أبعد من «خطة الجنرالات»: ما الذي تريده «إسرائيل» في شمال غزة؟

الخميس 31 تشرين الأول 2024
مدرسة الرافعي في مخيم جباليا شمال غزة. تصوير: عمر القطاع. أ ف ب.

في السادس من تشرين الأول الجاري، أعلنت «إسرائيل» بدء عملية عسكرية جديدة في جباليا بذريعة منع حركة حماس من ترميم قوتها العسكرية في المنطقة، فنشرت فرقها القتالية لتطويق المنطقة مؤكدةً أن «العملية ستتواصل وفق الضرورة مع تسديد ضربات ممنهجة وتدمير جذري للبنى العسكرية في المنطقة». خلال الأيام الأولى من هذه العملية، ارتكبت «إسرائيل» عشرات المجازر بحق الفلسطينيين شمال القطاع، في مناطق بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا، عبر القصف المدفعي والجوي المكثف وعبر حصار خانق يمنع دخول إمدادات المياه والطعام والدواء.

جاء الإعلان عن هذه العملية العسكرية والشروع في تنفيذها بعد دراسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت «خطة الجنرالات»، وهي خطة عسكرية أعدّها اللواء غيورا آيلاند، الرئيس السابق لقسم العمليات في الجيش الإسرائيلي وحظيت بدعم العشرات من كبار الضباط. تنص الخطة على منح السكان مهلة أسبوع قبل تهجيرهم، ثم «سيُفرَض حصار عسكري كامل على المنطقة، مما سيترك المسلحين في مدينة غزة أمام خيار الاستسلام أو الموت»، وفق الوثيقة التي نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية وأمريكية للخطة لأول مرة مطلع أيلول الماضي.

التهجير هو الخطوة الأولى

نشر جيش الاحتلال خريطة إخلاء جديدة للسكان المدنيين في شمال القطاع الذين يتراوح عددهم ما بين 200-300 ألف فلسطيني زاعمًا «توسيع المنطقة الإنسانية» وداعيًا المدنيين للتوجه نحو جنوب وادي غزة. ولتحقيق ذلك، كثفت «إسرائيل» غاراتها الجوية والبرية على المدنيين وعطلت المنظومة الصحية بعد حصار مستشفى كمال عدوان الذي يعمل بحدوده الدنيا واعتقلت كوادر جهاز الدفاع المدني وحاصرت المدنيين بمسيّرات «كواد كابتر» تطلق النار على أي جسم متحرك، وأسقطت البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية لتدمّر المنازل وآبار المياه، وقطعت الاتصالات عدة مرات.

بالإضافة لذلك، تعمّد الجيش الإسرائيلي نسفَ ما تبقى من منازل شمال غزة لتهجير السكان قسريًا، وحرقَ مراكز الإيواء لإجبار النازحين على عدم التفكير بالعودة مطلقا إلى تلك المناطق، كما منع دخول المساعدات بشكل كامل إلى الشمال منذ بداية الشهر الجاري في ما وصفه آيلاند بصلاحية «تجويع العدو حتى الموت» وفق قوانين النزاعات المسلحة. وقد دفعت هذه العمليات العسكرية حوالي عشرين ألف شخص للنزوح قسرًا من جباليا يوم 18 من تشرين الأول بحسب تقدير وكالة الأونروا.

«من يبقى من السكان سيعتبر مقاتلًا، ما يعني أن اللوائح العسكرية ستسمح للقوات بقتلهم، وسيُحرمون من الطعام والماء والدواء والوقود»، تقول وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلًا عن الخطة التي تسعى للقضاء بشكل كامل على أي وجود لحماس شمال القطاع.

«إذا كان دمّر المقاومة الفلسطينية في الشمال أيار الماضي، ليش بده يرجع على جباليا؟»، يتساءل الباحث أليف صباغ، مذكرًا بإعلان جيش الاحتلال وقتها سحبه آخر فرقه القتالية من جباليا وإنهاء عملياتها العسكرية لإجراء تقييمات بشأن المرحلة المقبلة، زاعمًا تدمير أنفاق بطول 10 كيلومترات وانتشال جثث أسرى إسرائيليين من داخلها، وتدمير مواقع لإنتاج الأسلحة وقتل مئات المسلحين الفلسطينيين.

يقول المحلل السياسي عريب الرنتاوي إن «إسرائيل» تحاول فرض حكم عسكري يفصل شمال غزة عن جنوبها عبر السيطرة على المحاور الأساسية الفاصلة بين مناطق القطاع، وهي محور «نتساريم» الفاصل بين مدينة غزة ومحافظة الوسط (دير البلح)، ومحور «كيسوفيم» الفاصل بين دير البلح وخان يونس، ومحور «غوش قطيف» الفاصل بين خان يونس ورفح، ومحور صلاح الدين أو «فيلادلفيا» الحدودي.

خطط أخرى للتعامل مع ما بعد التهجير

لا تحظى الخطط الإسرائيلية في الشمال بدعم «الجنرالات» فحسب، بل أيضًا المجتمع الإسرائيلي الذي يتفق مع قادته على إبادة الفلسطيني وإن كانت الطريقة محط نقاش يقول الرنتاوي، في إشارة للطموحات الإسرائيلية لاستيطان شمال غزة بعد تفريغ سكانها. قبل أيام، عقد مئات الإسرائيليين وبحضور عشرات الوزراء وأعضاء الكنيست مؤتمرًا قرب قطاع غزة دعوا خلاله إلى إعادة الاستيطان في «كل شبر» من القطاع، كما زعمت حركة «نحالا» الاستيطانية التي نظمت المؤتمر، تسجيل 700 عائلة لتملأ «المناطق المحررة في غزة بالمجتمعات اليهودية».

يريد المستوطنون تهجير الفلسطينيين بشكل كامل من الشمال لتحقيق «حلم الاستيطان» بعدما أجبروا على الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات عام 2005، لكن عدم نجاح الخطة الإسرائيلية في إخلاء السكان بشكل يتيح للجيش الإسرائيلي الاستفراد بمقاتلي حماس وعزلهم عن بيئتهم الاجتماعية لقتلهم أو اعتقالهم أو حرمانهم من تجنيد مقاتلين جدد قد يعني توجه «إسرائيل» لتعزيز الحصار على من تبقى من المدنيين بشكل يتيح لها مراقبتهم واستهدافهم للدخول في المرحلة الثالثة وهي تنفيذ عمليات خاطفة ضد المقاومين، بعد زعم الإسرائيليين انتهاء أول مرحلتين من الحرب وهما الهجوم الجوي بالقصف السجادي والأحزمة النارية، والهجوم البري الواسع، يقول المحلل السياسي ساري عرابي.

يضيف عرابي أن «إسرائيل» ليست لديها خطط ناجزة أو تصورات محسومة حول الحرب، ولذلك تشرع في تنفيذ العمليات العسكرية والاستطلاع بالقوة لتبني خططها الاستراتيجية في ضوء النجاحات التكتيكية التي يحققها الجيش الإسرائيلي في خطط متوازية يجمعها «تعزيز الوجود العسكري في الشمال». واحدة من الخطط المطروحة أيضًا هي «الفقاعات الإنسانية» التي ناقشها مجلس الحرب الإسرائيلي مطلع حزيران الماضي واقترحها وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت لتقسيم قطاع غزة لمناطق منفصلة تبدأ بالشمال، تشبه في شكلها الفقاعات، وتتولى إدارتها «قوّات مؤهلة» تكون مسؤولة عن عملية إدخال المساعدات وفق آلية أمنية مشددة تتيح السيطرة على المناطق وكشف مقاتلي حماس وكذلك استبدال حكم الحركة في غزة.

عادت هذه الخطة مؤخرًا إلى الواجهة بالتزامن مع التنفيذ العملي لخطة الجنرالات حيث تتوقع الصحافة الأمريكية أن يقع الاختيار على شركة أمنية أمريكية يديرها رجل أعمال إسرائيلي وهي «Global Delivery Company». قدمت هذه الشركة خدماتها في العراق وأفغانستان وتقترح إنشاء مجتمعات مغلقة يخضع فيها الفلسطينيّون لإجراءات تكنولوجية مثل الفحص البيرومتري[1] من أجل الحصول على المساعدات. وقد رجّحت وسائل الإعلام الإسرائيلية اعتماد منطقة العطاطرة غرب مدينة بيت لاهيا لتكون النموذج الأول. تتيح هذه الإجراءات فرض رقابة رقمية على الفلسطينيين وتمكّن الإسرائيليين من مراقبتهم ورصد تحركاتهم وجمع بياناتهم لعزل المقاتلين وتجويعهم ورصدهم واستهدافهم.

يقول صبّاغ إنه وفي ظلّ فشل خطط «إسرائيل» لإعادة إحياء ما يسمى بروابط القرى،[2] عبر استمالة العائلات والعشائر الفلسطينية في غزة لتنفذ خطط الاحتلال، يشكّل تخطيطه لتكليف الشركات المخابراتية التحكم بالمساعدات وإدارة الشؤون المدنية في غزة بديلًا يحقق للاحتلال أهدافه المعلنة للحرب، والتي على رأسها القضاء على حركة حماس.

ما الذي قد يعيق الخطط الإسرائيلية؟

روّج آيلاند، وهو نفسه الذي وضع خطة تهجير أهالي قطاع غزة إلى سيناء عام 2000، لخطة الجنرالات وللحصار والتهجير الشامل لسكان شمال غزة على أنها الحل الاستراتيجي «للورطة العميقة التي تعاني منها «إسرائيل» بعد عام من الحرب في غزة دون أن تكون قريبة من تحقيق أيٍ من أهداف الحرب»، إلا أنه عاد وأشار إلى أن العملية العسكرية وحدها غير كافية، في إشارة لتحديات سياسية وعسكرية تواجه تنفيذ الخطّة، أو تحول دون تحقيق أهدافها المرجوة.

يشكل صمود الفلسطينيين في الشمال وعدم استجابتهم لدعوات التهجير والإخلاء رغم التجويع والقصف والترويع، ونزوحهم ما بين مناطق الشمال دون أن يعبروا محور نتساريم، إحدى أكبر التحديات للخطط الإسرائيلية التي تراهن أفضل سيناريوهاتها وأكثرها تطرفًا على إفراغ الشمال. من ناحية أخرى، فإن صمود المقاومة وتنفيذها لعمليات كفؤة، بما فيها تنفيذ كتائب القسام كمينًا ضد قوة هندسية إسرائيلية بجباليا واستهداف سرايا القدس تجمعا لآليات إسرائيلية، يستنزف القدرات العسكرية للاحتلال الإسرائيلي. وقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن عسكريين إسرائيليين قولهم إن تكتيكات حرب العصابات أو «الكر والفر» التي تنتهجها كتائب القسام شمال القطاع تجعل هزيمتها صعبة وقد تكون كافية «لتوريط إسرائيل بحرب بطيئة لا فوز فيها».

يقول عرابي إن صمود الفلسطينيين والمقاومة هي عوامل أسطورية واستثنائية في ظل حجم الإنهاك والتجويع الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي عليهم في الشمال، والعزل الذي تعاني منه المقاومة والحد من قدرتها على التنقل وغياب خطوط الإمداد العسكرية بدليل تنفيذ بعض العمليات العسكرية عبر إعادة تدوير القذائف الإسرائيلية تحت عنوان «هذه بضاعتكم ردت إليكم». من ناحيته، يؤكد صباغ أن التعويل على هذه العوامل لا يكفي لوقف الخطط الإسرائيلية التي تتطلب تحركًا فلسطينيًا وعربيًا رسميًا وشعبيًا واسعًا لأن الفارق العسكري بين المقاومة الفلسطينية والجيش الاسرائيلي هائل ولا يقبل القياس، تحديدًا في ظل الدعم الأمريكي لـ«إسرائيل» حتى وإن كانت تدّعي رفض خطة الجنرالات أو تهدّد بوقف إمدادات الأسلحة في حال استمرار منع إدخال المساعدات.

لا تلقى الخطط الإسرائيلية أية معارضة داخلية يمكن أن تضغط على حكومة نتنياهو يقول الرنتاوي، لكن بعض الأصوات تحذر من احتمالية إساءتها لـ«إسرائيل» على مستوى الدعاية والرأي العام العالمي وتعزيز فرص ملاحقتها دوليًا في ظل قضية «الإبادة الجماعية» القائمة والتي قدمت فيها جنوب إفريقيا الأدلة لمحكمة العدل الدولية مؤخرًا. ولذلك يرى الرنتاوي أن الإدخال المحدود للمساعدات أو الخطط المرتبطة بها لا تمكن «إسرائيل» من السيطرة على القطاع فحسب، بل تساعدها أيضًا في تضليل المجتمع الدولي والتغطية على الجرائم التي ترتكبها وتكسبها الوقت اللازم للاستمرار في حرب الإبادة وبكلفة أقل بكثير مما لو أدارت «إسرائيل» ظهرها لـ«موجات الغضب الأمريكي والأوروبي».

  • الهوامش

    [1] التعرف الآلي على الأفراد استنادًا إلى سماتهم البيولوجية والسلوكية مثل بصمات الأصابع ومسح قزحية العين.

    [2] تشكيلاتٌ إدارية أَنشأتها «إسرائيل» عام 1978 تحت أهداف التنمية وتقديم الخدمات لخلق قيادة فلسطينية متعاونة مع الاحتلال وتعمل بإمرته، وتكون بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية.

Leave a Reply

Your email address will not be published.