ما الهدف من القمم الفرنسية الإفريقية؟ أثار هذا السؤال الاستفزازي توماس سانكارا خلال قمة فيتيل في تشرين الأول 1983. أثناء حديثه إلى الصحافة الفرنسية، اعترف أنه لا يملك إجابة مرضية. كان من الواضح، بالنسبة له على الأقل، أن هذا النوع من الاجتماعات مع القوة الاستعمارية القديمة لم يكن أبدًا المكان الأنسب لمناقشة مشاكل القارة الإفريقية.
استخدمت فرنسا منذ فترة طويلة نهج الهيمنة في تعاملاتها مع مستعمراتها السابقة في القارة الإفريقية. بدأ ذلك مع مؤتمر برازافيل عام 1944، الذي عُقِد دون حضور الأفارقة، رغم أنه كان من المفترض أن يناقش مستقبل ما يسمى بإفريقيا الفرنسية. منذ ذلك الحين، ظلت فرنسا هي المكان المفضل لمناقشات الإشكاليات والأزمات الإفريقية؛ حول الديمقراطية (لابول، حزيران 1990)، والقضايا الأمنية (قمة باو، كانون الثاني 2020)، وتمويل برامج التنمية (قمة باريس حول تمويل الاقتصادات الإفريقية، أيّار 2021)، وغيرها. وفي الوقت نفسه فإن معظم قرارات الأمم المتحدة بشأن إفريقيا الناطقة بالفرنسية قد تأثرت أو رعتها فرنسا.
في بداية عام 2021، اتصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالمؤرخ وعالم السياسة الكاميروني أشيل مبيمبي للتحضير لقمة إفريقيا-فرنسا الجديدة، التي عقدت في مدينة مونبلييه الفرنسية في 8 تشرين الأول 2021. على عكس القمم السابقة، لم يكن هناك وجود لرؤساء الدول الإفريقية، وتم إقحام «المجتمع المدني»، بما في ذلك الشخصيات الإفريقية البارزة في مجالات مختلفة التي اختارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليكونوا ضمن المحاورين. وضمن التحضير للقمة، كان على مبيمبي قيادة سلسلة من المناقشات في 12 دولة إفريقية، قبل الحدث، حول مواضيع ذات اهتمام مشترك. قبل أربعة أيام من بدء القمة، قدم مبيمبي تقريرًا من 140 صفحة، يحتوي على 13 اقتراحًا لـ«إعادة تأسيس» العلاقات بين فرنسا وإفريقيا.
تُركّز هذه المقترحات على صندوق الابتكار من أجل الديمقراطية، ووجهات النظر الإفريقية في القارة والشتات، والهجرة، والتوظيف، والشفافية الاقتصادية العابرة للقارات، وتحويل مساعدات التنمية، وصوت إفريقيا حول أزمة تغير المناخ، وإعادة التفكير في العلاقات بين إفريقيا وأوروبا، واسترداد الأعمال الفنية المسروقة في متاحف أوروبا. وخلال القمة، تم اختيار 12 شابًا للمناقشة مع ماكرون وتوجيه النقد بشأن القضايا الناشئة عن المقترحات والواردة في تقرير مبيمبي.
لكن، ما المعنى الحقيقي لهذه القمة، وكيف نفهم الخلافات والخطابات التي خرجت منها؟ وهل كانت هذه القمة مجرّد وسيلة فرنسية لتحسين صورة فرنسا التي تدهورت بشدة خلال السنوات الأربع الماضية؟
تأتي قمة إفريقيا – فرنسا الجديدة في سياق استعماري واستعماري-جديد، وفي وقت يزداد فيه عدد المهاجرين الأفارقة داخل فرنسا وبالتالي يزداد الالتفات إلى أصواتهم في الانتخابات الفرنسية، كما تأتي القمة في وقت وصلت فيه الآليات التقليدية للحفاظ على الهيمنة الإمبراطورية الفرنسية إلى مداها، فالتدخل العسكري، مثلما حصل في عملية برخان في مالي، بات مكلفًا وغير حاسم ولا يحظى بشعبية كافية، كما أن سياسة التحالف مع الحكام المخلصين للمصالح الفرنسية، كما يتضح من «الإصلاح» الزائف لمنطقة عملات CFA، التي أعلنها رئيس ساحل العاج الحسن واتارا في كانون الأول 2019 إلى جانب نظيره الفرنسي، تغذي وتعزز انعدام ثقة الأفارقة بفرنسا وشكوكهم اتجاهها، بل ورفضهم لسياساتها.
إن سياسات فرنسا تجاه إفريقيا في عهد ماكرون لم تتطور قط لصالح الدول الإفريقية، لكنها -على العكس من ذلك- تواصل زيادة نفوذها الاستعماري الجديد بشكل استراتيجي لمحاربة الانتقادات المتزايدة.
وهو الأمر الذي يتضح أكثر عند النظر إلى الاحتجاجات التي تشهدها العديد من من المناطق الفرانكفونية، من احتجاجات الشباب السنغالي والكوت ديفواري التي دمرت الشركات الفرنسية في آذار 2021، إلى الشباب المالي الذي شارك في احتجاجات مالي الأخيرة ضد الوجود العسكري الفرنسي. ويمكن لنا أن نتوقع أن كل أولئك الشبان لم يكونوا ضمن قائمة المدعوّين لتناول العشاء مع ماكرون في القمة.
في زمن الاستعمار، كانت فرنسا تختار شركاء للحوار من بين حركات التحرر الإصلاحية، مثلما حدث في كوت ديفوار وبوركينا فاسو. وبعد الاستقلال، تمت ترقية الرؤساء والقادة السياسيين «الجيدين» على حساب «السيئين» الذين أزيلوا من السلطة أو اغتيلوا بدعم من باريس. واليوم، يمكن النظر إلى قمة مونبلييه على أنها مجرّد محاولة، مكرّرة، من باريس لاحتواء أثر سوء سمعة سياستها ودبلوماسيتها، ولاحتواء التدهور الاقتصادي النسبي في المنطقة الفرانكفونية. لكنّ تجنيد خدمات مجتمعٍ مدنيٍ جديدٍ، مع عدم وجود اتصال عضوي تقريبًا مع الناس، ربما لا يكون ما يمكن للمرء أن يسميه استراتيجية مدروسة جيدًا.
كان الشباب المدعوون للقمة مع ماكرون من أبناء البرجوازية الصغيرة المشاهير، ممن يملكون منصات ووسائل إعلامية رسمية موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي. أمّا مبيمبي نفسه، فيمكن النظر إليه على أنه واحد من المفكرين الأفارقة «المقبولين» من الرئاسة الفرنسية ومن وزارة الخارجية. تلك الفئة من المثقفين لا اعتراض لديها على نشر السياسات النيوليبرالية في القارة الإفريقية، وتنأى بنفسها عن معاداة الإمبريالية، بل وتقترح تنظيم فرنسا «لانتقال كبير» يهدف إلى تثبيت الديمقراطية وحقوق الإنسان في وسط وغرب إفريقيا. وقد اكتسب هؤلاء المثقفون سمعة طيبة في الغرب على أساس خطابٍ يركز على الدراسات المعاصرة حول العرق والجنس وما بعد الاستعمار، أو خطاب لا يتحدث إلّا عن الشراكة والحوكمة. مثقفون يرفضون أي منظور فكري إفريقي مبنيٍ على مبدأين توأمين، هما الوحدة الإفريقية (البان إفريكانزيم) ومعاداة الرأسمالية.
سياسة ماكرون في إفريقيا: «إعادة التشغيل»
من السمات التي تمتعت بها السياسة الفرنسية إزاء إفريقيا منذ منتصف القرن العشرين، إقامة الرؤساء الفرنسيين لعلاقات شخصية مع الرؤساء الأفارقة؛ شاهدنا هذا منذ الرئيس شارل ديغول (1959-1969) وحتى الرئيس جاك شيراك (1995-2007). لكن هذا الأسلوب تغيّر مع الرئيس نيكولا ساركوزي (2007-2012) والرئيس فرانسوا هولاند (2012-2017)، إذ وعدا بإنهاء الاستعمار الفرنسي الإفريقي، مع مزيد من التركيز على «الدمقرطة»، لكن كل هذا لم يمنع إقامة علاقات شخصية وعميقة مع بعض الديكتاتوريين الأفارقة. واستمرارًا لهذه الوعود تأتي وعود ماكرون وقمّته.
يطلق على سياسة ماكرون هذه مسمّى «إعادة التشغيل».[1] من الناحية الرسمية والخطابية، فإن «إعادة التشغيل» بالنسبة لباريس تتمثل في اعتماد خطاب «يكسر المحظورات» مقترنٍ باستراتيجية «شفافة». ويقوم جزء مهم من هذه السياسة على تحسين صورة فرنسا في إفريقيا، وقد سعت فرنسا لهذا من خلال بعض الخطوات الرمزية، مثل: خطط تسليم بعض القطع الأثرية الثقافية المنهوبة، والاعتراف الضمني بمسؤولية فرنسا أثناء الإبادة الجماعية في رواندا، و«تسهيل» التنقيب في المحفوظات الاستعمارية المتعلقة بالجزائر، والمساهمة في التحقيق في عملية اغتيال توماس سانكارا.
كما تعتمد هذه السياسة على اكتساب نفوذ اقتصادي في القارة، وهذا بلا شك أحد دوافع إنشاء المجلس الاستشاري الأفرو فرنسي عام 2017 ، وهو هيئة استشارية مكوّنة من شخصيات بارزة قادمة في الغالب من عالم رواد الأعمال. وتسعى السياسة كذلك نحو تمكين رواد الأعمال الفرنسيين والشركات «الناشئة» من الوصول إلى الأسواق الإفريقية.
هذا التأثير من خلال «السوق» يمكّن فرنسا من تعزيز مكانتها بين حلفائها الأوروبيين، إذ تمنحهم إمكانية وصول أفضل نحو العالم الناطق بالفرنسية، وهو ما يساعدهم على التنافس بشكل أفضل مع الصين وروسيا.
وتتماشى هذه السياسة مع «إجماع وول ستريت»، وهو مفهوم يشير إلى أجندة التنمية الجديدة التي وضعتها المؤسسات المالية الدولية، وبنوك التنمية متعددة الأطراف، ووكالات التنمية، وشركات إدارة الأصول المالية. والهدف هو تعظيم التمويل الخاص في بلدان الجنوب من خلال التحوط ضد مختلف المخاطر (المخاطر السياسية، ومخاطر الطلب، ومخاطر العملة).
كان الشباب المدعوون للقمة مع ماكرون من أبناء البرجوازية الصغيرة المشاهير، ممن يملكون منصات ووسائل إعلامية رسمية موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولذا، من المنطقي أن نرى المؤسسات الدولية الغربية تدعم «صفقة ماكرون الجديدة» لإفريقيا. إذ إن هذه الصفقة لا تستلزم فقط خصخصة الخدمات العامة، من خلال أدوات مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPPs)، ولكنّها أيضًا تحوّل الدول إلى شركات تأمين خيّرة لأرباح المستثمرين الدوليين.
وبالتالي، فإن القمة الإفريقية الفرنسية التي عقدت في مونبلييه، كرّست رسميًا لتحالف بين نظام ماكرون و«مجتمع مدني» إفريقي مصمّم خصيصًا لإعطاء الوهم بأنه يستجيب للجمهور الإفريقي والمفكرين في القارة.
وبالنظر إلى عدم حصول القادة السياسيين في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، وهم حلفاء فرنسا التقليديين، على الشرعية الشعبية، كان من الحكمة إنشاء «مجتمع مدني» جديد يكون بمثابة حصن ضد «المشاعر المعادية للفرنسية» المتزايدة في القارة، وللتصديق -بشكل نشطٍ أو سلبي- على الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية كحلول للمشاكل الإفريقية، والتي يقع ضمنها الصندوق الذي اتفق مبيمبي وماكرون على إنشائه، وميزانيته 30 مليون يورو، ويهدف إلى دعم مبادرات الترويج للديمقراطية وبرامج الحوكمة، وتديره منظمات المجتمع المدني.
القمة المضادة
لم تمض قمة ماكرون هذه دون مقاومة، ومن أبرز مظاهر الاحتجاج عليها تنظيم مجموعة من الحركات والنقابات والأحزاب السياسية قمة مضادة للتنديد بقمة مونبلييه أو Françafrique (وهو المصطلح المستخدم لوصف التأثير المستمر والمتواصل لفرنسا وحكومتها وشركاتها على مستعمراتها السابقة في القارة الإفريقية).
هدف هذه القمة المضادة كشف «الوجه الخفي» لـ«قمة إفريقيا – فرنسا الجديدة» ومناهضة سياسة ماكرون في إفريقيا، وإبراز كونها مجرّد حيلة دعائية لاستعادة صورة فرنسا التي تدهورت بشدة في السنوات الأخيرة. سجلت القمة المضادة مشاركة شخصيات سياسية بارزة مثل ميراي فانون مينديس فرانس ابنة فرانز فانون، وميريام سانكارا زوجة توماس سانكارا.
بالنسبة لأولئك الذين حضروا القمة المضادة، كانت إعلانات ماكرون عن تغيير في العلاقات الفرنسية الإفريقية على مدى السنوات الأربع الماضية موضع تحدٍ، باعتبارها مجرد عمليات إغراء استعماري معتادة، لمنح العلاقات الاستعمارية الجديدة فرصة جديدة للحياة.
على سبيل المثال، لا يزال إصلاح فرنك CFA، لصالح عملة غرب إفريقيا المستقبلية ECO، يضمن دورًا مركزيًا لفرنسا في السياسة النقدية لدول غرب إفريقيا. كما أن الإعلان عن انتهاء عملية برخان، مثل العمليات العسكرية السابقة الأخرى في إفريقيا، هو جزء من إعادة انتشار استراتيجية نحو الحفاظ على النفوذ الفرنسي من خلال التعاون العسكري وعمل القوات الخاصة.
وبذا، نفهم أن سياسات فرنسا تجاه إفريقيا في عهد ماكرون لم تتطور قط لصالح الدول الإفريقية، لكنها -على العكس من ذلك- تواصل زيادة نفوذها الاستعماري الجديد بشكل استراتيجي لمحاربة الانتقادات المتزايدة.
طالبت القمة المضادة ماكرون باتخاذ بعض الخطوات حتى يتبين صدقه من عدمه. من خلال التزام فرنسا تجاه خمس نقاط محددة للغاية، هي إنهاء وجودها العسكري في إفريقيا، وإنهاء سياسة التجارة النيوليبرالية لفرنسا والاتحاد الأوروبي في إفريقيا، ووقف دعم الرؤساء الذين يظلون في السلطة بطريقة غير ديمقراطية ووقف التدخل الفرنسي في الشؤون السياسية والاقتصادية الداخلية للدول الإفريقية، وإلغاء الديون الكريهة وغير المشروعة للدول الإفريقية، واحترام حرية التنقل والاستيطان للناس وكذلك وضع حد لعمليات الطرد من قبل الشركات الفرنسية.
أخيرًا، من المهم التأكيد على أن جميع مبادرات ماكرون في السياق الفرنكوفوني الإفريقي، إنما هي، كما سبق وأوضحت، محاولات لإطالة عمر النفوذ الغربي وبالأخص الفرنسي في القارة، وأحد مظاهر الاستعمار الجديد مع ما يصاحبه من نتائج معوّقة لأي مسيرة تنموية أو سيادية في المحيط الجيوبوليتيكي لغرب إفريقيا.
-
الهوامش[1] إعادة التشغيل هي نهج سياسي يعتمده ماكرون من أجل تصدير انطباع بأن طريقته في التعامل مع إفريقيا تهدف إلى تجسيد القطيعة مع الإرث الاستعماري لمن سبقه. يسعى ماكرون لإظهار فجر حقبة جديدة، من خلال التحدث مباشرة مع رموز منظمات المجتمعات المدنية والنخب الثقافية والأكاديمية لا الرؤساء أو الزعماء، لإخفاء تطلعاته الاستعمارية في القارة الإفريقية، التي لا تزال موجودة ولكن بطريقة جديدة ومخالفة للممارسات التقليدية للهيمنة الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية المعتاد عليها من قبل فرنسا.