العودة إلى «مبدأ مونرو» : ملامح السياسة التوسعية الأمريكية الجديدة

الإثنين 13 كانون الثاني 2025
المصدر: مجلة Slate.

في الممرات المذهبة في منتجع مارالاغو، حيث تنعكس الأضواء على الثريات وكأنها مستوحاة من النجوم، وقف الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب أمام مجموعة من المراسلين، متوعدًا بصوتٍ مفعم بالقوة والثقة بالنفس، يتردد صداه في أرجاء الغرفة، بضم غرينلاند وكندا والاستيلاء على قناة بنما وتحويل خليج المكسيك ليصبح خليج أمريكا. لم يكن ترمب يمزح. وعندما سئل عن فرضية الإكراه العسكري لغرينلاند وبنما قال «لا أستطيع أن أؤكد أن الولايات المتحدة لن تستخدم القوة المسلحة». 

تراوحت ردود الفعل بين الدهشة والحيرة، فيما تابع الرجل الحديث واثقًا عن الإمكانات الهائلة التي تتمتع بها الجزيرة الدنماركية، وثرواتها المعدنية غير المستغلة، والموقع الاستراتيجي الذي توفره في الشمال، مشيرًا وهو يلوح بيديه «إنها جزيرة كبيرة وجميلة، ويقول البعض إنها الأكبر حجمًا. وينبغي أن تكون أمريكية». أما رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن، التي رفضت اقتراح ترمب الأول لشراء غرينلاند في عام 2019 ووصفته بأنه «سخيف»، كررت ذلك الرفضّ بالقول إن «غرينلاند ملك لغرينلاند». فيما قال رئيس وزراء الجزيرة -التي تتمتع بالحكم الذاتي- موتي ب. إيجيدي «نحن لا نريد أن نكون دنماركيين. نحن لا نريد أن نكون أمريكيين. نحن نريد أن نكون غرينلانديين».

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

أما ردود الفعل الأوروبية فقد كانت متباينة، حيث قلل بعض القادة من أهمية بيانه باعتباره غير جاد، بينما انتقده آخرون بشكل أكثر قوة. فيما هدد رئيس بنما خوسيه مولينو من أنه سيحيل قضية القناة إلى مجلس الأمن إذا استمر الرئيس الأمريكي في تهديد بلاده. وفي الشهر الماضي، قال مولينو «بصفتي رئيسًا أريد أن أصرح بوضوح أن كل متر مربع من قناة بنما والمنطقة المجاورة لها هو ملك لبنما وسيظل كذلك». كما ردت رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم بسخرية على اقتراح ترمب بتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، حيث وقفت أمام خريطة للعالم تعود إلى القرن السابع عشر، واقترحت إعادة تسمية أمريكا الشمالية إلى «أمريكا المكسيكية»، لأن وثيقة تأسيسية تعود إلى عام 1814 والتي سبقت دستور المكسيك أشارت إليها بهذه التسمية. «يبدو هذا لطيفًا، أليس كذلك؟» أضافت بنبرة ساخرة. مشيرةً إلى أن خليج المكسيك كان يُسمى بهذا الاسم منذ عام 1607.

خلف حرب التصريحات وتحليل نوايا ترمب بين الجدل والهزل والسخرية، يختفي حذر وخوف واضح من جميع الأطراف. الأسلوب السياسي غير النمطي للرئيس الأمريكي المنتخب يدفع لذلك بقوة. لا يمكن للمرء أن يتوقع سلوك ترمب السياسي ولا الخطوة القادمة التي يمكن أن يأخذها، لكن المجال الجغرافي الذي يمثل فضاءً جيوسياسيًا لترمب يبدو واضحًا ومتسقًا مع عقيدته السياسية الحمائية. فهذا المجال يمتد على خط عمودي من أقصى القطب الشمالي إلى السواحل الأمريكية الجنوبية، وهو مجال حيوي أمريكي قديم أطره قبل قرنين الرئيس جيمس مونرو، في خطابه أمام الكونغرس في الثاني من كانون الأول 1823، والذي يبدو أنه سيكون إطارًا للسياسة التوسعية الأمريكية في شكلها الجديد. سيما وأن ترمب لم يخف إعجابه بمبدأ مونرو منذ عهدته الأولى، بوصفه عقيدة في السياسة الخارجية تنظم السياسات التوسعية للإمبراطورية في فنائها الخلفي. وتحظى هذه العقيدة بشعبية داخل مجتمع النخب الجمهورية مثل فيفيك راماسوامي ورون دي سانتيس وكذلك جون بولتون ووزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون، الذين يطالبون بإعادة تنشيط العقيدة لاستهداف الوجود الصيني المتنامي في أمريكا اللاتينية ويقدمونها كمبرر لهجوم عسكري أمريكي محتمل على المنظمات الإجرامية في المكسيك.

نهاية العالم كما نعرفه

قبل شهور كتب بيتر ثيل، الملياردير المقرب من إيلون ماسك وأحد أكثر الأشخاص نفوذًا في الولايات المتحدة، مقالًا اعتبر فيه عودة ترمب القوية بمثابة نهاية العالم كما عرفناه، وبدايةً لعالمٍ جديدٍ مختلفٍ كليًا. يرى ثيل أننا نعيش «أسابيع الشفق الأخيرة من فترة خلو العرش»، لكنه عالم جديد بروح قديمة. ويفترض هذا العالم الجديد المجرد خرائط جديدة وشكلًا جديدًا للعالم الجديد الواقعي على الأرض. حيث كانت دائمًا التحولات الجذرية في أشكال النظم الدولية تأتي مترافقةً بتحولات جذرية في خرائط وحدود الكيانات السياسية المكونة لهذا العالم. يعي ترمب جيدًا أن التناقض الرئيسي للولايات المتحدة هو العداء للصين، لذلك فإن سياساته الدفاعية والتجارية تتحرك أساسًا في إطار هذا التناقض. ومن المرجح أن تقوم السياسة الأمريكية خلال السنوات الأربع المقبلة، بتكثيف المنافسة والمواجهة، وزيادة وتيرة الصراعات الثنائية، وخلق عالم جديد للصين يجلب العديد من التحديات والضغوط.

في مؤتمره الصحفي طرح ترمب حججًا واضحةً لسياسته التوسعية تتعلق بالصراع مع الصين، لاسيما فيما يتعلق بقناة بنما، قائلًا «إن قناة بنما حيوية لبلدنا. لكن يتم تشغيلها حاليًا من قبل الصين. لقد أعطينا القناة لبنما، وليس للصين». معيدًا تنشيط أحد المفاهيم الرئيسية للإمبريالية الكلاسيكية وهو «المجال الحيوي»، الذي استخدم على نطاق واسع خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لتبرير الاستيلاء على الأراضي، وكان مفهومًا مركزيًا في السياسة التوسعية النازية خلال الحرب العالمية الثانية. 

أما في غرينلاند فيخشى ترمب النفوذ الصيني المتعاظم في القطب الشمالي، حيث يفتح ذوبان الكتلة الجليدية آفاقًا جديدة لاستخراج الموارد، وتسريع طرق التجارة، وإنشاء قواعد فضائية وعسكرية، ومناطق صيد جديدة، ومواجهة القوى العظمى. وتتحرك موسكو وبكين الآن لفرض سيطرتهما على القطب، الذي ترتفع حرارته بوتيرة أسرع من أي مكان آخر على كوكب الأرض. فمند سنوات تتهم واشنطن بكين بـ«السلوك العدواني» في مناطق القطب الشمالي، متهمةً الصين باستخدام الوجود المدني لتعزيز وجودها العسكري من خلال نشر الغواصات، وقد وصلت قيمة استثماراتها في القطب حوالي 90 مليار دولار، وخاصة في البنية التحتية في كندا وسيبيريا. 

لا يمكن للمرء أن يتوقع سلوك ترمب السياسي ولا الخطوة القادمة التي يمكن أن يأخذها، لكن المجال الجغرافي الذي يمثل فضاءً جيوسياسيًا لترمب يبدو واضحًا ومتسقًا مع عقيدته السياسية الحمائية.

كما يدور الصراع بين الطرفين حول المسارات البحرية سواء في بنما، أو الممر الشمالي الجليدي، والذي من المحتمل أن يكون واحدًا من أكثر المسارات الإستراتيجية في العقد المقبل، حيث ستلعب الصين دورًا مهمًا فيه. في عام 2017 صرح الرئيس شي جين بينغ أن التعاون بين الصين وروسيا من شأنه أن يساعد في إنشاء «طريق الحرير الجليدي». وفي عام 2018، تعهد بنك التنمية الصيني بتقديم ما يقرب من 10 مليارات دولار لدعم مبادرة الحزام والطريق في روسيا مع التركيز بشكل خاص على تطوير طريق القطب الشمالي والبحر الشمالي. كما قامت الشركات المملوكة للدولة في الصين الشعبية بعدة محاولات لشراء البنية التحتية الحيوية في غرينلاند، بما في ذلك ثلاثة مطارات وقاعدة عسكرية أمريكية سابقة، لكن الحكومة الدنماركية رفضت ذلك بضغوطٍ أمريكية. 

يدفع هذا الصراع المرتقب إدارة ترمب للاستعداد. حيث لن يكون سهلًا إدارة صراع جيوسياسي متعدد الأبعاد مع دولة في حجم الصين، ولذلك يريد الرئيس الأمريكي المنتخب وضع يده بقوة وتحكم مباشرٍ على المجال الجغرافي الحيوي الأمريكي من خلال السيطرة على غرينلاند وكندا شمالًا، وقناة بنما وخليج المكسيك جنوبًا، وربما تمتد شهيته جنوبًا إلى تدخلات عسكرية في فنزويلا الغنية بالنفط وكوبا ونيكاراغوا، والتي وصفها ترمب سابقاً بـ«ترويكا الاستبداد».
وضمن هذا الصراع اقترح ترمب فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على جميع البلدان، فيما فرض رسومًا عالية بنسبة 60% إلى 100% على الصين.

في المقابل تعمل الصين على تسريع تنمية الطلب المحلي وخاصة استهلاك الخدمات، وإنشاء آلية طويلة الأجل لنمو الدخل، وتحسين نظام وآلية جميع عوامل الإنتاج للمشاركة في التوزيع، وزيادة مصادر دخل السكان من خلال قنوات متعددة، وتسريع وتيرة البناء الحضري الجديد، وتوسيع القاعدة وزيادة نمو الطلب على استهلاك الخدمات، وتسريع إصلاح نظام الأراضي الريفية لزيادة القدرة الاستهلاكية للمزارعين بشكل كبير، وإصلاح الأنظمة الضريبية ذات الصلة لزيادة الرغبة الاستهلاكية للفئات ذات القيمة المتوسطة والعالية لتكون قادرةً على تحمل الضربات الخارجية، فضلًا عن تسريع وتيرة توجه شركات التصنيع الصينية إلى الخارج لتحل محل الشركات الأمريكية التي يريد ترمب عودتها للبلاد لزيادة التوظيف.

سيناريوهات الضم

يبدو توقع ما سيحدث صعبًا في ظل وجود شخصية سياسية غير تقليدية مثل ترمب. هل يعتمد الرجل على التهديد بالضم كوسيلة للضغط، لتحقيق مكاسب؟ أم يقول حقًا ما ينوي فعله؟ يملك ترمب أوراقًا كثيرة للضغط. مثلاً تعتمد غرينلاند وكندا بشكل كبير على الولايات المتحدة في تجارتهما الدولية. حيث تتم 75% من التجارة الدولية لكندا مع الولايات المتحدة. وقد أشار ترمب إلى ذلك بوضوح قائلًا «مع كندا، لن نستخدم القوة العسكرية، بل القوة الاقتصادية. أنا أحب الكنديين، إنهم رائعون، لكننا ننفق مئات المليارات سنويا لحمايتهم. إننا نخسر في عجز الميزان التجاري؛ إنهم يصنعون 20% من سياراتنا. نحن لسنا في حاجة إليها. أفضل أن أصنعها في ديترويت. نحن لا نحتاج إلى خشبهم. لدينا حقول ضخمة. نحن لسنا بحاجة إلى منتجات الألبان الخاصة بهم. فلماذا نخسر 200 مليار دولار أو أكثر سنويًا لحماية كندا». 

ربما يخلق هذا الضغط الاقتصادي العنيف رأيًا عامًا ساخطًا ضد ترمب، وربما يخلق أيضًا رأيًا مضادًا يرى في التوحد مع أمريكا خلاصًا وجوديًا، خاصة في ظلّ توقع خسارة الليبراليين الكنديين الانتخابات المقبلة، مع عودة حزب المحافظين بقيادة بيير بوليفر، الأكثر قربًا من التيار الإيديولوجي الترمبي. كما سيتبع السياسة نفسها مع المكسيك، حيث هدد ترمب سابقًا بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع المنتجات القادمة من المكسيك، سيما وأن المكسيك لا تزال مثل كندا تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية، وبالتالي فإن قدرتهما على الابتعاد عن تهديدات الرئيس المنتخب تظل محدودة، حيث ذهبت أكثر من 83% من الصادرات المكسيكية و75% من الصادرات الكندية العام الماضي إلى الولايات المتحدة.

أما بالنسبة لغرينلاند فمن الناحية القانونية يستفيد ترمب من عدم توقيع بلاده على اتفاقية خليج مونتيغو، وهي اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تم اعتمادها في عام 1982، والتي تنظم ترسيم حدود المناطق البحرية في القطب الشمالي. تتمتع هذه الاتفاقية بميزة قلة الطعن فيها كإطار قانوني، وقد أتاحت التصديق على عدد معين من المطالبات في البحار القطبية الشمالية. حيث قامت النرويج وروسيا بترسيم حدودهما المشتركة في بحر بارنتس والمحيط المتجمد الشمالي. إلا أن الولايات المتحدة هي الدولة الكبيرة الوحيدة في القطب الشمالي، التي لم تصدق عليها. ومن المرجح أن يلعب ترمب على التناقضات بين الحكم الذاتي في الجزيرة والحكم المركزي في كوبنهاغن، حيث تقود الجزيرة حاليًا حكومة تطالب بالاستقلال عن التاج الدنماركي. من خلال دعم النزعة الانفصالية، ثم دفع السكان -عبر الترغيب والترهيب- إلى الذهاب نحو استفتاء جديد للانضمام للولايات المتحدة. 

من الناحية النظرية سيكون ترمب في طريق مفتوح للسيطرة على الجزيرة في حال قرر غزوها عسكريًا في ظل موازين قوى مختلة تمامًا بين القوات الأمريكية والدنماركية، ورغم أنه في حال حدوث غزو أمريكي فإن بند الدفاع المشترك للاتحاد الأوروبي في المادة 42 من المعاهدة سوف يطبق، ولكن من غير الواضح ما إذا كانت كوبنهاغن ستكون قادرة بالفعل على الاعتماد على الاتحاد الأوروبي للحصول على مساعدات عسكرية، في ظل غياب قوات أوروبية مشتركة أو جيش أوروبي موحد. 

فضلًا عن ذلك، ليس واضحًا ما إذا كانت الدنمارك، وهي عضو مؤسس في حلف شمال الأطلسي إلى جانب الولايات المتحدة، قادرة على الاستعانة بالمادة الخامسة -بند المساعدة المتبادلة للحلف- ضد حليف آخر. ومع ذلك يبدو التلويح بالغزو وسيلة للضغط لكي تقبل الدنمارك بمبدأ بيع الجزيرة. خاصة وأن الدنمارك تُعَد واحدة من أكثر حلفاء الولايات المتحدة ولاءً: فقد شاركت في الحرب في أفغانستان وتنفق أكثر من 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. وقد سمحت منذ فترة طويلة بوجود قواعد أمريكية على أراضيها وتحديدًا في غرينلاند. ومع ذلك من المتوقع أن يمارس ترمب ضغطًا أكبر على حكومة الملك فريدريك العاشر، من بينها فرض رسوم جمركية على الصادرات ما لم تتنازل عن الجزيرة.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية