خسر في الأردن نحو 35 ألف شخص، بينهم بعض الأمريكيين، وظائفهم في منظمات وشركات خاصة ومؤسسات عامة تعمل في مشاريع مموّلة من الولايات المتحدة، بحسب بعض التقارير. وتتوزع هذه المشاريع على القطاع الخاص وعلى المنظمات غير الحكومية (NGOs) وعلى بعض مشاريع البنية التحتية العامة التي تموّل خدمات أساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم ومشاريع المياه والبنية التحتية العامة والدعم الطارئ للاجئين، ما جعل شريحة واسعة من الموظفين تخسر وظائفها أو تواجه قرارات بتعليق عملها إلى حين.
وكان قاضٍ في المحكمة الجزائية في واشنطن قد أصدرَ منتصف الشهر الجاري أمرًا لإدارة الرئيس دونالد ترامب بوقف تجميد المساعدات الخارجية بعد دعوى قضائية رفعتها شركات تتلقى تمويلًا من الولايات المتحدة لبرامجها في الخارج، مشيرًا إلى أن مسؤولي الإدارة لم يقدموا تفسيرًا لتعليق المعونات الأجنبية، الأمر الذي أدّى لصدمة ولإلغاء عقود آلاف المجموعات غير الربحية والشركات. ويعتبر هذا أول حكم يتناول مسألة الشركات والمؤسسات المتضررة من قرار وقف المساعدات الأمريكية، ومن المحتمل أن تُحرَّك قضايا شبيهة خلال الأشهر القادمة نظرًا لحجم الأنشطة التي تنفذها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) في الخارج، والتي بلغت عام 2023 أكثر من 15 ألف مشروع يعمل فيها آلاف الموظفين في 177 دولة.
بلغت قيمة المساعدات الأمريكية للأردن العام الماضي حوالي 1.7 مليار دولار، توزعت بين دعم الموازنة العامة والقوات المسلحة وجهود التحديث الاقتصادي وإصلاح القطاع العام، فضلًا عن تنفيذ مشاريع للبنية التحتية في مجالات مختلفة على رأسها قطاعات المياه والصرف الصحي والتعليم والصحة العامة. وبالإضافة إلى المشاريع التي ينفذها القطاعان العام والخاص والتي حصلت على الحصة الأكبر من هذا التمويل، موّلت الولايات المتحدة أكثر من 80 مشروعًا بقيمة إجمالية قدرها عشرة ملايين دولار بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلي خلال عام 2023، بحسب تقارير وزارة التخطيط الأردنية.
نهاية شهر كانون الثاني الماضي، خسر سليم* (25 عامًا) عمله كمهندس ميكانيك ضمن فريق الإشراف المتعاقد مع وزارة التربية والتعليم لبناء مدرسة في إحدى مناطق العاصمة عمّان ضمن مشروع بناء مدارس حكومية بتمويل قدره حوالي 20 مليون دولار مقدمة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كانت قد مضت حوالي سبعة أشهر على بدء المشروع، الذي كان من المفترض أن يمتد لعام ونصف تقريبًا، وقد توقف بناء هذه المدارس أثناء تشييدها وقبل البدء بالتشطيبات الداخلية إثر إخطار هاتفي من مسؤول المشروع المعني بالتواصل مع الوزارة «مشان أمور سياسية»، بحسب سليم.
«كلنا روّحنا، من المدير للمتدرب» يقول سليم، مضيفًا أن إدارة المشروع تعهدت بإعادة توظيفه في حال استكمال التمويل أو الحصول على منحة دولية أخرى، داعية إياه وعشرات العاملين ممن تصل خبرات بعضهم إلى 30 عامًا للبحث عن فرص عمل جديدة، كما عقدت اجتماعًا اعتذرت فيه عن إخطارهم بإنهاء عقودهم بشكل مفاجئ، واتفقت معهم على صرف رواتب الشهر الأول من العام مبكرًا على أن يوقعوا مخالصة رسمية تعفي الشركة من المساءلة القانونية وتنفي عنها الفصل التعسفي.
يعتبر سليم أن أفضل ما كان في المشروع هو اشتراطه على منفذي العطاءات توظيف حديثي التخرج من المتفوقين دراسيًا، لكنه اليوم لا يستطيع اعتماد خبرته في المشروع أو حتى ذكرها في سيرته الذاتية: «فش حدا بحط خمس أشهر خبرة في مشروع لإني كمهندس ميكانيك ما لحقت أشوف شغل الميكانيك في المرحلة الأولى من الشغل». مع ذلك، يعتقد سليم أنه الأقل تأثرًا بقرار إنهاء الخدمات مقارنة بزملائه الذين يتحملون مسؤوليات عائلية والتزامات شهرية للبنوك ومؤسسات الإقراض.
يقول سليم إن بعض زملائه المهندسين توجهوا للعمل في مشاريع أخرى لا تمولها الولايات المتحدة، في حين قرر آخرون العمل على تطبيقات التوصيل إلى حين العثور على فرصة مناسبة، فيما بدأ حديثو التخرج منهم البحث عن فرص تدريبية أخرى. أما هو فيعمل اليوم أستاذ مدرسة إضافي في مادة الكيمياء براتب قدره 290 دينارًا، في حين كان يتقاضى 420 دينارًا في مشروع بناء المدارس.
اقرأ/ي أيضا:
يرى الخبير العمالي حمادة أبو نجمة أن انتظار مستجدات القرار الأمريكي بوقف المساعدات الخارجية لثلاثة أشهر هو التصرف القانوني الصحيح رغم تبعاته السلبية على الناس، إذ تمنح المادة 31 من قانون العمل الأردني صاحب العمل الحق في تعليق العقود إذا اقتضت الظروف الاقتصادية والفنية ذلك شريطة تبليغ وزارة العمل خطيًا بالأسباب قبل اتخاذ الإجراءات، أما ما فعلته بعض الشركات والمنظمات بالاستغناء فورًا وبشكل مفاجئ عن خدمات موظفيها فإنه ينطوي على مخالفات عمالية عدّة يجعل من قرارهم فصلًا تعسفيًا، فقرار ترامب هو تعليق للمساعدات، لا قطعها بشكل كامل، ومن المحتمل برأيه أن تعود المساعدات بعد انقضاء مدة التعليق.
لا تنفذ الشركات العطاءات بالتعاون مع الوزارات الحكومية فحسب، إذ يتعاقد بعضها بشكل مباشر مع الوكالة الأمريكية للتنمية. من بينها مثلًا شركة استشارية اضطرت لتعليق معظم مشاريعها المرتبطة بالتمويل الأمريكي، ويقول مديرها التنفيذي لؤي* إنهم كانوا محظوظين لأن المشاريع الأمريكية التي ينفذونها لا تتجاوز 15% من مجموع موازنتهم أو قوتهم العاملة، مضيفًا أنه يوجد عشرات الشركات التي تعتمد بشكل كامل على الوكالة الأمريكية ما يهدد استمرارية عملها.
حاليًا يبحث لؤي مع إدارة شركته عن خيارات بديلة لفصل الموظفين محاولين التعامل مع كل حالة من الموظفين على حدة، كأن يعاد توظيف بعض العاملين المهددين بالفصل في مشاريع أخرى، أو دفع بعضهم للانخراط في مشاريع تدريبية، أو تسهيل إجراءات المخالصة لمن حصلوا على عروض عمل من شركات أخرى. وفي كل الأحوال ستغطّي الشركة رواتب جميع الموظفين حتى نهاية شهر شباط الحالي بالحد الأدنى.
وعمومًا يعتبر لؤي أن مشاريع الوكالة الأمريكية خلقت تشوّهًا في سوق العمل بسبب آلية إدارة العقود المعتمدة على نظام التكلفة زائد الربح؛ أي أن تغطي الوكالة نفقات المشاريع مع نسبة متفق عليها للربح، ما جعل بعض العاملين في المشاريع يتقاضون رواتب أعلى من المتاحة في السوق، كما خلقت مشاريع الوكالة سوقًا من الوظائف غير المطلوبة في قطاعات أخرى، مثل موظفي الرصد والتقييم الذين يعدّون تقارير متابعة مراحل تنفيذ المشروع ومدى تحقيقها للأهداف المحددة بحسب معايير الوكالة الأمريكية.
ما بين تحمل الضرر أو التوجه للقضاء
لعشر سنوات عملت سلوى* (40 عامًا) في منظمات أمريكية في الأردن، كانت وظيفتها في آخر اثنتين منها منسقة مشاريع ضمن مشروع تدريبي للمنظمات غير الحكومية المحلية بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية. وكان من المفترض أن تستمر في وظيفتها الأخيرة حتى نهاية 2026 في مشروعٍ يقدم دعمًا ماليًا لمؤسسات صغيرة ويساعدها على تنفيذ مشاريعها. فور صدور قرار ترامب، تلقت سلوى بريدًا إلكترونيًا رسميًا يقضي بوقف جميع أنشطة المشروع مع عدد من الشركاء المحليين ويدعوهم لوقف التواصل مع المستفيدين. وقبل أن ينقضي أسبوع آخر كانت قد تلقت رسالة أخرى بقرار فصلها دون أية توضيحات كافية.
«كنت عارفة إنه رح نتضرر بس مش بهالسرعة»، تقول سلوى التي تتحمل مسؤوليات سداد قرض سكني تشكل قيمته ثلث راتبها، وتدريس أطفالها في مدارس خاصة، عدا عن التكاليف المعيشية الأخرى بما فيها التأمين الصحي الخاص الذي تتخوف من وقفه. وهي تعتبر قرار فصلها قرارًا تعسفيًا تركها في حالة من التخبط والانهيار دون سابق إنذار، ومن شأنه أن يغير كل حساباتها ما لم تجد وظيفة بديلة في أقرب فرصة ممكنة، إذ قد تضطر لبيع الشقة أو تغيير مدارس أولادها أو استدانة بعض المبالغ المالية، لعلها بذلك تقلص نفقاتها الشهرية التي تتجاوز الألفي دينار شهريًا، مع استعدادها للتعايش مع راتب أقل مما اعتادت عليه.
تقول سلوى إن المنظمات الأمريكية تقدم امتيازات يصعب العثور عليها في منظمات أخرى، وعلى رأسها الرواتب المرتفعة، مشيرةً إلى أن الفصل المفاجئ لهذا العدد من الموظفين يعني تنافسهم على خيارات محدودة جدًا: «بقدم على شواغر في القطاع الخاص بس بعرف إني لو مكانهم ما باخذني»، حيث تعمل سلوى في مجال تنسيق المشاريع وعقد تدريبات بناء القدرات، وهي تعتقد أن مؤهلاتها غير مطلوبة في هذه الشركات التي تشكل وجهتها الأولى للعمل بعد تدهور تمويل المنظمات غير الحكومية، مضيفةً أن هذه التحديات التي واجهت العاملين في المنظمات الأمريكية العاملة في الأردن تنسحب أيضًا على المؤسسات الصغيرة المحلية التي تعتمد على التمويل الأمريكي وتحاول اليوم البحث عن ممولين جدد.
يعتبر أبو نجمة أن الجهات الرسمية ما زالت غائبة عن ممارسة دورها في تهدئة الأوضاع، مشيرًا لدور وزارة العمل في دعوة أصحاب العمل للاكتفاء بتعليق العقود بدلًا من إنهائها، وتوضيح الإجراء القانوني الصحيح لتنفيذ هذا التعليق، كما تستطيع جهات أخرى مثل البنك المركزي ومؤسسة الضمان الاجتماعي أن تستحدث تسهيلات للناس المتضررة من القرار بغية تخفيف الضرر المرحلي، قائلًا إن «هناك آلاف الموظفين المرتبطين بقروض بنكية، وهناك مئات المشاريع التي سيرفع عنها الدعم والتسهيلات الاستثمارية، مشاريع الوكالة الأمريكية مثلًا كانت جميعها معفية من رسوم الجمارك على استيراد المواد والمعدات المطلوبة، واليوم تتحمل الجهات المنفذة من الشركات الخاصة هذه الرسوم إثر وقف المشاريع الأمريكية».
وبالإضافة إلي المنظمات الأمريكية أو المشاريع والمؤسسات المحلية، أجبر قرار وقف المساعدات الخارجية وكالات الأمم المتحدة حول العالم على تسريح آلاف الأشخاص، خصوصًا أن الولايات المتحدة قدمت 13 مليار دولار من إجمالي الدعم العالمي البالغ 67.6 مليار دولار للأمم المتحدة عام 2023. وبحسب ما تداولته وسائل الإعلام، فقد أرسلت المنظمة الدولية للهجرة -مثلًا- إخطارات تسريح إلى ثلاثة آلاف موظف، من بينهم أردنيون، من أصل 22 ألف موظف لديها حول العالم، ويمثل الموظفون المفصولون أكثر من نصف الموظفين العاملين في برنامج إعادة توطين اللاجئين والبالغ عددهم خمسة آلاف موظف. يضاف إليهم آلاف التسريحات في منظمات ومشاريع أخرى مثل مفوضية اللاجئين وبرنامج الغذاء العالمي، واليونيسيف، ومنظمة الصحة العالمية.
كانت ربى* (27 عامًا) تعمل في منظمة دولية في وظيفة متخصصة بإجراء دراسات بحثية ترصد الاحتياجات الإنسانية والتنموية للمجتمعات في الدول العربية، إلا أن معظم تمويلها يأتي من القسم الثقافي للوكالة الأمريكية للتنمية. بعد قرار تعليق المساعدات، عملت ربى في المنظمة لمدة أسبوع في جو مشحون بالتوتر والترقب، خصوصًا أن التواصل مع موظفي الوكالة الأمريكية قد انقطع دون تقديم تفسير واضح من إدارة المنظمة للموظفين فيها، ليتبع ذلك اجتماع عرف موظفو المنظمة فيه عن اتخاذها قرار تقليص أعداد الموظفين في مختلف فروعها.
تقول ربى إن المنظمة قسّمت ما تبقى لها من تمويل غير أمريكي، وهو ما لا يزيد عن 3% فقط من إجمالي تمويلاتها، ووزعته كرواتب للموظفين لمدة ثلاثة أشهر بعدما خفضت 80٪ من قيمة رواتبهم، مشترطة تغيير طبيعة عقودهم خلال هذه الفترة من عقود محددة المدة إلى عقود «تقديم خدمات» يعملون فيها من المكتب يومًا واحدًا في الأسبوع. إلى حدّ ما استحسنت ربى هذه الفكرة إذ تضمن لها خيار العودة لوظيفتها في حال عودة التمويل، كما تتيح لها مساحة للبحث عن فرص عمل جديدة، لكن معظم الموظفين لم يكونوا سعداء بها، وطالب بعضهم بتسويات أخرى مثل تحصيل قيمة آخر راتب كاملًا، أو الحصول على مستحقاتهم المالية حتى نهاية العقد، في حين قرر بعضهم رفض توقيع العقود الجديدة وظلوا ملتزمين بالحضور للمكتب يوميًا، مع التفكير بالخيارات القانونية المتاحة.
لم تتمكن جميع الشركات والمنظمات من تسوية القضية وديًا مع موظفيها، فرغم أن ربى لم ترغب بالتوجه للقضاء من أجل تحصيل حقها، نظرًا للإجراءات القانونية الطويلة وقناعتها بأن الضرر الحاصل طال الجميع، معتبرة أن القضية ليست رابحةً قانونيًا بالضرورة في حال أعلنت المنظمة إفلاسها أو تعسرها. إلا أن موظفة أخرى في واحدة من المنظمات الدولية التي تعتمد بشكل واسع على تمويل الولايات المتحدة تحدثت لحبر عن نيّتها رفع قضية قانونية على المنظمة خصوصًا بعدما عرفت عن تقديمها بعض الامتيازات لموظفيها الأجانب أثناء سريان قرار وقف المساعدات، مثل تغطية تكاليف الإيجار والنقل، الأمر الذي تعتبره تمييزًا بحقها، قائلة: «أنا وقفوا راتبي رغم إني ملتزمة بقرض سكني، إذا هو ممكن ينام بالشارع من القرار، أنا ممكن أنام بالحبوس».
في هذا الشأن، يشجع أبو نجمة الموظفين المفصولين تعسفيًا على التقدم بشكوى لوزارة العمل باعتبار أن لجانها هي المعنية بالفصل في مدى قانونية قرار الفصل، وقد تلزم الشركات بإعادة قبول موظفيها أو تعويضهم طالما أنه تمّ التعاقد معهم كموظفين محليين، أي أنهم يخضعون لقانون العمل وأحكامه، كما يمكن للموظفين المفصولين الانتفاع من بدل التعطل الذي يقدمه الضمان الاجتماعي إذا كانوا مسجلين فيه.
يُذكر أن شركات محلية متعاقدة مع الوكالة الأمريكية بشكل مباشر تنوي رفع قضايا مرتبطة بتحصيل مستحقاتها المالية. يقول لؤي إن شركته منخرطة بتمويل مشاريع مرتبطة بالبنية التحتية بالنيابة عن الوكالة الأمريكية على أن تقوم الأخيرة بتسديد ذلك على دفعات لاحقة، وإن استمرار قرار وقف تمويل هذا المشروع بعد ثلاثة أشهر يعني إخلال الوكالة الأمريكية باتفاقها وتكبيد الشركة آلاف الدولارات من الخسائر مستقبلًا، أما بقية المشاريع التي حصلت على دفعاتها وتوقف عملها، فستحتاج لخطة بديلة من أجل البحث عن ممولين جدد أو حتى الاستغناء عن المشاريع بأقل تكلفة ممكنة.
وفيما يؤكد لؤي الضرر المرحلي الناتج عن قرار تجميد المساعدات الأمريكية للأردن وما يترتب عليه من زيادة في معدلات البطالة وخسارة بعض المشاريع، لكنه يأمل تطوير خطط رسمية للاستجابة لهذه التبعات بما يخفف من الاعتماد على المساعدات الأمريكية مستقبلًا، ويستكشف فرصًا استثمارية بديلة عن التمويل المباشر،من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية وطنية على المدى الطويل. أما الموظفون الذين خسروا وظائفهم أو هم على وشك ذلك، فإن بعضهم يجد في وقف المساعدات فرصة للاستغناء عن العمل مع الجهات الأمريكية بالكامل.
* أسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية أصحابها.