سلّم الجميع بتحوّل الأزمة الاقتصاديّة إلى انهيارٍ طال كل نواحي الحياة الاقتصاديّة في لبنان، وبعد سنوات من الإنكار وإصرار المسؤولين على سلامة الوضع المالي، لم يعد هناك مفر من الاعتراف بحجم المأزق الذي وقعت فيه البلاد. وإذا كان التساؤل عن حقيقة وجود الانهيار أصبح خارج النقاش الآن، فالإشكاليّة البديهيّة باتت حاليًّا تتعلّق بطريقة توزيع خسائر هذا الانهيار بين الفئات والشرائح الاجتماعيّة المختلفة.
واليوم، باتت كل فئة من فئات المجتمع تسأل عن حجم خسارتها، والثمن الذي ستدفعه في ظل هذا الانهيار، خصوصًا أن طبيعة المشكلة تفرض المفاضلة بين خيارات يؤدّي كلٌّ منها إلى توزيع عبء السقوط المالي بشكل مختلف بين هذه الفئات. فهل ستتجه المعالجات إلى نفس نوع السياسات التي لطالما رمت بالعبء على الغالبيّة الساحقة من اللبنانيّين من محدودي الدخل؟ أم ستتحمّل الفئات النافذة ماليًّا المسؤوليّة، وهي التي رسمت معالم النموذج الاقتصادي القائم واستفادت من خيراته؟
ثمّة أطراف لم تكتف بالتساؤل عن الثمن الذي ستدفعه، وبالأخص الفئات التي تتمتّع بالثروة والنفوذ في النظام المالي. هذه الأطراف استفادت من موقعها النافذ في المنظومة الاقتصاديّة لتبادر باكرًا إلى الاندفاع نحو معركة توزيع الخسائر، من خلال مناورات جرى بعضها بعيدًا عن أعين اللبنانيين، لمحاولة تحييد نفسها عن آثار الانهيار. وعلى المقلب الآخر، بدأ يتبلور ببطء خطاب شعبي مضاد، يرفض تحميل الفئات الأضعف في المجتمع تبعات السقوط، لكنّ هذا الخطاب ما زال يعاني من تعقّد طبيعة المشكلة في أعين معظم اللبنانيين، الذين يتعرّفون لأوّل مرّة على أنواع مختلفة من آليّات عمل الأسواق الماليّة وألاعيبها.
ألاعيب سندات اليوروبوند
تعرّف اللبنانيون على الأشكال التي يمكن أن تصل لها مناورات أصحاب النفوذ في لبنان، من مصرفيين ومسؤولين رسميين، عندما بدأت تتسرّب أخبار الألاعيب المتعلّقة بسندات الدين السيادي إلى الإعلام. فاستحقاقات سندات اليوروبوند تحديدًا، تتسم اليوم بحساسيّة استثنائيّة، خصوصًا كونها تستحق بالعملات الأجنبيّة، في حين تعاني البلاد اليوم من أزمة عنوانها الأوّل شح السيولة بالعملة الصعبة.
بحسب وزارة الماليّة، يستحق على البلاد خلال شهر آذار القادم ما قيمته 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند، بينما تستحق سندات أخرى بقيمة 1.3 مليار دولار خلال شهري نيسان وحزيران، بالإضافة إلى 1.95 مليار دولار كفوائد على هذه السندات. وهكذا، يكون مجمل ما يُستحق خلال السنة من هذه السندات وفوائدها ما تقارب قيمته (4.45) مليار دولار.
وجدت البلاد نفسها أمام خيارات عدّة، فسداد سندات اليوروبوند يعني عمليًا استعمال ما تبقّى من احتياطيٍ لدى مصرف لبنان من العملات الصعبة، وهو الاحتياطي الذي تعتمد عليه البلاد اليوم للاستمرار في استيراد السلع الحيويّة من قمح ومحروقات ودواء. أمّا الخيار الآخر فكان عمليًّا العمل على وقف السداد والتفاوض من أجل إعادة جدولة هذه السندات، أو حتّى إعادة هيكلة الدين العام بأسره، مع ما يعنيه هذا الأمر من تعثّر صريح. وأصبح الحديث عن الخيارات المختلفة حيال هذه السندات الشغل الشاغل للبنانيين، خصوصًا أن كل واحد من هذه الخيارات بإمكانه أن يقود البلاد نحو مآلات مختلفة تمامًا على المستوى المالي.
أدركت المصارف التجاريّة اللبنانيّة -المكتتب الأكبر في سندات الدين السيادي اللبناني- أنّها أمام مفترق طرق يمس مصالحها بشكل مباشر، وأدركت أن حماية مصالحها مسألة تقتضي البدء بمناورات خلف الكواليس. الأولويّة الأساسيّة لدى المصارف كانت تفادي سيناريو إعادة جدولة سندات اليوروبوند التي تملكها، أو إعادة هيكلة الدين أو التفاوض عليه، رغم علمها أن خيار سداد السندات في موعدها -كما تطلب- مسألة شديدة الخطورة على ما تبقى من سيولة بالعملة الصعبة المخصصة للحاجات اللبنانيّة. وفي الواقع، لم تخفِ جمعيّة المصارف ولا المصرفيون هذه الأولويّة في بياناتهم وتصريحاتهم.
سريعًا باشرت المصارف اللبنانيّة العملَ في الظل لفرض أولوياتها على الطاولة وحماية مصالحها. وبسحر ساحر، وخلال أسابيع قليلة، ارتفعت حصّة الدائنين الأجانب من سندات اليوروبوند التي تستحق خلال شهر آذار من 300 مليون دولار إلى 720 مليون دولار، من أصل 1.2 مليار دولار، وهكذا صار أولئك الدائنون يمتلكون 60% من هذه السندات بعدما كانوا يملكون أقل من ربعها. ما جرى لم يكن لغزًا صعب الفهم: لقد قامت المصارف اللبنانيّة بكل خفّة بعمليّة بيع جماعيّة وضخمة لجزء كبير من محفظتها من سندات اليوروبوند التي تستحق خلال آذار، لصالح صناديق استثماريّة ومصارف أجنبيّة.
كانت هذه المناورة مفهومة جدًّا، فالمصارف اللبنانيّة تدرك جيدًا أن المصارف وصناديق الاستثمار الأجنبيّة تملك قوّة تفاوضيّة أكبر لفرض سداد قيمة السندات عند الاستحقاق، خصوصًا لأنها تملك القدرة على مقاضاة الدولة في المحاكم الأجنبيّة. وبذلك، أرادت المصارف أن تفرض خيار السداد على الدولة اللبنانيّة بهذه الطريقة، بمعزل عن مخاطر هذه المسألة على المجتمع اللبناني.
في عز الانهيار الذي يصيب البلاد يواصل مصرف لبنان لعب الدور الذي لعبه منذ بداية الأزمة، والمتمثّل في حماية مصالح كبار المودعين والنافذين
أمّا الهدف الثاني والأخطر للمصارف اللبنانيّة من هذه الخطوة، فكان نقل موجوداتها بالعملة الأجنبيّة إلى الخارج. فبينما تمتنع هذه المصارف عن توفير السحوبات النقديّة بالدولار للمودعين لديها في لبنان، إلا ضمن سقوف منخفضة جدًّا، وبينما تمنع هذه المصارف عملاءها من إجراء أي تحويلات من ودائعهم إلى الخارج، تمكّنت هي نفسها من بيع أدوات دين سيادي لبنانيّة مقومة بالدولار وقبض قيمتها في حساباتها في الخارج. استفادت المصارف عمليًّا بتحويل قيمة موجوداتها إلى حسابات مصارف مراسلة في الدول الغربيّة، لكنّ النتيجة الأخرى لهذه العمليّة كانت تحويل جزء من الدين العام اللبناني إلى دين خارجي يقتضي سداده لأطراف خارجيّة بالدولار الأميركي.
علم اللبنانيون تدريجيًّا مخاطر العمليّة. فالمصارف الأجنبيّة التي اشترت السندات دفعت أثمان بخسة لقاء امتلاكها، خصوصًا مع ارتفاع المخاطر المرتبطة بها. فبعض هذه السندات جرى بيعها لقاء 77 دولارًا للسند الواحد، فيما ستبلغ قيمتها عند الإيفاء 100 دولار بعد شهر واحد فقط. وبالتالي، انطوت العمليّة على مضاربة قاسية، راهنت خلالها المصارف الأجنبيّة على قدرتها على فرض شروطها على الدولة اللبنانية عند استحقاق السندات. أمّا المصارف اللبنانيّة، فلن يهمّها قدر الخسارة التي تكبّدتها في هذه العمليّة، طالما أنّها قلّصت إلى أدنى حدود قيمة السندات التي ستكون عرضة لإعادة الجدولة، وطالما أنّها تمكّنت من قبض قيمة السندات في الخارج بينما تمنع مودعيها في لبنان من سحب أو تحويل ودائعهم إلى الخارج.
من هرّب الودائع؟
منذ أن بدأت المصارف بتطبيق الضوابط المشددة على السيولة، من خلال وضع سقوف على السحب النقدي بالدولار ومنع التحويل إلى الخارج، انطلق السجال محليًّا حول ما كان يتم تسريبه من أخبار عن عمليّات تهريب منظّمة وواسعة لودائع تخص كبار المودعين والنافذين إلى الخارج. ورغم أن السلطة حاولت الإيحاء بوجود تحقيقات وتحريّات بخصوص هذه العمليّات، إلا أنّ إطار هذه التحقيقات ظلّ محدودًا، ولم تكشف أي أسماء أو عمليّات وازنة. لا بل تبيّن لاحقًا أن ما تم تداوله في كل تلك السجالات والتحقيقات لم يكن سوى أرقام متواضعة مقارنة بحجم التحويلات التي جرى القيام بها فعليًّا، والتي استطاعت من خلالها فئات معيّنة من المودعين تهريب أموالها إلى الخارج في ظل الأزمة.
فمع انتهاء عام 2019، ونشر ميزانيّات المصارف اللبنانيّة المجمّعة لغاية نهاية السنة، كان بالإمكان قياس حجم تلك التحويلات فعليًا. في الواقع، ومن خلال مقارنة حجم الودائع والفوائد التي استحقت عليها منذ بداية السنة، مع حجم الودائع في نهاية السنة، كان من السهولة أن نستنتج أن الودائع المصرفيّة شهدت نزيفًا بقيمة 27 مليار دولار خلال عام 2019. ومن أصل هذا المبلغ، لا تتجاوز قيمة عمليّات السحب النقدي مستوى الملياري دولار، وذلك بحسب مقابلة أجرتها جريدة المدن مع مدير أكبر شركات شحن الأموال في لبنان. وبالتالي، يصبح من الواضح أن عمليّات التحويل الكبيرة إلى الخارج التي جرت خلال عام 2019، والتي يتحدّث عنها اللبنانيون اليوم، تتجاوز قيمتها 25 مليار دولار.
أمّا عن أصحاب الـ(25) مليار دولار التي تم تحويلها، فتكشف وثيقة مسرّبة عن لجنة الرقابة على المصارف أن 98% من هذه التحويلات تخص أصحاب الودائع الكبرى التي تتجاوز قيمتها المليون دولار، مع العلم أن أصحاب هذه الودائع يمثّلون فقط 1% من أصحاب الحسابات المصرفيّة. أما أخطر ما كشفته الوثيقة، فكان قيام المصارف اللبنانيّة ببيع هذه الفئة تحديدًا من أصحاب الودائع أكثر من 15 مليار دولار في عمليات تحويل لودائعهم من الليرة إلى الدولار الأميركي. بمعنى آخر، كانت المصارف تقوم ببيع السيولة المتوفّرة بالدولار لهذه الفئة بالذات، ومن أموال سائر المودعين، ليتمكنوا من تحويلها الى الخارج.
وهكذا، اكتشف اللبنانيون من محدودي الدخل أنهم في الوقت الذي ينتظرون فيه لسحب الفتات من مدخراتهم وفق سقوف السحب النقدي المتدنية التي تضعها المصارف، كانت المصارف اللبنانيّة نفسها تفتح الباب طوال عام كامل لفئات أخرى من المودعين لتهريب أموالهم إلى الخارج خلال الفترة التي سبقت تفجّر الأزمة. وطوال هذه الفترة، لم يكن مصرف لبنان أو أي جهة رقابيّة أخرى تحرّك ساكنًا. وحتّى بعد كشف هذه الأرقام، ما زالت كل التحقيقات تصب في دائرة المناورة التي توحي بوجود متابعة ما، دون أن تظهر في المحصّلة أي نتيجة فعليّة.
هل سندفع الثمن مجددًا؟
كبار المودعين والنافذين يعملون على تخليص ودائعهم من النظام المالي في عز الانهيار الذي يصيب البلاد، بينما تقوم المصارف بكل المناورات الممكنة للتخلّص من شبح أي إجراء يمكن أن يطال مصالحها وفي طليعتها تلك المرتبطة بالدين العام واستحقاقاته. وفي ظل هذه الظروف، يواصل مصرف لبنان لعب الدور الذي لعبه منذ بداية الأزمة، والمتمثّل في حماية مصالح هذه الفئة النافذة بالذات. هذا ما تظهره على الأقل تطوّرات الأيام القليلة الماضية، والتي أظهرت أن حاكم المصرف المركزي ما زال يحرص على اتخاذ قرارات تستمر في حماية أرباح المصارف، بالإضافة إلى القيام بكل الضغوط الممكنة لتفادي خطوة إعادة هيكلة الدين التي تقلق المصارف اللبنانيّة اليوم.
بموازاة كل هذه المناورات، ثمّة فئات واسعة من اللبنانيين باتت تعي جيّدًا حجم التحديات التي تمس اليوم مصالح الفئات المحدودة الدخل، والطبقات الوسطى والفقيرة. فثورة 17 أكتوبر أنتجت وعيًا كبيرًا تجاه المسائل التي لم يعتد الشارع اللبناني على التفاعل الاحتجاجي معها، وفي طليعتها تلك المتعلّقة بالعدالة الاجتماعيّة. كما أنتجت وعيًا استثنائيًّا تجاه دور السلطة وأصحاب النفوذ المتحالفين معها في صياغة النموذج الاقتصادي القائم، والذي أنتج لامساواة مخيفة على المستوى الاجتماعي، وأوصل البلاد إلى حافّة الانهيار على المستوى الاقتصادي. لكن هذا الشارع المنتفض نفسه ما زال يواجه معضلة تغريب معظم الفئات الشعبيّة عن المفاهيم الاقتصاديّة والأدوات الماليّة، رغم أنّها ساهمت طوال العقود الماضية في تحديد شكل مأساتهم. وهذه المعضلة ستشكّل تحدّيًا أساسيًا قبل القيام بأي معركة تخص توزيع الخسائر المتعلّقة بهذا الانهيار.