هناك تضخم ملحوظ في عدد المقالات والتقارير التي تحاول معالجة سيناريوهات اليوم التالي لغياب رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس (أبو مازن). ويمكن إجمال أسباب هذا التضخم بالتالي: أولًا، بحث فلسطيني داخلي وأمل يصل حد التفكير الرغبوي بخيار بديل يمكن أن يوفر مساحة جديدة للعمل المقاوم في الضفة الغربية. وثانيًا، بحث إسرائيلي أمريكي وأوروبي عن استقرار النظام السياسي الفلسطيني بما يخدم تمرير وتعميق مشاريع التطبيع العربية-الإسرائيلية، دون صعود طرف فلسطيني يملك إرادة أو إمكانية تخريب تلك العلاقات الناشئة والمتطورة، بل يحافظ على الضفة الغربية كجغرافيا هادئة نسبيًا. وبطبيعة الحال، فإن عمر الرئيس الحالي (87 عامًا) وصحته المتدهورة سبب إضافي.
يمكن القول إن ماراثون الموت هذا وفر إمكانية التحضير لليوم التالي بعد غياب الرئيس، بحيث توضحت الأمور أكثر، وأصبح التكهن لعبة المحللين السياسيين الذين يحاولون المفاضلة بين شخصيات تتشابه وتلتقي كثيرًا، بل تكاد تشكل انعكاسًا لبعضها البعض. فهي تشترك بكل شيء، بما يشمل التحالفات الجيو-سياسية مع العدو الإسرائيلي والأمريكي، والنهج السياسي، بل حتى العلاقة الوطيدة للعديد من الأسماء المطروحة مع المؤسسة الأمنية الفلسطينية، التي التهمت مراكز صنع القرار داخل حركة فتح وداخل السلطة الفلسطينية بأفرعها المختلفة.
لكن رغم ما سبق، لا يخفى على أحد أن حسين الشيخ، وزير الشؤون المدنية وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح و(حديثًا) أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بتعاون وتحالف قريب مع ماجد فرج، رئيس المخابرات الفلسطينية، هما أبرز المرشحين، وأن كليهما يهيئان الأرضية للانقضاض على السلطة، ولصياغة المرحلة القادمة، إمّا من خلال تحديد هوية الرئيس أو من خلال تبوؤ أحدهما كرسي الرئاسة. وقد يأتي هذا الانقضاض ضمن محاصصة مع آخرين داخل اللجنة المركزية أو ضمن تصفية حسابات لاحقة، ولكن ما هو مؤكد أن الثنائي لن يبحث عن عملية انتخابية أو شرعية اقتراعية، وإنما سيكتفي بآليات الاستبدال الذاتية خوفًا من انتخابات تضعف قوته وتوغله في مؤسسات السلطة، وبالتالي تضعف خطة اليوم التالي التي يجري العمل عليها.
ظهرت بعض معالم هذه الخطة في الأشهر الماضية، بدءًا بإلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية، مرورًا بتعيين حسين الشيخ عضوًا وأمين سر في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووصولًا إلى تصاعد حضوره الإعلامي. كما يمكن قراءة هذه الخطة في طبيعة ونوع التسهيلات الإسرائيلية الأخيرة التي تضمنت إتمام آلاف ملفات «لم الشمل العائلية» العالقة في مكاتب الحاكم العسكري للضفة الغربية منذ سنوات، والتي بدت وكأنها مصممة خصيصًا لدعم موقع حسين الشيخ في هذا السباق.
من المهم التنبيه هنا إلى أن هذا السباق لم يكن شديد الحدية، فالنظام السياسي الفلسطيني ارتهن بشكل شبه تام للتمويل الخارجي والعلاقة الجيو-سياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل»، وحلفائهما من الأنظمة العربية. بل يمكن القول إن الصراعات التي يطول الحديث عنها داخل اللجنة المركزية هي محاولات للمناورة ضمن خطوط عامة مقبولة، أو لتقديم أوراق اعتماد لتلك القوى الجيو-سياسية. ولكنها بالتأكيد لا تذهب نحو تأزيم الوضع الأمني في الضفة الغربية أو تفجر داخلي شامل، وإن راود هذا الهاجس بعض التحليلات الإسرائيلية. فأولًا، تخضع الضفة الغربية لحكمين، حكم إسرائيلي يمكن له بكل بساطة أن يُغيّب عن الساحة من يغرد خارج السرب، وهو يعتقل حاليًا أحد أهم شخصيات فتح؛ مروان البرغوثي، فضلًا عن أن هناك قوى إقليمية ودولية لن تسمح بهذا النوع من الصراعات. وثانيًا، أن لا أحد من اللجنة المركزية يملك مصلحة جادة من التأزيم أو قدرةً كافية عليه بحيث يصل الصراع حدًا تقتل فيه السلطة نفسها.
بتعبير آخر، لا تمتلك اللجنة المركزية لحركة فتح تحالفات خارج حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهذا ما يجعل إمكانية صراع دموي أو طاحن أو حتى طويل على كرسي الرئاسة أقل احتمالًا، تحديدًا لأن المصالح العربية الرسمية والأمريكية والإسرائيلية تجتمع على أن أفضل خيار في فلسطين هو الخيار الذي يديم «العجز والهدوء الفلسطيني».
الحرب الأهلية البطيئة
منذ العام 2014 والميزان السياسي في الضفة الغربية يميل نحو استعادة روح المقاومة لكن دون تنظيم سياسي واضح يحاول أن يبني حول تلك الروح آليات عمل وبرامج وأهداف محددة. المقاومة في الضفة بغالبيتها تلقائية عفوية تغذيها بيئة اجتماعية وتعاني من الموسمية، ولكنها في ازدياد ملحوظ كثافةً ونوعًا، يتمثل في أكثر من ست هبات، فضلًا عن صعود أشكال مختلفة من العمل الفدائي المرتبط بالأداة المتاحة؛ السيارة والسكين والكارلو وبعض الأسلحة الخفيفة. ظهر ذلك في بيئة متعاظمة من بؤر صغيرة منظمة للعمل المسلح في جغرافيات محدودة في شمال الضفة المحتل، خاصة في منطقة جنين ونابلس وطولكرم.
بدأت علامات هذا الصراع تظهر كذلك في العديد من الجولات الانتخابية وفي معارك تخاض حول المواقع المؤسساتية المختلفة، خاصة في النقابات والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من مواقع التماس بين منظومة السلطة السياسية وبيئة تتأرجح بين كونها داخل المنظومة وخارجها. فقد أفرزت انتخابات نقابة المهندسين انتصارًا نسبيًا لقوى اليسار والمعارضة، كما أفرزت انتخابات بعض مواقع نقابة المحامين والأطباء نتائج مشابهة بنجاح شخصيات من خارج فتح.
كما أظهرت انتخابات جامعة بيرزيت، التي توجت بفوز تاريخي للكتلة الإسلامية بحصولها على 28 مقعدًا مقابل 18 مقعدًا لحركة الشبيبة الفتحاوية، تعمق الشرخ بين حركة فتح والمجتمع الفلسطيني عامة. ولم تسلم جامعة النجاح من هذا الاصطفاف السياسي، عقب صراعات بين الطلبة وإدارة الجامعة حول عدم انعقاد انتخابات مجلس الطلبة، توجت بانتصار حققه الطلبة بفرض إعادة الانتخابات ضمن مجموعة من القرارات الأخرى، تعلقت بمحاسبة بعض الحرس لما ارتكبوه من قمع عنيف داخل حرم الجامعة.
لا تمتلك اللجنة المركزية لحركة فتح تحالفات خارج حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهذا ما يجعل إمكانية صراع دموي أو طاحن أو حتى طويل على كرسي الرئاسة أقل احتمالًا.
هذه الحرب الأهلية البطيئة تعبر عن الميزان المتغير لصالح شبح يعود من الماضي؛ شبح المقاومة التي يغذيها العديد من المعطيات: استمرار الاستيطان والتوسع في السيطرة على الزمان والمكان الفلسطيني، وبنية المقاومة في غزة التي ما زالت حاضرة وقادرة على بناء تدخلات في الواقع كما فعلت في معركة سيف القدس، وتآكل شرعية السلطة وانسحاب العديد من التيارات النخبوية التي كانت تدعم وجودها، على شاكلة بعض المثقفين والتكنوقراط وبعض الأحزاب اليسارية أو الليبرالية، وحتى أمثال الوزير السابق ناصر القدوة الذي تم فصله من حركة فتح بعد محاولته دخول الانتخابات التشريعية بقائمة من خارج الحركة، ورئيس بلدية الخليل تيسير أبو سنينة، وغيرهم من المعارضين من داخل فتح لنهج القيادة الحالي.
أدت هذه الانسحابات إلى تمركز النظام السياسي الفلسطيني حول جوهره المتمثل في قوة عضلات الأجهزة الأمنية، بحيث لا يمتلك هذا النظام إلا القليل من التحالفات التي تساهم من جهة في انحساره ومن جهة أخرى بالنزوح نحو أمْنَنَة متزايدة. هذا ما تعبر عنه كل الخيارات التي يتم تداولها لخليفة أبو مازن، فغالبيتها -باستثناء مروان البرغوثي- هي امتداد لموقع ومركزية الأجهزة الأمنية في زمن الرئيس: حسين الشيخ (وزير الشؤون المدنية)، محمد دحلان (عقيد في الامن الوقائي وقائد الوقائي في غزة سابقًا)، توفيق الطيراوي (رئيس المخابرات السابق)، جبريل الرجوب (عقيد في قوات الأمن الوقائي وقائدها في الضفة الغربية سابقًا).
بكلمات أخرى، تعبر كل هذه الخيارات عن موقع القوة الأساسية للنظام السياسي الفلسطيني، أي أجهزته الأمنية، وقدرة تلك الأجهزة على إدارة البيروقراطية واستخراج فائض مالي من خلال التمويل الخارجي وتحالفاتها الطبقية مع رأسمال احتكاري يشكل امتدادًا لها. ولكن هذه الخيارات تعبر كذلك عن انحسار قدرة المنظومة على استيعاب تيارات كانت تساهم في منحها شرعية سياسية تحتاجها أو كانت تحتاجها، كما كانت توفر لها إمكانية الاستمرار في السلطة دون التوظيف الكثيف للهراوة.
تكمن قوة أي نظام اقتصادي او سياسي بقدرته على «الاستيعاب» و«الاحتواء» و«الضم». ما الذي يعنيه ذلك بشكل أكثر تحديدًا؟ بشكل تجريدي، فإن مفهوم الاستيعاب أو الضم هو مفهوم تصنيفي يشير إلى علاقة انتماء إلى فئة من الأشياء، أو الاندماج في فئة أكثر عمومية. فالإنسان مثلًا يمكن تصنيفه بيولوجيًا على أنه نوع من أنواع الحيوانات، وإن كان جنسًا مغايرًا. إذن، يتمحور المفهوم حول إشكالية تنظيم وترتيب الأشياء وإنشاء تسلسل هرمي بينها، يبدأ من التفاصيل نحو الأشياء الأكثر عمومية.
يدور أحد الصراعات اليوم حول الكيفية الأفضل لخلافة الرئيس دون الدخول في صدام يمكن أن يفكك المنظومة أو يزيد ضعفها المتعاظم أمام خصومها.
بهذا المعنى تحديدًا، يشير واقع السلطة الفلسطينية إلى انفصالها عن العديد من تلك الفئات التي انضوت تحتها ضمن تراتبية هرمية غير معلنة، أي تسرب العديد من الشخوص والتيارات والأحزاب من فلكها الهرمي التصنيفي، ذهب بعضهم إلى البيت، والآخر أصبح يلوح بمعارضته علنًا. وهنا نتحدث عن أحزاب كالجبهة الشعبية، ومثقفين وشعراء وقيادات سياسية واجتماعية لم تعد تجد لها موقعًا في السلطة، إما لأن هذه الشخصيات أصبحت ضعيفة، كحنان عشراوي مثلًا، أو لأنها أصبحت ترى ضرورة في معارضة السلطة بعد سنين من التماهي معها.
هناك قضيتان مفصليتان هنا. فهذا التحول في شكل السلطة يعبر من جهة عن تعاظم قوة رأس المال الاحتكاري في المجتمع الفلسطيني ودوره في تحديد طبيعة النظام السياسي، وعن ترهل القوى الوطنية القديمة وضعفها بعد استنفادها لنفسها كقوة معارضة من داخل المنظومة. ولكنه من جهة ثانية يعبر أيضًا عن فقدان السلطة لقدرتها السياسية على الإقناع وبناء هيمنة قائمة على الخطاب، بحيث يزداد اعتمادها على قوة القمع، كما حدث في اغتيال الشهيد نزار بنات وقمع المسيرات وغيرها من الممارسات القمعية. بهذا المعنى، هناك حركة من جهتين: انسحاب ذاتي من السلطة، وتحدٍ متعاظم لها من خارجها. بالتالي، يزداد تمحور السلطة حول الأمن ورأس المال دون القدرة على ضم قوى خارج هذين الركنين.
كل الخيارات المطروحة تدور في هذا الفلك، فاختيار الأقوى نسبيًا، أي التحالف بين ماجد فرج وحسين الشيخ، يعني الاصطفاف خلف شخصيات مكروهة اجتماعيُا، ترحل بالسلطة نحو انعزال أكثر عن المجتمع وإدارة قمعية له وللبيروقراطية نفسها. وقد تمظهر ذلك بشكل جلي في آليات الاستبدال كما في الشخوص المطروحة لاستبدال أبو مازن.
صراع على الآليات: الانتخابات والاستبدال الذاتي
في ظل هذا الاصطفاف المتعاظم، هناك صراع آخر يدور حول الكيفية الأفضل لخلافة الرئيس دون الدخول في صدام يمكن أن يفكك المنظومة أو يزيد ضعفها المتعاظم أمام خصومها. تستطيع حركة فتح مثلًا عقد انتخابات تشريعية ورئاسية تفوز بها لتمنح المنظومة السياسية صك حياة طويل الأمد، ولكن ذلك يعني وضع مروان البرغوثي في موقع قوة. فهو يمتلك قوة التلويح بدخول الانتخابات وبالتالي تخريبها فتحاويًا، حتى لو لم يستطع دخولها دون قرار فتحاوي رسمي. دون ذلك، تبقى الانتخابات مبهمة وغامضة، ويمكن لها أن تفرز قوى جديدة، أو تساهم في إعطاء حماس مؤسسة مهمة كالمجلس التشريعي. وبالتالي يمكن لهذا الفرز الانتخابي أن يعيق عملية استبدال الرئيس من داخل المنظومة السياسية نفسها.
كان خيار الانتخابات الخيار المفضل للقوى الخارجية، بالأخص الأوروبية وبدرجة أقل الأمريكية، خاصة خيار خوضها على مراحل، بحيث تكون انتخابات المجلس التشريعي اختبارًا للانتخابات الرئاسية. فحتى لو افترضنا فوز المعارضة السياسية بالانتخابات التشريعية، فيمكن دومًا الإبقاء على مؤسسة الرئاسة بيد قوى الأمن، وبالتالي بإفراغ المجلس التشريعي من سلطته التشريعية. فالهدف من الانتخابات كان ترميم البنية السياسية بهدف خلق ائتلاف اجتماعي عريض يساهم بمنح السلطة الفلسطينية حياة جديدة أمام تآكل شرعيتها واقتصار الشرائح السياسية المتورطة بها في قوى الأمن ورأس المال.
تجتمع المصالح العربية الرسمية والأمريكية والإسرائيلية على أن أفضل خيار في فلسطين هو الخيار الذي يديم «العجز والهدوء الفلسطيني».
لكن بغياب خيار الانتخابات، فإن محاولات الاستيلاء على المؤسسات الرسمية، بما فيها منظمة التحرير وهيئات حركة فتح التنظيمية والسلطة الفلسطينية بشقيها المدني والأمني، هي المسار الآخر الممكن لاستبدال عباس. وهذا ما يسير باتجاهه الثنائي المتحالف، أي حسين الشيخ ماجد فرج، بموافقة أمريكية وأوروبية وإسرائيلية. فمن خلال القتال على مواقع متقدمة داخل تلك الهيئات ومن خلال حرب التعيينات وبناء شبكات النفوذ داخلها، خاصة في المواقع التي تمتلك إمّا شرعية تاريخية أو إمكانية إدارة الأموال، تستطيع الاستيلاء على السلطة دون الكثير من العقبات.
كان هذا الخيار المفضل لـ«إسرائيل»، فهي لا تريد سلطة فلسطينية تستعيد حتى بعضًا من فعاليتها الخطابية الوطنية، بل تريد سلطة تقوم بالمهام الأمنية دون العديد من الزخرفات السياسية والقانونية التي انتهجتها أحيانًا في زمن أبو مازن؛ سلطة لا سلطة لها إلا الهراوة، سلطة لا تزعج «إسرائيل» في المحافل القانونية والدبلوماسية، ولا تملك خيارًا سوى الاستمرار في معادلة الريع المادي مقابل التعاون الأمني.
يمضي الثنائي المتحالف نحو هذا الخيار في استبدال الرئيس، ما يعني ازدياد انغلاق السلطة حول مركز قوتها، وازدياد الابتعاد عن عمليات الاستيعاب والتحالف العابر للتيارات السياسية التي ساهمت بتشكيل السلطة الفلسطينية تاريخيًا، ما يعني أيضًا ازدياد ضعف فتح شعبيًا، ولكن دون تحدٍ من خارج السلطة يستطيع استبدالها. بمعنى آخر، نحن لسنا فقط أمام موت أبو مازن البطيء، ولكن أيضًا أمام خيارات تواصل عملية الموت البطيء للسلطة نفسها. بهذا المعنى، فإن بقاءها قائم فقط على قدرتها على إدارة الأموال وتوزيع الريع، وعلى غياب بدائل سياسية اجتماعية تمتلك مشروعًا قادرًا على إقناع قاعدة السلطة بضرورة الانفكاك عنها، أو تمتلك ما يكفي من القوة بحيث لا تحتاج لإقناع هذه القاعدة اساسًا. لقد اختارت السلطة الفلسطينية بالفعل أن تستبدل نفسها بنفسها، بل ستقاتل أيضًا من أجل ألا يزج آخرون (قوى المقاومة تحديدًا) بأنفسهم في هذا الصراع.
قوى المقاومة لا تملك حصانها
لا يمكن جمع قوى المقاومة على موقف واحد من السلطة الفلسطينية، فلكل منها تاريخ مختلف من التورط والاشتباك مع هذا الجسد السياسي. ولكن اللافت هو أن قوى المقاومة المنظمة لا تملك أي حصان في هذا السباق المحموم لاستبدال الرئيس الحالي. هناك العديد من الأسباب لذلك، أهمها كما أشرنا سابقًا انغلاق المنظومة على نفسها، خاصة في الهيئات القيادية العليا، وبالتالي اقتصار الصراع على شخصيات كلها تمتلك المشروع ذاته، وكلها تعيد حياكة نفس الخطاب السياسي ولكن بلغة مختلفة تتأرجح بين السذاجة والسخرية والتهكم.
ولكن هناك أيضًا سبب أساسي يتعلق بابتعاد قوى المقاومة عن التورط في منظومة ترى غالبية القوى أن قتالها اليوم يجب أن يكون من خارجها وليس من داخلها. فالسلطة أولًا قائمة بنيويًا على التعاون الحثيث مع الاحتلال، وبالتالي التورط فيها من داخلها يعني التورط بهذه البنية. ثانيًا، يعطي الابتعاد عن هذا الصراع الأفضلية لبعض القوى لتقديم نفسها كخيار سياسي يمتلك شعبية وشرعية واسعة في الساحة الفلسطينية حتى لو لم يمتلك السلطة نفسها. وهنا نخص بالذكر حركة حماس، التي ترى في ضعف فتح فرصة لها لتطرح نفسها بوصفها الفصيل الوطني الأول في الفضاء السياسي الفلسطيني.
تعبر الخيارات المطروحة لخلافة أبو مازن عن موقع الأجهزة الأمنية في النظام السياسي الفلسطيني، وقدرتها على إدارة البيروقراطية واستخراج فائض مالي من خلال التمويل الخارجي وتحالفاتها الطبقية مع رأسمال احتكاري يشكل امتدادًا لها.
من جهة أخرى، فإن بيئة حركة فتح باتت معبئة ضد الخصوم الداخليين، أي اليسار وحركات المقاومة الإسلامية. بل إن هذه البيئة اصبحت تُعرّف هؤلاء الخصوم بوصفهم أعداءها. بالتالي، فإن تكوين هذه البيئة وتصلّبها لا يسمح ببناء تيار سياسي داخل فتح يرفع لواء المقاومة. ويستثنى من ذلك طبعًا بعض نقاط التماس والتعاون القائم بين تنظيمات يطغى عليها الولاء للبنى العائلية أو الحيز الجغرافي، كمخيم جنين مثلًا.
لذلك، فإن معظم القوى المعارضة لا ترى في استبدال عباس فرصة لإحياء فعالية سياسية فلسطينية موحدة، إما لافتقارها للأدوات التي تمكنها من زج حصانها في السباق، أو لعدم رغبتها بزج أي حصان أساسًا. بمعنى آخر، هناك تقبل يصل حد الحتمية لعملية استبدال آلي تقوم به المنظومة نفسها دون تدخل من القوى الفاعلة والمنظمة خارج السلطة الفلسطينية.
ما زالت اللعبة الصفرية في التنافس الفلسطيني الداخلي حاضرة، وما زالت تتميز باستقطاب يحد من إمكانيات بناء تحالفات عابرة للأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية، بما فيها إمكانية استنهاض تيار وطني داخل أو على هامش حركة فتح، بحيث يكون للأخير دور فاعل في تحديد آليات اختيار الرئيس أو بناء استراتيجيات مشتركة في مواجهة الاحتلال. بتعبير آخر، يمكن لقوى المقاومة أن تؤثر على مسارات الانتقاء وآليات الانتقاء وعلى شكل الانتقاء نفسه، ولكن الافتقار للأدوات والرغبة يساهمان في بناء سردية حتمية حول من سيخلف أبو مازن.
مات أبو مازن، لكنه حي لا يموت
عندما توفي الرئيس الراحل ياسر عرفات شُيد بالقرب من قبره الكائن في مدينة البيرة متحف يسرد تاريخ الثورة الفلسطيني. أتى المتحف الملاصق لمكتب الرئيس عباس ليؤكد على المتحف كمقبرة تذكارية تستحضر تاريخ الثورة الفلسطينية؛ متحف يوظف في استحضار تاريخ شرعية النظام السياسي القائم، ولكنه أكد بنفس الوقت أن هذا التاريخ قد ولى. دُفن ياسر عرفات ودفن معه خطه المتذبذب بين المقاومة والدولة، بين أوسلو وتسليط السلاح. فقد كان شعار المرحلة بعد رحيله: يحيا ياسر عرفات، ولكن ياسر عرفات مات!
يبدو أن أبو مازن يعد العدة ليموت. هذا ما تفيد به تعقيدات حالته الطبية المتزايدة، وهذا أيضًا ما تفيد به التحضيرات المختلفة والشائعات حول استبداله، وهذا أيضًا ما تشير إليه حتمية الحياة نفسها. لكن شعار المرحلة القادمة لدى المنظومة: مات أبو مازن، ولكنه حي لا يموت.