحقت في بلاد ما بين النهرين تحت السيطرة البريطانية، ولم يوافق الفرنسيون على إلحاق لواء الإسكندرون بتركيا إلا في العام 1939،[11] كما أن جزءًا من المنطقة الشمالية الشرقية للأردن، في المنطقة المعروفة بالأزرق، ظل حتى العام 1930 يعتبر تابعًا لدولة جبل الدروز التي أنشأها الفرنسيون في مناطق جبل العرب والسويداء.
خريطة اتفاق سايكس-بيكو، عام 1916.
أنتج في السنوات الواقعة بين عامي 1916 و1947 العديد من الخرائط لترسيم حدود الكيانات السياسية التي نشأت عن المفاوضات بين القوى الاستعمارية وداخلها. بالتالي، لا يمكن دراسة الحدود وفهم كيفية تشكلها دون الاطلاع على تلك الخرائط، فهي بمثابة التقاط صورة ثابتة لحركة التاريخ، تبينّ لنا شكل التحولات التي كانت تجري في فترة زمنية معينة.[12]
ويظهر من المفاوضات والنقاشات بين وداخل هاتين الإمبراطوريتين أن المياه شكلت عنصرًا أساسيًا في الاعتبارات التي وُضعت لترسيم الحدود. فبعد حصولها على وعد من قبل بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود، حاولت الحركة الصهيونية أن تشمل في هذا الكيان كافة مصادر المياه الرئيسية في المنطقة. وتُظهر الخريطة التي اقترحتها للدولة اليهودية والتي قدمتها لمؤتمر باريس في العام 1919، أنها كانت تضم نهر الليطاني شمالًا، كما ضمت كلا من أنهُر الحاصباني، وبانياس، واللدان، وهي التي تشكل روافد نهر الأردن الأعلى، بالإضافة إلى نهر اليرموك رافده الرئيس، جنوب بحيرة طبريا. ويظهر جليًا أن الخريطة المقترحة شملت ضفتي نهر الأردن، بما يتضمن سلسلة الجبال في الضفة الشرقية للنهر.
رفض الفرنسيون في مؤتمر سان ريمو في العام 1920 التخلي عن نهر الليطاني، كما أصروا على تبعية المناطق الواقعة شرقي بحيرة طبريا لهم، وأرادوا السيطرة على الجزء الأكبر من نهر اليرموك. ولحل هذه الإشكالات، أُقِر تشكيل لجانٍ لبحث موضوع الحدود بين الطرفين. وفي أعقاب المؤتمر، احتج حاييم وايزمان باسم الحركة الصهيونية لدى البريطانيين بسبب استثناء نهريّ اليرموك والليطاني من الكيان الفلسطيني، مبينًا أن:
«مشروع الاتفاق الذي اقترحته فرنسا لا يفصل نهر الليطاني عن فلسطين فحسب، ولكنه يحرمها من منابع نهر الأردن، والساحل الشرقي لبحر الجليل، وكل وادي اليرموك شمالي خط سايكس-بيكو. أنا على ثقة أنكم تعون المستقبل السيئ الذي يحمله المقترح الحالي للوطن القومي اليهودي. كما أنكم على علم بأهمية نهر الليطاني، ونهر الأردن وروافده، ونهر اليرموك لفلسطين».[13]
وافقت عصبة الأمم في شهر أيلول من العام 1922 على الطلب البريطاني بتعديل صك الانتداب على فلسطين، بحيث تعتبر الأراضي على الضفة الشرقية لنهر الأردن إقليمًا منفصلًا، وتستثنى من الخضوع لبنود صك الانتداب المتعلقة بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، أي أن فلسطين وشرقي الأردن ظلتا خاضعتين إلى نفس صك الانتداب ولكن باعتبارهما إقليمين منفصلين.[14] وفي نفس السياق، نجد أن الفرنسيين أنشأوا أربع دول في مناطق سوريا التي سيطروا عليها، إذ كان هناك دولة على الساحل السوري تشمل ما هي اليوم مناطق اللاذقية وطرطوس، ودولة أخرى فيما يدعى جبل العرب، إلى جانب دولة كانت تسمى سوريا تضم دمشق وحلب، وبقيت هذه الدول منفصلة لما يزيد عن عقدٍ ونصف، إلى أن عادت وتوحدت في ظل دولة واحدة. هذا إلى جانب لبنان الذي ظل دولة منفصلة.[15]
يكشف نهر اليرموك عن قدرته على توضيح التغيرات التي حصلت بالمنطقة بشكل مكثف، فهو لم يعتبر علامة حدودية تفصل بين مناطق هيمنة وسيطرة الإمبراطوريات فقط، بل كان كذلك علامة حدودية بين مناطق مختلفة تتبع إلى ذات الإمبراطورية. بالنسبة لكونه حدًا بين الإمبراطوريات، نجد أن النهر بقيَ موضع خلاف لأكثر من عقد من الزمن، إذ بالرغم من أنهما شكلتا لجنة مشتركة لتعيين الحدود في العام 1920، بقيَ نهر اليرموك مسألة عالقة بين الطرفين. ففرنسا اعتبرت أن نهر اليرموك هو جزء من المنطقة التابعة للدولة التي أنشأتها في جبل العرب، كون مياه النهر مهمة لهذه الدولة لأنها مصدرها المائي الأساسي. أما بريطانيا، فلم تكن مهتمة بالمياه على قدر اهتمامها بالمنطقة المحاذية لنهر اليرموك. فبالقرب من النهر، كانت تعمل على مد أنبوب النفط الواصل من كركوك إلى حيفا، ولم تكن تريد أي تهديد أو إزعاج لمشروعها في نهب نفط العراق وإيران.
أخيرًا، توصل المسؤولون في القوتين عام 1931 إلى تسوية قادت إلى اعتبار جزء من النهر يتبع لفرنسا، وجزء آخر يتبع لبريطانيا، أما الجزء الذي تمر فوقه السكة الحديدية فقد اعتبر حاجزًا حدوديًا خاضعًا لإدارتهما المشتركة. وهذا الجزء الحدودي هو ما يشكل في يومنا هذا الحدود الأردنية-السورية، التي تمتد لما يزيد عن 50 كيلومترًا بما يشمل الحدود مع الجولان المحتل.[16]
أما اعتبار نهر اليرموك حدًا فاصلًا بين فلسطين وشرقي الأردن اللذين كانا يتبعان للامبراطورية نفسها، فهي مسألة تركت غير ثابتة ولم تتخذ شكلًا قانونيًا إلى حين صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، عندما اعتبر جزء من نهر اليرموك، قبل أن يصب في نهر الأردن، العلامة الحدودية الفاصلة بين الأردن وما أصبح يدعى «إسرائيل».
خريطة توضح امتداد نهر اليرموك كحد بين الدول.
إن العودة إلى الخرائط التي أنتجت وأعيد إنتاجها للمنطقة، تستطيع أن ترينا أنها رسمت بأيدي المنتصرين، وأن هذه الخرائط لم تكن سوى أداةً استعمارية. ومن هذا المنطلق، فإن الشروط والظروف التي أدت إلى تحول نهر اليرموك إلى فاصل حدودي في بداية القرن العشرين هي نفسها الشروط والظروف التي قادت إلى ولادة الدول الوطنية في المنطقة بشكلها الحالي، بما فيها الأردن. فكما قال المؤرخ مايكل فيشباخ «بقدر ما تعطى الأفكار شكلًا ملموسًا عبر الكلمات، فإن فكرة أن شرق الأردن منفصلة عن سوريا الكبرى أصبحت ملموسة بعد أن استطاع السكان تحديد موقع دولتهم الجديدة بشكل واضح على الخريطة».[17] أي أن هذه الخرائط «قامت ببناء العالم لا بإعادة تشكيله».
وكما أن فصل نهر اليرموك عن محيطه واعتباره حاجزًا حدوديًا يعيدنا إلى اللحظة التاريخية التي أدت إلى نشوء الدولة-الوطنية في الأردن، فإن اعتبار نهر الأردن حاجزًا حدوديًا يحيلنا إلى ولادة مفهوم «فلسطين التاريخية»، الذي ظهر واستخدم في سياق رفض تقسيم المنطقة الجغرافية التي يشير إليها بين دولة يهودية وأخرى عربية، أي أنه ظهر في مواجهة الرواية الصهيونية التي ادعت أن هذه المنطقة فارغة من السكان.[18] ورغم أهمية هذا التوظيف لرفض السردية الصهيونية، يجب أن نتذكر أن ما يعرف بـ«فلسطين التاريخية» لم يكن وحدة جغرافية متحدة ومتمايزة، بل أن جغرافيا فلسطين كانت من الممكن أن تكون أكبر كثيرًا مما هي عليه، وفق مصطلح «فلسطين التاريخية»، لو أفلحت ضغوط الحركة الصهيونية في السنوات الأولى من القرن العشرين. لذا، فإن مصطلح «فلسطين التاريخية» هو ادعاء بِلا-تاريخية فلسطين، وكأن فلسطين كوحدة جغرافية متحدة ومتمايزة هي أبدية، سبقت التاريخ. لذا، فإن «فلسطين التاريخية» لا مكان لها إلا في الميتافيزيقا، أما فلسطين المقصودة إنما هي فلسطين الانتدابية، كما حددتها القوى الاستعمارية الأوروبية بداية القرن العشرين.
خاتمة: ليلة الجسور، أو اكتمال تحول اليرموك إلى جسد حدودي
من المهم الإشارة إلى أن نهر اليرموك لم يكتسب مهمته كحد فاصل بالنسبة للسكان المحليين إلا ببطء وعبر صيرورة امتدت لعدة عقود، حافظوا خلالها على جزء من علاقتهم سواء مع النهر أو بينهم كتجمعات بشرية. إذ استمرت الحركة البينية بعد إعلان النهر جسدًا حدوديًا، إلى أن قامت الدول بترسيخ حدودها وإكسابها صرامة واضحة، ليصبح اختراقها مسألةً تعرض مرتكبيها لعواقب وخيمة. فحتى منتصف الأربعينيات، ظل سكان المنطقة يقطعون النهر إما من خلال عبوره في المناطق التي يسمح لهم منسوب المياه وجغرافيا المكان بذلك، أو من خلال الجسور التي كانت ممتدة فوقه، والتي يعود بعضها، لألفين أو يزيد من السنين. هذه الجسور تشكل برهانًا ماديًا على الترابط الموضوعي والتاريخي بين سكان المنطقة، وهو الترابط الذي عُزز لفترة وجيزة في بدايات القرن العشرين عبر السكة الحديدية.
أدركت المجموعات الصهيونية المسلحة التي نشطت بالمنطقة أهمية هذه الجسور ودورها، وهو الأمر الذي جعلها هدفًا لإحدى أكبر العمليات التي سبقت حرب العام 1948، في هجوم جرى التخطيط له بإحكام ودقة، وشكل إلى جانب أهميتها العسكرية قيمة رمزية كبيرة.
إذ وضعت جماعة «البالماخ» (Palmach) الصهيونية المسلحة، والتي تمثل نوعًا من القوات الخاصة التابعة لقوات الهاجاناه الصهيونية العسكرية، خطة لتفجير الجسور التي تربط جغرافيا فلسطين الانتدابية بكافة المناطق حولها. فقد كان عدد من هذه الجسور يُستخدم طرق معبدة، أو مُدّت من فوقها خطوط السكة الحديدية، فكانت وسيلة لتجاوز العوائق الجغرافية التي تفرضها الطبيعة. لذلك تظهر الجسور وكأنها أذرع مدتها المجتمعات البشرية المتناثرة على الرقع الجغرافية حول نهر اليرموك، واصلة البشر ببعضهم وموصلة الجغرافيا ببعضها.
وفي تعبير مكثف عن جوهر الصهيونية كحركة قائمة على العنف، تذكر قوات «البالماخ» على موقعها الإلكتروني أن أحد أهداف العملية كان «قطع إسرائيل عن جيرانها العرب»، وإظهار القدرات العملياتية لهذه المجموعة المسلحة، إلى جانب إظهار مقدار شجاعتها وجرأتها، وذلك كرسالة للدول العربية على ما يمكن أن تواجهه في أي مواجهة مقبلة.[19] لذا تظهر العملية العسكرية التي حدثت في العام 1946، وسُميت من قبل القائمين عليها بـ«ليلة الجسور»، لا كعمل عدائي تجاه المجتمعات المحلية القاطنة في تلك المنطقة فحسب، بل أيضًا تجاه الطبيعة وتجاه العلاقة التي كانت قائمة بينهما. أما الرسالة الموجهة، فيبدو أنها فهمت وأخذت بعين الاعتبار. في هذه العملية، تم تفجير 11 جسرًا، من ضمنها جسر اليرموك، الذي كان بُنيَ بالقرب من قرية المخيبة الفوقا (الحمة الأردنية).
لذا فإن إعلان دولة «إسرائيل» في العام 1948، لم يكن إلا الحركة الختامية في المشروع الذي كان يجري التحضير له طيلة عدة عقود سابقة. لكنه كان أيضًا ترسيخًا جغرافيًا عنيفًا لنهر اليرموك كجسد حدودي، ولمياهه كموضوع إقليمي، يخضع للعلاقات البين-دولية، القائمة على عدم التساوي في علاقات القوة.
-
الهوامش
[1] مجمع اللغة العربية (2011)، المعجم الوسيط، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية. ص997
[2] Donnan, Hastings and Wilson, Thomas M. Borders: Frontiers of Identity, Nation and State (Oxford: Berg, 2001) P.5
[3] الحوراني، هاني (1978). التركيب الاقتصادي-الاجتماعي لشرق الأردن «مقدمات التطور المشوه» 1921-1950. بيروت: سلسلة كتب فلسطينية. ص15-20
[4] السواح، فراس، 1996، مغامرة العقل الأولى. «دراسة في الأسطورة-سوريا وبلاد الرافدين». دار الكلمة. ط11. ص345.
[5] تحالف روماني أنشأه الإمبراطور بومبيوس الكبير عام 64 ق.م. ضم عشرة من أهم مدن منطقة بلاد الشام وهي: جراسا (جرش)، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، بيلا (طبقة فحل)، أبيلا (حرثا)، ديون (أيدون)، هيبوس (الحصن)، سكيثوبوليس (بيسان)، دمشق، كاناثا (قنوات).
[6] للاطلاع على الشهادات التي وثقها الباحث يرجى العودة إلى الدراسة الاثنوجرافية «تاريخ حياة نهر اليرموك: من جسد حدودي إلى قرار سياسي».
[7] ابو الشعر، هند (1995). اربد وجوارها (ناحية بني عبيد) 1850-1928. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص74 وما بعدها.
[8] أنظر/ي جزء من التقرير الذي رفعه المفكر جمال الدين الأفغاني في تأييد مشروع السكة الحديدية، في: ابو الشعر، هند (2010). تاريخ شرقي الأردن في العهد العثماني (1516-1918). عمان: وزارة الثقافة الأردنية. ص 419.
[9] Fahmy, Khaled (2002). All the Pasha’s Men Mehmed Ali, his army, and the making of modern Egypt. (Cairo: The American University in Cairo Press) P.60
[10] ظاهر، أحمد (1988). أغوار الأردن «عمليات التغيير وأداة التطوير». عمان: دار ابن رشد للنشر والتوزيع. ص106
[11] Jörum, Emma Lundgren (2014), Beyond Syria’s Border «A History of Territorial Disputes in The Middle East». (London: I.B.Tauris & Co Ltd.) P. 22
[12] Weizman, Eyal, Forensic Architecture: Violence at The Threshold Of Detectability. (New York: ZONE BOOKS, 2017) P. 138
[13] UEA (2019). Hydropolitical Baseline of the Yarmouk Tributary of the Jordan River. Norwich: Water Security Research Centre, University of East Anglia. P. 55
[14] انظر/ي المادة 25 من نص الانتداب البريطاني على فلسطين، التي وافقت عصبة الأمم على تعديلها في 16-09-1922
[15] Jörum, Beyond Syria’s Border «A History of Territorial Disputes in The Middle East» P. 24
[16] Amadouny. V. M. «The Formation of the Transjordan-Syria Boundary, 1915-32.» Middle Eastern Studies 31, no. 3 (1995): 533–49.
[17] Fischbach, Michael R, State, Society and Land in Jordan, Boston: Economic and Political Studies of The Middle East and Asia, ed. REINHARD SCHULZE, Vol. 75 (2000) P. 197
[18] تفاديت استخدام مصطلح «سكانها الأصليين أو السكان الأصليين» ذلك أن هذا المصطلح إشكالي بحد ذاته، ولا مجال للخوض فيه في هذه المقالة.