بين إعلان الرئيس يون سوك يول فرضَ الأحكام العرفية بالقوة العسكرية، وبين إلغاء البرلمان ذلك القرار والمرور نحو عزل الرئيس، حبسَ شعب جنوب شبه الجزيرة الكورية أنفاسه. وقفت الجموع على حواف نهر هان بين خوفٍ وترقبٍ وغضبٍ. ثم بدأت تتجمع تدريجيًا أمام مبنى البرلمان. ولأن الكوريين لديهم ذكريات مؤلمة وصدمات نفسية تجاه عبارة «الأحكام العرفية الطارئة»، فمن السهل استحضار الذاكرة الجماعية للديكتاتورية العسكرية السابقة. في خطابٍ قصيرٍ وحادٍ برر الرئيس قراره بأنه جاء في سبيل «القضاء على القوى المعادية للدولة والمؤيدة لكوريا الشمالية وحماية النظام الدستوري»، حيث تشمل الإجراءات حظر جميع الأنشطة السياسية، بما في ذلك أنشطة البرلمان والمجالس المحلية والأحزاب السياسية وكذلك المظاهرات، وسيطرت الدولة على وسائل الإعلام.
كان القرار صادمًا وغير متوقعٍ حتى لدى أنصار الرئيس والحزب الحاكم. ثم تدحرجت الأوضاع نحو عسكرة المشهد، فبدأت قوات الشرطة والجيش في الظهور، وفي منع الدخول إلى مبنى البرلمان. وفي خطوة غير مسبوقة، وحّدت الأحزاب الحاكمة والمعارضة أصواتها، حيث تجمع 190 من أصل 300 نائب بشكل عاجل في البرلمان. وصوتوا بالإجماع على طلب رفع هذا الإجراء. وشارك في التصويت نواب من الحزب الديمقراطي، قوة المعارضة التي تمثل الأغلبية في البرلمان، وكذلك نواب من حزب سلطة الشعب، الذي ينتمي له الرئيس.
تصدير الأزمة المحلية
أشاع خطاب الرئيس الكوري الجنوبي جوًا من ملحمية وطنية في مواجهة الأعداء، مبررًا انقلابه بـ«القضاء على القوى المناهضة للوطن»، حيث بدا الأمر كما لو كان مرتبطًا بكوريا الشمالية، ولكنه في الواقع يخفي أزمة محلية يحاول الرئيس تصديرها للخارج للإفلات من عواقبها، وأساسها المواجهة الشرسة بين حكومة يون سيوك والحزب الديمقراطي المعارض، الذي يشغل أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية. حيث عكس الانقلاب رد فعل عنيف على وضع سياسي مختلٍ، بين رئيس يحكم بحكومة أقلية في مواجهة معارضة تسيطر على البرلمان، مما جعله بطةً عرجاء، غير قادرٍ على تمرير ما يريد من قوانين، وعلى رأسها قانون الميزانية الجديدة. تدور الأزمة بشكل أساسي حول قضايا مثل المساءلة، ومقترحات الميزانية، والتحقيقات الخاصة التي أثارها الحزب الديمقراطي مؤخرًا وترتبط بالحملة التي شنتها المعارضة على هيئة الادعاء. وفي غياب أعضاء الحزب الحاكم، أقر الحزب الديمقراطي مشروع قانون تخفيض ميزانية 2025 منفردًا في البرلمان، مما أدى إلى تقليص الميزانية بشكل كبير. لذلك فإن الرئيس، الذي فقد السيطرة على البرلمان وصار يفتقر إلى الدعم الشعبي، يعتبر إصدار الأحكام العرفية بمثابة موقفه الأخير في مواجهة المعارضة.
لكن خطاب المؤامرة الخارجية، لم يكن يومًا بعيدًا عن الأدوات السياسية التي يستعملها الرئيس الكوري، فقد دأب على تفسير جميع الانتقادات الموجهة ضده وضد الحكومة، بوصفها جزءًا من خطة تقودها كوريا الشمالية و«القوى المناهضة للوطن»، وهو ما يعكس أيديولوجية الحرب الباردة التي ما زالت راسخةً في ذهنه، والتي ترتبط بخلفيته كمدعٍ عام. في صيف 2023، قال الرئيس الكوري الجنوبي خلال خطاب احتفالا بالذكرى الـ78 ليوم التحرير الوطني لكوريا: «إن القوى المعادية للدولة التي تتبع بشكل أعمى الشيوعية الشمولية، وتشوّه الرأي العام، وتزعزع استقرار المجتمع من خلال أعمال العنف، لا تزال منتشرة في كل مكان […] لقد تنكرت دائمًا قوى الشمولية الشيوعية بزي نشطاء الديمقراطية والمدافعين عن حقوق الإنسان أو النشطاء التقدميين». واللافت أن المؤسسة العسكرية في جنوب الجزيرة الكورية ما زالت هي الأخرى تعيش تحت وطأة هذه الذهنية، فقد لعبت دورًا أساسيًا في انقلاب الساعات الست، إذ أجرى الرئيس الاستعدادات مع وزير دفاعه كيم يونج هيون وغيره من كبار المسؤولين العسكريين، وعيّن رئيس أركان الجيش بارك آهن سو قائدًا لقيادة الأحكام العرفية ثم عقد وزير الدفاع اجتماعًا لجميع القادة العسكريين ونُشِرت بعض القوات المحمولة جوًا عبر المروحيات والحافلات، وحاولت مجموعات عسكرية اقتحام مبنى البرلمان من خلال النوافذ. وعلى خلاف الانقلابات السابقة، التي جرت في ظل أنظمة معلوماتية مغلقة وسيطرة الدولة على المعلومات والأخبار، فإن هذا الانقلاب حظي بتغطية واسعة من وسائل الإعلام المحلية والعالمية ومشاركة واسعة من الشبكات الاجتماعية.
التقسيم والإرث الاستبدادي
يحفل التاريخ السياسي المعاصر لكوريا الجنوبية منذ عام 1948، بالانقلابات والأحكام العرفية، التي فرضت حوالي 12 مرةً. لكن ما حدث في انقلاب الساعات الست يعتبر سابقةً منذ تحول نظام البلاد نحو الديمقراطية التمثيلية. فرضت هذه الأحكام للمرة الأولى في نيسان 1948، عندما وصل سينغمان ري إلى السلطة، وكان آخرها في تشرين الأول 1979، عندما أعلن القائم بأعمال الرئيس تشوي كيو ها الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد بعد اغتيال الرئيس بارك تشونغ هي حيث استمرت حتى بداية العام 1981. تبنى سينغمان ري، أول رئيس للبلاد، موقفًا مناهضًا للشيوعية، وتحالف بشكل وثيق مع الولايات المتحدة، وكان نظامه رديفًا للاستبداد والفساد، واعتمد على تدابير قاسية للحفاظ على السلطة، وبلغ السخط العام ذروته في ثورة نيسان عام 1960، وهي حركة قادها الطلاب، وأجبرت ري على الاستقالة. وقد مثلت نهاية الجمهورية الأولى وبداية تجربة قصيرة للديمقراطية البرلمانية. عانت من عدم الاستقرار السياسي والتحديات الاقتصادية.
انتهى «ربيع سول» في أيار 1961، عندما قاد اللواء بارك تشونغ انقلابًا عسكريًا، وأنشأ المجلس الأعلى لإعادة الإعمار الوطني. وكان صعود بارك بمثابة بداية حقبة استبدادية اتسمت بالتركيز على التنمية الاقتصادية والقمع السياسي. في عهد بارك، شهدت كوريا الجنوبية عملية تصنيع ونمو اقتصادي سريعين، وهو ما يشار إليه غالبًا باسم «المعجزة على نهر الهان». وقد أعطت سياساته الأولوية للنمو القائم على التصدير والصناعات الثقيلة وتطوير البنية الأساسية. وعلى الرغم من هذه الإنجازات، واجه نظامه انتقادات بسبب حكمه الاستبدادي وقمع المعارضة وانتهاكات حقوق الإنسان. في عام 1972، قدم بارك دستور يوشين، الذي منحه سلطات شبه ديكتاتورية، بما في ذلك القدرة على تمديد رئاسته إلى أجل غير مسمى. وقد أدى هذا إلى معارضة متزايدة من جانب الطلاب والمثقفين والطبقة العاملة. ورد نظام بارك بحملات قمع قاسية، مما أدى إلى تأجيج الاستياء، لينتهي حكمه فجأة في عام 1979 عندما اغتيل على يد كيم جاي جيو، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الكورية. ثم عاشت البلاد عقد ثمانينيات صاخبٍ بالانتفاضات، حتى استقر الأمر في عام 1988، على نظام ديمقراطي تمثيلي. فقد شكلت نهاية الحرب البادرة نهاية الحكم السلطوي الذي رعته الولايات المتحدة لإدارة علاقات القوة مع المعسكر الشرقي، ولاسيما على الجبهة الكورية. وشأنها شأن أغلب الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، بدأت تجربة الديمقراطية الكورية تكشف عن أمراضها منذ نهاية التسعينات، لا سيما في ظل نظام رأسمالي شديد القسوة، بما في ذلك الفضائح السياسية، والتفاوت الاقتصادي، والانقسامات بين الأجيال. ومن بين الأحداث الأساسية في هذه المسيرة، عزل الرئيسة بارك كون هيه في عام 2017 في أعقاب فضائح فساد ضخمة.
لكن الخلفية غير المرئية والمهمة وراء هذا الانقلاب هي التقسيم الإمبريالي الذي فرض على شعب شبه الجزيرة الكورية. خلقَ وضع الحرب الباردة في شبه الجزيرة الكورية المستمر حتى اليوم، ومنذ التوقيع على اتفاقية الهدنة الكورية في صيف 1953، ضمن معادلة «لا حرب ولا سلام»، علاقةً تتسم بالعداء والترابط في الوقت نفسه بين شطري البلاد. فقد فرض هذا التقسيم نفسه على السياسة الداخلية في كوريا الجنوبية، وجعل السلطة والمجتمع غير قادرين على التخلص من عقلية الحرب الباردة الجامدة. فغالبًا ما تستخدم الحكومة أو الأحزاب السياسية «استثناءات الأمن القومي» الناجمة عن الانفصال لتبرير القمع. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال 12 مرة فرضت فيها الأحكام العرفية الطارئة في تاريخ البلاد. فكلما كانت هناك اضطرابات سياسية أو مشاعر قوية مناهضة للحكومة، أعلنت السلطة الأحكام العرفية باسم «الأمن القومي» للتعامل مع «التهديدات الخارجية». لكن هذا الأسلوب العسكري فقد شرعيته بعد نهاية الثمانينيات، وتحوّل إلى أسلوب في الخطاب السياسي، مثل وصف المعارضة بأنها «قوى مؤيدة للشمال ومعادية للبلاد».