في هذا الحوار الصادر مؤخرًا مع الاقتصادي اليوناني-الأسترالي، يانيس فاروفاكيس، تتحدث مجلة «The New Left Review» عن كتابه الصادر عام 2023 بعنوان «الإقطاع التكنولوجي: مقتل الرأسمالية». في كتابه هذا، يحاجج فاروفاكيس بأننا شَهِدْنا في أوائل القرن الواحد والعشرين طفرةً في النظام الرأسمالي تمكنت من خلالها شركات التكنولوجيا الكبرى من التحول إلى قوة مهيمنة في النظام الاقتصادي، وذلك من خلال ما يصفه بـ«الريع السحابي» التي تستحوذ على نسبة كبيرة من فائض القيمة المُنتجَة في القطاع الرأسمالي التقليدي، وبالتالي تعمل على تدمير الاقتصاد وشكل السوق الرأسمالي التقليدي.
شغل فاروفاكيس هو منصب وزير المالية في اليونان عام 2015 ضمن حكومة تحالف سيريزا التي رأسها ألكسيس تسبيراس، أثناء الأزمة المالية التي ضربت البلاد، وقاد المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول الديون التي أثقلت بلاده، قبل أن يقدم استقالته احتجاجًا على خطة التقشف التي قدمها الدائنون، والتي رُفضت في استفتاء عام.
أنت أحد المنظرين لفكرة أن هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى، التي تستخدم الخوارزميات لبناء إمبراطوريات بيانات تعمل كمصدر غير محدود للقيمة، قد تدفعنا إلى ما وراء حدود الرأسمالية. في كتابك الصادر عام 2023 «الإقطاع التكنولوجي»، تزعمُ أنه كما شهدنا في وقت مبكر من العصر الحديث استبدالَ الأرض برأس المال كعامل مهيمن في الإنتاج، فإن أوائل القرن الحادي والعشرين شهدت استبدال رأس المال الإنتاجي بـ«رأس المال السحابي» (Cloud Capital)، ما يُشير إلى تحول نحو نظام تراكمي جديد. بماذا، برأيك، يختلف رأس المال السحابي نوعيًا عن أشكال رأس المال الأخرى؟ وكيف تطور تاريخيًا؟
يانيس فاروفاكس: اسمح لي بداية بمقدمة قصيرة. إن «الإقطاع التكنولوجي» ليس تحليلًا ما بعد ماركسي لنظام ما بعد رأسمالي، بل هو تحليل ماركسي بالكامل لعمل رأس المال المعاصر، يحاول تفسير التحول الجوهري الذي طرأ عليه. بالطبع، خلال القرون الماضية، تطور رأس المال الثابت من صنارات الصيد والأدوات البسيطة إلى آلات تصنيع معقدة، لكن كل هذه العناصر تشاركت سمة أساسية: أنها أُنتِجَتْ بوصفها وسائل إنتاج. لكننا اليوم أمام بضائع رأسمالية لم تُخلَق لتُنتِج، بل لتتلاعب بالسلوكيات. وهذا يحدث من خلال عملية ديالكتيكية تحثُ فيها شركات التكنولوجيا الكبرى مليارات من البشر على أداء عملٍ غير مدفوع، وفي الغالب من دون معرفتهم بذلك، لتغذية مخزون رأسمالها السحابي. وهذا يعد نوعًا مختلفًا جوهريًا من العلاقات الاجتماعية.
كيف حدث ذلك؟ كما دائمًا، من خلال تغيرات تكنولوجية ثابتة، تدريجية، وكمية، أدت في لحظة ما إلى تغيير نوعي كبير. كانت هذه الإرهاصات من شقين؛ الأول هو خصخصة الإنترنت، أو ما كان يُسمَى «مشاع الإنترنت». فقد أتت لحظة بت فيها مضطرًا، من أجل إجراء معاملة عبر الإنترنت، إلى اللجوء إما إلى مصرفك الخاص أو منصات مثل «غوغل» أو «فيسبوك» للتحقق من هويتك. كان ذلك شكلًا بالغ الأهمية من أشكال التسييج؛ أي العمل على سَوْقَنة الفضاء الإلكتروني وإنشاء هويات رقمية جديدة مُخصخصة. الشق الآخر كان الأزمة المالية عام 2008، فقد طَبَعَتْ الدول الرأسمالية 35 تريليون دولار بين عامي 2009 و2023، ما أعطى دَفعة لديناميكية توسع نقدي أصبحت فيها البنوك المركزية، وليس القطاع الخاص، القوة الدافعة في السوق. كما فرضت الدول سياسات تقشف شاملة في الغرب، ما أدى إلى انخفاض ليس فقط في الاستهلاك، ولكن أيضًا في الاستثمار الإنتاجي. وقد كان رد فعل المستثمرين التوجه لشراء الأصول العقارية وضخ الأموال في شركات التكنولوجيا الكبرى. وهكذا أصبحت الأخيرة القطاع الوحيد القادر على تحويل هذا المد الهائل من السيولة الصادرة عن البنوك المركزية إلى سلع رأسمالية. وأصبحت أسهمها ضخمة للغاية، ومنحت مالكيها قوة هائلة للتأثير في السلوكيات وجَمْعِ الريع، إلى حدِ أنها كسرت طريقة عمل النظام الرأسمالي التقليدي. وهذا كله حدث بشكل عرضي تمامًا، في مثال كلاسيكي للعواقب غير المقصودة، دون أن يكون لدى شركات التكنولوجيا الكبرى حتى النية لفعل ذلك.
بالطبع، الجواب على سؤال ما إذا كنا ندخل حقبة ما بعد الرأسمالية يعتمد على فهمنا للرأسمالية نفسها. يُقال إن تعريف روبرت برينر، الذي يرى الرأسمالية كنظامٍ تُدارُ فيه قسرية العمل وتراكم رأس المال بشكل أساسي من خلال قوى اقتصادية، يقود إلى توصيف الوضع الحالي بـ«الإقطاع التكنولوجي» أو «الرأسمالية السياسية»، كما يسميها برينر، نظرًا لدور القسر «غير الاقتصادي» في النموذج التراكمي الحالي –سواء كان ذلك عبر القوة السياسية الصريحة التي تحمي الاحتكارات وتوجه الأرباح للأعلى، أو عبر أشكال السيطرة الخوارزمية. لكن آخرين، مثل موروزوف، قد يرفضون هذا التعريف بوصفه ضيقًا جدًا، بحجة أن الرأسمالية لطالما تضمنت تداخلًا معقدًا بين المجالات الاقتصادية وغير الاقتصادية. كيف ترد على ذلك؟
لست من أنصار برينر؛ ففهمي للرأسمالية يأتي مباشرة من ماركس، الذي يرى أنها قائمة على تحولين رئيسيين: انتقال السلطة من مُلاك الأرض إلى ملاك الآلات بعد عملية التسييج، والانتقال من تراكم الثروة على شكل ريع إلى تراكم الأرباح. يُطلِقُ التحول الأول عملية تبدو لا نهائية من التسليع، أي حالة توسيع دائمة للسوق لتشمل كل مناحي الحياة. بينما يدخر الثاني فائض القيمة –أي المبلغ الذي يمكن للرأسمالي استخلاصه من العمل بعد دفع الإيجارات والفوائد وما إلى ذلك- كهدف أساسي للاستثمار.
تأتي قناعتي بأننا تجاوزنا الرأسمالية من ملاحظة بسيطة جدًا: إن فتحت موقع «أمازون»، ستلاحظ أنه ليس سوقًا، بل إقطاعية رقمية أو سحابية؛ فهي تتشارك سمات معينة مع الإقطاعيات القديمة: ثمة حصون تحيط بها و«سيد» واحد يملكها وهكذا. ولكن على العكس من الهياكل ما قبل الحديثة التي اعتمدت على الأرض والأسوار البسيطة، فإن الإقطاعيات السحابية مبنية على رأس المال السحابي وتُدار بنظام تخطيط اقتصادي متقدم – أي الخوارزمية التي كانت ستكون حلمًا بالنسبة للغوسبلان، وهي وزارة التخطيط الحكومية السوفييتية.
علينا أن تذكر أن علم السيبرانية قد جرى تطويره في الاتحاد السوفييتي، إذ استخدموا مصطلح «الخوارزمية» للإشارة إلى آلية سيبرانية تهدف إلى استبدال الأسواق بمنهجية مختلفة لمواءمة الاحتياجات مع الموارد. ربما لو امتلكت الغوسبلان تطورًا تكنولوجيًا يعادل خوارزمية «أمازون»، لكان الاتحاد السوفييتي قصة نجاح طويلة الأمد. لكن الخوارزميات اليوم لا تُستخدم للتخطيط لصالح المجتمع ككل، بل لتعظيم الريوع السحابية لمُلاكها. إن عملية إعادة إنتاج رأس المال السحابي وما ينتج عنها من إقطاعيات سحابية، لا تدمر فقط المنافسة السوقية، بل الأسواق نفسها أيضًا. وهكذا يُستحوَذُ على فائض القيمة المُنتَجُ في القطاع الرأسمالي التقليدي (كما في المصانع وما شابه) كريع سحابي من قبل مالكي رأس المال السحابي. ونتيجة ذلك يجري تهميش الربح، ويصبح تراكم الثروة معتمدًا بشكل متزايد على استخراج الريع السحابي.
تقول إنه في حين أن الرأسمالية تُسلِعُ العمل، يعمل الإقطاع التكنولوجي على نزع تسليعه. وبذلك يمكن القول إن شركات التكنولوجيا الكبرى تعتمد على الاستغلال الحاصل خارج سوق العمل، إذ تستبدل العمل المأجور بجمع البيانات. لكن أليس ممكنًا أن يقول منظرو إعادة الإنتاج الاجتماعي إن الرأسمالية لطالما فعلت شيئًا مشابهًا، أي استخلاص القيمة من أشكال العمل غير المدفوع؟
صحيح أن أعمال الرعاية غير المدفوعة لطالما كانت جزءًا أساسيًا من الرأسمالية. ولكن عندما أقول إن رأس المال السحابي يعمل على نزع التسليع عن أشكال العمل المدفوع سابقًا، فأنا أتحدث عن شيء مختلف بشكل جوهري. هنا، يُنتِجُ العمل غير المدفوع وغير المأجور بشكلٍ مباشرٍ رأسمال بطريقة غير مسبوقة؛ فمقدمة الرعاية التي لا تتلقى أجرًا بسبب النظام الأبوي تعمل على تسهيل توزيع فائض القيمة في النظام الاقتصادي، لكنها لا تُنتِجُ رأسمالٍ بشكل مباشر؛ ففي ظل الرأسمالية، يُنتَجُ رأس المال حصرًا من خلال العمل المأجور. فإن أراد صناعيٌ يعمل في المنسوجاتٍ محركًا بخاريًا، عليه الذهاب إلى جيمس واط ليطلب منه واحدًا، وعلى واط أن يدفع للعمال الذين صنعوه مبلغًا كافيًا لقاء عملهم. لكن في شركة مثل «ميتا»، جزء كبير من رأسمالها لا يُنتَجُ فقط من خلال موظفيها، بل عبر مستخدميها في المجتمع عمومًا، أي من خلال أناس لا يدفع لهم، مثل أقنان سحابيين معاصرين يتقاطعون مع خوارزميتها ويبدأون بالعمل المجاني لتعزيز قدرتها على جذب المزيد من الأقنان السحابيين. ولهذا السبب أقول إن رأس المال السحابي يمثل طفرة في طبيعة رأس المال؛ إذ تحول إلى نوع جديد لم يعد وسيلة إنتاج جرى إنتاجها، وذلك لأول مرة في التاريخ. بل أصبح وسيلة لتعديل السلوك، تُنتَجُ في الغالب، إن لم يكن كليًا، من خلال عمل غير مدفوع الأجر.
تميل فرضية الإقطاع التكنولوجي إلى اعتبار الريوع والأرباح في حالة تعارض هيكلي: إذ تحلُ الأولى محل الثانية، مما يستبدل الديناميكية الرأسمالية والابتكار بالركود والاحتكار. لكن ماركس أظهر أن البحث عن الريع لا يُلغي دائمًا مكاسب الإنتاجية؛ بل على العكس، في الفترة المبكرة من الرأسمالية، دفع ذلك الرأسماليين إلى تطوير القوى الإنتاجية. هل من الممكن أن يؤدي الريع السحابي، بطريقة مشابهة، إلى استعادة الربحية الرأسمالية بدلًا من خنقها؟ ماذا لو كانت العلاقة بينهما أقٌل عدائية مما تفترض؟
أدرك ماركس أن السعي وراء الريع يمكن أن يدفع إلى التطور، لكنه اتفق مع ريكاردو على أنه إذا تجاوز الريع كنسبة من الدخل الإجمالي عتبة معينة، فإنه يصبح عائقًا أمام النمو الرأسمالي. واليوم، الريوع السحابية مرتفعة للغاية إلى حد تسببها بمثل هذا التأثير. في الواقع، أعتقد أنه إذا استَبْعَدتَ الشركات المُدرجة في الأسواق الرأسمالية التي تعتمدُ على الريع السحابي من سوق الأسهم، فإن قيمته ستنهار. خذ «أمازون» مثالًا، التي تستحوذ على ما يصل إلى 40% من سعر المنتج المُباع على منصتها، ما يترك القليل جدًا من الفائض للبائع لإعادة استثماره. عند سحبِ هذا الكم الهائل من الريع من الاقتصاد، ومن التدفق الدوري للدخل، فإن القطاع الرأسمالي يُحرم من الموارد ويُصبح بشكل متزايد خاضعًا لقطاع الريع السحابي. وهذا لا يعني أن القطاع الرأسمالي لم يعد موجودًا؛ فهو لا يزال مسؤولًا عن فائض القيمة التي تُنتَجُ في الاقتصاد، وذلك وفقًا لنظرية قيمة العمل. لكن حجمه صغير نسبيًا مقارنة بهذا الكائن الطفيلي سريع النمو، الذي أصبح ضخمًا لدرجة أن الكم تحولت إلى نوع، وبالتالي تغير النظام بأكمله.
تتمركز معظم الاحتكارات الفكرية -أي الذين يملكون البنى التحتية الرقمية التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي- في الولايات المتحدة. وهذا قد يعتبر دليلًا على أن الإمبراطورية الأمريكية لا تزال في حالة جيدة، بالرغم من الحديث عن نشوء نظام عالمي متعدد الأقطاب. لكنك تشير إلى أن الصين حققت شيئًا لم يستطع «وادي السيليكون» تحقيقه؛ وهو الدمج الناجح لرأس المال السحابي مع قطاعات أخرى من الشركات المالية الكبرى. ما هي تداعيات ذلك على الحرب الباردة الجديدة بين القوتين؟
أعتقد أن ما نعيشه اليوم هو نظام ثنائي القطب، وهذا ليس ما تريده الصين. الأمر المدهش بشأن «الحزب الشيوعي الصيني» هو أنه لا يرغب حقًا في حكم العالم، ولا حتى أن يكون قطبًا مهيمنًا ثانيًا ينافس الأول. ما يريدونه هو حكم الصين -بالإضافة إلى مناطق أخرى يشعرون أنهم فقدوها، مثل هونغ كونغ وتايوان- والتجارة بحرية مع الدول الأخرى. هم يرغبون بصدق في عالم متعدد الأقطاب، يتقاسمون فيه السلطة مع شركائهم التجاريين. لكن المشكلة هي أن لديهم طريقة واحدة فقط لتحقيق ذلك؛ وهي استخدام قطاعهم التكنولوجي بالتعاون مع الشركات المالية الكبرى لإنشاء نظام مشابه لنظام «بريتون وودز» ضمن دول «البريكس». وهذا النظام سيتضمن أسعار صرف ثابتة، وبشكل أساسي وجود عملة مشتركة مدعومة باليوان الصيني. وذلك سيكون مشروعًا كبيرًا يعادل برامج «الصفقة الجديدة» الأمريكية التي خططت للنظام العالمي في «مؤتمر بريتون وودز» عام 1944. لكن بقية دول «البريكس» ليست مستعدة لذلك، وذلك واضح من التوترات الكبيرة بين الهند والصين. والكثير من دول الجنوب العالمي ليست مستعدة لهذا النوع من التعددية القطبية أيضًا، وحتى القيادة الصينية نفسها مترددة جدًا. لكن إذا لم يبدأوا بالدفع في هذا الاتجاه، فسوف يظلون عالقين في عالم ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين، مع كل المخاطر التي ينطوي عليها ذلك.
لكن ألا يهدد النموذج الصيني، القائم على نظام سوق تؤدي فيه الدولة دورًا نشطًا في توجيه وتخصيص الاستثمار، الافتراض بأن شركات التكنولوجيا الكبرى هي الآن القوة المهيمنة في تخطيط الاقتصاد؟ يبدو ممكنًا، نظريًا على الأقل، أنه في ظل مواجهة الدول الغربية لآثار الركود الاقتصادي وأزمة المناخ، فإنها ستتجه بشكل أكبر للبحث عن حلول دولتية-جديدة تمنح للدولة دورًا أكبر في تخطيط الاقتصاد. ماذا يعني هذا للريعية-السحابية؟
أؤمن بشدة أننا نقلل من دور الدولة في الدول الغربية، ونبالغ في تقديره في الصين. كشفت لي رحلتي الأخيرة إلى الصين أن الكثير من الأفكار الجريئة بشأن تصدير القيم والنفوذ الصيني تأتي من القطاع الخاص، بينما الدولة نفسها أكثر ترددًا. اللافت أيضًا أن معظم الماركسيين موجودون في القطاع الخاص، بالرغم من أن عددهم ليس كبيرًا. أما في الولايات المتحدة، فإن شخصيات مثل إريك شميدت [المدير التنفيذي السابق لـ«غوغل»] وبيرت ثيل [مؤسس «باي بال»] متداخلة تمامًا مع الدولة، في البنتاغون وفي المجمع الصناعي الدوائي. نشر جوليان أسانج كتابًا صغيرًا بعنوان «عندما التقت غوغل بويكيليكس» عندما كان لا يزال في سفارة الإكوادور، أوصي الجميع بقراءته. الكتاب عبارة عن حوار بينه وبين شميدت، واللافت فيه أنه عندما يتحدث شميدت، من المستحيل معرفة ما إذا كان يتحدث كوكيلٍ لـ«غوغل» أم للدولة الأمريكية. ولذلك أعتقد أن فكرة أن الدولة منفصلة عن السوق في الغرب، وأنه ربما حان الوقت لتؤدي دورًا أكبر، هي خيال ليبرالي. لم يكن ممكنًا أبدًا الفصل بينهما. وإذا نظرت عن كثب إلى أشكال التقارب بينهما، في كل من الشرق والغرب، ستجد درجة ملحوظة من التشابه.
عندما اشترى إيلون ماسك «تويتر»، كتبت أن ذلك محاولة للانضمام إلى الدائرة الذهبية لمُلاك الريوع السحابية. هل ينطبق الأمر نفسه على دخوله عالم السياسة؟ وهل يعني ذلك، كما تكهن بعض النقاد، أن النخبة الحاكمة الأمريكية أصبحت بحاجة لشراء الوصول إلى أدوات السلطة السياسية لضمان عوائدها؟
لا أعتقد أن ذلك ضروري تمامًا لهم. جيف بيزوس، على سبيل المثال، لا يفعل ذلك. بل يستخدم قنوات أخرى للتأثير مثل صحيفة الواشنطن بوست. وحتى قيادة «غوغل»، وبالرغم من أنها قد تخسر كثيرًا إذا حاولت لجنة التجارة الفيدرالية تنظيم أعمالها، لا تراها تبذل جهدًا كبيرًا للدخول إلى السياسة.
لكن ماسك يختلف في أمرين؛ أولًا: أنه نرجسي ومصاب بجنون العظمة، وغالبًا ما لا تستند قراراته إلى مصالح مادية واضحة. ثانيًا، أن سيطرته على رأس المال السحابي ضعيفة نسبيًا. معظم أعماله –مثل «تسلا» و«نيورالينك» و«ذا بورينغ كومباني»- هي شركات رأسمالية تقليدية. وللمفارقة، حتى «سبيس إكس» بُنِيَت على رأس مال تقليدي أرضي. وقد كان هدفه تحويل هذه الشركات إلى مؤسسات قائمة على رأس المال السحابي، وهذا هو السبب في شرائه لـ«تويتر»: ليس كاستثمار تقليدي لتحقيق الأرباح، بل كواجهة تفاعلية معك، ومعي، ومعنا جميعًا؛ واجهة كانت بحوزة الآخرين ولم تكن لديه. لقد تمكن من الاستحواذ عليها بطريقة فظة، وفقدت الشركة نصف قيمتها السوقية فورًا. لكن هذا أمر نموذجي بالنسبة لماسك: هناك لحظات ترتفع فيها القيمة السوقية لأعماله إلى أقصى مدى، ولحظات تبدو فيها وكأنها على وشك خسارة كل قيمتها.
أما ارتباطه بإدارة ترامب -وأنا متأكد أنه لن ينتهي بشكل جيد- فهو جزئيًا بسبب رغبته في الحصول على بعض الامتيازات. على سبيل المثال، تخفيف اللوائح المتعلقة بالسيارات ذاتية القيادة أدى في يوم واحد إلى زيادة القيمة السوقية لـ«تسلا» بما يعادل الإجمالي الكامل للقيمة السوقية لـ«جنرال موتورز» و«فولكسفاغن» و«ستيلانتيس» و«مرسيدس بنز». وهذا عائد جيد بالنسبة له، لكنه ليس السبب الوحيد. فهو مدفوع أيضًا بالأيديولوجيا: على العكس من بيزوس أو غيتس، يؤمن ماسك فعلًا بأنه قوة خيرة، وهذا مستوى استثنائي من التوهم.