«سلامات يا دَرْنَة حلال مزارِك
راس جَدّنا مبني عليه اجدارِك»
كان الشاعر الدرناوي المعروف «سالم الخادمي البانْكَة»، قد نظم هذا البيت بداية الثلاثينيّات من القرن الفائت، وكان البيت مَطْلعَ قصيدة نَظمها ابتهاجا بانتهاء كَرْبِهِ العظيم وعودته إلى دَرْنَة مع آلاف العائلات المكلومة التي جرى الإفراج عنها بعد سنوات من الاعتقال الجماعي في حَبْس المقرون، أحد معتقلات الاستعمار الإيطالي سيئة السمعة، التي راح ضحيتها حسب تقديرات المؤرخين[1] ما يناهز ثلثي الأهالي المُعتقَلَين.
بعد تسعين عامًا تقريبًا من تلك الواقعة، تعيش درنة وما جاورها من مدن الجبل الأخضر والمناطق المحيطة به في ليبيا؛ كربًا جماعيًّا عظيمًا يُوَحِّد أوجاعَها. قد يبدو الأخير ناجمًا عن ظاهرة طبيعية لا يدَ للإنسان فيها، هكذا يُرى الأمر وهكذا يفسره الكثيرون، لكننا نتساءل: هل الأمر على هذا النحو، أم أنه يحتاج إلى إعادة نظر؟ لنتحلّ ببعض الصبر إذًا، ونعيد سردَ بعض ما حدث في الشرق الليبي في العاشر من أيلول 2023.
إعصار دانيال: تقرير موجز
منخفض جوي حاد جنوب أوروبا. يتطوّر، حسب مؤسسة رؤية لعلوم الفضاء والتطبيقات، إلى عاصفة متوسطية مدارية، تضرب سواحل ليبيا الغربيّة، تشتدّ تدريجيًّا مع الاتجاه إلى الشرق الليبي، لتصل مساء الأحد الموافق 10 أيلول إلى مدينة بنغازي.
يظهر «عطية الحصادي» رئيس مؤسسة رؤية في تسجيل مرئي مبيّنًا خطورة الأمر، داعيًّا إلى أخذ الحِيطة والحذر، يخبرنا أن هذا النوع من العواصف يتّسم بأمرين: أولهما بُطء الحركة، وثانيهما غزارة الأمطار، أي أن مَكمن خطورتها ليس سرعة الرياح كما هو الحال في العواصف الاستوائية؛ بل الغزارة التي تؤدي إلى تراكم كميَّات هائلة من الأمطار قد تصعب السيطرة عليها.
تتراكم الأمطار كما كان متوقعًا، وتمرّ العاصفة على بنغازي مُخلّفة أضرارًا ماديّة، متّجهةً شرقًا عبر الساحل مرورًا ببلدات منها دريانة، والمَبني، وبوجَرَّار، وبرسس، مخلفة أضرارًا أكثر جسامة. تصل إلى الجبل الأخضر، وتضرب مدينة كبيرة نسبيًّا هي المَرْج، مخلفةً خسائر ماديّة فادحة وجليّة فيها وفي القرى المجاورة لها، وتستمرّ العاصفة في الزحف شرقًا مُدمّرةً قرية الورديّة تدميرًا كاملًا.
تبلغ العاصفة ذروتها عند مدينة البيضاء، كُبرى مدن الجبل الأخضر، خسائر كبيرة في الأرواح، وأخرى مادية فادحة، تُغمَر أحياء بأكملها، ويصل منسوب المياه في بعضها إلى الطابق الثاني، وتَعلَق أُسَرٌ بأكملها، يتعثر إنقاذهم في كثير من الحالات، مع انهيار شبكة الكهرباء والاتصالات، إظلام ورعب، وربما هنا تحديدًا يوقن الشارع الليبي أنه أمام كابوس أكبر من إمكاناته، فتبدأ نداءات الاستغاثة للمجتمع الدولي، لكن لا يبدو أن ثمة من يسمع صراخًا في جنح ليل العاصفة «دانيال».
تضرب العاصفة «دانيال» مناطق وقرى كثيرة محيطة بالبيضاء، مخلفةً دمارًا وموتًا، منها: البيّاضة، وقصر ليبيا، وزاوية العرقوب، وتاكنس، وقَندولة، ومراوة، ولملودة، والفايدية، والمنصورة، ووردامة، والقَيقَب، وشَحّات، والأبرق، والحنيّة، والحمامة، وتبلغ المأساة سَمْتها في سوسة نظرًا للطبيعة الجغرافية لهذه المدينة المحاصرة بين جبل وبحر. غير أن فصل الرعب الأعظم لم يكن قد بدأ بعد.
دَرْنَة: انهيار وخذلان
يقف «سَدّ بومنصور» المنيع -والعَجوز- حائلًا دون تدفق السيول التي تجمّعت من كل المرتفعات وصَبَّت في وادي دَرْنَة، ويسانده في ذلك «سَدّ البلاد» ممثلًا خط الدفاع الثاني وهو أقرب إلى المدينة.
تقع درنة محاصرة بين هلالٍ جبلي من الجنوب وبحر مفتوح من الشمال، ويشقّها وادٍ من المنتصف محفوف بالخُضْرَة يتّجه من الجبال صوب البحر.
ينشر عطية الحصادي -من قلب مدينة درنة- فيديو على صفحته الشخصية مُظهِرًا غزارة الأمطار، ويكتب مبينًا أن درنة تسجّل رقمًا تاريخيًّا في كمية الأمطار بلغ 200 ملم، وأن المعدل في ازدياد، قبل أن يُفقَد الاتصال به. ويعيد الشاعر الدرناوي مصطفى الطرابلسي نشر قصيدته عن المطر الذي «يفضحُ الشوارعَ الرطبة/ والمقاولَ الغشاش/ والدولةَ الفاشلة»، حاثًّا الناس على التعاضد، قبل أن يُفقَد الاتصال به هو الآخر.
تقع درنة محاصرة بين هلالٍ جبلي من الجنوب وبحر مفتوح من الشمال، ويشقّها وادٍ من المنتصف محفوف بالخُضْرَة يتّجه من الجبال صوب البحر.
ويبدو أن الطرابلسي هذه المرة قد وقف على حقيقة صحّة تحذيراته الدائمة عن كارثة وشيكة بوادي درنة، وأنّ نداءه السابق للمسؤولين «صرخة على (وادي درنة) لكنْ فيك يا وادي!»، كان مجرد صرخة أخذها الوادي، وأن الجلسة الحوارية التي عقدت في بيت درنة الثقافي بتاريخ السادس من أيلول 2023، عن «وادي درنة، تبعات الإهمال ومخاطر الانهيار»، قد فات أوانها الآن، وباتت حُجّةً على إهمال السلطات التي تعاقبت على البلاد.
تستمر الأمطار الغزيرة، وتجتاح السيول درنة، وتجري في واديها حاملة كل شيء في طريقها، مع تصاعد نداءات الاستغاثة، وتفقد درنة هي الأخرى -على غرار البيضاء- السيطرة على الموقف، مع انقطاع الاتصالات وانهيار الطريق الرابط بين درنة وراس الهلال، ثم تتتابع انهيارات الطرقات الأخرى؛ ينهار طريقَا النُّوَّار والمخيلي، ويتبقى أمل أخير في طريق «الظهر الحَمَر»، الرابط بين درنة ومدينة طبرق الواقعة جهة الشرق، لدخول أية نجدة.
عند الثانية ونصف صباحًا، يُسمع دوي انفجار عظيم يهز المدينة، ليتّضح أن السَّدَّ العجوز البالغ ارتفاعه 75 مترًا؛ قد خذلته قوّتُهُ وانهار مخلّفًا ما يشبه «تسونامي»، جارفًا السدّ الثاني، مبتلعًا في دقائق قليلة وسط المدينة بأكمله، قاذفًا مئات المباني وآلاف العائلات والصخور والأخشاب والمعادن والسيارات إلى البحر.
تشرق الشمس، ويتوقف المطر، ليستفيق الليبيّون على صدمة أول فيديو تمكّن من التسلل خارج حصار المدينة؛ حالة من الذهول، وآلاف الجثث.
ثلاثية الفَزْعَة والعشوائية والعجز
يتصاعد رقم الضحايا المُعلَن سريعًا، ويسير في طريقه إلى تجاوز حاجز عشرة آلاف قتيل، وآلاف المفقودين، وتُعلَن مدينة دَرْنَة منطقة منكوبة. تتأخّر الاستجابة الدولية على مستوى الحكومات والهيئات والفضائيات والمنصات الإعلامية، في ظِل عجز فاضح في إمكانات الدولة الليبية (بحُكومَتَيها الاثنتين)، ومحدودية جاهزيتها. يتماسك المجتمع الليبي المُمَزّق بالحرب الأهلية، ويهب الجميع لنجدة الجميع، هَبَّة عشوائية يقودها أفراد في مبادرات من مدن مختلفة، وكُلُّها تشرع في تسيير قوافل إغاثة تحت شِعار الـ«فَزْعَة». وتتعاظم المشاعر الوطنية لمشاهد قوافل الفزعة القادمة من الغرب الليبي تجاه الشرق، في التئام لجرح سنوات اقتتال أهلي كان قطباه شرق البلاد وغربها.
والفَزْعَة مُفردة محليّة تشير إلى الهَبَّة المدفوعة بدافع النخوَة وروح التعاضد، غير أن الكرب كما يبدو أعظم من أن تُسعِفَهُ فَزْعَة عاطفيّة لا تضبطها خُطة طوارئ، ولا يقودها محترفون، ولا يُسهِم فيها الجيران والأصدقاء بالوسائل التقنية المتقدّمة والخبرات البشرية.
إن الكرب الذي أصاب مدينة درنة الليبية أعظم من أن تُسعِفَهُ فَزْعَة عاطفيّة لا تضبطها خُطة طوارئ، ولا يقودها محترفون، ولا يُسهِم فيها الجيران والأصدقاء بالوسائل التقنية المتقدّمة والخبرات البشرية.
تبدو فِرَق الهلال الأحمر الليبيّة، المدعومة بالمتطوعين، والضفادع البشريّة، ومُشاة القوّات المسلّحة؛ عاجزة عن مُسابقة عامل الزمن في انتشال الناجين، وعاجزة عن السيطرة على فوضى قوافل الإغاثة التي تخنق مَدخل درنة الوحيد. تحول الربكة دون تحقيق أولويات العمل، وتوزيع فرص الإنقاذ والإغاثة بعدالة على المناطق المتضررة، في ظل تركيز على الكرب الأكبر «درنة»، ونسيان سوسة ووردامة والورديّة التي نُكِبَت دون أن تجد من يعلن نكبتها.
يتصاعد الغضب الشديد في الشارع الليبي، تتعاظم مشاعر الخذلان العميق تجاه الدول الشقيقة والصديقة وشبكات الإعلام العالمية، متعجّبين من بطء الاستجابة بعد مرور ما يقارب 24 ساعة على الحادثة، دون بيانات تعاضدية من دول الجوار، ودون إرسال فِرَق إنقاذ، ودون وعود بقوافل إغاثة، مع شُح شديد في الأخبار العاجلة. في الوقت ذاته، تُشحَذ ذاكرة الليبيين في وسائل التواصل الاجتماعي على ذكريات الطرائق الكيدية التي تعاملت بها القنوات الإقليمية والعالمية سابقًا مع الحرب الأهلية في ليبيا، والتي امتازت بسرعة الاستجابة، وسهولة الوصول، واتّسمت بالتأجيج والتسييس واجتزاء الحقائق.
يُفقَد الاتصال بقلب درنة، ويزدحم المدخل الوحيد بقوافل الفَزْعَة، يشرع الكثير من الناشطين والناشطات في تسخير صفحاتهم على مواقع التواصل، لتداول المعلومات التي تبدو شحيحة. تدريجيًّا، تعود الكهرباء والاتصالات إلى درنة، بفضل جهود فنييّ الكهرباء والاتصالات، وتنتشر قوائم متفرّقة وأخبار عن الناجين (من بينهم عطية الحصادي رئيس مؤسسة رؤية)، وأخرى عن الضحايا (من بينهم الشاعر مصطفى الطرابلسي، الذي قضى نحبه مع أسرته). ويستمر الأمر على هذه الوتيرة التي تتسم بالجهود المحلية.
شيئًا فشيئًا، تنتبه الأوساط الإقليمية والعالمية إلى الكارثة، وتتحسّن الاستجابة، وتبدأ مبادرات التعاضد عبر تسيير فرق إنقاذ وقوافل إغاثة من الدولة الشقيقة والصديقة، لتصل أولى الأفواج يوم الثلاثاء الموافق 12 أيلول. وليبدأ الإعلان عن انتشال المزيد من الناجين بوتيرة أفضل من السابق، وبقدر ما تجيء الأخبار مفرحةً؛ تكون محزنةً لأنها تلمس جرحَ سؤالٍ مفادُه: ماذا لو كانت فِرَق الإنقاذ المختصة قد تمكنت من الوصول بمعداتها المتطوّرة في الساعات الأولى للكارثة، لا بعد يومين؟
الحُجَج في مقابل المُحاسَبة
في 12 أيلول، أي بعد يومين من الحادثة، يُعلِن البرلمان الليبي عقد جلسة طارئة -غير طارئة- يختار لها الخميس القادم موعدًا! تتعاظم مشاعر الحنق على برودة استجابة أجسام الدولة، وتتصاعد الأصوات المطالبة بفتح تحقيق شامل في الحادثة ومحاسبة كل المسؤولين.
تنتشر في وسائل التواصل صفحة مثيرة للانتباه مُقتطعة من الفصل الثاني عشر، من التقرير السنوي لديوان المحاسبة الليبي 2021، وهو جهة رقابية عُليا. تُظهر الوثيقة تقاعس وزارة الموارد المائية عن اتخاذ إجراءات تجديد المطالبة بمخصصات الميزانية الخاصة بتمويل صيانة السدين.
يتّضح في أحد جداول الوثيقة خطاب ضمان بقيمة 2,286,358 يورو (قرابة 2.5 مليون دولار)، لتغطية مشروع «صيانة وإعادة تأهيل سَدّيْ درنة وأبو منصور»، وخطاب ضمان بقيمة 197,850 دينارًا ليبيًا (قرابة 40 ألف دولار)، لتغطية مشروع (الإشراف على صيانة وإعادة تأهيل درنة وأبو منصور)، وخطاب ضمان بقيمة 1,317,558 دولار، لتغطية مشروع «تجميع مياه وادي درنة المرحلة الثانية». ويدفع هذا إلى طرح السؤال البدهيّ: لماذا لم يُؤدِّ المسؤولون عمَلَهم كما يجب؟
تتعدّد الحُجَج حول تقاعس المسؤولين، فيُعيد ناشطون على صفحات التواصل؛ نشر تقرير مرئي كان الإعلامي معاذ شيخ، بتاريخ 12 حزيران 2023، تطرّق فيه صراحةً إلى الإهمال وأعمال السرقة والتخريب التي تطال السدود الليبية عمومًا. شأنه في ذلك شأن الدراسة المُقدمة من الباحث عبد الونيس عبد العزيز رمضان عاشور، في مجلة جامعة سبها العلمية، المعنوَنة بـ«تقدير عمق الجريان السطحي لحوض وادي درنة بالتكامل بين تقنيات نظم المعلومات الجغرافية ونموذج SCS-CN»، والمنشورة عام 2022، التي يوصي فيها الباحثُ صراحة بضرورة الإسراع في إجراء الصيانة الدورية قبل وقوع الكارثة مع أول فيضان، مع ضرورة الانتباه إلى المساكن المخالفة المبنية في مجرى الوادي.
«مسألة درناويّة»
بينما لا تزال درنة وجوارها تعيش فاجعتها، تتصاعد أسئلة جوهرية حول مستقبل الفاجعة. يبدو الوضع الدرناوي، فيما يتعلّق بالنزوح، أكثر خصوصية من جيرانه بالنظر إلى أمرين اثنين. الأول: ضرورة إخلاء المدينة (أو نصفها على أقل تقدير)، لاعتبارات صحيّة وأخرى خاصة بخطورة العيش فيها ما لم يُعَدْ بناء السدّين المنهارين.
والثاني: خصوصية التركيبة الاجتماعية الدرناوية، التي تمتاز بتماسك هوياتي واضح، يجعل النازح الدرناوي ملحوظًا في المجتمعات الـ(مُضيفة)، في ظل غياب مشاريع الدولة الخاصة بالإدماج الاجتماعي. ما يعني أن الهوية الدرناوية الواضحة -التي لا شك أن وضوحَهَا امتياز في السياق العام- قد تكون مصدر توتر اجتماعي أو منشأ «مسألة درناويّة»، في ظل مخاوف موضوعية ملخّصها أن هَبَّات التعاطف وفزعات الترحيب والاستقبال غالبا ما تخفُت شيئًا فشيئًا، ويحل محلها واقع تفرضه الحياة اليوميّة من أبرز سماته ضعف الانتباه والتذمّر من النازحين.
مع هشاشة الدولة، والشكوك في مدى مقدرتها على جبر الضرر وجبر الخاطر واستدامة الدعم المالي وحسن تدبير الإدماج الاجتماعي وتوفير الخدمات الصحية بما تشتمل من خدمات صحة نفسية، وحسن اغتنام مصادر التمويل الخارجي ونجاعة إدارتها، والإسراع في إعمار المدن والقرى المدمرة (بما فيها درنة) وجعلها صالحة للعودة؛ تبدأ مسيرة الشتات الدرناوي، التي تُنبئ المعطياتُ بأنها لن تكون مسيرة قصيرة!
مع ذلك، ليس لسكان درنة إلا أمل استعادة مدينتهم، ورجوعهم إليها، والمُضيّ على خُطى أجدادهم العائدين من المنفى، مردّدين بيت «البانْكَة» الشهير:
«سلامات يا دَرْنَة حلال مزارِك
راس جَدّنا مبني عليه اجدارِك»
-
الهوامش[1] يُنظر كتاب علي عبد اللطيف حميده، ترجمة محمد زاهي بشير المغيربي، الإبادة الجماعيّة في ليبيا، الشر، تاريخ استعماري مخفي، (طرابلس: مَجْمَع ليبيا للدراسات المتقدمة، 2022).