نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة Unherd في 24 نيسان 2023.
إن أهم عامل في الجدل الدائر حول جدوى العقوبات الغربية على روسيا هو العامل الأكثر تجاهلًا في الآن ذاته. غالبًا ما ينطوي نظام العقوبات على قيود استخدمت من قبل، مثل حظر التصدير وتجميد أصول بعينها. حتى استبعاد البنوك الروسية من نظام سويفت للاتصالات المالية العالمية بين البنوك، الذي أثار كثيرًا من الجدل، لا يعد أمرًا استثنائيًا، إذ سبق استخدامه في العقوبات الموجهة ضد إيران.
غير أن تجميد احتياطات النقد الأجنبي لروسيا، البالغة 300 مليار دولار -أي حوالي نصف إجمالي احتياطياتها- كان أمرًا جسيمًا. ورغم أن الولايات المتحدة أوقعت عقوبات مماثلة تجاه أفغانستان وإيران وسوريا وفنزويلا، لم تكن أي منها بقوة روسيا: فهي عضو في مجموعة العشرين، وأكبر قوة نووية في العالم [من حيث عدد الرؤوس النووية]. كذلك، لم يكن أي من البنوك الأساسية الـ63 الأعضاء في بنك التسويات الدولية (BIS) في بازل –المعروف بالبنك المركزي للبنوك المركزية- هدفًا للعقوبات المالية قط، حتى خلال الحرب العالمية الثانية.
لم يحظَ القرار، آنذاك، سوى باهتمام ضئيل نسبيًا. ومع ذلك، سيراه مؤرخو المستقبل بوصفه المحفز الذي ولّد أكبر تأثير لكرة الثلج تاريخيًا، وهو التأثير الذي يهدد صلب أسس الإمبراطورية الأمريكية حاليًا.
في عصر النقد الائتماني الذي نحياه، لا يُحتفظ بالاحتياطات على شكل دولارات ملموسة (أو أي عملة أخرى) مخبأة في خزائن البنوك المركزية الأجنبية. إنها سندات دين بسيطة؛ دين مسجل في كشوف حسابات الاحتياط الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى. الثقة أمر أساسي في التعاملات بين الدول، تمامًا مثلما هو الحال في التعاملات بين الأفراد أو الشركات والبنوك التجارية: فكما أنك لن تودع راتبك قط في بنك ترتابك منه أقل المخاوف من احتمال تجميد أموالك أو مصادرتها، كذلك الأمر بالنسبة للدول، حيث لا ترغب أي دولة بالاحتفاظ باحتياطات قد تُنتزع في أي لحظة.
لذا، فإن هذه الخطوة تعدّ انتهاكًا لمبدأ شبه مقدس: أي حياد الاحتياطات الدولية. لقد جاءت الرسالة جلية: من الآن فصاعدًا، لن يعيق أي شيء الولايات المتحدة من معاقبة الدول التي حادت عن الطريق أو تحدّت الإملاءات الغربية. وإن كان ذلك قد حدث لروسيا، القوة الكبرى التي كانت احتياطات بنكها المركزي تأتي غالبًا من مبيعاتها للغرب، فإنه وارد الحدوث لأي دولة أخرى. كما كتب فولفغانغ مونشاو، فإن الولايات المتحدة وعبر تحويلها الاحتياطات الدولية لسلاح، قد «قامت بأكبر مقامرة شهدها تاريخ الحرب الاقتصادية». بضربة واحدة، كما يقول، قامت الولايات المتحدة «بتقويض الثقة بالدولار الأمريكي الذي يعدّ العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم»، وحثت الصين وروسيا على «الالتفاف على البنية التحتية المالية الغربية». وبالنسبة للدول غير الغربية -خاصة الصين، المعرضة بشدة لخطر الأصول الأمريكية- فإن فك ارتباطها بالدولار، وبصورة أكثر عمومًا انفصالها عن النظام النقدي والمالي الذي تقوده الولايات المتحدة، قد اكتسب ضرورة ملحة مفاجئة.
كان جليًا أن نزع الدولرة لم يكن ليحدث بين عشية وضحاها، لكن عجلة التاريخ آخذة بالحركة. لم يكن عرضًا ألا تنضم غالبية دول العالم للغرب في العقوبات القاسية التي وجهها لروسيا، بل شرعت بهدوء بتقوية صلاتها مع روسيا والصين، سعيًا لتقليل اعتمادها على النظام المرتكز على الدولار. خلال ما يزيد عن 12 شهرًا فحسب، شهد العالم تحولاً تكتونيًا أشد، من الناحية الجيوسياسية، مما شهده خلال عقود: فالنظام العالمي الما بعد غربي الذي طال التبشير به -والذي يضم دول البريكس وعشرات الدول الأخرى التي تضم معظم سكان الأرض- قد أصبح واقعًا ملموسًا في نهاية الأمر. وكما صرح مؤخرًا وزير الخزانة الأمريكي السابق، لاري سامرز، فإن الولايات المتحدة قد أصبحت أشد وحدةً من أي وقتٍ مضى.
يتمثل أحد المحركات الأساسية لهذه الصيرورة في فك ارتباط العالم التدريجي بالدولار. منذ الستينيات، طُرحت مرارًا -وعلى نحوٍ خاطئ- توقعات بانحدار الدولار، لذا فإن الشكوك هنا لها مبرراتها. غير أن هناك سببًا وجيهًا، هذه المرة، للاعتقاد بأنه يحدث بالفعل. يتخذ نزع الدولرة عدة صور، لكن من اليسير تعيين ثلاثة منها على وجه الخصوص: تسوية العمليات الدولية بعملات غير الدولار، في مقدمتها اليوان الصيني؛ خفض حصة الدولار من احتياطات العالمية من النقد الأجنبي؛ وتراجع الحيازات الأجنبية من سندات الخزانة الأمريكية.
مما لا ريب فيه أن هيمنة الدولار قد جرت النفع على النخبة الإمبريالية الأمريكية، من خلال اجتذاب رأس المال للولايات المتحدة وتمكينه من مساعدتها على الحصول على السلع الأجنبية كالنفط، ببساطة من خلال طباعة عملتها الخاصة.
على كافة هذه الأصعدة، يبدو التوجه واضحًا. فيما يتعلق بالمدفوعات الدولية، تعزز دور اليوان (وغيره من العملات) بصورة هائلة في غضون العام المنصرم. وروسيا أبرز مثال على ذلك، حيث أُجبرت بالفعل نتيجة للعقوبات الغربية على تبني اليوان في معظم تعاملاتها الدولية. لكن عدة دول كبيرة أخرى -بما فيها البرازيل، والأرجنتين، وباكستان، وبنغلادش- وافقت بالفعل على استخدام اليوان أو عملاتها المحلية لتسوية تعاملاتها الدولية (أو ما تزال تفاوض بهذا الاتجاه). وفي غضون ذلك، تعمل دول البريكس كذلك على تطوير عملة دولية على غرار البانكور، العملة الحسابية البديلة التي اقترحها كينز قبل 70 عامًا، ولاقت رفضًا من الأمريكيين الذين جنحوا لصالح نظام مرتكزٍ على دولارهم.
بالابتعاد عن دول البريكس، نجد أن الاهتمام بنزع الدولرة -أو على الأقل استخدام العملات المحلية بصورةٍ أكبر- آخذ في الزيادة كذلك، خاصةً في الخليج، الذي كانت الولايات المتحدة فيما مضى تحظى فيه بقوةٍ استراتيجية عز نظيرها. ففي أول قمة ضمت دول مجلس التعاون الخليجي والصين في كانون الأول الماضي، تم التوصل إلى توافق يقضي باستخدام اليوان في تجارة النفط والغاز. وفي آذار الماضي، أجرت الصين والإمارات العربية المتحدة أول عملية تبادل باليوان.
بالنظر إلى بنية احتياطات العملة العالمية، قد يبدو التحول نحو نزع الدولرة أقل وضوحًا، غير أنه يحدث. قد يعتقد البعض بأن الدولار ما زال مُهيمنًا على احتياطيات العملات العالمية، بنسبة تصل إلى 60% من إجمالي الاحتياطيات، بينما اليوان يمثل نسبة أقل من 3%. غير أن اللقطات الثابتة للحاضر، ليست ذات جدوى كبيرة، رغم صحتها، في التكهن بخبايا القادم. وفقًا للميول الراهنة، فإن حصة الدولار من العملات الاحتياطية آخذة بالانكماش بسرعة تمثل عشرة أضعاف متوسط سرعتها خلال العقدين الماضيين. وتنحو البنوك المركزية نحو التخلي عن الدولار مقابل الذهب، في حين أن الدائنين الأجانب -كالصين واليابان والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص- يبيعون ممتلكاتهم من سندات الخزانة الأمريكية على نحو متزايد.
نظرًا لهذا التقدم في نزع الدولرة، بدأت العديد من المؤسسات السياسية الغربية بالاعتراف بأن هذه المرة مختلفة عمّا مضى. فعلى سبيل المثال، صرحت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، في نيسان بأن توظيف الدولار كسلاح عبر استخدام العقوبات الاقتصادية يشكل تهديدًا بتقويض هيمنته من خلال دفع الدول للبحث عن بديل غيره، حتى وإن لم يكن تفوقه عرضة لأي خطر في القريب العاجل. بعدها بيومين فقط، أدلت كريستين لادغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، ببيان مشابه أقرت فيه بوجود «فرصة لبعض الدول الساعية لتقليل اعتمادها على أنظمة الدفع الغربية وأُطر عملاتها». وأكدت على أن هذه التغييرات لا ترقى لأن تكون بمثابة «خسارة وشيكة لهيمنة الدولار الأمريكي أو اليورو»، غير أنها «تشير إلى أنه ما عاد ينبغي النظر إلى وضع العملة الدولية بوصفه أمرًا مُسلمًا به». وبالتالي، لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان نزع الدولرة سيحدث أم لا، بل بأي سرعة سيحدث.
ورغم ذلك، ما يزال المشككون بذلك يحاججون بأن هناك عقبات تقنية ومؤسسية مرتبطة بتراجع الدولار لا يمكن تذليلها. إذ يشيرون، مثلًا ، إلى وجود وفورات حجم تفضي إلى احتكار نسبي في وضع العملة الاحتياطية، وبأن اليوان الصيني ليس بمقدوره أن يكون عملة احتياطية فعلية ما لم تُلغى ضوابط رأس المال تدريجيًا وما لم يكن سعر الصرف أكثر مرونة. إضافة لذلك، فهم يحاججون بأن بلد العملة الاحتياطية عليه القبول بعجوزات الحساب الجاري -كما هو حال الولايات المتحدة- بغية تلبية الطلب العالمي على عملته.
لذا، فإن هناك حاجة لإحداث تغييرات جذرية في الأسواق المالية والسياسات النقدية والاقتصادية الصينية لكي يستبدل اليوان الدولار. هذه دعاوى مشروعة، إلا أنه يعوزها نقطة رئيسية: صيرورة إلغاء الدولرة في أساسها ذات طبيعة جيوسياسية لا اقتصادية. فالأمر غير مقتصر على إيجاد نظام «فعال» فحسب، بل يتعلق بتحدي الهيمنة النقدية الغربية. أضف إلى ذلك، فإن إلغاء الدولرة لا يعني بالضرورة إحلال اليوان مكان الدولار، بل يعني توزيع الأصول الاحتياطية بين عددٍ من العملات الرئيسية، والأصول الأخرى، مثل سلع كالذهب.
إن من شأن إنهاء هذه الهيمنة أن تحول أمريكا إلى دولة «طبيعية» إلى حدٍ ما: قوة إقليمية بين قوى إقليمية أخرى.
لن يكون هذا بالأمر السيء. فالاعتمادية العالمية على الدولار تجعل الاقتصادات عرضة للتغيرات في السياسات النقدية للولايات المتحدة بشكل مفرط، مع وجود فترات من التيسير النقدي أو التشديد النقدي، كما هو الحال الآن، وهو ما له تبعات دراماتيكية على بقية العالم. كما لن يكون هذا الوضع الجديد سلبيًا بالكامل بالنسبة لأميركا. فكما يحاجج مايكل بيتيس وماثيو كلاين، فإن النظام المالي والنقدي الدولي لا يُألب مصالح الدول مع بعضها بقدر ما يُألب بين مصالح قطاعات اقتصادية معينة وقطاعات اقتصادية أخرى. بتعبير آخر، ليست الولايات المتحدة ككل المستفيدة من هيمنة الدولار، بل فئات بعينها داخلها.
مما لا ريب فيه أن هيمنة الدولار قد جرت النفع على النخبة الإمبريالية الأمريكية، من خلال اجتذاب رأس المال للولايات المتحدة وتمكينه من مساعدتها على الحصول على السلع الأجنبية كالنفط، ببساطة من خلال طباعة عملتها الخاصة -وهو ما أطلق عليه فاليري جيسكار ديستان، وزير الاقتصاد في عهد ديغول، اسم «امتياز أمريكا الباهظ». شملت هذه النخب وول ستريت، والشركات العالمية الكبرى، والأهم من ذلك كله، المؤسسة الأمنية القومية. هذا ما مكن الولايات المتحدة من الإبقاء على نظام الحرب الدائمة، إضافة إلى ممارسة الهيمنة المالية على معظم أنحاء العالم.
لكن هذا كان له تكلفة باهظة لم تقتصر على بقية العالم بل امتدت لتطال العمال والمزارعين والمنتجين الأمريكيين والشركات الصغيرة الأمريكية. بالنسبة لأمريكا، فإن دعم العملة الاحتياطية الأولى في العالم عنى عجزًا تجاريًا دائمًا، وهو ما أفضى إلى تآكل خطر في قدراتها الصناعية والتحويلية، وكذلك قدرتها على توفير وظائف بأجور مُجزية للقوى العاملة فيها، وهو ما يطلق عليه بيتيس اسم «العبء الباهظ» للدولار. بالتالي، فإن من شأن إنهاء هذه الهيمنة أن تحول أمريكا إلى دولة «طبيعية» إلى حدٍ ما: قوة إقليمية بين قوى إقليمية أخرى. وعلى الصعيدين العالمي وداخل أمريكا، فإن هذا من شأنه أن يعود فعليًا على الجميع بالنفع. في واقع الأمر، فإن الخاسر الوحيد سيكون أولئك الذين كان لديهم متسعٌ من الوقت لإثراء أنفسهم.