في الـ19 من تموز الجاري، قطعت مُسيّرة يافا نحو ألفي كيلومتر من اليمن حتى «تل أبيب» دون أن تتمكن المنظومات الاعتراضية والرادارات من اكتشافها. أدى هذا الهجوم النوعي الذي أعلنت جماعة أنصار الله اليمنية مسؤوليتها عنه إلى انفجار أسفر عن مقتل إسرائيلي وإصابة عشرة آخرين، في حين توعدت «إسرائيل» بجعل «الحوثيين يدفعون الثمن»، وأمرت بتعزيز أنظمة الدفاع الجوي. قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إن هذه العملية واحدة من أكثر من 200 هجوم جوي للحوثيين على «إسرائيل»، لكنها المرة الأولى التي ألحقوا فيها الأذى بمواطن إسرائيلي، ولذلك، قصفت طائرات إسرائيلية في اليوم التالي أهدافًا عسكرية للحوثيين قرب ميناء الحديدة.
كان اختيار «إسرائيل» ضرب ميناء الحديدة مقصودًا، فمن ناحية زعم الاحتلال أن الحوثيين يستخدمون الميناء، الذي يضم منشآت نفطية ومحطة كهرباء، في استقبال أسلحة من إيران، ومن ناحية أخرى، ربط نتنياهو بين الميناء والاستهدافات البحرية المتواصلة في البحر الأحمر، والتي أدت إلى إفلاس ميناء إيلات وشكلت ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد الإسرائيلي الذي يشهد تراجعًا في الصناعة ومعدل الإنتاج الزراعي وساهمت في ارتفاع أسعار السلع داخل دولة الاحتلال.
تطورت العمليات العسكرية البحرية اليمنية منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول الماضي بالتدريج، لكنها منذ مطلع العام الجاري ومع تشكيل الولايات المتحدة تحالف حارس الازدهار «لحماية حرية الملاحة الدولية»، أخذت منحى جديدًا من التصعيد وصفه قادة البحرية الأميركية بأنه المعركة البحرية الأعنف التي تنفذها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
وتيرة متصاعدة للعمليات البحرية
في العاشر من تشرين الأول الماضي، أعلنت حركة أنصار الله استعداد القوات اليمنية للتدخل العسكري المباشر في المعركة بهدف الضغط على «إسرائيل» لوقف عدوانها على قطاع غزة، وشهدت الأسابيع التالية عمليات متفرقة ضد أهداف إسرائيلية مختلفة عبر الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة. وبعد ساعات قليلة من تهديد الحوثي باستهداف السفن الإسرائيلية في التاسع عشر من تشرين الثاني، وردت أخبار احتجاز سفينة جالكسي ليدر التي تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي.
منذ هذه الحادثة، اتضح الامتياز البحري الذي تمتلكه الجبهة اليمنية في فرض الضغط، إذ تستحوذ التجارة البحرية على 70% من واردات «إسرائيل»، ويمر 98% من تجارتها الخارجية عبر البحرين الأحمر والمتوسط. كما تسهم التجارة عبر البحر الأحمر بـ34.6% من الاقتصاد الإسرائيلي. وفي ظل استمرار المجازر والحصار الإسرائيلي على القطاع، شهد كانون الأول مرحلة جديدة من التصعيد تمنع عبور السفن المتجهة إلى «إسرائيل» مهما كانت جنسيتها إذا لم يدخل الغذاء والدواء إلى غزة، وردًا عليها، نفذت الولايات المتحدة الأمريكية غارات جوية متفرقة على المدن اليمنية.
لم تَبْلغ العمليات والاستهدافات البحرية ذروتها حتى شنَّت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة سلسلة هجمات مشتركة على المدن اليمنية ومناطق سيطرة حركة أنصار الله في إطار «تحالف حارس الازدهار». وعلى إثر الهجمات الصاروخية التي انطلق بعضها من حاملة الطائرات الأمريكية «إيزنهاور» نهاية أيار الماضي، أعلن قائد الحركة عبد الملك الحوثي مرحلة جديدة من التصعيد تشمل استهداف السفن الأمريكية والبريطانية ما زالت القوات اليمنية منخرطة بها حتى الآن.
حتى تموز الجاري، اتسعت دائرة الاستهدافات اليمنية في البحر الأحمر لتطال السفن الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية وكافة السفن المتجهة للموانئ الاسرائيلية أيًا كانت جنسيتها، بالإضافة لسفن الشركات التي لم تلتزم بقرار حظر التوجه للموانئ الاسرائيلية. تجاوز عدد السفن المستهدفة حتى اليوم 160 سفينة، معظمها تعود ملكيتها لـ«إسرائيل» أو الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا. خلال شهر حزيران فقط، استهدف الحوثيون 39 سفينة مقارنة بـ21 سفينة تم استهدافها خلال أيار الماضي. يقول الصحفي اليمني عبدالرحمن الأهنومي إن وتيرة تنفيذ العمليات البحرية ارتفعت من عملية كل يومين إلى ثلاثة أيام إلى حوالي عمليتين يوميًا.
ورغم أن الاحتلال الإسرائيلي حاول التحايل على قرار أنصار الله بحظر التوجه للموانئ الإسرائيلية عبر تغيير الوجهات ورفع أعلام دول أخرى وتعيين طواقم وموظفين آسيويين، إلا أن الجهود الاستخباراتية كانت قادرة على الرصد المكثف للسفن وتقصي ملكيتها وصلاتها بالاحتلال في أوقات قياسية. يقول الأهنومي إن هذه الجهود تنعكس في الدقة التي اتسمت بها هذه العمليات والتي طورتها القوات اليمنية على مدار الأشهر لإصابة السفن المخالفة، «ولذلك لم نشهد تضرر السفن الروسية والصينية[1] أو حركة الملاحة المرتبطة بهذه الدول بعكس ما تحاول أمريكا تصويره»، بحسب قوله.
التطور النوعي للتصعيد
بعكس التوقعات التي جاءت من تشكيل التحالف الدولي الغربي الساعي لحماية السفن الإسرائيلية، يقول الصحفي اليمني عبد الحافظ معجب إن اليمن ذهب باتجاه التصعيد الذي لم يكن كميًا فحسب، بل أيضًا على نطاق نوعية السفن والأسلحة والأضرار اللاحقة بها. حتى مطلع العام الجاري، كان الهدف وقف الملاحة للموانئ الاسرائيلية دون إعطاب السفن، ولذلك كانت السفن المخالفة تُمنع من المرور ويطلب منها العودة. يقول المحلل السياسي طالب الحسني إن اليمن قرر ردًا على القصف الأمريكي والبريطاني تعظيم الأضرار عبر إغراق أو حرق بعض السفن واستهدافها أكثر من مرة وبأكثر من صاروخ واحد، مثل سفينة «إم في روبيمار» البريطانية التي استهدفتها صواريخ الحوثيين الباليستية شباط الماضي.
كان إلحاق الخسائر البشرية جزءًا من تعظيم الأضرار الناتجة عن الاستهدافات، إذ أسفر الصاروخ الذي أصاب سفينة «ترو كونفيدينس» الأمريكية عن مقتل ثلاثة من أفراد طاقمها، فيما توعدت الولايات المتحدة بـ«محاسبة الحوثيين» وزعمت أن ملكية السفينة ليبيريّة. من جانب آخر، يعتمد تصعيد مستوى الأضرار التي تلحق بالسفن على تطوير نوعية الأسلحة المستخدمة. تملك جماعة أنصار الله ترسانة من الطائرات المسيرة المضادة للسفن والصواريخ الباليستية المجنحة التي يتجاوز مداها آلاف الكيلومترات وتستطيع ضرب أهداف ثابتة ومتحركة نظرًا لكونها تستطيع العمل بقدرات القصور الذاتي وتتعامل مع الأقمار الصناعية ومزودة بأنظمة GPS دقيقة التوجيه.
خلال شهر حزيران فقط، استهدف الحوثيون 39 سفينة مقارنة بـ21 سفينة تم استهدافها خلال أيار الماضي، لترتفع وتيرة تنفيذ العمليات البحرية من عملية كل يومين إلى ثلاثة أيام إلى حوالي عمليتين يوميًا.
إلى جانب هذه الأسلحة التي يمكن إطلاقها من القوارب المسيرة أو الغواصات المفخخة والألغام البحرية، كشف الحوثيون مطلع تموز الجاري عن أنواع جديدة من الزوارق البحرية المسيرة مثل زورق «طوفان 1» وزورق «طوفان المدمر»، ويتمتع كلاهما بقدرة تدميرية عالية وتكنولوجيا متطورة ورأس حربي يزن 1000 – 1500 كيلوغرام من المتفجرات. نشر المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية يحيى سريع في 23 حزيران لقطات حصرية من توجيه «طوفان المدمر» لاستهداف السفينة الامريكية «ترانس وورلد نافيغايتور» والتي كانت في طريقها إلى ميناء حيفا في فلسطين المحتلة.
تحدثت الصحافة الأمريكية عن زيادة كبيرة في فعالية ومعدلات نجاح الضربات لعمليات الحوثيين خلال الشهر الماضي، كما قالت إحدى الشركات الأمنية البريطانية «إنهم يتعلمون شيئًا جديدًا في كل هجوم حول ما يصلح وما لا يصلح، ويقومون بتعديل عملياتهم وفقًا لذلك عبر تجاوز الرادارات أو اختيار مواقع إطلاق أكثر كفاءة أو الحصول على إمدادات أكبر من الأسلحة». بحسب بزنس إنسايدر، فإن القوات الأمريكية دمرت قوارب الحوثيين المسيرة مطلع العام في معظم المرات التي حاولوا إطلاقها، لكنهم منذ حزيران، يتمكنون من إدارة ونشر وتوجيه هذه القوارب أكثر مما فعلوه في أي شهر سابق.
في تقرير آخر لصحيفة ذا نيشن، تحدث الخبراء العسكريون عن قدرة جماعة أنصار الله على اختراق الدفاعات البحرية الأمريكية وبما فيها طائرات ريبر الأمريكية المسيرة ذات التقنية العالية والتي أسقط الحوثيون أربعة منها على الأقل، وتبلغ قيمتها حوالي 30 مليون دولار على الأقل. يقول الأهنومي إن المرحلة الرابعة من التصعيد شهدت اتساع مسرح العمليات البحرية من البحر الأحمر وبحر العرب الذي يربط بينهما مضيق باب المندب إلى مساحات أوسع من المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. في هذا الإطار، نسقت حركة أنصار الله مع المقاومة الإسلامية في العراق لأول مرة منذ بدء الحرب على غزة تنفيذَ عمليات مشتركة في البحر الأبيض المتوسط.
فشل تحالف حارس الازدهار
بحلول شباط الماضي، كانت معظم حركة الملاحة للسفن الإسرائيلية قد توقفت عن المرور بالبحر الأحمر حيث يشكل مضيق باب المندب قبالة اليمن أقصر طريق ملاحي بين أوروبا وآسيا في البحر الأحمر. وبذلك، اضطرت السفن الإسرائيلية لتغيير مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح الذي يلتف حول إفريقيا ويزيد بحوالي سبعة آلاف ميل بحري و10-14 يومًا عن الطريق التقليدي عبر قناة السويس، ما يعني مزيدًا من الوقود والتكاليف قد تصل لمليون دولار للرحلة الواحدة. قال خط الحاويات الإسرائيلي «زيم» إنه «شهد زيادة في مستوى التهديد»، مما أدى إلى فرض رسوم إضافية على سفنه، بما في ذلك السفن التي تتعامل مع الموانئ الإسرائيلية أيًا كانت جنسيتها.
توجهت بعض هذه الشركات لرفع تكاليف شحنها وتأمينها بناءً على هذه المستجدات، ارتفعت تكاليف النقل البحري من الصين إلى «إسرائيل» بما نسبته 16%-36% منذ بدء الحرب، علمًا بأن الصين تحتل المرتبة الأولى في الواردات الإسرائيلية بأكثر من 14% منها، في حين أعلنت شركات شحن أخرى عن تعليق رحلاتها بشكل مؤقت أو كامل. توقفت جميع الأنشطة البحرية في ميناء إيلات منذ تشرين الثاني الماضي وانخفضت حركة الشحن فيه بنسبة 85% بسبب عدم قدرة السفن على الوصول إلى الميناء، ولا المرور نحو أوروبا عبر قناة السويس، وتكبدت إدارة الميناء نفقات باهظة دون إيرادات، قدرت بـ2.5 مليون دولار شهريًا.
شكّل الميناء بوابة اقتصادية مهمة لـ«إسرائيل» حيث تصل عبره حوالي 5% من الواردات وتضاعف حجم السفن فيه عشرات المرات خلال العقد الماضي، وأعدت الحكومة الإسرائيلية خططًا لتوسيعه وربطة بسكة حديدية. كما وُصف ميناء إيلات بكونه «رصيدًا استراتيجيًا فريدًا» و«أهم معبر حدودي بحري» بوصفه الميناء الإسرائيلي الوحيد الذي لا يقع على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، أي أن السفن القادمة إليه لا تحتاج للمرور عبر قناة السويس. في الـ16 من تموز الجاري، أعلن الميناء إفلاسه، وهددت إدارته ببدء عمليات التسريح الجماعي للعمال وتعديل مستوى الدخل إلى مستوى النفقات في حال استمرت الحكومة الإسرائيلية بعدم رصد أية ميزانيات عاجلة وخاصة تمنع إغلاقه بشكل كامل.
أثرت الهجمات على الملاحة الأمريكية والبريطانية إلى جانب الإسرائيلية، وأجبرت ما لا يقل عن 29 شركة كبرى للطاقة والشحن على تغيير مساراتها خصوصًا وأن البحر الأحمر يشكّل 10% من التجارة البحرية العالمية.
وكنتيجة مباشرة لارتفاع تكاليف الاستيراد والانتاج والتكاليف اللوجستية، تشهد «إسرائيل» موجة ارتفاع في أسعار السلع الغذائية. أعلنت شركة تنوفا للألبان عن ارتفاع الأسعار بنسبة تصل إلى 25%، في حين رفعت شركة أوسم، وهي شركة مملوكة لنستله، أسعار المخبوزات بنسبة 5.9%، والوجبات الخفيفة بنسبة 4.5% على الأقل. تأتي هذه الزيادة بعد حوالي ثلاثة أشهر ونصف من إعلان الشركة نفسها عن زيادة في الأسعار تصل إلى 9% على العديد من منتجاتها، بما في ذلك السلطات والشوربة والصلصات.
إلى جانب الإضرار بحركة الملاحة الإسرائيلية وإفلاس الميناء وارتفاع الأسعار، يقول الحسني إن عمليات البحر الأحمر حرمت العدو الاسرائيلي من سوق مفتوحة في الدول الإفريقية المطلة على البحر الأحمر، وكثفت الضغط على ميناء حيفا الذي وجهت إليه معظم العمليات البحرية، كما عمقت من تدهور الاقتصاد الإسرائيلي الذي يشهد تراجعًا في الصناعة ومعدل الإنتاج الزراعي وسعر صرف الشيكل وارتفاع طلبات التعويض وفاتورة الإنفاق العسكري ومعدلات التضخم والعجز التجاري. بالنسبة لمعجب، فإن الحلول البديلة التي حاولت الحكومة الإسرائيلية اللجوء إليها كبديل عن التجارة المارة بالبحر الأحمر، مثل إنشاء جسر بري بين ميناءي دبي وحيفا، لم تفلح في تغطية الاحتياجات اللازمة ولم تتجاوز كونها خيارات مكلفة ومؤقتة.
ليست «إسرائيل» وحدها من تعاني الآثار الاقتصادية الناتجة عن العمليات اليمنية في البحر الأحمر، حيث أثرت الهجمات أيضًا على الملاحة الأمريكية والبريطانية، وأجبرت ما لا يقل عن 29 شركة كبرى للطاقة والشحن على تغيير مساراتها خصوصًا وأن البحر الأحمر يشكّل 10% من التجارة البحرية العالمية. حاولت الولايات المتحدة الأمريكية ممارسة العديد من الضغوطات الداخلية لتحييد الجبهة اليمنية عن دورها، أبرزها الضغط على الرياض لوقف خارطة الطريق مع اليمن والتي أقرت مسارًا متقدمًا للسلام لتسوية الملفات الإنسانية والاقتصادية والسياسية، عدا عن اتخاذ إجراءات تتعلق بالوضع الاقتصادي للبلاد مثل إعلان البنك المركزي وقف التعامل مع ستة بنوك رئيسة في مناطق جماعة أنصار الله وتعليق الرحلات في مطار صنعاء رغم أنه يسيّر رحلة جوية واحدة يوميًا.
يقول معجب إن الهدف من هذه الإجراءات هو إعادة اليمن لمربع الحرب والحصار الاقتصادي لكن القوات اليمنية تنظر لهذه التحديات كجزء من أثمان كبيرة دفعتها جراء تموضعها ضد أمريكا و«إسرائيل». بالنسبة لحسني، فإن استمرار العمليات هو دليلٌ على فشل تحالف حارس الازدهار والذي بات مشكوكًا بجدواه إسرائيليًا وغربيًا أيضًا. بحسب قوله، فإن وقف التصعيد بالنسبة للجبهة اليمنية لا يبدو خيارًا مطروحًا عند الجماعة إلا إذا توقف العدوان على غزة.
-
الهوامش
[1] ما عدا سفينة صينية واحدة استهدفت في 24 آذار الماضي، فيما عزت بعض التحليلات السياسية إصابتها إلى تسجيل السفينة تحت اسم شركة بريطانية منذ عام 2019.