نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة كاونتربنش، بتاريخ الخامس من نيسان 2024.
تاريخيًا كانت الحرب توحد «إسرائيل»، لكن ذاك الزمن قد ولى. إن معارضة الإسرائيليين لحرب بنيامين نتنياهو تعني بكل بساطة أنهم لا يرون في رئيس الوزراء الرجل الذي قد يحرز النصر في هذه الحرب الوجودية كما يفترضون.
بيد أن النصر في حرب نتنياهو هذه يبقى متعذرًا ببساطة لأن حروب التحرير، التي غالبًا ما تُخاض بتكتيك حرب العصابات، تكون أشد تعقيدًا من الشكل التقليدي للقتال. وبعد مضي ستة أشهر على بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة، بات جليًا أن فصائل المقاومة الفلسطينية متينة وذات جاهزية جيدة لخوض قتال أطول بكثير.
يصر نتنياهو الذي يحظى بدعم وزراء اليمين المتطرف إضافة إلى وزير الدفاع يوآف غالانت، شديد التطرف أيضًا، على أن الحل يكمن في استخدام المزيد من القوة النارية. ورغم استخدام «إسرائيل» لهذا الكم الهائل وغير المسبوق من المتفجرات التي أسقطتها على غزة، مما أدى إلى قتل وجرح ما يزيد عن مائة ألف فلسطيني، إلا أن النصر الإسرائيلي -أيًا كان تعريفه- يظل صعب المنال.
إذًا، ما الذي يريده الإسرائيليون، ولنكن أكثر دقة، ما هي لعبة النهاية التي سيواجهها رئيس وزرائهم في غزة عمومًا؟
أظهرت نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت بدءًا من السابع من أكتوبر نتائج مماثلة: إذ يفضل الجمهور الإسرائيلي بيني غانتس، رئيس تحالف معسكر الدولة، على رئيس الوزراء وحزبه الليكود. وكذلك أشار استطلاع أجرته مؤخرًا صحيفة معاريف الإسرائيلية، إلى أن بتسلئيل سموتريش، أقرب وأهم شركاء نتنياهو في الائتلاف، ووزير المالية ورئيس حزب الصهيونية الدينية، لا يحظى بأهمية تذكر فعليًا فيما يتعلق بالتأييد الشعبي. وفيما لو أُجريت الانتخابات اليوم، فإن حزب الوزير اليميني المتطرف لن يتجاوز العتبة الانتخابية حتى.
يطالب جُل الإسرائيليين بإجراء انتخابات جديدة هذا العام. وفي حال تحقق لهم ما أرادوه اليوم، فإن الائتلاف المؤيد لنتنياهو لن يتمكن من جمع سوى 46 مقعدًا، بالمقارنة مع منافسيه الذين سيحظون بـ64 مقعدًا. وإذا انهارت الحكومة الائتلافية الإسرائيلية -التي تحظى بـ72 مقعدًا من أصل 120 مقعدًا في الكنيست- فإن الهيمنة التي يحظى بها اليمين على السياسة الإسرائيلية ستتحطم، ويُرجح أن يمتد ذلك لفترة طويلة.
وفي هذا السيناريو فإن خدع نتنياهو السياسية، التي لطالما خدمته بشكل جيد في الماضي، ستعجز عن إعادته للسلطة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه يبلغ من العمر 74 عامًا.
لقد تعلم المجتمع الإسرائيلي المُستقطب بشدة إلقاء كل الويلات التي ألمت به على شخصٍ أو حزبٍ سياسي ما. وهذا يفسر على نحوٍ جزئي لمَ تكون نتائج الانتخابات شديدة الاختلاف بين دورة انتخابية وأخرى. أجرت «إسرائيل» خمس انتخاباتٍ عامة بين نيسان 2019 وتشرين الثاني 2022، وها هم الآن يطالبون بإجراء انتخابات أخرى.
كان من المفترض أن تكون انتخابات تشرين الثاني 2022 حاسمة، حيث وضعت نهاية لسنوات من انعدام اليقين، واستقر الاختيار على «الحكومة الأشد يمينية في تاريخ «إسرائيل»»؛ وهو توصيف للائتلافات الحكومية الإسرائيلية الحديثة لطالما تكرر. وبغية ضمان عدم عودة «إسرائيل» لحالة التخبط في القرارات، أرادت حكومة نتنياهو حماية مكاسبها إلى الأبد. لقد أراد سموتريش، إضافة إلى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، خلق مجتمع إسرائيلي جديد يميل أبدًا إلى كلٍ من الصهيونية الدينية والقومية الصهيونية.
من ناحية أخرى، أراد نتنياهو بكل بساطة التشبث بالسلطة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى اعتياده الكبير على امتيازات منصبه، إضافة إلى أنه يطمح بشدة لتجنب الخضوع للعقوبة بالسجن نتيجةً لقضايا الفساد المتعددة المتعلقة به. وبغية تحقيق ذلك، بذلت أحزاب اليمين واليمين المتطرف قصارى جهدها للعمل على تغيير قواعد اللعبة، من خلال تقليص السلطة القضائية وإنهاء الرقابة على المحكمة العليا. فشلوا في بعض المهام ونجحوا في أخرى، بما في ذلك تعديل القوانين الأساسية في الدولة للحد من سلطة المحكمة العليا الإسرائيلية، ومن ثم حقها بالانقلاب على سياسات الحكومة.
ورغم أن الاحتجاجات الإسرائيلية كانت جماهيرية، إلّا أنه كان من الواضح أنها كانت تفقد زخمها مع الوقت، وأن الحكومة التي تحظى بهذه الأغلبية الساحقة -وفقًا للمعايير الإسرائيلية على أقل تقدير- لن تلين بسهولة.
لكن السابع من أكتوبر غيّر كل الحسابات.
غالبًا ما ينظر لعملية طوفان الأقصى من ناحية مقوماتها العسكرية والاستخباراتية، إن لم يكن هذا النظر نابعًا من جدواها، لكن قلما ينظر إليها من حيث نتائجها الاستراتيجية. إذ وضعت «إسرائيل» في مأزق تاريخي لن يستطيع نتنياهو، وأغلبيته البرلمانية، أن يخرجاها منه. ومما زاد الطين بلة أن المحكمة العليا ألغت رسميًا، في الأول من كانون الثاني، القرار الذي أصدره ائتلاف نتنياهو والذي يقضي بتقويض السلطة القضائية.
لقد طغت أزمات أخرى ألمت بالبلاد على الأخبار، رغم أهميتها، واُلقي اللوم في معظمها على نتنياهو وشركائه في الائتلاف، ومنها الفشل العسكري والاستخباراتي الذي أفضى إلى السابع من أكتوبر، والحرب الطاحنة، والانكماش الاقتصادي، ومخاطر حدوث صراعٍ إقليمي، والصدع الذي حدث بين «إسرائيل» والولايات المتحدة، والمعاداة المتزايدة عالميًا لـ«إسرائيل» وغيرها. وتمضي المشاكل في التراكم، ونتنياهو، السياسي البارع في العصور السابقة، أصبح متعلقًا الآن بخيط إبقاء الحرب دائرة لأطول وقت ممكن ليرجئ بذلك أزمته المتفاقمة لأطول مدة ممكنة.
بيد أن الاستمرار في حرب لأجل غير مسمى ليس خيارًا كذلك. فالاقتصاد الإسرائيلي انكمش، وذلك وفقًا لبيانات صدرت مؤخرًا عن جهاز الإحصاء المركزي في البلاد، بنسبة تزيد عن 20% في الربع الأخير من عام 2023. وعلى الأرجح سيستمر في سقوطه الحر في الفترة القادمة. أضف إلى ذلك أن الجيش يصارع في حرب يتعذر إحراز نصر فيها من دون أهدافٍ واقعية. والمصدر الوحيد الذي يمكن له أن يمدّ الجيش بالمجندين الجدد هو يهود الحريديم الذين تم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية ليتفرغوا لدراسة النصوص التوراتية والتلمودية في اليشيفا (المدارس الدينية اليهودية) عوضًا عن ذلك.
تريد ما نسبته 70% من الإسرائيليين، بما في ذلك حزب نتنياهو، أن ينضم الحريديم إلى الجيش. وفي 28 آذار أصدرت المحكمة العليا قرارًا يقضي بتعليق الإعانات المخصصة لجماعات الحريديم. وفي حال حدث هذا فإن المشكلة ستتفاقم على عدة جبهات. ففي حال خسر الحريديم امتيازاتهم من المرجح أن تنهار حكومة نتنياهو، وإذا احتفظوا بها فإن الحكومة الأخرى، أي مجلس حرب ما بعد السابع من أكتوبر، ستنهار كذلك.
إن إنهاء الحرب على غزة، حتى وإن وصفه نتنياهو بـ«النصر»، لن يؤدي إلا إلى المزيد من الاستقطاب، كما سيعمق أسوأ صراع سياسي داخلي شهدته «إسرائيل» منذ تأسيسها. أمّا المضي قدمًا والاستمرار في الحرب فسيزيد الانقسامات، إذا لن يعدو كونه تذكيرًا بهزيمة لا يمكن إصلاحها.
رمزي بارود صحفي ومحرر في فلسطين كرونيكل، صدرت له خمسة كتب، كان آخرها «هذه السلاسل ستنكسر: قصص فلسطينية عن النضال والتحدي في السجون الإسرائيلية» (صادر عن Clarity Press, Atlanta). وهو باحث غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)، جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم (IZU). المزيد في موقعه الإلكتروني.