«ديان بيان فو»: عن معركة فتحت باب النصر لفيتنام

الأربعاء 05 حزيران 2024
لوحة في «متحف انتصار ديان بيان فو» في فيتنام تؤرخ للمعركة.

«إن مفردة الخوف غير موجودة في التفكير العسكري الفيتنامي».
– الجنرال فو نجوين جياب.

في «ديان بيان فو» التي يحتفل الفيتناميون هذه الأيام بذكراها السبعين، لم يولد الأبطال من أمهاتهم. وفي «ديان بيان فو» عاد تاريخ الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية القَهْقَرَى وإلى الأبد. لم تكن مجرد معركةٍ بين شعب محتل واستعمار صائل، ولا لحظةً جامعةً لعبقرية التفكير العسكري الاستراتيجي للمقاومة الفيتنامية فحسب، بل نقطة تحولٍ ستجد صداها في أنحاء بعيدةٍ من مستعمرات الإمبراطورية العجوز. فلم تكد المعركة تضع أوزارها، حتى أعلنت جبهة التحرير الجزائرية انطلاق ثورة التحرير. لكن «ديان بيان فو» لم تولد من العدم، بل كانت حصيلة تراكمٍ طويل من الخبرات والخيبات والنكسات التي مرت بها الحركة الوطنية الفيتنامية «فيت مين» على مدى عقودٍ طويلةٍ من الاحتلال الفرنسي الاستيطاني. ولم تولد بلا ثمن، فقد دفع الشعب الفيتنامي الثمن فادحًا من أطفاله ونسائه وشبابه في سبيل النصر.

بدأ كل شي في عام 1862 عندما وقع «تو دوك» آخر إمبراطور لأنام -فيتنام حاليًا- على «معاهدة سايغون»، والتي تنازل بموجبها لفرنسا عن سايغون وجزيرة بولو كوندور وثلاث مقاطعات جنوبية، والتي أصبحت تُعرف باسم «كوتشينشينا». كانت فرنسا في ذلك الوقت في ذروة توسعها الاستعماري في تنافس مع الإمبراطورية البريطانية، ساعيةً إلى حيازة مواقع في الشرق الأقصى. وفي عام 1884، وحّدت فرنسا مناطق «كوتشينشينا» بالإضافة إلى لاوس وكمبوديا في كيان تابعٍ سمته «الهند الصينية الفرنسية»، التي عُرفت في الأدبيات الفرنسية الاستيطانية بـ«لؤلؤة الإمبراطورية». استقر وضع المستعمرة حتى الحرب العالمية الثانية، حين اختلت موازين القوى مع المركز الاستعماري، فقد ساهمت هزيمة فرنسا في صعود حركات الاستقلال، وعلى وجه الخصوص الحركة الاستقلالية الفيتنامية، التي تشكلت في عام 1941، بقيادة الحزب الشيوعي وعلى رأسه هو تشي منه (1890-1969)، في تحويل «لؤلؤة الإمبراطورية» إلى جحيم بالنسبة لقوات الاحتلال.

«ديان بيان فو» لم تولد من العدم، بل كانت حصيلة تراكمٍ طويل من الخبرات والخيبات والنكسات على مدى عقودٍ طويلةٍ من الاحتلال الفرنسي الاستيطاني. ولم تولد بلا ثمن، فقد دفع الشعب الفيتنامي الثمن فادحًا من أطفاله ونسائه وشبابه في سبيل النصر.

على مشارف صيف ذلك العام صدقت اللجنة المركزية للحزب، في اجتماع تاريخي ضمه «كهف كوك بو» في جوف كتلة صخرية أعيدت تسميتها بعد سنوات بـ«كارل ماركس»، على إنشاء جبهة وطنية موحدة تكون الأداة السياسية التي من شأنها أن تقود فيتنام إلى الاستقلال، في مرحلة أولى ضد الاحتلال الياباني، الذي سيطر على البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، ثم ضد عودة القوات الفرنسية بداية من 1946، لاسيما بعد أن أعلنت فرنسا كوتشينشينا جمهوريةً منفصلة عن الأجزاء الشمالية والوسطى. في الوقت نفسه، تحالفت باريس مع بريطانيا والولايات المتحدة وقوات الكومينتانغ القومية الصينية لإعادة احتلال شمال فيتنام، بينما احتلت قوة بقيادة بريطانية الجنوب، وسهلت بذلك عودة القوات الفرنسية، التي نجحت في استعادة السيطرة على هانوي والعديد من المدن الأخرى.

بين عامي 1946 و1954 خاضت قوات التحرير الفيتنامية المعركة بأسلوب حرب العصابات، ضمن شعار مركزي وأساسي صاغه الجنرال فو نجوين جياب، وهو «القتال بسرعة، الفوز بسرعة»، وهي الوصفة الكلاسيكية لحروب التمرد حيث تهاجم مواقع العدو بسرعة ضمن مجموعة صغيرة خفيفة التسليح وقادرة على الضرب والهرب، في سلسلة متلاحقة ومستمرة من العمليات الصغيرة، في سبيل انهاك العدو واستنزاف قواته العسكرية والرقابية. وقد شكلت الحدود المكان المفضل والطبيعي لتنفيذ هذه الاستراتيجية، حيث كانت المجموعات الفيتنامية تتسلل من الحدود التايلاندية والصينية لتنفيذ عملياتها.

وبداية من عام 1948 تم التصديق على مبدأ التنسيق بين جيش فيتنام الشعبي والقوات الشيوعية الصينية، التي كانت آنذاك تواجه صعوبة في مواجهة القوات القومية المتمركزة في المناطق الحدودية مع فيتنام. وقد شكل انتصار الحزب الشيوعي الصيني في 1949، دفعًا قويًا للقوات الفيتنامية في حربها ضد القوات الفرنسية. خلال هذه الفترة، حاولت القوات الفرنسية المعززة بقوات من مستعمراتها في إفريقيا وقوات من فيتنام الجنوبية تعزيز مواقعها على الحدود، وهو ما تجسد في سلسلة من المواقع المحصنة والمعزولة جدًا عن بعضها البعض.

في مواجهة هذه الاستراتيجية الفرنسية، قرر الجنرال جياب كسر نظام التطويق الفرنسي على طول الحدود الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من خلال تكثيف الكمائن. وقد نجح الفيتناميون بقيادة العقيد دانغ فان فيت في السيطرة على الموقع الأكثر تقدمًا للنظام الدفاعي الفرنسي في المنطقة الحدودية، «كاو بانغ». تسبب الهجوم المفاجئ بشعور بالذعر، أدى إلى إخلاء جميع المواقع على الحدود الصينية على عجل. كما خسرت فرنسا أكثر من خمسة آلاف رجل بين قتلى وجرحى وأسرى، من إجمالي قوة قدرها 7760 مقاتلًا، وتركت 11 ألف طن من الذخيرة.[1] أدرك العديد من المحاربين في «معركة الحدود» أن لا شيء يمكن أن يوقف خصمهم في سعيه لتحقيق النصر، لكن القيادة الفرنسية كانت على عيونها غشاوة الغطرسة الاستعمارية، التي لا ترى في خصومها إلا حفنة من «المتخلفين» الأقل شأنًا ثقافيًا وفكريًا وعرقيًا.

«ضربة المعلم»: هاجم بحزم وتقدم بثبات

خارجًا من معركة الحدود أسيرًا منهكًا، قال الملازم الفرنسي كريست دي فيلنوف لرفاقه في عام 1952: «كانت «كاو بانغ» مجرد عملية تجريبية. ذات يوم سيكون هناك ضربة معلم لن نستفيق منها أبدًا».[2] كان دي فيلنوف محقًا، فقد جاءت «ضربة المعلم» قاصمةً بعد سنتين في «ديان بيان فو». في أيار 1953 أرسلت فرنسا الجنرال هنري نافار ليحل محلّ الجنرال سالان كقائد أعلى للقوات الفرنسية في الهند الصينية. كانت مهمة نافار الأساسية هي تحقيق «مخرج مشرف» من الحرب. وبعد جولة تفقدية على الأرض عاد إلى باريس في تموز ليقترح خطةً ستحمل اسمه، أساسها تبني موقف دفاعي للحد من الاندفاع الهجومي للقوات الشعبية الفيتنامية.

شرع الجنرال الفرنسي في تنفيذ خطته منطلقًا من سهل ديان بيان فو المغطى بحقول الأرز، والذي يضم مهبطًا قديمًا للطائرات بناه اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية. نجحت القوات الفرنسية خلال عملية جوية سميّت «الخروع» في السيطرة على الموقع وتحصينه في تشرين الثاني 1953. كان قرار نافار بالاستقرار في سهل محاط بالتلال خيارًا عسكريًا جريئًا، فقد كانت خطته تقوم على استدراج القوات الفيتنامية إلى الموقع المحصن وهزيمتها هناك. قامت استراتيجية نافار على مزيج من المبالغة في تقدير قدراته مقابل التقليل من شأن الخصم، وهي الوصفة الأكثر خطورةً في أي حربٍ. شكلت القدرات الهجومية والمناورة الرصيد الأساسي للجيش الفرنسي، كما شكل التفوق الجوي الرافد الثاني لهذه القوة الهجومية الأخرى. كذلك التفوق المدفعي، الذي بحسب نافار سيكون هو العنصر الحاسم الأخير.

في المعسكر المقابل كان الفيتناميون، الذين لم يمتلكوا أي قوة جوية، يحاولون إيجاد تحليل ملموس لواقع ملموس بلا أوهامٍ، مستوعبين اختلال موازين القوى. كانت الإشكالية التي تواجه المعسكر الفيتنامي هي هل تكفي الاستراتيجية الكلاسيكية لحرب العصابات لتدمير المواقع شديدة التحصين مثل ديان بيان فو؟ ذلك أنهم في حال لم يتمكنوا من هزيمة الشكل الدفاعي الجماعي للعدو، فلن يحققوا هدفهم الاستراتيجي لفتح وضع مناسب لتطور حرب الاستقلال. عند هذه العقبة قرر الفيتناميون تغيير الاستراتيجية جذريًا، من خلال التوجه نحو الهجوم بشكل رئيسي حيث يكون العدو قويًا، مما يدل على تطور جديد في فن القتال، والتحول من أسلوب «تجنب المواقع القوية، وهاجم المواقع الضعيفة» إلى مهاجمة المواقع القوية بشكل مباشر ولكن مع استهداف الثغرات لدى العدو.

أدرك العديد من المحاربين في «معركة الحدود» أن لا شيء يمكن أن يوقف خصمهم في سعيه لتحقيق النصر، لكن القيادة الفرنسية كانت على عيونها غشاوة الغطرسة الاستعمارية، التي لا ترى في خصومها إلا حفنة من «المتخلفين» الأقل شأنًا ثقافيًا وفكريًا وعرقيًا.

في كانون الأول 1953، قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي تدمير معقل ديان بيان فو لخلق نقطة تحول جديدة في الحرب، مفوضًا الجنرال جياب ليكون قائد الحملة. كان الجنرال الفيتنامي يرى أن القتال تحت شعار «قاتل بسرعة، انتصر بسرعة» محكوم عليه بالفشل، نظرًا لطبيعة التحصينات الفرنسية في إطار خطة نافار، فقرر التحول إلى شعار «قاتل بحزم، تقدم بثبات» وهو قرار لم يكن يجد موافقة واسعةً داخل اللجنة العسكرية للحزب، فكان إلى حد ما مشبعًا بمنظور عسكري شخصي حاد، وشجاعة وجرأة وبصيرة ستكشفها نتائج المعركة لاحقًا. لكن المعضلة التي واجهت جياب هي أن قواته لم تكن مدربةً على مهاجمة الحصون، ولا على القتال لفترات طويلة وخاصة في وضح النهار، فقد تعودت على مدى سنوات على القتال ليلًا في تضاريس يسهل الاختباء فيها، وليس لديهم خبرة في الهجوم نهارًا على أرض واسعة ومسطحة وخالية، فضلًا عن القتال بشكل متواصل لمدة أيام في مواجهة الجيش الفرنسي، الذي يتمتع بقوة نيران متفوقة. قرر جياب تقسيم معقل ديان بيان فو إلى مجموعة أهداف يتم الهجوم عليها بشكل متزامن، وتدمير كل قاعدة حتى تدمير جميع قوات العدو.

في شباط 1954، بدأ الفرنسيون بإلقاء منشوراتٍ على القرى التي تسيطر عليها القوات الفيتنامية، تكشف عن تعالٍ وتقليل من قيمة الخصم، بعضها موقّع من العقيد دي كاستريس، قائد قاعدة ديان بيان فو، يقول فيها لجياب: «ماذا تنتظر لبدء هذه المعركة (..) تعال، أنا في انتظارك». لم يرد جياب الدعوة الفرنسية قط. في تمام الساعة الثامنة صباحًا من يوم 13 آذار 1954، شرع جنود القوات الشعبية الفيتنامية بإطلاق القذائف المدفعية على مطار مونج ثانه، الموقع الأبرز في معقل ديان بيان فو، مما أدى إلى تحطيم طائرتين من طراز داكوتا تابعتين للجيش الفرنسي كانتا قد هبطتا للتو. كانت تلك أولى العمليات التي افتتحت حملة ديان بيان فو، التي استمرت 55 يومًا وليلة.

مستفيدين من عنصر المباغتة، دمر الفيتناميون موقعي هيم لام ودوك لاب، وأجبروا القوات الفرنسية في موقع بان كيو على الاستسلام، واخترقوا البوابة الشمالية لمعقل ديان بيان فو، فسقط من القوات الفرنسية ألفي جندي بين قتيل وأسير، ودمرت 25 طائرة. في ثلاثة أيام دمر جياب مركز الثقل الفرنسي في ديان بيان فو، وهو المطار العسكري، وبذلك قطع المعقل الفرنسي المحصن عن العالم. «في الحرب، كما في الميكانيكا، هناك مراكز ثقل تحدد حركتها واتجاهها النقاط الأخرى. وبمجرد البدء بالمناورة لتدمير مركز الثقل، يجب أن تستمر بلا هوادة، لأنها من خلال التأثير المتتالي، يجب أن تؤدي إلى انهيار العدو»،[3] كما يقول المنظر العسكري كارل فون كلاوزفيتز.

يقول جياب في مذكراته حول تكتيكه في المرحلة الأولى من المعركة التي امتدت حتى نهاية آذار:

«قبل اليوم الذي فتحنا فيه النار لمهاجمة ديان بيان فو، كان الفرنسيون هنا قد بنوا 49 معقلًا لتشكل مجموعات معاقل محصنة ومتينة. مقارنة القوات المقاتلة بيننا وبين العدو في ديان بيان فو: من حيث المشاة، نحن ضعف عدد العدو. من حيث المدفعية، نحن والعدو متساوون تقريبًا، لكنهم أفضل منا بكثير من حيث الطائرات والميكنة ونظام التحصين المتين. يوضح الوضع أن الجانب المدافع لديه أفضلية على الجانب المهاجم. لذلك ولضمان النصر عند مهاجمة هذه المجموعة من المعاقل، اخترنا شعار «قاتل بحزم، تقدم بثبات»، وذلك من أجل التركيز على تفوق القوة النارية في خوض كل معركة أو عدد من معارك التركيع المتتالية، وتدمير كل قاعدة أو مجموعة من القواعد، والبدء في تدمير جميع قوات العدو».

في المرحلة الثانية من الحملة، التي امتدت إلى نهاية نيسان 1954، هاجمت القوات الفيتنامية بشكل متزامن القواعد الشرقية للمعقل الفرنسي، وشددت الحصار، وقسمت مطار مونج ثانه. كان نافار يأمل أن موسم الأمطار الذي كان على الأبواب سينهي الحصار الفيتنامي، لكن ذلك لم يحصل. خلال الأسبوع الأول من أيار 1945 خاض الطرفان المرحلة الثالثة من المعركة. كان هدف جياب وقواته الاستيلاء على النقاط المرتفعة المتبقية في الناحية الشرقية، ثم حشد كافة القوات وتنفيذ هجوم عام. في جميع الاتجاهات، اندفعت القوات الفيتنامية بأكملها نحو القسم المركزي في المعقل الفرنسي.

في المقابل بدأت الطائرات الفرنسية باستخدام نوع جديد من القنابل الأمريكية يسمى «هايل ليفليت» تحتوي على آلاف السهام الصغيرة والحادة للغاية، لإلحاق الضرر بالحشد. وشرعت باريس في البحث مع حليفها الأمريكي في إمكانية استخدام القنبلة النووية لإنقاذ المعسكر المحصن،[4] لكن الرئيس أيزنهاور، رفض ذلك المقترح. كان الفرنسيون منهارين ينتظرون معجزة لن تأتي. في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم السابع من أيار 1954، سيطرت القوات الشعبية الفيتنامية على مقر قيادة معقل ديان بيان فو، واضطر الجنرال دي كات، قائد ما تبقى من القوات، وكامل هيئة الأركان وجنود المعقل إلى الاستسلام. بعد 55 يومًا وليلة من القتال، دمر الفيتناميون المعقل الحصين، بعض القضاء على 16 ألفًا ومئتي عنصر من قوات العدو بين قتيل وأسير، وأسقطوا 62 طائرة، واستولوا على 64 سيارة وجميع أسلحة العدو وذخائره.

جذور النصر

في جانبٍ منه، كان النصر في «ديان بيان فو» حصيلة مزيج من السياسات الفرنسية المتغطرسة. فقد مثلت المعركة مختبرًا نموذجيًأ لوصفة الخسارة التي يمكن أن يقوم بتجهيزها أي كيان استعماري: الشجار الدائم بين القادة بينما يحتدم الصراع، وعدم التطابق بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية، والغطرسة التي تؤدي إلى الاستهانة بالخصم والمبالغة في تقدير الذات، وخيالات التوفق الأبدي بدل النهج المبني على الواقع على الأرض، وعدم مراعاة إشارات الخطر الضعيفة أو القوية المقدمة من جانب المخابرات، والإهمال الذي يسمح للأعداء بمعرفة الخطط مقدمًا، والفجوة الدائمة بين الطموحات والوسائل المخصصة.[5]

لكن في جانب آخر، كان النصر حصيلة استراتيجية سياسية وعسكرية فيتنامية واثقة من هدفها. فقد شكلت الطبيعة الإيديولوجية الصلبة للجانب الفيتنامي وقودًا فكريًا واستراتيجيًا أساسيًا في تحقيق النصر، فضلًا عن كونها تمثل رافدًا في التنظيم المركزي لقوات المقاومة وقرارها السياسي. قاد هوشي منه هذه المعركة ببراعةٍ رافعًا شعار «موقف قلب الشعب»، الذي يرمي إلى حشد القوة المادية والروحية للشعب وراء المقاومة المسلحة، ذلك أن الطابع الشعبي للمقاومة هو الذي دفع نافار إلى ارتكاب سلسلة من الأخطاء الفادحة انتهت بكارثة عسكرية. فقد عجز القائد الفرنسي وقواته عن تأمين الجانب المعلوماتي، في ظل تعبئة شعبية سرية تكافح ضد تسرب أي معلومات لمعسكر العدو، بل حاولت التمويه وخداع المخبرين الفرنسيين.

فهذه العاصفة كانت الفرصة الأحسن «لأشجار الصنوبر والسرو لإظهار قوتها وثباتها»، كما يقول هو تشي منه. فقد نجح الحزب في حشد الفلاحين والنساء والمثقفين لخوض المعركة، وحتى الشعراء، ما حدى هو تشي منه بأن يناشد الناس قائلًا: «اليوم يجب أن نصنع قصائد من حديد وفولاذ وعلى الشاعر أن يعرف كيف يقود الهجوم». كانت القيادة السياسية والعسكرية جزءًا من الشعب، قريبةً منه، تعيش ظروفه كما يعيشها، وأشد قربًا إلى الميدان. يقول جياب: «لقد كنت أنتمي إلى كل فوج، وكل كتيبة، وكل سرية هجومية، وأعرف ضباط السرية والفصيلة والجنود الذين حققوا النصر. لقد رأيت بوضوح أن كل من انطلق مستعد للتضحية من أجل النصر».

كان النصر حصيلة استراتيجية سياسية وعسكرية فيتنامية واثقة من هدفها. فقد شكلت الطبيعة الإيديولوجية الصلبة للجانب الفيتنامي وقودًا فكريًا واستراتيجيًا أساسيًا في تحقيق النصر، فضلًا عن كونها تمثل رافدًا في التنظيم المركزي لقوات المقاومة وقرارها السياسي.

لكن في «ديان بيان فو» لم تظهر سوى قمة جبل الجليد. في الأسفل كان هناك ركام هائل من التجارب والخيبات والصعاب التي تجاوزتها حركة التحرير الفيتنامية حتى قرعت جدران المعقل الفرنسي. بعد طوافٍ طويل حول العالم، متعلمًا وعاملًا، بين باريس ونيويورك وموسكو وبكين، عاد هو تشي منه إلى فيتنام فيما كانت الحرب العالمية الثانية مستعرةً. كان مسلحًا بثقافة غربيةٍ واسعةٍ وعميقةٍ، مستوعبًا للماركسية والفلسفة الحديثة، واعٍ بالعقلية الاستعمارية من داخلها. وفي ترحاله شارك وخالط وعاشر صنوفًا من أبناء المستعمرات، واستوعب تجاربهم وخيباتهم. لديه «كنز ثمين، قلب من فولاذ ودم من جليد»، كما وصف نفسه يومًا. وكذلك أغلب رفاقه في الحزب، فقد كانت ثقافتهم الغربية قد مكنتهم من الاطلاع على الكثير من منجزات الحداثة الغربية الفكرية والفلسفية، وفتحت أمامهم الطريق للتعرف على أجزاء من العالم كانت خاضعةً مثلهم للاستعمار الفرنسي، سيما في إفريقيا وجزء من العالم العربي.

في أوائل عشرينيات القرن العشرين، كان هو تشي منه مقيمًا في باريس وينشر صحيفة لو باريا، وهي صحيفة تستهدف ضحايا الاستعمار، سواء المهاجرين في فرنسا أو أولئك الذين بقوا في بلدهم الأصلي.[6] في ذلك الوقت، اندلعت حرب الريف بين قوات القائد المغربي عبد الكريم الخطابي في مواجهة إسبانيا وفرنسا. كان هوشي منه محور التعبئة في فرنسا، حيث نظم و شارك في الإضرابات التي حشدت مئات الآلاف من العمال لمنع نقل الأسلحة الفرنسية إلى الريف، وتابع بشكل دقيق وحثيث مجريات الحرب والمعارك التي انتصر فيها الخطابي على الجيوش الاستعمارية، رغم اختلال موازين القوى. كان القائد الفيتنامي الشاب معجبًا بالخطابي، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من قادة الكفاح الثوري في ذلك الوقت.[7] وقد نقل إلى رفاقه في فيتنام جميع ما نجح في ترجمته مما كتب حول الزعيم الريفي واستراتيجيته العسكرية. بعد ثلاثين عامًا، عندما هُزم الجيش الفرنسي في ديان بيان فو بفضل استراتيجية جياب، كان العم هو تشي يستحضر خيال عبد الكريم، الذي أطلق عليه لقب «الرائد». ومن منفاه المصري يرد الأمير الخطابي التحية، بعد أن دعا منذ بداية الحرب في فيتنام منتصف الأربعينات أبناء بلاده في شمال إفريقيا، المجندين في الجيش الفرنسي، إلى الفرار والانضمام إلى نضال إخوانهم في الهند الصينية بالسلاح.[8]

تاريخ النفي

في الذاكرة، تحولت «ديان بيان فو» إلى إحدى الأسس التي تقوم عليها الذاتية الوطنية الفيتنامية المعاصرة. لكن في الجانب الفرنسي بقيت الواقعة تراوح مكانها في حيز النفي والإنكار. في الذكرى الخمسين للمعركة، قبل عشرين عامًا، أشاد الرئيس الفرنسي جاك شيراك، في حفل كبير بقاعة الشرف في مجمع ليزانفاليد، معقل العسكرية الفرنسية، بــ«المقاتلين الفرنسيين الأبطال الذين شاركوا في ديان بيان فو». بين 1954 و2004 لم تكف فرنسا خمسة عقود كي تعترف بهزيمتها في المعركة. بل ما زال هذا الإنكار الفرنسي قائمًا حتى اليوم، كجزء من نفي التاريخ الاستعماري، المستعمل في مقاربة موضوع الجزائر وبقية المستعمرات.

من عام 1954 إلى عام 2003، عشية الذكرى الخمسين، تم تخصيص 72 كتابًا فرنسيًا للمعركة. من بينها 46 كتابًا كتبها جنود سابقون، في أغلب الأحيان دون مسافة نقدية،[9] كلها كانت تحاول إما نفي الهزيمة أو نسبتها للجانب السياسي، أو تعليقها على كتف «المعارضة الشيوعية التخريبية».

في الذاكرة، تحولت «ديان بيان فو» إلى إحدى الأسس التي تقوم عليها الذاتية الوطنية الفيتنامية المعاصرة. لكن في الجانب الفرنسي بقيت الواقعة تراوح مكانها في حيز النفي والإنكار.

في دراسته حول الإنكار الفرنسي في المعركة، «ديان بيان فو، الأساطير والحقائق: خمسون عامًا من المشاعر الفرنسية، 1954-2004»، يقول المؤرخ الفرنسي، آلان روسيو، إنه من أجل تحويل واحدة من أعظم الهزائم الفرنسية في القرن إلى نصر، كان «مطلوبًا من المؤلفين نوع من الجمباز الفكري. وكانت الأطروحة التي تم الدفاع عنها على النحو التالي: من المؤكد أننا عانينا من انتكاسة في ديان بيان فو. ولكن، بعد كل شيء، تم الحفاظ على الجزء الأكبر من قواتنا. على العكس من ذلك، مات من الفيتناميين قوات أكثر منا. كتب جورج دي فوندوميير، أحد كبار الضباط، الذي تولى منصبه من عام 1951 إلى عام 1953: بعد ديان بيان فو، خسر الفيتناميون أكثر من نصف فيلقهم القتالي. لقد خسرنا بالكاد عُشر ما لدينا».[10] 

ولتفسير النصر الفيتنامي، ظهرت صورتان لا بد من البحث عن أصولهما في أعماق الخيال الغربي الاستعماري حول المقاتلين الفيتناميين: الأعداد الزائدة، في إشارة إلى أنهم آسيويون يتكاثرون على نحو كبير، والتعصب، في إشارة إلى أنهم من المستعمرات التي وصفت في الأدبيات الفرنسية بكونها مصدر للتعصب والتخلف، إلى جانب أنهم شيوعيون، يكل ما تتضمنه هذه الصفة من سلبيةٍ في الذهنية الاستعمارية الرأسمالية المحافظة.[11] كما يحاول قطاع آخر من المؤرخين والضباط الفرنسيين تبرير الهزيمة بالتدخل الأجنبي وخاصة الصيني، دون الإشارة إلى الدعم الأمريكي القوي الذي تمتعت به القوات الفرنسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى خروجها من فيتنام.

نجح الفيتناميون في ترويض المارد الاستعماري وهزيمته. فقد كان جوهر تفكيرهم العسكري والسياسي يكمن في «استخدام الروح للسيطرة على المادة، واستخدام الضعف للسيطرة على القوة، واستخدام القوة البدائية للسيطرة على العدو المتطور»، كما قال الجنرال جياب يومًا. لكن جياب ورفاقه، لم يكتفوا بالنصر، بل فتحوا الباب واسعًا أمام مقهوري الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، وكأن رجلًا سحب قطعة الدومينو ومضى في سبيله. تداعت الإمبراطورية خلال أعوامٍ قليلةٍ. في 1956 حصلت تونس والمغرب على استقلالهما، وفي عام 1954 اندلعت ثورة التحرير الجزائرية، التي كانت سلسلةً من تجارب ديان بيان فو الكارثية بالنسبة للاستعمار. وفي عام 1958 سقطت الجمهورية الفرنسية الرابعة.

  • الهوامش

    [1] Pierre Journoud – L’Indochine et ses frontières (1940-1954): entre zones d’échanges, espaces de confrontation armée et instruments de légitimation politique – Dans : Sécurité européenne : frontières, glacis et zones d’influence – De l’Europe des alliances à l’Europe des blocs (fin xixe siècle-milieu xxe siècle) p. 87-102 Presses universitaires de Rennes 2007.

    [2] Charles-Henry De Pirey – La route morte ; RC4 – 1950 Mémoires, Paris, Indo Éditions, 2002, p. 226.

    [3] Penser la guerre, Clausewitz, tome I L’âge européen, Gallimard, Paris, 1976, p. 258.

    [4] Laurent Césari et Jacques de Folin, « Le projet « Vautour » en France : nécessité militaire, impossibilité politique », in Denise Artaud & Laurence Kaplan (dirs), Dien Bien Phu, l’Alliance atlantique et la défense du Sud-Est asiatique, La manufacture, Lyon, 1989, p. 137-156.

    [5] Pierre Servent – Diên Biên Phu. Les leçons d’une défaite – Edition Perrin 2024.

    [6] Michael Goebel, Anti-Imperial Metropolis: Interwar Paris and the Seeds of Third World Nationalism, New York, Cambridge University Press, 2015.

    [7] Mevliyar Er – Abd-el-Krim al-Khattabi: The Unknown Mentor of Che Guevara – Terrorism and Political Violence – Volume 29, 2017 – Issue 1- Pages 137-159

    [8] Hamadi Aouina – « Che » Abdelkrim : le Lion du Rif – Contre Temps – 14 septembre 2021

    [9] Alain Ruscio, “Autour d’un anniversaire : Dien-Bien-Phu, en 2004”, Cahiers d’histoire. Revue d’histoire critique, 99 | 2006, 9-29.

    [10] Vincent Auriol. Mon septennat. (1947-1954) Notes de Journal présentées par Pierre Nora et Jacques Ozouf. Collection Témoins, Gallimard.

    [11] Alain Ruscio, “Autour d’un anniversaire : Dien-Bien-Phu, en 2004”, Cahiers d’histoire. Revue d’histoire critique, 99 | 2006, 9-29.

Leave a Reply

Your email address will not be published.