منذ سقوط النظام السابق في سوريا قبل قرابة أسبوعين، شهدت حدود لبنان البرية مع سوريا حركة دخول وخروج كثيفة. إذ تقاطر الآلاف نحو المعابر الشرعية وغير الشرعية، خاصة معبر المصنع الحدودي، للعودة إلى ديارهم بعد معاناة استمرت لأكثر من 13 عامًا. فيما شهدت الحدود كذلك نزوحًا جديدًا لعائلات سورية إلى لبنان.
منذ عام 2011 ومع اندلاع الثورة السورية والأحداث التي تلتها، بدأ النزوح السوري إلى لبنان، لكونه أسهل الخيارات وأقلها تكلفة بالنسبة إلى الأسر السورية. فإضافة إلى العلاقات المميزة التي ربطت لبنان بسوريا في العقود الماضية، فإن قربه الجغرافي، وتنوعه الديني والمذهبي، الذي يشبه التنوع الموجود في سوريا، كانا عاملين أساسيين في اختيار النازحين له كوجهة أساسية للجوء، هربًا من الحرب الطاحنة في بلدهم. فبحسب الأرقام التقديرية الرسمية عبر 2.1 مليون سوري الحدود الدولية إلى لبنان منذ العام 2011، بينهم 805326 فردًا مسجّلًا لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ومع مرور السنوات، والتدهور التدريجي للاقتصاد اللبناني، بات ملف النازحين السوريين بالنسبة إلى لبنان مشكلة متفاقمة. وما زاد المشكلة هو عجز الحكومات اللبنانية المتعاقبة عن ضبط حركة النزوح باتجاه الأراضي اللبنانية وتنظيمها بشكل فعّال. وعليه، عانى النازحون السوريون أوضاعًا معيشية سيئة في لبنان، فوفق مفوضية اللاجئين، يعيش أكثر من 90% منهم في حالة فقرٍ مدقع.
اليوم، قد تغير عودة النازحين السوريين إلى بلادهم هذا المشهد. وبحسب مصدر مطلع في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تحدث إلى حبر فإن «حوالي 10 آلاف نازح سوري عادوا إلى سوريا خلال الأيام العشرة الماضية».
غير أن هذه الأرقام تظل غير رسمية خصوصًا أن المعابر الحدودية الرسمية المفتوحة حاليًا هي ثلاثة وتشمل: المصنع والقاع في البقاع، والعريضة في الشمال. فيما يوجد عشرات المعابر غير الشرعية المنتشرة على طول الحدود السورية اللبنانية التي كانت ولا تزال تُستخدم لنقل الأشخاص والبضائع، سواء في أوقات النزاع أو السلم. ومع سقوط النظام، من المتوقع أن يستخدم اللاجئون الذين يريدون العودة إلى سوريا هذه المعابر للهروب من الإجراءات الرسمية أو لتجنب الانتظار عند المعابر الشرعية مثل معبر المصنع الذي يشهد ازدحامًا كبيرًا حاليًا. كما أن هذه المعابر غير الشرعية تشكّل خيارًا معتمدًا للاجئين الذين لا يملكون أوراقًا قانونية أو يخشون التدقيق الأمني. بناءً على ذلك، من الصعب وجود تعداد رسمي أو تقديري للاجئين الذين عادوا من هذه المعابر باتجاه سوريا.
خيارات العودة
منذ اليوم الأول لسقوط النظام، بدأت فكرة العودة تراود جميع من نزح من سوريا، خصوصًا في ظل تأكيدات الحكومة الانتقالية في سوريا الترحيب بجميع السوريين دون استثناء، والحديث المتكرر عن مستقبل سوريا ما بعد سقوط النظام. غير أنه ومع استطلاع عينة من النازحين السوريين في لبنان، تبرز تحديات لوجستية وسياسية واقتصادية قد تعيق هذه العودة.
على رأس هذه التحديات الأوضاع الإنسانية الصعبة، إذ إن البنية التحتية شبة مدمرة في سوريا، الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والرعاية الصحية تنعدم في بعض المناطق، على الرغم من وعود الحكومة الانتقالية بإعادة الإعمار. فمع انهيار الاقتصاد السوري في السنوات الأخيرة واستمرار التضخم، اختار بعض السكان النزوح إلى لبنان للبحث عن فرص عمل أو لتلقي المساعدات الإنسانية.
يضاف إلى ذلك أن انعدام التنسيق الكامل بين الفصائل المعارضة قد يجعل العودة غير جذابة للبعض، رغم تغير النظام. فضلًا عن أن بعض النازحين كانوا يخشون عمليات انتقام محلية، خاصة في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة حديثًا.
يقول حسن الزمل، وهو شاب سوري من الرقة في حديثٍ مع حبر إنه «لا ينوي العودة حاليًا إلى سوريا». ويضيف أنّه «على مدى تسع سنوات في لبنان أسس حياة عملية هنا، وأن العودة حاليًا في ظل الفوضى القائمة في البلاد ستكون بمثابة مقامرة»، ويختم بالقول: «أرسلت عائلتي إلى الوطن خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، وسأبقى هنا لأعيلهم ماديًا من خلال إرسال الأموال لهم».
أما محمد الحسين من دير الزور فيقول إنه سينتظر قليلًا ليرى الأوضاع قبل العودة، «الحكومة الجديدة تتحدث عن إصلاحات كبيرة ستجري، وأنا متشجع للعودة». لكنه يستدرك بالقول إن «الأكراد في دير الزور يثيرون الفوضى وهذه مشكلة كبيرة بالنسبة لي.. إذا عاد الاقتتال من دون حل مشكلة الأكراد ستعمّ الفوضى مجددًا».
على النقيض، يقول محمد سعيد الذي يعمل في توصيل الطلبيات في بيروت إنه سيعود قبل حلول السنة الجديدة. «انا فرح جدًا للعودة ولا أطيق الانتظار… سأعود نهاية هذا الشهر وأستطلع الأوضاع لناحية البقاء في سوريا أو العودة إلى لبنان».
موجة نزوح جديد إلى لبنان
في ظل ذلك، تبرز موجة النزوح معاكسة من سوريا باتجاه لبنان. فبعض الأسر السورية، وخاصة من الطائفتين المسيحية والشيعية، قررت النزوح إلى لبنان، لخشيتهم من التعرض لاعتداءات في مناطقهم. وهو الأمر الذي يطرح تحديات جديدة تتعلق بهذا الملف في لبنان. ووفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن حوالي 90,000 شخص دخلوا إلى لبنان (حتى 16 كانون الأول الجاري) عبر منطقة بعلبك-الهرمل، بينهم 20,000 لبناني كانوا قد نزحوا إلى سوريا خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان. فيما من المتوقع أن تستمر حركة اللاجئين في الفترة القادمة، مع زيادة الضغط على البنية التحتية اللبنانية بسبب استمرار أزمة اللاجئين. كما أن هناك مخاوف من تأثيرات اقتصادية جديدة على لبنان جراء هذا النزوح المستمر.
عبّر وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجّار عن تخوف من أن تزيد هذه الموجة من الضغط الاقتصادي على لبنان، وذلك عقب جولة ميدانيّة قام بها قبل أيام في محافظة بعلبك-الهرمل برفقة مجموعة من المنظمات الدوليّة. إذ قال إن «لبنان لا يحتمل التعامل مع موجة نزوحٍ جديدة أو إنشاء مخيمات جديدة، وقد تحمّل ما تحمّله خلال الـ12 سنة الماضية»، مضيفًا أن «على المجتمع الدولي أن يرعى حماية الأقليات المختلفة في سوريا لتأمين عودتهم الى بلادهم، خاصة بعد فكّ الحصار عن سوريا من خلال الجسر الجوي الذي يتم إرسال المساعدات عبره».
ولفت الوزير إلى ضرورة «القيام بمسحٍ سريع وتسجيل النازحين الجدد لتفادي تكرار سيناريوهات الماضي»، مشددًا على على أهمية «تسجيل هؤلاء النازحين للحصول على بيانات موحّدة وواضحة» وضرورة «الاستجابة السريعة لحاجات النازحين الجدد الأساسية بالتنسيق مع الوزارة وفريق عملها المتواجد على الأرض». وأعرب حجّار عن نيته القيام بجولة ميدانيّة في منطقة المصنع والعمل على تأمين ممرّ إنساني لتتمكّن المنظمات الإنسانيّة من إيصال الدعم اللازم للنازحين العالقين بين الحدود اللبنانية والسوريّة.
أما المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي الجهة المسؤولة بشكل مباشر عن متابعة أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان، فأكدت أنها «ملتزمة بمواصلة تقديم الدعم للعائدين اللبنانيين، بالإضافة إلى الاستجابة للاحتياجات الإنسانية العاجلة للاجئين السوريين الجدد». ولفت مصدر في المفوضية في حديث مع حبر إلى أن «هناك شعور كبير بالفرح والارتياح والأمل بين العديد من اللاجئين، حيث يتخذ البعض قرارات سريعة للعودة إلى منازلهم»، مؤكدًا على أن «إحدى الحلول المفضلة لأي أزمة لاجئين هي القدرة على عودة الناس إلى وطنهم بأمان وكرامة، وتشعر المفوضية بالتفاؤل لأن هذا أصبح ممكنًا لبعض السوريين».
وشدد المصدر على أن المفوضية تقدم دعمًا في المناطق الحدودية حاليًا (المصنع والهرمل)، إذ قدمت للعائلات النازحة حاليًا إلى لبنان فرشات وبطانيات ومعاطف شتوية، للأفراد المقيمين في 80 موقعًا جماعيًا في منطقة الهرمل. وأضاف أنه «سيتم تقديم مساعدات إضافية للوافدين إلى منطقة الهرمل، بما في ذلك الدعم الخاص بمواجهة فصل الشتاء، كجزء من استجابة منسقة بين المفوضية وشركائها».
رسميًا، عكست تصريحات عدد من المسؤولين اللبنانيين تغيرًا في استراتيجية الدولة اللبنانية تجاه اللاجئين، وعلى رأسهم رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي، الذي دعا السبت الماضي السوريين الذين لجأوا إلى بلاده للعودة إلى ديارهم بعد سقوط نظام الأسد. وأضاف ميقاتي من روما، أن «تبعات الحرب السورية جعلت من لبنان حاضنًا لأكبر عدد من اللاجئين نسبة لعدد سكانه»، مؤكدًا أن «اللاجئين السوريين يشكلون ما نسبته ثلث سكان لبنان». وطلب ميقاتي من المجتمع الدولي، وخصوصًا أوروبا، أن تساعد في عودة السوريين عبر الانخراط في جهود التعافي التي تبذل في المناطق الآمنة في سوريا.