من يستفيد من تغييب الحكومة اللبنانية؟

الأحد 28 تشرين الثاني 2021
لبناني مسنّ يقف عند باب صيدلية مغلقة
لبناني عند باب صيدلية أغلقت أبوابها خلال إضراب شامل للصيدليات احتجاجًا على نقص الأدوية، صيدا، تموز 2021. تصوير محمود الزيات.

منذ 12 تشرين الأول الماضي، لم تعقد الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي اجتماعًا رسميًا واحدًا لمناقشة البنود المتراكمة على جدول أعمالها، والتي تجاوز عددها مئة بند حتى اللحظة، وهي بنود يتصل أغلبها بملفات الانهيار الاقتصادي الحسّاسة. ورغم جميع تصريحات رئيسيْ الجمهورية والحكومة عن ضرورة تفعيل الحكومة وعودة انعقاد جلساتها، وبالرغم من تكرار الوعود بعقد جلسة رسمية قريبة لمجلس الوزراء، لا يبدو أن ثمّة تسوية سياسية قريبة قادرة على معالجة هذه المسألة. ببساطة، حكومة ميقاتي التي نالت ثقة المجلس النيابي في 22 أيلول الفائت، لم تعمل كفريق عمل متجانس إلا لمدة 22 يومًا فقط، قبل أن تغيب عن المشهد كليًا وتعود البلاد إلى مرحلة شلل السلطة التنفيذيّة. 

قبل تشكيل هذه الحكومة، عاش لبنان ثلاثة عشر شهرًا من الفراغ الحكومي، بعد أن استقالت حكومة حسّان دياب إثر انفجار المرفأ في آب 2020، واستمرّت بتصريف الأعمال منذ ذلك الوقت دون عقد جلسات رسمية لتعذّر تشكيل حكومة جديدة. بمعنى آخر، ما تعيشه البلاد اليوم من شلل في عمل المؤسسات الدستوريّة، وغيابٍ للقيادة السياسية القادرة على المبادرة والتعامل مع الملفات المعيشية الداهمة، لم يكن حالة استجدّت مؤخرًا على المشهدين السياسي والاقتصادي. بل على العكس تمامًا، تطبّعت الحياة السياسية اللبنانية مع هذا الواقع منذ صيف العام الماضي، رغم كل ما يحمله من تداعيات مدمّرة على الاقتصاد اللبناني المنهار. 

في الشكل، يرتبط غياب الحكومة عن المشهد السياسي اليوم بالخلافات بين أقطابها حول ملفين داهمين: مسألة التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، وملف الأزمة الدبلوماسية المستجدّة بين لبنان ومجموعة من الدول الخليجية، على خلفية تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي. وفي النتيجة، أدّى توقف العمل الحكومي إلى فرملة عدد كبير من المعالجات التي استهدفت التعامل مع المشاكل المعيشية اليومية للمقيمين في لبنان في ظل الأزمة، وخصوصًا تلك المرتبطة بشبكات الحماية الاجتماعية وآليات دعم الشرائح الأكثر هشاشة. 

لكن في الوقت نفسه، سمح غياب الحكومة عن المشهد بإعطاء هامش لفِرق العمل واللجان الاستشارية، للعمل في الظل من أجل تعديل خطة التعافي المالية التي سيعتمدها لبنان في مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي. باختصار، بات بإمكان هذه الأطراف العمل على عدد هائل من المقترحات والأفكار والمشاريع التي سيتم ضمّها إلى الخطة، دون مناقشة تفاصيلها بشفافية على طاولة مجلس الوزراء وأمام الرأي العام. على أن يتم المصادقة لاحقًا على الخطة الكاملة دفعة واحدة بعد إنجاز التفاهم مع الصندوق، ودون الاضطرار إلى الخوض في تفاصيل الخطط الفرعية والمشاريع المتعلقة بكل قطاع على حدة، ودون مناقشة نوعية المصالح التي تخدمها هذه الأفكار بشكل صريح وعلني. 

في العادة، كان يتم العمل على هذا النوع من المشاريع المتعلقة بكل قطاع عبر لجان وزاريّة متخصصة، بعد مناقشة خطوطها العريضة على طاولة مجلس الوزراء وإقرارها كخطط قطاعيّة فرعية، ومن خلال مقرّرات واضحة يتم تداولها عبر وسائل الإعلام، تمامًا كما جرى في خطة الكهرباء السابقة العام الماضي. أما اليوم، فباتت هذه الخطط الفرعية تُنجز ضمن خطة التعافي المالية الشاملة التي يتم التفاوض عليها مع صندوق النقد، وسيكون على لبنان تبنّي هذه المشاريع كأمر واقع بمجرد التفاهم مع الصندوق على الخطة، لتفادي عرقلة القرض المنتظر من الصندوق. 

أمّا هذه المشاريع التي يتم العمل عليها بعيدًا عن طاولة مجلس الوزراء، فتصب في خانة الاتجاه نحو الخصخصة كبابٍ أساسي من أبواب التعامل مع خسائر الانهيار المالي القائم، في مقابل تقليص قدر الخسائر الذي سيحمله كبار النافذين في النظام المالي اللبناني. بمعنى آخر، جميع تعديلات خطة التعافي المالية التي يتم العمل عليها اليوم عادت إلى فكرة تحميل الأموال العامة كلفة إفلاس القطاع المصرفي، وهو ما حذّر منه كثيرون منذ حصول الأزمة. 

تفاؤل ثم خيبة وتداعيات قاسية

في منتصف آب الماضي، وقبل أن يدخل أقطاب الحكم مسار تشكيل الحكومة الحالية، كان سعر صرف الليرة اللبنانية في السوق الموازية قد ارتفع ليلامس مستوى 21 ألف ليرة مقابل الدولار. وبمجرد إصدار مراسيم تشكيل حكومة ميقاتي، ومن ثم إعطائها الثقة في المجلس النيابي، انخفض سعر الصرف إلى مستويات لامست حدود 13,700 ليرة مقابل الدولار في منتصف شهر أيلول، بفعل التفاؤل الذي أحاط بتشكيل الحكومة الجديدة، وقدرتها على تحريك جميع الملفات العالقة منذ استقالة الحكومة السابقة.

لم تقتصر تداعيات تعثّر الحكومة على سعر الصرف وارتفاع الأسعار، بل وصلت إلى قطاع النقل العام ودعم الأسر المحدودة الدخل.

اليوم، وبفعل تداعيات فشل الحكومة وتعثّرها، عادت الليرة إلى تسجيل انخفاضات تدريجية قاسية، وصولًا إلى مستويات تجاوزت حدود 23 ألف ليرة مقابل الدولار، وهو ما يعني أن العملة المحلية سجلت تراجعًا بنسبة 67% مقارنةً بمستوياتها السابقة منتصف شهر أيلول. ومع هذا التدهور السريع في قيمة الليرة، بدأت ترتفع بالتوازي أسعار جميع السلع الأساسية التي بات تسعيرها مرتبطًا بسعر الدولار النقدي، منذ أن تم رفع الدعم بشكل تام عنها في شهر أيلول الماضي، وتم التخلّص من أسعار الصرف المدعومة المعتمدة لاستيرادها، باستثناء القمح وبعض أصناف الأدوية القليلة. وعلى هذا النحو مثلًا، ارتفع سعر صفيحة البنزين في السوق المحلي لتوازي سبعة أضعاف سعرها في بداية الصيف الماضي، نتيجة تقاطع عامليْ تدهور سعر الصرف ورفع الدعم عن هذه المادة.

على أي حال، لم تقتصر تداعيات تعثّر الحكومة في الملفات المعيشيّة على تدهور سعر الصرف، والقفزات التي شهدتها أسعار السلع الأساسية نتيجة هذا التدهور بالتزامن مع رفع الدعم. فعمليًا، كان من المفترض أن تصدر الحكومة بطاقة تمويلية خاصّة لدعم الأسر المحدودة الدخل في هذه المرحلة بالتحديد، لتكون إحدى آليات الدعم البديلة التي تحل مكان أسعار الصرف المدعومة التي تم اعتمادها لاستيراد السلع الأساسية. كما نصّت خطة البطاقة -بحسب القانون الذي أعدّه المجلس النيابي لهذه الغاية- على تخصيص مبالغ نقدية لهذه الأسر وفقًا لحجمها، بحيث يمكن استخدامها لشراء السلع الأساسية من السوق مباشرة. 

لكن وحتى بعد رفع الدعم عن استيراد السلع الأساسية، لم تبصر البطاقة التمويلية النور حتى اليوم، نتيجة فقدان التمويل اللازم لها، وعدم تحضير الحكومة أي خطة من شأنها تأمين هذا التمويل خلال المرحلة المقبلة. وبالرغم من رهان الحكومة سابقًا على قروض معينة من البنك الدولي لتأمين السيولة الخاصة بالبطاقة، تعثّر هذا المسعى لاحقًا نظرًا لعدم وضع الدولة اللبنانية الآليات التطبيقية اللازمة لهذا المشروع، بما يتناسب مع الشروط التي وضعها البنك. أما الإشكالية الأخرى، فتكمن في ضرورة إدراج كلفة البطاقة نفسها ضمن الموازنة العامّة التي تضعها الحكومة، والتي تحدد كامل نفقات الدولة وإيراداتها المتوقعة، وهو ما تعذّر القيام به نتيجة تطيير جلسات مجلس الوزراء. مع الإشارة إلى أن وضع هذه الموازنة يحتاج إلى مسار قانوني ودستوري طويل بالتنسيق مع جميع الوزارات، وهذا المسار لم يبدأ حتى اللحظة، في حين أن البنك الدولي اشترط إنجازه قبل تقديم الدعم المالي للبطاقة التمويليّة.

وعلى هذا النحو، تفرملت جميع المعالجات التي كان يفترض أن تعمل عليها الحكومة في هذه المرحلة بالتحديد، كإيجاد الحلول اللازمة لأزمة النقل، التي ظهرت مؤخرًا بالتوازي مع ارتفاع أسعار المحروقات وتعثر قطاع النقل العام، وعدم قدرة الأسر اللبنانية على تغطية تكاليف النقل بالسيارات الخاصة. كما توقفت مساعي الحكومة للتفاهم مع حملة سندات الدين السيادي في الخارج، للتوصل إلى صيغة لإعادة هيكلة الدين العام. ثم تُركت أكثر الملفات حساسية دون متابعة، كقضية إقفال الإدارات الرسميّة في معظم أيام الأسبوع لعدم قدرة الموظفين على تغطية كلفة النقل باتجاه أعمالهم، أو الانقطاعات المتكررة في شبكتي الخليوي والإنترنت، نتيجة شح المحروقات أو أزمات تمويل هذه القطاعات.  

خطط في الظل

في الوقت الذي تعاني فيه الغالبية الساحقة من المقيمين من فشل الحكومة وتعثرها، تستفيد من هذا الواقع فرق العمل الاستشارية المحيطة برئيس الحكومة، لتعمل في الظل على خطط بديلة يمكن إدراجها ضمن الخطة المالية الشاملة للدولة، ليتم تبنّي هذه الطروحات في جلسات التفاوض مع صندوق النقد. وبغياب المناقشات والقرارات العلنية داخل الحكومة، يتمكن هؤلاء من تفادي الدخول في أي سجال بخصوص الفئات النافذة التي تخدمها هذه الخطط.

في المحصّلة، سيتحمّل المودعون والمشتركون في قطاع الكهرباء خسائرَ القطاع المصرفي، فيما ستُخفّض خسائر أصحاب المصارف.

أبرز هذه الخطط، تتعلّق بخصخصة قطاع الكهرباء اللبناني، بما يسمح بتحميل هذه المشاريع جزءًا من خسائر القطاع المصرفي اللبناني، في مقابل تحميل المقيمين كلفة زيادة فواتير الكهرباء. فعلى سبيل المثال، يعمل رئيس الحكومة وفريقه الاستشاري على مقترح يتركّز على السماح بتحويل نحو ستة مليارات دولار من ودائع القطاع المصرفي إلى مساهمات في شركة خاصة تتملك معامل في قطاع الكهرباء، مقابل تحميل المودعين نسبة اقتصاص أو خسارة تصل إلى حدود 75% من قيمة الوديعة. فعلى سبيل المثال، سيكون على المودع الذي يملك حساب بقيمة 100 ألف دولار أن يتحمّل شطب 75 ألف دولار من وديعته بشكل فوري، مقابل أن يتملّك مساهمات في هذه الشركة بقيمة 25 ألف دولار. وبذلك، ستكون هذه الخسارة «ثمنًا» لتحرير أموال المودع العالقة في القطاع المصرفي المتعثّر.

أما بعد تملّك هذه المساهمات، فسيكون على المودع انتظار فترة تصل إلى حدود عشر سنوات لاسترداد قيمة الاستثمار، التي تمثّل ما تبقى من قيمة الوديعة. وفي النتيجة، سيكون على مشتركي قطاع الكهرباء تحمّل ارتفاع قيمة فواتير الكهرباء بنحو 25 مرة بعد رفع الدعم عنها، لتمكين مؤسسة الكهرباء العامة من سداد كلفة هذا الاستثمار.

بهذه الطريقة، ستكون خطة الدولة المالية قد ساهمت في تقليص التزامات القطاع المصرفي بالعملة الصعبة، وهو ما يساهم بدوره في تخفيض الخسارة التي سيحملها في المحصّلة أصحاب المصارف والمساهمون في القطاع. في المقابل، سيكون قد تحمّل كلفة هذه المعالجة المودعون، الذي سيخسرون ثلاث أرباع قيمة ودائعهم للتمكّن من تحصيل الربع الباقي عبر هذا الاستثمار. كما سيكون على المودع تحمّل مخاطر مجازفة من هذا النوع لمدة عقد من الزمان، في قطاع الكهرباء الذي يعاني منذ التسعينيات من حالة تعثر وإفلاس صعبة. أما المشتركون، فسيتحملون أيضًا كلفة العملية عبر زيادة الأسعار التي ستذهب لتمويل بناء المعامل. 

في الواقع، سرعان ما بدأت الجمعيات الأهلية بالتحذير من توجهات مشابهة في قطاعات أخرى، كقطاع الاتصالات، حيث أوحت التوجهات الرسمية الأخيرة بوجود نية مبيّتة لتفليس هذه القطاعات، تمهيدًا لخصخصتها في إطار خطة التعافي المالي المقبلة. مع الإشارة إلى أن قطاع الاتصالات اللبناني يُعتبر أحد القطاعات المربحة تاريخيًا للدولة اللبنانية، وأكثرها قدرة على استقطاب العملة الصعبة من الخارج. 

مصالح خارجيّة

من الناحية العملية، سيكون على فرق العمل الاستشارية صياغة مسوّدات هذه الخطط، وضمّها تدريجيًا إلى الخطة العامة التي سيتم التفاوض عليها مع صندوق النقد، مع الرهان على تمرير الخطة العامة في مجلسي الوزراء والنواب دفعة واحدة، كجزء من التفاهم الذي سيتم عقده مع صندوق النقد الدولي. وعندها، سيتم إقرار المشاريع دون الكثير من المناقشات حول مدرجاتها وتفاصيلها، بدل الدخول في سجال مع الرأي العام حول آثار كل مشروع على الفئات محدودة الدخل، وكيفيّة استهدافه تعويم مصالح المصارف وكبار النافذين في النظامين المالي والسياسي في لبنان. وبالنظر إلى حاجة لبنان الماسّة إلى قرض صندوق النقد، سيكون اللبنانيون عندها أمام الأمر الواقع، وسيكون على لبنان المضي بالخطة التي تم التفاهم عليها مع الصندوق، تحت طائلة خسارة أموال القرض.

أخيرًا، أهم ما في الأمر هو أن هذه الخطط والمشاريع تراهن على استقطاب الدعم الخارجي والغطاء الدولي لخطة الحكومة المالية، عبر تضمينها مشاريع الخصخصة التي تشجّع عليها في العادة حكومات الدول الغربية، خصوصًا كون هذه المشاريع تفتح السوق المحلي أمام الشركات الغربية التي ترغب بالاستثمار في القطاعات الاستراتيجية. وفي المحصلة، سيكون تغييب الحكومة بابًا لطمس الحديث عن كل هذه المسائل، التي كان يفترض أن تُناقش في مجلس الوزراء قبل المضي قدمًا بوضع الخطة المالية الشاملة، وقبل إلزام لبنان بعقود استثمارية خطيرة تمتد لعقود من الزمن.

Leave a Reply

Your email address will not be published.