في اقتصاد مُعولم بازدياد، تنمحي فيه أكثر فأكثر الحواجز أمام حركة الأموال والحدود الفاصلة بين المفاهيم، فيما تتعزز فيه فجوات الثروة والسلطة، يصبح فهم الدورات الاقتصادية أشد تعقيدًا، خاصة في منطقة كالمنطقة العربية التي تبدو على هامش هذه الدورة، فيما هي في الحقيقة جزء أساسي منها. ففي حالة بلد كالأردن، المثقل بمديونية تفوق الـ40 مليار دولار، بما يعادل 97% من ناتجه المحلي الإجمالي، تسود سرديتان لفهم المأزق الاقتصادي الحالي: أنه نتيجة لتوسع غير مسؤول في الإنفاق في سنوات سابقة، تزامن مع ظروف إقليمية صعبة تحمّل الأردن تبعاتها، أو أن هذا المأزق هو نتيجة لسياسات مالية جاءت كامتداد طبيعي لتبعية سياسية تجعل الانصياع لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين -اللذين يلجأ رؤساء حكومات الأردن إليهما للاقتراض- أمرًا محتومًا، مما يخلق اعتمادًا مفرطًا على المديونية في ظل اقتصاد غير منتج. لكن بين هاتين السرديتين -اللتين لا تخلو إحداهما من الصحة وإن بفروق كبيرة- تظل العملية التي تحكم هذه الاستدانة والتبعات التي تجرها على المستويات الاجتماعية والسياسية والعسكرية مبهمة إلى حد كبير.
للاستفاضة حول هذه العملية ودور مؤسسات الإقراض الدولية فيها، وفي ختام ملف حبر المعنون الأردن وصندوق النقد الدولي: ثلاثون عامًا من «الإصلاحات»، نقابل المفكر الاقتصادي اللبناني علي القادري، الباحث الرئيسي بجامعة سنغافورة الوطنية. سابقًا، كان القادري باحثًا زائرًا في كلية لندن للاقتصاد، في قسم التنمية الدولية ثم في «مختبر البحوث المتقدّمة حول الاقتصاد العالمي» في الكلية ذاتها. كما عمل القادري في المكتب الإقليمي للأمم المتحدة لغرب آسيا، مؤلفًا العديد من التقارير المتعلقة بالتنمية في المنطقة العربية. وصدر له كتب «تفكيك الاشتراكيّة العربيّة»، و«تحديات التنمية وحلولها بعد الربيع العربي»، و«التنمية العربيّة المحتجزة». في كتاباته، يركز القادري على مسألة التراكم الرأسمالي عبر الدمار والهدر والعسكرة، منظرًا أن الحروب الإمبريالية في المنطقة العربية ليست مجرد محاولات للسيطرة الاستراتيجية على النفط والنفوذ، بل هي في حد ذاتها شكل من أشكال إنتاج الربح.
حبر: إذا عدنا إلى التصور الأول لصندوق النقد الدولي، كما نص اتفاق بريتون وودز المؤسس له عام 1944، فإن أحد أهم أهداف الصندوق كان تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف حول العالم. لماذا وكيف تم التخلي هذا الهدف خاصة بعد فك ارتباط الدولار بالذهب؟
علي القادري: كثيرًا ما يقال إن دور صندوق النقد تغير مع أزمة الذهب والدولار حين فكّ الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون ارتباطهما عام 1971، وأصبح لدينا حقبة ما قبل 1971 وما بعدها. لكن مسألة ابتعاد الدولار عن وزنه بالذهب لم تكن مسألة جديدة. فعليًا، كان الدولار العملة الكونية عام 1919 حين كانت أوروبا منهارة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الذهب مسعرًا بستة دولارات للأونصة حينها، لكنه قفز إلى 30 دولارًا للأونصة مع الحرب العالمية الثانية، ومع ولادة مؤسسات البريتون وودز، أي البنك الدولي الذي مثّل عدة صناديق للإعمار، وصندوق النقد الذي كان دوره محددًا فقط في دعم أسعار الصرف الثابتة من أجل تحريك دورة التجارة الدولية. هاتان هما المؤسستين الرئيسيتان في البريتون وودز.
لذا، يبدو من الاعتباطي القول إن الدولار فُكّ ارتباطه بالذهب عام 1971، فصعود سعر الذهب من ستة دولارات إلى 30 إلى أكثر من ذلك لم يحدث بين ليلة وضحاها. تاريخيًا، لم يكن هناك من الذهب ما يقابل كمية الدولار المعروضة، لذا فما سمي بـ«معيار الذهب» لم يعنِ الكثير فعليًا لأنه دائمًا هناك نقود أكثر مما يوجد ذهب. ففي الاقتصاد الرأسمالي، ليست الحركة الاقتصادية هي التي تخلق الحركة المالية، بل الحركة المالية هي التي تضع الأرضية لتَوسع السوق وتستبق الحركة الاقتصادية لتفتح المجال لها. زيادة عرض النقد من خلال عملية الائتمان يعني تحفيز الحركة الاقتصادية. فأنت تقترض حين تريد أن تبدأ مشروعًا، أي أن تحصل على الائتمان أولًا ثم تشغّل المال. فالرقعة النقدية هي التي تخلق الأرضية الأساسية للتوسع الاقتصادي. البنوك عمليًا – بالامتيازات التي تكتسبها من البنك المركزي ومن خلال التجزئة المصرفية – قادرة على خلق النقد من لا شيء.
حين تودع في المصرف فإن المصرف يستدين منك، وحين تقترض من بنك ما، فالبنك لا يملك الأموال التي أقرضك إياها، بل هو يخلق هذه الأموال لك حين تقول له كمتعاقد «سأوفيك هذا الكم من المال»، بأن يضع هذا الكم في حسابك بناء على القوانين التي وضعتها الدولة والتي توفر للبنك القدرة على عرض الائتمان والنقد. لذا، فالاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري المنقّد أو المُمَوْأل (Financialized) يعتمد على قطاع مصرفي ومالي متضخم. المديونية من أجل الاستثمار المنتِج منوطة بجدوى اقتصادية، لكن المديونية المموألة التي تستعمل بالمضاربة ليست ذات جدوى اقتصادية أو اجتماعية. هذا الوضع يخلق دائمًا نقود ورقية أكثر مما لديه من احتياطي الذهب. ولا بد من التنويه أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكبر المستدينين من أجل حروبها، وهي بهذه الاستدانة والائتمان، زادت كم عرض النقد بما يتخطى القدر الموازي من الذهب.
ما حدث عام 1971 ليس أننا اكتشفنا أن هناك أوراقًا نقدية أكثر مما هناك ذهب، فهذا كان الجميع يعرفه. ما حدث هو أن هبوط الدولار صعّب على الأوروبيين وغيرهم التصدير للسوق الأمريكي، لذا كانوا مستائين. وانخفاض سعر الدولار أمر جسيم لأنه العملة العالمية لادخار الثروة، فثراء العالم مُحفّظ بالدولار، وكذلك قيمة الإنتاج الدولية تقريبًا. إذا انخفض الدولار، تنخفض كل المدخرات الدولية أو مخزون رأس المال النقدي (وهو شكل رئيسي من أشكال القيمة الحقيقية)، أي ينخفض الثراء الحقيقي الموجود حول العالم، وهذا سبّب استياءً شديدًا. من هنا جاء تخلي نيكسون عن الربط بالذهب. ونحن نتذكر كيف قام نيكسون في إحدى تسجيلات «وترغيت» بشتم الإيطاليين بسبب شكواهم من انخفاض الدولار.
ما الذي مثله إذن هذا الافتراق عن بريتون وودز والتحول نحو شكل اقتصادي مموأل؟ وما تبعات هذا التحول على تصور المديونية والقدرة على الاقتراض عالميًا؟
اتفاق بريتون وودز جاء في جو دولي جديد برزت فيه الولايات المتحدة كقوة عظمى، وجرت فيه إعادة ترتيب للهندسة الرأسمالية الدولية. لم تكن الأسواق مُلَبرَلة في ذلك الوقت بالشكل الحالي، فقد كان هناك سياسات كينزية (Keynsian) جاءت كمخلفات للأزمة الكبرى في الولايات المتحدة سنة 1929 التي كرّست الاعتقاد بأنه يجب أن يكون للدولة باعٌ في عملية دعم الطلب في الاقتصاد الوطني من خلال رفع الأجور. كان هناك أيضًا فهم متعلق بسيادة الدولة على عملتها واستقلال سياستها النقدية، إذ لم يكن هناك بعد مضاربة مفتوحة على العملة تخلق تغييرات في سعر الصرف بشكل يؤثر على التبادلات التجارية. فسعر الصرف الثابت ضروري لخلق الثقة بأن العملة لن تنهار مما يسهل التبادل التجاري. كانت السياسة النقدية آنذاك مستقلة لأن حساب رأس المال كان مغلقًا، بمعنى أنك لا تستطيع تحويل أموالك للخارج ببساطة. وفي كل النظم الدولية، الاشتراكية وغير الاشتراكية، كان هنالك نوع من المراقبة على حسابات رأس المال (Capital Account). وطبعًا كان حساب التبادل التجاري منوطًا بسعر صرف ثابت. بالتالي كان لدى الدول نوع من السيادة على سياساتها المالية والضرائبية من جهة بسبب تقييدٌ لحساب رأس المال، ومن جهة أخرى قدرةٌ على تثبيت سعر الصرف مع الخارج بشكل مستقل. والسياسة الأهم هنا لم تكن السياسة المالية، فهذه غير ذي نفع في تلك الحالة، إنما السياسة الضرائبية بما في ذلك الاستثمار والإنفاق العام. وهذا يختلف جذريًا عن ظروفنا الحالية حيث اعتلت السياسة المالية سدة السياسات العامة من خلال تحريك سعر الفائدة. وعلى هذا الأساس بنيت مؤسسات بريتون وودز، فالصندوق يدعم تثبيت سعر الصرف من أجل تسهيل التبادل التجاري الدولي، والبنك الدولي يدعم الجانب النقدي من خلال تأمين القروض لمشاريع مختلفة.
يجب ألا ننسى أن تلك الفترة شهدت نهوض ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان من الطبيعي أن تشهد نهضة اقتصادية إثر الدمار الحاصل بسبب ضخ الأموال من أجل إعادة البناء والإعمار في الفترة ما بعد الحرب، وكان هناك طفرة اقتصادية في كل العالم، لذلك فإن الفترة ما بين 1945 و1975 تسمى الزمن الذهبي للرأسمالية، وفترة ما بعد 1975 مع تسارع تحرير الأسواق تسمى الزمن الرصاصي، في إشارة إلى انخفاض معدلات النمو. ما جعل هذه الطفرة ممكنة هي السياسات الوطنية الأكثر ارتباطًا بعملية التحكم بالحسابات التجارية والمالية. فالسياسات الكينزية التي تبنتها مؤسسات بريتون وودز هي التي سببت النمو السريع في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن المهم نتذكر أيضًا أنه في ظل كبح حساب رأس المال، يصبح الإنفاق والاستثمار ركيزة سياسة تدخل الدولة، مما يعني أن الاستثمار الاجتماعي والإنتاجي يتربع على سدة السياسات، الأمر الذي حدث عكسه تمامًا في ظل النيوليبرالية حيث الموألة تجتنب الإنتاج طويل الأمد وتفضل الريوع ذات المردود السريع.
أحد الأسباب التي يعزى إليها التحول منتصف السبعينيات نحو الموألة (Financialization) هي أزمة النفط عام 1973، حيث يقال أن العالم شهد أزمة عرض للنفط أدت إلى ارتفاع سعره، وهو ما تسرب إلى كل المنتجات الأخرى فأدى إلى زيادة في الأسعار. حدث ذلك خلال انتكاسة رأسمالية أيضًا، وترافق مع هذه الانتكاسة حالة التضخم. يعني أن الدول ستستدين بأسعار فائدة عالية جدًا لسد العجز. أسعار الفائدة في الغرب في ذلك الوقت وصلت 13% وأحيانًا 18%. كانت تلك بداية الموألة، مما يعني تباعًا ازديادًا في الأرباح المالية على عكس الأرباح الانتاجية.
كثيرًا ما يلام العرب في هذه الأزمة على اعتبار أنهم رفعوا سعر النفط لمحاربة «إسرائيل»، لكن ما حدث على الأرجح هو أن الغرب استغل ارتفاع سعر النفط واستخدمه كحصان طراودة من أجل الدفع نحو الموألة وزيادة أسعار الفوائد، فلم تكن هناك فعلًا أزمة عرض في ذلك الوقت. في فترة ما قبل 1973، كان سعر الفائدة متدنيًا جدًا ولم تكن الديون بالضرورة عبئًا، بالعكس كانت عاملًا إيجابيًا تجاه النمو. فلنتذكر أن مديونية الدولة هي أحد أهم أركان النمو الاقتصادي، إلا إذا كانت بفوائد عالية تكبح قدرة الدولة على الاستثمار العام. لكن حين تتخطى أسعار الفوائد وخدمة الدين معدلات النمو، فمعنى ذلك أن قدرة الدولة على السداد ستأتي من عملية تسييل مواردها، أي أنها لن تكتفي بزيادة جمع الضرائب، بل ستبيع البشر والحجر بأسعار بخسة من أجل سداد الدين. عملية التسييل هذه، عدا عن أنها تختزل الإنسان وتكاليفه في الدورة الاجتماعية، هي بحد ذاتها عملية إنتاج مربحة جدًا. من هنا بدأ تحكم النقد والمديونية بعملية الإنتاج بشكل أكبر بكثير من قبل، وخُلق نوع من الهيبة الصنمية للديون، إذ بدأنا نسمع أننا «لا يمكننا فعل شيء لأن لدينا دينًا يجب سداده». وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، باتت القوة الأيديولوجية هي الدافع من أجل تصنيم المديونية، أي تكريس التصور أن الدين شيء لا يمكن التخلص منه.
هل هذا يعني أنه يمكن التخلص من الدين العام في بلد كالأردن تجاوزت مديونيته 40 مليار دولار؟ أين يأتي بُعد التبعية السياسية من ذلك؟
في حالة بلد مثل الأردن، الأمر معقد أكثر لأن المديونية هي استثمار اقتصادي سياسي؛ إنها استثمار في احتواء القرار والقدرة السياسية والعامل السياسي المناهض للإمبريالية في المنطقة، خصوصًا حين ندرك أن مبلغ 40 مليار دولار هو مبلغ يمكن وضعه على الرف بسهولة. ففي الأزمة المالية الأخيرة 2007-2008، أصدرت سندات خزينة لتغطية ديون على البنوك بما يقارب 10 تريليون دولار، بجرة قلم. هذا النوع من رأس المال يسمى رأس مال خيالي أو وهمي (Fictitious capital) لأنه ليس له ارتباط أو علاقة واقعية بالقدرة الإنتاجية الفعلية، وكذلك لأنه لا يمكن سداده. لكنه رأس مال خيالي ذو نتائج غير خيالية، بل مأساوية، فبمجرد خلق هذا الكم الورقي من المال بهذه الخصائص، فأنت تخلق الظرف الاجتماعي-السياسي من أجل التمدد الإنتاجي، والرقعة الإنتاجية الكبيرة القادرة على تغطية هذا الكم الهائل من النقد الخيالي هي الحرب الإمبريالية والتراكم بالهدر، فالحرب كما هو معروف هي الهدر الصافي، أي أن دولة ما ترمي بإنتاجها ورزقها وناسها إلى المحرقة.
حين تخلق حربًا، تخلق سندات خزينة، أي أن الدولة تستدين كي تمول الحرب وصناعتها. في حالة الحرب على العراق وأفغانستان مثلًا، يقال إن الكلفة التي تحملتها الولايات المتحدة بلغت 6 تريليون دولار، لكن علينا تحطيم مفهوم تكاليف الحرب وفهمها كأرباح. الكثيرون يفكرون بالولايات المتحدة كأنها شخص يدفع من جيبه، لكنها بطبيعة الحال تتكون من شرائح اجتماعية مختلفة، وطبقة مموألة حاكمة، فيما يعيش نصف سكانها في الفقر. أي أن مديونية هي ائتمان لشركات الموألة الكبرى، ومن تحمل كلفة الحرب هو الإنسان العامل دافع الضرائب، ونحن، سكان المنطقة الذين ندفع الضرائب من دمنا، من أجل توسيع الاقتصاد الأمريكي. فحين تصدر الولايات المتحدة سندات بقيمة 6 تريليون دولار، فإن من يشتريها هي المؤسسات المالية المموألة التي ستتمتع عندها بأصول بلا مخاطر (Risk free asset) تكفلها الدولة الأمريكية بتوسعّها وتملكها في الخارج وبقدرتها على فرض الضريبة. فالمديونية الحربية تحول الرأسمال الخيالي الذي تكلمنا عنه إلى رأس مال حقيقي، ولذلك تصنع صناعة ضريبة، منتوجها الهدر البيئي والإنساني.
ليس من مصلحة صندوق النقد أن نسد الدين، بل أن نخدمه بأسعار عالية. لذا فالربحية عامل في استدامة المديونية الأردنية، لكن الأهم هو أن هذه المديونية هي عملية منوطة بالإنتاج الاجتماعي في المنطقة. لقد تم تشييء فهمنا للإنتاج بوصفه مجرد عملية تحويلية تتطلب مدخلات لتنتج سلع. لكن الإنتاج علاقة اجتماعية، تشمل العمال والملاكين والدول وغيرهم، والمديونية تُغيّر العلاقات الاجتماعية المنوطة بعملية الإنتاج هذه. فخدمة الدين تأتي من الإنفاق العام الأساسي، وفي حالات مثل لبنان أو الأردن، فإن تخفيض النفقات يأتي من مجالات مثل الصحة والتعليم، أي أنه حرفيًا تنقيص من حياة الإنسان العامل.
إذًا، للمديونية في منطقتنا عدة فوائد للإمبريالية، فهي تقّيد استقلالية القرار، وتخفض متوسط العمر للعاملين مما يخفض كلفتهم، أي أنهم يموتون قبل أوانهم في دورة اقتصادية تعاني من أزمة فائض إنتاج، وهي كذلك مصدر ربح بارتباطها بصناعة الهدر.
في أي دولة تطبق برنامج تقشف، سنرى مستوى الحياة يهبط، وعلينا أن نتذكر أن مستوى الحياة لا يقاس بشكل مجرد وإنما نسبي، فنحن مثلًا يجب أن نعيش حتى سن التسعين لأن مواردنا في هذه الحقبة التاريخية تسمح بذلك، نحن لم نعد في القرن الخامس عشر حتى نموت في سن الأربعين أو الخمسين. يجب أن نتذكر أيضًا أن القصد من عملية الإنتاج هو جني فائض القيمة الذي يأتي من إنتاجية القوى العاملة، وزيادة هذا الفائض تأتي على حساب حياة القوى العاملة. لذا حين نقلص الإنفاق من أجل سداد ديون خارجية فهذا يعني أن هذا الطرف الخارجي يأخذ من صحتك ويُقرضك بدلها. هذه الصحة أهم بالنسبة له من المال لأنها مكمن القيمة الإنتاجية الحقيقية. هذا جوهر ما نعنيه بالتراكم الهدري الذي يسيّل الأصول بما في ذلك حيوات البشر.
الحلقة الرئيسية في التدمير هي عملية تدمير القدرات الداخلية للإنتاج. القطاعات التي كانت منتجة في الداخل تحولت إلى قطاعات جيوسياسية تربح من عملية تسييل القدرات الإنتاجية الداخلية وبيعها أكثر مما يمكن أن تربحه عبر إنتاج أي شيء للداخل. فالربحية المتأتية من مصنع كبريت مثلًا متدنية مقارنة بالأرباح التي يوفرها تحويل رأس المال إلى نقد. لِمَ أتعب نفسي بالعمل في مصنع حين يمكنني بنفس رأس المال شراء أسهم في البورصة أو سندات خزينة وأربح أكثر بكثير؟ طريقة التفكير هذه مرتبطة بالسياسات الكلية التي يفرضها صندوق النقد والبنك الدولي. هذا يتم من خلال سياسة مالية تثبّت سعر الصرف بالدولار، وتمد القطاع المُضارب بالسيولة كي ترفع من ائتمان الأصول، ومن ثم تبيع الأصول ويستخرج مردودها إلى الخارج بدولار مدعوم بسياسة بنك مركزي، وهذه الأخيرة مدعومة بالضريبة على العمال العاديين. صحيح أن عامة الناس تستفيد من تثبيت الأسعار الأساسية للسلع، لكن التقشف وزيادة الضرائب تعني انخفاض حصة الأجور الكلية من الناتج الاجتماعي.
بالطبع، هم لا يقولون أننا نسعى لتدمير إنتاجكم، بل يقولون إن الحل في التحرر، أي تحرير حساب رأس المال، مما يمكّن البعض من إخراج مليارات الدولارات من بلده وإيداعها في حسابات خارجية بدعم من قدرات البلد الإنتاجية. هذا يعني أن جزءًا من الثروة الداخلية التي تأتت من عمل الناس وصحتهم ومستقبل أولادهم يتم امتصاصه وتصديره للخارج بمجرد تحرير رأس المال. وسعر الفائدة في الأردن عالٍ جدًا مقارنة بالأسعار العالمية لأنه في ظل حساب مفتوح لرأس المال، أي تخفيض لسعر الفائدة يعني تخفيضًا للربحية، مما سيسحب الأموال للخارج. وفي ظل الفائدة المرتفعة [على الدين العام الداخلي] ما يحدث هو سلب لأرزاق الناس وتقليص للرقعة النقدية وانكماش في الطلب، أي التقشف. لو نظرت إلى جداول منظمة العمل الدولية لحصة العمال، أي الأجور، من الناتج القومي الإجمالي في الأردن أو في أي دولة عربية خلال الثلاثين سنة الماضية، سنرى شيئًا صاعقًا جدًا، فقد انخفضت هذه الحصة في بعض البلدان من 50% إلى 25% في أدنى نسبة منذ عام 1980.
هذا التنقيد وتسييل القدرات الإنتاجية الداخلية حوّل الرأسمالي المنتج إلى كمبرادوري مموَّل يحول أمواله للخارج. لم تعد مصلحته إذن تتمثل في أن يأتيه العامل نشيطًا وبصحة جيدة، أو في أن يستطيع هذا العامل شراء السلع التي ينتجها الرأسمالي، فمصالحه الطبقية باتت مرتبطة بالإمبريالية المموألة. نتيجة ذلك كانت حالة من التسييل الطبقي العالمي، أي أن البرجوازية الحاكمة أصبحت واحدة. الشيوعيون يقولون دومًا إنهم أمميون، لكن الحقيقة أن الرأسماليين هم الأمميون اليوم.
ما الخيارات المتاحة إذن في ظل هذه الحلقة المغلقة؟
في ظل غياب الأيديولوجية البديلة، فعليًا ليس لدينا خيارات. من يختار هو الفاعل التاريخي القوي، يشن حربًا أو لا يشن، يُقرض أو لا يقرض، يرفع سعر الفائدة أو لا يرفع، ثم نتعامل نحن مع النتائج فيما نحن ندفع من إراداتنا وأعمارنا. العملية مأساوية فهي في الأخير عملية تحكمية صرفة: الإمبريالية هي علاقة اجتماعية دولية تدميرية، والتحكم بالأردن وأمثالها من الدول أمر ضروري لإنتاجية هذه العلاقة الاجتماعية. للتحكم غاية، ألا وهي تثبيت سلطة رأس المال كعلاقة اجتماعية. هذا ما نعنيه بـ«أولوية السياسة»، فالأرباح المالية الاقتصادية ضرورية لرأس المال، لكنه الأشد ضرورةً هو أن يتحكم بالسلطة ويفرض أيديولوجيته لإعادة إنتاج ذاته. هذا يعني أيضًا أن المال رمز للقيمة، والقيمة هذه ما هي إلا قدرات المجتمع الإنتاجية الأقل كلفةً.
الإمبريالية تنتج من خلال الحرب، والحرب عملية إنتاج عالمية الربحية، ليس لأنها تيسر أمور منتجي الأسلحة -فهذا أقل ما في الحسبان- بل لأن دورة الحرب مترابطة مع الريع المالي، لأنها توسع المديونية وتحرك رأس المال، والأهم من ذلك أنها بقتلها للناس وفرضها للتقشف تزيد من فائض القيمة بتخفيض مدى الأعمار. بالتالي فإن تجويع وتطويع الشعب الأردني لا يستهدفه وحده، بل له انعكاسات أوسع بكثير على شعوب المنطقة.
لذا، فالمكسب الرئيسي لمؤسسات بريتون وودز ومن يرعاها هو التحكم. والتحكم نوعان: التحكم بالمكان من خلال السلطة التنفيذية الفعلية، والتحكم بالزمن؛ وهذا تحكم أيديولوجي تفرضه إملاءات المؤسسات المالية التي تضغط من أجل تكثيف العمل في ساعات أقل وتكثيف الحياة في زمن أقل. فالإنتاجية ليست فردية، وإنما اجتماعية، فالفرد المجرد غير موجود. ما هو موجود وينتج بتوسيط الفرد هو المجتمع الذي أنتج الفرد. والتحكم بالزمن يأتي لتكثيف الإنتاج بأقل كلفة من المُنتِج الحقيقي، أي المجتمع من خلال دورته الحياتية. التحكم بالزمن إذًا حلبةٌ للصراع.
ما نحتاجه اليوم هو ثورة على المفاهيم، ومنها مفهوم الدين. ديون بلدان مثل اليونان أو لبنان مستحيل أن يتم سدادها؛ الدين يخلق ليُخدم. وديون الدولة ليست مثل ديوني وديونك، فالدولة لا تموت. أساسًا في الاقتصاد الكلي، التوسع الاقتصادي القومي مبني على المديونية، بالتالي لا يوجد دولة دون دين. الدولة تستدين حتى تتوسع، وعليها أن تكون قادرة على إصدار الائتمان حتى تفعل ذلك بفوائد معقولة، ومن الأفضل أن تكون مصارف التمويل مملوكة للدولة، كما في الصين مثلًا.
لكن حين تقترض من صندوق النقد، ما يحدث أنك تسحب من ميزانيتك وإنفاقك لخدمة الدين، أي تسحب أموالًا من السوق لتحتفظ بالعملة الأجنبية، مما سيؤدي إلى تخفيض الائتمان وحينها لن تستطيع الاقتراض لفتح مشروع مثلًا. هذا يعني أن لدينا انكماشًا ماليًا أو نقديًا من جهة، وانكماشًا ضرائبيًا من جهة أخرى، إذن فالسياستان الاقتصاديتان الأساسيتان في الدولة ليستا بيدك، بل بيد الصندوق الذي بوسعه أن يملي عليك كم تدفع ومتى.
لذلك، قد تكون العملة التي تستعملها دينارًا أردنيًا، لكنها في الحقيقة دولار في ظل ربط الدينار به. كل شيء مُدولَر لأنك فعليًا لا تمتلك السيادة على عملتك ولا تستطيع أن تخلق رقعة نقدية حتى تتوسع فيها اقتصاديًا. فكما قلنا سابقًا، التوسع يتطلب أن تستدين وتشغّل هذه الأموال التي خلقها البنك لك، لكن إن لم تستطع كدولة إصدار الديون والتحكم بها لأنك مدين للخارج، لن تتمكن من التوسع وستستمر في سلب أرزاق الناس من أجل خدمة الديون. في الأردن وفي لبنان، معظم الديون جاءت لخدمة ديون أخرى، مما يعني خلق دورة اقتصادية يستمر فيها الدين بالزيادة. لذا، ليس فقط أن الدين لا يمكن سداده، بل ليس في مصلحتهم أن يتم سداده.