نهار خميس من شهر حزيران، سنة 1325 ميلاديّة، خرج الرحالّة الأشهر لدى المسلمين محمّد بن عبدالله اللواتي، الملقب بابن بطوطة، وعمره 22 عامًا، من حيث يسكن في طنجة بالمغرب، إلى القاهرة قاصدًا أداء فريضة الحجّ مع قافلة الحجّ المصريّ.
في القاهرة، عاين ابن بطوطة كيف تجمّع أعيان الدولة، والناس من الرجال والنساء، والعسكر وموظفو القافلة لتلك السنة من سقّائين، ثم بدأ طواف الجمع مارين بدار الملك وأمامهم الحداة يحدون. يصف ابن بطوطة أثر المشهد على من كان مترددًا في أداء فريضة الحجّ: «فعند ذلك تهيج العزمات، وتنبعث الأشواق، وتتحرك البواعث، ويُلقي الله العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده، فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد».[1]
خرجت القافلة من القاهرة مصحوبةً بالاحتفالات الشعبيّة باتجاه مكّة عن طريق البرّ، تسير بمحاذاة القرى، ثم توقفت للاستراحة في واحدةٍ منها، وكان فيها أحد الأولياء الصالحين. زار ابن بطوطة هذا الوليّ الصالح، فأخبره الأخير -بنوع من النبوءة كما فهم ابن بطوطة- أن حجّه إلى مكّة لن يكتمل هذا العام، وأنّ حجّه لن يكون مع قافلة الحجّ المصريّ إنما مع قافلة الحجّ الشامي، وهذا ما حصل لابن بطوطة بالفعل.
لم يكن ذاك الوليّ -وهو أبو محمّد الحسني- يعلم الغيب، بل كان فقط يعرف أن الميناء الذي ستتخذه القافلة بعد رحلة البرّ يقع في منطقة تتنازع عليها مع الدولة قوىً قبليّةٌ ستقطع طريق القافلة، وأن من لم يستطع الحجّ من القاهرة -بالعادة- يتجه إلى دمشق لمرافقة قافلة الحجّ الشامي؛ إذ إن هاتين القافلتين ظلّتا لسنوات طويلة سابقة على زمن ابن بطوطة، وستظلان كذلك لسنوات طويلة مقبلة، أهم قافلتين عند الحجّاج المسلمين، يلتحقون بهما لأداء فريضة الحجّ من آسيا وإفريقيا وأوروبا.
تركت رحلة قافلة الحجّ هذه، التي تغيّر مكان تجمّع الحجّاج للالتحاق بها على مدى قرون،[2] أثرًا اجتماعيًا واقتصاديًا في كل ما مرّت به. وكان تسيّير القافلة إلى مكّة أو السيطرة على موسم الحجّ رسالة سياسيّة يؤكّد فيها الخليفة شرعيته في قيادة أمر المسلمين، ربّما منذ دكّ منجنيق بني أميّة في القرن السابع الميلادي دولة عبدالله ابن الزبير في مكّة،[3] وحتى توقف مدافع دول المركز في الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين وظهور الدولة القُطرية.
طواف المحمل الشريف في شوارع القاهرة في مصر.
القافلة كرسالة سياسيّة
انطلقت أوّل قافلة حجّ لأوّل مرّة من المدينة المنوّرة بإمرة النبيّ محمد. وبعدما توفي انطلق بها أبو بكر، ثم أصبح هناك قافلة حجٍّ رسميّة يخرج بها الخليفة أو من ينوب عنه من مركز خلافته؛ فخرجت من دمشق على عهد بنيْ أميّة، ثم من بغداد في عهد العباسيّين، ثم من القاهرة زمن المماليك.
في كلّ فترة، كانت قوافل أخرى تخرج من عدة مناطق، لكنّ الأهم، هي تلك القافلة التي يقودها الخليفة بنفسه أو أحد ولاته الرئيسيّين، والتي مثّلت رسالةً سياسيّةً يؤكّد فيها الخليفة أنه وارث أمر المسلمين، من خلال تسيير قافلة الحجّ الرئيسيّة من عاصمته، ومؤمنُ دربها، عبر بسط سيطرته على الطريق، والمطاعُ في المكان الذي يقصده الحجّاج في مكّة، أيّ الحجاز.
كانت القافلة الرسميّة هي تلك التي يمشي معها المِحْمَل، وهو صندوق خشبيّ، مغطى بالقماش، ومزيّن، يحمله الجمل، استخدم قديمًا لحمل المسافرين. لكن مِحمَل قافلة الحجّ لا يُحمل فيه شيء أو أحد؛ هو رسالةٍ رمزيّة تدلّ على ناقة النبيّ، يُقال إن مبتكرها الأمويون.
كذلك، تسير مع القافلة الرسميّة الصُرّة، وهي الأموال والهدايا التي تُخصص من موازنة الدولة، وترسل مع القافلة لتنفق على القبائل العربيّة في الطريق لتأمين طريقها، وتنفق كذلك على أهالي مكّة والمدينة من الفقراء وطلبة العلم والوجهاء، ويقال إن مبتكرها المقتدر بالله العبّاسي في القرن العاشر الميلادي.
لا تتوفر معلومات وافية عن ترتيبات القافلة، والمِحْمَل والصرّة المرافقين لها. لقد تبلور شكلها النهائيّ في عصر المماليك في القاهرة في القرن الثالث عشر الميلادي، وامتاز بتعقيدات الترتيبات، وتقسيماتها الإداريّة، وأبهة الطقوس الاحتفاليّة المرافقة لها.
لاختيار أمير القافلة عند المماليك، يحتشد أعيان الدولة والعامّة وسط ميدان عام، وتقام الألعاب الترفيهية ويُدار مشروب قصب السُكّر على الحضور، فيشرب السلطان أولًا، ثم يُعطي الإشارة إلى حاملي المشروب لتقديمه لمن اختاره أميرًا لقافلة الحجّ في تلك السنة، وعند وصول المشروب للأمير المختار ينهض لتقبيل يد السُلطان.[4]
بعدها، يُعيّن للقافلة «موظفون» من بينهم القاضي، وكاتب الديوان، ومُفتّش الخيولٍ والجمال، وآمر المخازن، ورئيس المطبخ، والسقّائون، وقائد مشاعل القافلة في الليل، ومسؤول الهجّانة (الإبل خفيفة الجسم سريعة السير)، والميقاتي أو المؤذن، والطبيب، ومشرف القرب الجلدية، والفراشون، والطباخون، ومسؤول السلاح والأعلام، والبيطار، وجماعة الطبول، والكيّالون، والنجّارون، وحافظ الأغنام، ومنفذ الأحكام، وسعاةُ للطريق، وصاحب الصوت (المنادي)، وأخيرًا الشعراء.
يدور هذا الجمع، ومعهم الحجاج والتجّار الذين اختاروا مرافقة القافلة، في شوارع القاهرة، قبل أن تخرج ومعها المِحْمَل وسط الأبهة والزينة والطبول والمزامير إلى الحجاز، وعلى هذا الشكل سافر ابن بطوطة مع هذه القافلة.
عندما انتهت دولة المماليك بدخول السُلطان العثماني سليم الأول مصر العام 1517، انتقلت السيطرة على الحجاز -بما فيها المدينة ومكة- إليه، وأطلق على نفسه لقب خادم الحرمين الشريفين، بدل لقب المماليك «حامي الحرمين الشريفين» كدليلٍ على مكانةِ مكّة والمدينة في أساس حكمهِم. كما أقرّ العثمانيون نظام الشرافة كنظام خاص لولاية الحجاز، حيث يختار السلطان الشريف على مكّة إلى جانب والي الحجاز ذي الوظيفة الإدارية.
أبقى العثمانيون على مِحْمَل قافلة القاهرة، وصار لهم قافلة رسميّة ثانية تَخرج بالمِحمَل والصُرّة من إسطنبول إلى الشام لتلتحق بقافلة الحجّ الشامي، ستعرف باسم المِحمَل الشامي.[5]
هكذا، وفي السنة الأولى لدخول سليم الأوّل القاهرة عام 1517، كان خطاب وقفة عرفات -أحد أركان الحج الأساسيّة في مكّة- باسم السلطان سليم الأوّل، كبرهانٍ على انتقال الخلافة إليه.[6]
موسم المواسم في دمشق
بعدما يُعلن في إسطنبول عن تعيين أمين الصرّة ومساعديه، تبدأ المراسم الرسميّة؛ فيحضر أعيان الدولة إلى قصر «يلدز» في إسطنبول من أجل انتظار إطلالة السلطان العثماني من نافذة قصره معلنًا بدء رحلة الصرّة والمِحْمَل إلى الشام. يدور أمين الصرة بالجمل الذي عليه الهودج ثلاث مرات في حديقة القصر ثم يغادر إلى دمشق ليصل مع أول أيّام عيد الفطر.[7]
أمين الصرّة يدور فيها في حديقة قصر يلدز.
في دمشق، يختلف الأمر؛ إذ تكون الفنادق والبيوت والمساجد والأسواق قد امتلأت بآلاف الحجّاج من مختلف القوميّات، منهم عراقيّون وعجم وأفغان وأكراد وهنود وبخاريون وتركستانيّون وصينيّون وروس ومغول، يأتون بلباسهم التقليدي،[8] يرافقهم أدلاء من أبناء المدينة إلى الأماكن المقدسة في دمشق وحولها، حاثيّ الخُطى قبل دخول السابع من شوّال، حيث ستبدأ أطول المراسم الدينية والمدنيّة وأكثرها عددًا في المدينة.[9]
تبدأ الاحتفالات في ثلاثة مواكب، أوّلها موكب الزيت والشموع الذي ينطلق من قرية كفر سوسة، حيث تصنّع الشموع ويستخرج الزيت الذي سيرسل من دمشق إلى مكّة مع القافلة، ثم تأتي احتفالات موكبيْ المِحْمَل والسنجق.
يتقدّم هذه المواكب جوقة من أربعين غازفًا ينفخون في آلات موسيقية، ويضربون على الطبول والصنوج، ومعهم بعض الأهالي يستعرضون بالسيف والعصيّ، وأمامهم المؤذنون وحملة المباخر، وأربع كتائب من الجنود غير النظاميين. وبين الجموع صفوف خيّالة من النساء المنتقبات، والناس من أبناء دمشق يتزاحمون على أبواب المدينة في محاولات يائسة لدخولها في هذه المناسبة.[10]
موكب المحمل في دمشق أوائل عام 1900.
خلال الفترة العثمانية، كان عدد الحجّاج الذين يلتحقون بالقافلة يتراوح بين 20 و40 ألفًا،[11] وقد يصل إلى مئة ألف، إذ يرتفع عددهم في السنوات التي تعقب انتهاء كارثةٍ أو حربٍ تقتضي التوجه إلى مكّة لشكر الله على انتهائها، أو حين تزدهر التجارة فيلتحق التجّار بها.[12]
كان هذا التجمّع أحد أهمّ المناسبات لانتقال البضائع دوليًا؛ سواء التي يحملها الحجّاج أنفسهم من بلادهم إلى دمشق أو من مكّة إليها، أو تلك التي يحملها التجّار المستفيدون من الحماية التي يوفرها الجنود المرافقون للقافلة، مثل الذهب، والأحجار الكريمة، والبنّ، والمنسوجات، والتوابل.
تنشط في هذا الموسم بعض الحرف المرتبطة بسفر القافلة، مثل حرفة صناعة الخبز المجفف (البكسماد السفري) الذي يأخذه الحجاج في رحلتهم الطويلة إلى مكّة، وصنّاع المراكب على ظهور الجِمال أو الشقادف،[13] كما يستفيد العكّامون الذين يقودون الجمال، وبدو بلاد الشام الذين يؤجرّون الجِمال لتحمل الحجّاج والتجّار والبضائع والأمتعة.
لم يكن موسم الحجّ في دمشق مناسبةً دينيّةً فحسب، بل أيضًا موسمًا للاحتفال والكسب، فيما كانت الدولة ترى فيه دليلًا على نفوذها كمسيّر للقافلة، ومؤمنةٍ الحماية لها في الطريق، وراعيةٍ لفريضة الحجّ.
حركة المحمل الشريف من دمشق إلى المدينة المنورة 1908.
الخروج إلى الصحراء
على كلٍ، بعد أن تدوي مدافع الدولة من قلعة دمشق معلنةً بدء سفر القافلة في الخامس عشر من شوّال، يبدأ أدلاء الصحراء الأكثر دُرْبةً من البدو بعملهم، سائرين بها على درب التجّار القديمة التي اتخذوها منذ آلاف السنين بين اليمن والشام لنقل البخور والتوابل.
تحطّ القافلة في مزيريب -في أقصى جنوب سوريا اليوم- للاستراحة، وهي أول محطة للحجاج في قافلة الحج الشامي، ثم تكمل مسيرها ليتبدّل المشهد الاحتفالي، سواء الرسمي منه في إسطنبول، أو الشعبي في دمشق، بآخر أكثر جديّة؛ إذ إنّ بقيّة درب القافلة إلى مكّة صحراء تسيطر عليها القبائل البدويّة؛ الشاميّة والحجازيّة، ولكل قبيلة نفوذ في منطقة محددة، تتغير بين فترة وأخرى بحسب حركة الغزوات، وصعود نجم قبيلة وخفوت نجم أخرى.
شملت المناطق التي استراحت فيها القافلة خلال مرورها بشرق الأردن 13 منزلًا، وهي المفرق، والزرقاء، وخان زبيب، وزيزيا، والقطرانة، والحسا، وجرف الدراويش، وعنيزة، ومعان، وعقبة الحجاز، وبطن الغول، والمدورة، ثم تقطع القافلة الطريق جنوبًا نحو الحجاز إلى المدينة المنورة ثم مكّة.
منذ دخول حكم العثمانيين المنطقة سنة 1517، وحتى منتصف القرن الثامن عشر شهدت هذه المرحلة من مسير القافلة حوادث مأساوية في نهب القافلة، وقتل حاميتها الرسمية، ونهب أموالها، حتى وصل الأمر في بعض المواسم إلى نهب وقتل الحجّاج والتجّار المرافقين لها.
حاولت الدولة تأمين سلامة القافلة ضمن هذه المنطقة من خلال مجموعة إجراءات غيّرت الكثير اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا فيها. فأصدرت في بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر تعليمات ببناء قلاع عجلون والقطرانة ومعان، لحماية القافلة وبسط نفوذها على المنطقة وشجعت الناس للإقامة حول هذه القلاع أو بالقرب منها مقابل إعفائهم من الضرائب. إلّا أن بعض هذه القلاع والحاميات هُجر مع حلول القرن السابع عشر بسبب سوء الأحوال المعيشية وعدم انتظام دفع الضرائب لها، وحاجة الجيش العثماني لهذه الحاميات في حروبه الخارجية الشرقية والغربية، فعاد الهجوم على القافلة.[14]
كان الخلاف الرئيسيّ بين الدولة والقبائل يعود إلى قرون ماضية همشّت فيها الدولة المنطقة مقارنةً بالشام مثلًا، الأمر الذي أثّر على علاقتها بهذه القبائل وبالتالي سلامة القافلة. بالإضافة إلى ذلك، كان تغيّر كميّة الأموال المخصصة للقبائل من الصرّة -الذي يعتمد في كثير من الأحيان على سياسة والي دمشق- سببًا للخلافات بين بعض القبائل من جهة، وبين القبائل وأمير القافلة المعيّن من الدولة من جهة أخرى.
خلال القرون بين السادس عشر والثامن عشر، راوحت الدولة العثمانية بين عدة سياسات في مواجهة البدو، من المواجهة العسكرية التي لم تمنع الهجمات على القافلة، إلى تعيين زعماء محليين أمراء لقافلة الحج، لكنها لم تنجح كذلك لنشوء صراعات محليّة بينهم.[15]
بعد حادثة موسم الحجّ في سنة 1757-1758 التي قتل فيها معظم حجاج القافلة ونهبت أموالهم أثناء عودتهم من مكّة، وبعد رحيل الحكم المصري بداية القرن التاسع عشر عن المنطقة، أعاد العثمانيون النظر في سياستهم السابقة تجاه أمن قافلة الحجّ الشامي. فأجريت صيانة للدرب والقلاع، وعُقدت اتفاقيات مع كبريات عشائر المنطقة قضت بتوفير هذه القبائل الجِمال لركوب الحجّاج وحمل أمتعتهم مقابل حصولهم على المال، بالإضافة إلى تخصيص رواتب لبعض شيوخ هذه القبائل.[16]
صور بعض دفاتر الصرّة وتظهر أسماء بعض الشيوخ أو المدن الأردنية التي دفعت فيها الأموال.
كثيرٌ من الأحداث الأمنية والاجتماعيّة التي شهدها شرقي الأردن، مثل صراع بعض القبائل، وظهور زعامات محليّة وتهميش أخرى، ونزوح تجمعات سكانية من مكان إلى آخر، يمكن إعادة قراءته في ظل مسألة تأمين سير قافلة الحج الشامي في المنطقة.
ومع ذلك، كانت بعض منازل القافلة في الصحراء مراكز تجارية مهمًا للحجّاج والتجار وأهل المنطقة، ولعل أشهرها معان التي كانت القافلة تنزل بها يومين في الذهاب ويومين في الإياب.
مثلّت هذه الأيّام الأربعة لأهل معان سوقًا مهمّة، إذ يعمل سكّان المدينة وبعض الفلاحين والبدو فيها طوال السنة من أجل هذه الأيّام الأربعة، التي يقايضون ما تحتاجه دواب الحجاج ببضائع أخرى.
لم يقتصر التجار على أهل معان؛ إذ جاء البدو من الصحراء لسوقها للاستفادة من البيع والشراء، وجاء للمدينة تجّار وفلاحون وحرفيون من الخليل ونابلس، حتّى إن بعضهم سكن في جزء منها ما زال يعرف إلى الآن بحي الشامية، جمع عائلات من درعا ونابلس.[17]
مثّلت رحلة قافلة الحج من شرقيْ الأردن الصلة الوحيدة بين المنطقة والعالم الخارجي بسبب بعدها النسبيّ عن ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ لذلك كانت الرحلة السنوية لقافلة الحجاج أثناء ذهابها إلى دمشق من المدينة المنورة، وأثناء عودتها هي الحدث الأهم في حياة أهل المنطقة.[18]
العالم يتغيّر والقافلة في آخر سنواتها
بعد انتظام السفر عبر البحر، تحوّل الكثير من الحجّاج إلى الحجّ بحرًا، ليبدأ التغير في حال القافلة. أواخر القرن التاسع عشر، كتب القساطلي، أحد أبناء مدينة دمشق، مترحمًا على زمن التجارة الذهبيّ في المدينة:
«أول نكبة دهمتها تسببت عن سير سفن البخار في البحار، وعندما فتحت ترعة السويس حلّت بليّة عظمى وطامة كبرى على تجارة دمشق؛ لأنها سلبت كل ما بقي لها من التجارة البريّة فامتنع الحجّاج من الإتيان إليها، فخسرت جداول الذهب الغزيرة التي كانوا يسكبونها فيها ذهابًا وإيابًا».[19]
في مطلع القرن العشرين، جرى تحوّل آخر في دمشق بعدما أنشأت الدولة العثمانية الخط سكة الحجاز الذي يصل دمشق بمكة، فخسرت المدينة الكثير من مواسم التجارة. غير أنها خسرتها نهائيًا عندما اندلعت الحرب العالميّة الأولى عام 1914.[20] عندها خسرت القبائل الشامية والحجازيّة كذلك مصدر رزقهم من تأجير الجمال أو مبالغ الصرّة، فهاجم البدو السكّة ونزعوا أسلاك البرق وقضبانها، وهاجموا العمال فيها وحرّاس محطاتها، وصار اسم القطار عندهم: «جحشة السُلطان».[21]
شُيّدت السكة من أجل توفير الوقت على قافلة الحج الشامي، التي كانت تأخذ ثلاثة أشهر ذهابًا وإيابًا، وتقليل خطر نهبها. ومر خطّ سير القطار بمعظم محطات القافلة القديمة. ومع أن رحلات القطار لم تدم طويلًا، إذ توقفت خلال الحرب العالمية الأولى كثيرًا ثم الثورة العربية الكبرى، إلّا أنَّ تجمعات سكّانية جديدة نشأت بالقرب من محطاته في الرمثا، والمفرق، والزرقاء، وعمان، ومعان.[22]
هكذا، ومع انتهاء الحرب، وانتهاء حكم الدولة العثمانيّة في المنطقة ومنها الحجاز، وبروز سُلطات أخرى مثل دولة عبد العزيز آل سعود، كان على الأخيرة -مثلما كان على من سبقها من سُلطات- أن تثبت أحقيّتها في ولاية أمر الحجّ؛ فألغت التبرعات الموجهة لأعيان مكّة وفقرائها، وألغت المِحمَل رمز القافلة الرسمية، وصار تحديد عدد الراغبين بتأدية فريضة الحج أمرًا تملكه السُلطة الجديدة.
لاحقًا، حلّت السيّارات والحافلات محل القطار لنقل الحجّاج على طرق معبّدة يجري الكثير منها في درب الحجّ الشاميّ القديمة. تقطع الحافلات المسافة من العاصمة الأردنيّة عمّان إلى مكّة مثلًا في أقل من يوم واحد بعد أن كانت تأخذ عدة أيّام. لكن وقبل أن تصل الحدود، ينزل الحجّاج في معان، ليس للتجارة كما جرت العادة قديمًا، إنما للاستراحة، وربّما توقف حافلاتهم عنوةً من قبل العاملين في سبيل معان لتوزيع الماء والأكل عليهم.
ليس الأثر الذي تركته قافلة الحجّ اجتماعيًا واقتصاديًا وحسب، فقد كانت رحلة القافلة إحدى الأسباب التي بفضلها تنقّلت العلوم الدينية، وبسببها كذلك انتشرت بعض المعلومات الجغرافية والتاريخية التي دوّنها الرحّالة في طريقهم إلى مكّة. ولعل أشهر افتتاح سيرة ذاتيّة لمهنة رحّال بدأت بسبب رحلة القافلة هذه حين قام بها ابن بطوطة قاصدًا الحجّ، ثم جال بسببها بلاد العرب وفارس وتركيا وروسيا والهند والصين وشرقيْ أوروبا وإفريقيا، ولم يعد إلى بيته من هذه الأسفار إلّا بعد ربع قرن على خروجه نهار خميس من شهر حزيران، سنة 1325 ميلاديّة.
-
الهوامش
مصدر الصور: المحمل الشريف ورحلته إلى الحرمين الشريفين، إعداد يوسف جاغلار، صالح كولن، ترجمة حازم سعيد منتصر وأحمد كمال، ط1، 2015، دار النيل.
[1] ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسمّاة تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الآثار، تحقيق: علي المنتصر الكتّاني، ج1، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1985، ص 62.
[2] كان مكان تجمّع الحجّاج للانطلاق في رحلة الحجّ إلى مكّة يتغيّر بتغيّر مركز الخلافة، شهدت بغداد ودمشق والقاهرة واليمن في فترات انطلاق القافلة منها لكن دمشق والقاهرة ستظلان المركزين الرئيسيين حيث انطلقت القافلة منهما.
[3] حاول يزيد بن معاوية أخذ البيعة من عبدالله بن الزبير، فلاذ الأخير بمكّة، ونصب قادة عسكريون مبعوثون من بني أميّة في دمشق فيهم الحجّاج بن يوسف الثقفيّ منجنيقات الجيش على أسوار مكة، وسعى الطرفان للفوز بمكّة إذ كانت واحدةً من الأماكن الرئيسيّة التي تمنح شرعية لسلطة من يسعى إلى حكم أمر المسلمين.
[4] عائشة العبدلي، إمارة الحج في عصر الدولة المملوكية وأثرها على الأوضاع الداخلية بمكة، دراسة تاريخية تحليليّة، رسالة مقدّمة لنيل درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي، جامعة أم القرى، ط1، 2005، ص 21 – 25.
[5] كان هناك محمل ثالث خرج من اليمن سنة 1566، لكنه لم يكن منتظمًا بعدها. المحمل الشريف المتجه من القصر العثماني إلى الكعبة المشرفة، إعداد: خوليا تزجان، ترجمة أحمد كمال، ضمن كتاب: المِحْمَل الشريف ورحلته إلى الحرمين الشريفين، إعداد يوسف جاغلار وصالح كولن، ترجمة حازم سعيد منتصر وأحمد كمال، دار النيل، القاهرة، 2015، ص 202.
[6] مراد قاركيلي، ترجمة أحمد كمال، المِحْمَل المصري: رمز مهم من رموز الخلافة، المصدر السابق، ص 148.
[7] وصف الرحلة من: إعداد يوسف جاغلار، رحلة المحمل الشريف والصرّة السُلطانية من إسطنبول إلى الحرمين الشريفين، ترجمة حازم سعيد منتصر، المصدر السابق، ص 25 – 40.
[8] أحمد حلمي العلاف، دمشق في مطلع القرن العشرين، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1976، ص 169.
[9] المصدر السابق ص 169.
[10] يوسف جميل نعيسه، مجتمع مدينة دمشق، (1186-1256 هـ/1772-1840 م) ج2، ص 666-678.
[11] عبد الكريم رافق، قافلة الحج الشامي وأهميتها في العهد العثماني، دراسات تاريخية، العدد 6 لسنة 1981 ص 6.
[12] مأمون أصلان بني يونس، قافلة الحاج الشامي، في شرقي الأردن في العهد العثماني، 1516-1918، وزارة الثقافة، ط1، 2000، ص 43.
[13] عبد الكريم رافق، مصدر سابق، ص 19.
[14] مأمون أصلان بني يونس، مصدر سابق، ص 96 و97.
[15] مثل: قانصوه بن مساعد الغزاوي أمير عجلون والكرك 15 سنة ثم فروخ بن عبدالله حاكم غزة ثم ابنه محمد بن فروخ 18 سنة ثم حسين باشا ابن رضوان أمير نابلس وغزة 1643، المصدر السابق، ص 98 و99 و100.
[16] المصدر السابق.
[17] المصدر السابق، ص 116.
[18] سليمان الموسى، من تاريخنا الحديث: الثورة العربية الأسباب والمبادئ والأهداف، شرقي الأردن قبل تأسيس الإمارة، منشورات لجنة تاريخ الأردن 24، عمّان، 1994، ص 57.
[19] عبد الكريم رافق، مصدر سابق، ص 20.
[20]أحمد حلمي العلاف، مصدر سابق، ص 169.
[21] إبراهيم فاعور الشرعة، موقف القبائل البدوية من قافلة الحج الشامي والخط الحديدي الحجازي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مجلّة الدارة، العدد الرابع، شوّال، 1426 هجري، ص 57.
[22] مأمون أصلان بني يونس، مصدر سابق، ص 178.