نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة كومباكت نهاية آذار الفائت.
يبدو وكأن سياسات الغرب تجاه أوكرانيا وصلت لنقطة تحوّل. حتى الآن، أنفقت كل من واشنطن وبروكسل أكثر من 200 مليار دولار على الحرب، وهو رقم لو تمت معادلته باحتساب التضخم لتجاوز تكلفة خطة مارشال بأكملها التي أعادت بناء أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
بعد فشل هجوم أوكرانيا المضاد، الذي رُوّج له في الإعلام كثيرًا خلال العام الماضي، وجد قادة من ضفتي الأطلسي أن تخصيص ميزانيات إضافية لدعم الجهود الحربية مسألة تزداد صعوبة. في شهر شباط من العام الحالي وافق الاتحاد الأوروبي على حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 54 مليار دولار، بعد أشهر من معارضة المجر. في الوقت ذاته تزداد نسبة الأصوات التي تحصل عليها الأحزاب المشككة في جدوى الحرب في استطلاعات الرأي، تحديدًا بسبب انزعاج المصوّتين من حدة أزمة غلاء المعيشة التي تفاقمت مع الحرب والعقوبات الغربية [على روسيا].
بالاضافة إلى ذلك، كانت الحرب الأوكرانية كارثة استراتيجية للقارة، حيث دمرت أي آمال أوروبية متبقية للوصول إلى استقلال استراتيجي حقيقي، وأخضعتها للولايات المتحدة ووضعتها في أضعف حالاتها منذ الحرب العالمية الثانية. بغض النظر عن نتيجة الحرب الأوكرانية، من الواضح أن أوروبا، وبالأخص أوروبا الغربية، قد خسرت.
إذًا، لماذا لا يزال قادة أوروبا يرفضون إنهاء الحرب بالوسائل الدبلوماسية؟ مؤخرًا، ذهب الرئيس الفرنسي بعيدًا إذ اقترح نشر قوات عسكرية من أوروبا أو من الناتو في أوكرانيا. وردًا على الانتقادات، أكد ماكرون على وجهة نظره مشددًا على أن هذه الحرب «وجودية» بالنسبة لأوروبا، وأن جميع الخيارات يجب أن تكون على الطاولة. ومع ذلك، تظل هذه الادعاءات غير مستندة إلى الوقائع. فأمن أوروبا ليس على المحك بفعل الحرب. لا تزال روسيا غير قادرة على غزو نصف الأراضي الأوكرانية فضلًا عن الاحتفاظ بها، فكيف يمكن لها التوسع أبعد من ذلك؟ والأسطورة الشائعة في الغرب بأن بوتين يسعى لاستعادة الإمبراطورية السوڤيتية ليس سوى خرافة مبالغ فيها ومنفصلة عن الواقع.
مع ذلك، فإن التزام نخب الاتحاد الأوروبي تجاه أوكرانيا، بغض النظر عن التكلفة، أمر متعمد وممنهج بشكل أكبر من أن يفهم كجنون أو عجز. ما يكمن وراء نداءات الوحدة الأوروبية هو سعي سياسي لتوطيد سيادة فوق وطنية للاتحاد الأوروبي، وهو مشروع يطغى على كل الاعتبارات، بما فيه استقلال أوروبا الاستراتيجي. يبدو قلق ماكرون من أن نصر روسيا في أوكرانيا (وهي دولة خارج الاتحاد الأوروبي) قد يطمس «مصداقية» أوروبا، منطقيًا عندما نرى ذلك القلق ضمن مشروع بناء دولة من الأعلى إلى الأسفل، يضع الصراع الأوكراني في صميمه.
أصبحت أوكرانيا عنصرًا مركزيًا ضمن أجندة تحويل الاتحاد الأوروبي من مؤسسة إقليمية تربط عدة دول إلى دولة عظمى (Superstate) ذات سيادة، أقرب لأن تكون «الولايات المتحدة الأوروبية». لدى المؤسسة الأوروبية ارتباط أنطولوجي بأوكرانيا؛ ففي أذهان العديد من التكنوقراطيين الأوروبيين، لطالما شملت «أوروبا» أوروبا الشرقية واستثنت روسيا. بالتالي، فإن النزاع في أوكرانيا يؤكد الحدود الإقليمية المفاهيمية للدولة القارية المتخيلة. ولكن ما هو أهم من ذلك دور سردية المأساة الأوكرانية بوصفها أداة في إكساب الاتحاد الأوروبي شرعية سياسية.
مع تلاشي الذاكرة التاريخية للفظائع النازية التي ألهمت الوحدة الأوروبية في الأساس، تصبح الصورة العاطفية للأوكرانيين العزّل وهم يقاتلون ببسالة لاستعادة حريتهم من براثن الطغاة الفاشيين هي الأسطورة المؤسسة لأمة إمبريالية طموحة، تسعى لتعميد شعبها الجديد بمياه المعاناة البشرية المُطَهِّرة.
نظرًا لانتشار نموذج الدولة القومية والإيمان بالسيادة الشعبية كأساس لشرعية الدولة، على كل الدول الحديثة -حتى تلك العابرة للحدود أو الإمبريالية- أن تشرعن نفسها من خلال تأسيس هوية وشعب. فـ«الليفايثان» الحديث يعمل كطفيلي، لا يمكنه أن يعيش دون مضيف يتغذى عليه حتى يبتلعه.
في العصر الحديث، حيث السيادة والشرعية السياسية مشروطان «بالهوية»، فإن هوية المحكومين هي من تبرر السلطة، وليس صفات الحكام. تحتمي المخالب العدوانية دائمة النمو للدولة الحديثة وراء فكرة مختلقة تبرر ذاتها عن الـ«نحن» (الشعب)، وهي فكرة تؤسسها وتسترجعها الطبقة الحاكمة لتبرير أي تجاوز. بالتالي، ليست الدول الحديثة مجرّدة ومجهولة الهوية فحسب، بل هي مبنية أيضًا على شبكة من الأساطير حول الشعب.
لا يقتصر الموضوع على عدم وجود «شعب» أوروبي تاريخي ليجسد حلم الولايات الأوروبية المتحدة، بل إن تكنوقراطيي الاتحاد الأوروبي يحتقرون الفكرة الرومانسية عن الأمة التي خلقت دولًا حديثةً من الثقافات والتقاليد الأوروبية في القرن التاسع عشر. على النقيض من ذلك، تركز المساعي لبناء الأمة الأوروبية في العصر الحديث على تشكيل هوية مدنية مشتركة. بعبارة أخرى، لتثبيت شرعيتها، على الطبقة الحاكمة للأمة العظمى المتصورة أن تهندس وتفبرك شعبًا أسطوريًا مجردًا وغير تاريخي يستند إلى القيم العالمية الليبرالية التي تم دمجهم حولها في فترة ما بعد الحرب.
مُدرِكةً للبعد العاطفي للصراع ضد الهيمنة الروسية في أوكرانيا، وظفت النخبة الأوروبية ذلك الصراع كواجهة للترويج للمبادئ الأيديولوجية التي تمثل «الروح الأوروبية» وبالضرورة الحضارة نفسها. وبالمثل، في ليلة وضحاها، أصبحت أوكرانيا راية للقيم الأوروبية التنويرية: الحرية والديمقراطية والتسامح والحكم الجيد، وما إلى ذلك. وأصبحت روسيا النقيض لأوروبا المتحضرة، جيش من البرابرة يكاد يقتحم بواباتها. كما يقول عالم الاجتماع فرانك فوريدي، فإن أوكرانيا باتت منبعًا للسلطة الأخلاقية ومصدرًا للخلاص الجماعي، حيث «يتم تعزيز الإيمان بـ«الغرب» من خلال «الأبطال في أوكرانيا»».
المصدر الأعمق لهوس المؤسسة الأوروبية بأوكرانيا هو موقعها كضحية «عدوان» من عدو أكبر وأقوى منها بكثير. كان نيتشه أول من فهم أن الحداثة هي حقبة تُعاش فيها الحياة من وراء عدسة القمع، وتتشَكّل الهويات فيها من خلال «أخلاقيات الحقد»: حيث المضطهدون يعتبرون أبرياء بطبيعتهم ويمنحون أعلى قيمة أخلاقية. وفق هذا النظام يصبح التوجه لحماية «المضطهدين» وسيلة أساسية للطبقة الحاكمة لتوطيد سلطتها، مما يرفع من شأن تفوقهم ويزرع بذور سلطتهم المستقبلية بناءً على دورهم كمحررين عظماء.
لقد شكل نهج «إعلاء الضحية» (victimism) هذا المبادئ التنظيمية التي تقود الأجندة الاجتماعية والسياسية للاتحاد الأوروبي، من تعزيز التعددية الثقافية والتنوع وحقوق المثليين، إلى مكافحة خطاب الكراهية، وسياسات الهجرة والتعليم. كلها تتمحور حول تحديد كبش فداء، وتقديس أقلية مستضعفة اجتماعيًا. إنقاذ هذه الضحية الفاضلة يولد عملة أخلاقية ويعمل كأداة شرعنة لبروكسل مما يضمن استمرار تمكينها المؤسسي والبيروقراطي. تُقدم المعاناة الأوكرانية فرصة جديدة لتوسيع نهج الضحية الذي يدير عملية صنع السياسات في الاتحاد. «أوكرانيا» الأسطورة، تأتي لتلعب دورًا رئيسًا في خطة تسوية حدود أوروبا الجديدة بإقصاء روسيا؛ وفي تشكيل الهوية الأساس التي يسعى الإقطاع الأوروبي الجديد إلى تشكيل مواطنيه العالميين وفقًا لها.
تتطلب الرغبة بتصنيع شعب كهذا الحط من الشعوب التاريخية الحقيقية التي تسكن أوروبا بالفعل وتسويتها، وفي النهاية إعادة إدماجها اجتماعيًا. لكنّ ماضي هذه الشعوب المعقّد وإصرارها المستمرّ على اختلافها وخصوصيتها يخلق منها صورة قديمة الطراز، غير محببة لمؤسسة تفضل شكلًا أوروبيًا أكثر تماثلًا وتجانسًا. إن كيانهم السياسي المتخيل عبارة عن «دولة قومية» مجرّدة عابرة للحدود الوطنية، على شكل دولة قومية قانونيًا، تربط سكانها قيم عالمية، وتقودهم العدالة الاجتماعية العالمية والسعي الطوباوي لمحو القمع.
مع تلاشي الذاكرة التاريخية للفظائع النازية التي ألهمت الوحدة الأوروبية في الأساس، تصبح الصورة العاطفية للأوكرانيين العزّل وهم يقاتلون ببسالة لاستعادة حريتهم من براثن الطغاة الفاشيين هي الأسطورة المؤسسة لأمة إمبريالية طموحة، تسعى لتعميد شعبها الجديد بمياه المعاناة البشرية المُطَهِّرة. باعتبارهم ضحايا مظلومين لا يمكن إنقاذهم إلا على يد الإنسانية المتنورة التي تمثلها أمة «الأوروبيين الصالحين» الصاعدة، يصبح الأوكرانيون السند الأمثل للأسطورة البائسة والوحدة المصطنعة هذه.
الالتزام الأوروبي تجاه أوكرانيا خطأ استراتيجي هائل تبرره النخب الأوروبية عن قناعة بأن المأساة المستمرّة هناك قد توظَّف في سعيهم السياسي لتشكيل دولة أوروبية فيدرالية، وهندسة كيان سياسي «أوروبي» من الأعلى إلى الأسفل، وهو المشروع الأكثر طموحًا واستبداديّة في تشكيل الدول والهويات في التاريخ. ومع ذلك، يبدو وكأن تكلفة تحقيق سيادة أوروبية لا جدال فيها هي التخلي عن الهدف الأوروبي الآخر وهو الاستقلال الجيوسياسي عن واشنطن.
لطالما كانت سردية «الوحدة الغربية» حول أوكرانيا سرابًا، فهي «كذبة نبيلة» مصممة لإخفاء الطبيعة الإمبريالية لنظام التحالف الأمريكي وانحيازه الضمني ضد أوروبا، والعبء الاقتصادي الذي يشكله عليها. لذلك، مشروع دولة أوروبا يبدو متناقضًا تمامًا. لا يمكن لدولة حديثة أن تدعي السيادة وهي خاضعة لدولة أخرى، ولو كانت تلك الدولة قد نمت وتطورت بنفس الشكل المفاهيمي والإمبريالي والأيديولوجي. في الوقت الحالي، يبدو قادة الاتحاد الأوروبي جاهزين لتلك التضحية، مؤمنين بأن تشكيل أسس متينة لدولتهم القارية أمر يستحق تبعيّتهم لواشنطن لعقد آخر أو اثنين، حتى يحققوا المقومات الأساسية لشق طريقٍ مستقل.
في النهاية، تسعى النخبة الحاكمة في الاتحاد لمَركزة السلطة في بروكسل وإضعاف باقي الدول الأعضاء. وإذا كان ثمن هذا السعي نحو الأمل البيروقراطي الشمولي للسيادة السياسية هو التضحية بالازدهار الاقتصادي والاستقلال الاستراتيجي، فيبدو أن أوروبا على استعداد لدفعه. في هذا السباق الداخلي، ليست أوكرانيا سوى بيدق: قد تحفز الأوكرانيون حماية سيادتهم الوطنية، ولكن في الواقع تتم التضحية بهم في سبيل تعزيز حلم أسياد أوروبا الجدد بدولة أوروبية عظمى.