يوميّات نازحي الضاحية الجنوبية: ظلم وقهر وثبات

الإثنين 30 أيلول 2024
بيروت الضاحية الجنوبية نصر الله
سيدة تتلو القرآن في موقع اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت، 29 أيلول 2024. أ ف ب.

كان يوم الجمعة 27 أيلول 2024، يومًا فاصلًا بالنسبة لسكان الضاحية الجنوبية لبيروت. قبل ذلك «اليوم المشؤوم» كما يصفونه، كانت الضاحية لا تزال تحافظ على نوعٍ خجولٍ من الحياة. لكن مع تصعيد الاحتلال الإسرائيلي حربه على لبنان الأسبوع الفائت، نزح الكثير من أهالي الضاحية إلى خارج بيروت، ومنهم من نزح من منطقة إلى منطقة داخل الضاحية، وذلك تحسبًا لتوسع العدوان الإسرائيلي. مع ذلك، ظل مشهد الحياة قائمًا في ضاحية بيروت وقتها. محال تجارية ومطاعم لا تزال مفتوحة، أسواق الخضار والفواكه مكتظة نسبيًا، شبان على دراجاتهم النارية يتجولون في الأحياء، إنارات في البيوت ليلًا. غير أنه يوم السابع والعشرين من أيلول، حوالي الساعة السادسة والربع مساءً، انقلبت الأحوال.

مشهد الهلع الذي حدث مع هذه الضربة لم يعتده الأهالي منذ حرب تموز عام 2006. هول الضربة التي استخدم فيها العدو أكثر من 80 طنًا من المتفجرات هزّ أرجاء بيروت بأكملها والمناطق المحيطة بالعاصمة، ليقف كلّ من شعر بهذه الضربة مذهولًا. الجميع شعر أن الضربة كانت قريبة جدًا منه حتى أتى الخبر أنها استهداف لمركز قيادي لحزب الله. ومع محاولة استيعاب الصدمة، همّ الأهالي بتوضيب بعض الأغراض والانطلاق فورًا، تاركين البيوت والأملاك خلفهم وبيدهم حقيبة صغيرة على اعتبار أنهم سيتركون منازلهم لمدة يوم أو يومين ومن ثم يعودون. أما من قرر البقاء، فلم يمكث طويلًا. مع قدوم الليل، بدأ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بنشر أوامر إخلاء، إما عبر بعث رسالة نصية للأماكن التي تنوي «إسرائيل» قصفها، أو من خلال نشر فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، يطلب من الأهالي الإخلاء. 

وبحسب رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، نجيب ميقاتي، فإن «هناك 778 مركز إيواء، يضمون حتى الآن 118 ألف شخص»، مستدركًا بالقول: «المقدر أن عدد النازحين أكبر بكثير من هذا العدد وقد يصل لحد المليون شخص». نزح هؤلاء في الأيام الأخيرة من جنوب البلاد وشرقها ومن الضاحية الجنوبية لبيروت، مضيفًا «قد تكون هذه أكبر عملية نزوح حصلت في المنطقة ولبنان».

صحيح أن الكثير من النازحين استطاعوا تأمين بيوت في مناطق جبل لبنان وطرابلس وعكار والشمال، غير أن الشريحة الأكبر لم تستطع دفع الإيجارات الباهظة التي تتراوح بين ألف وألفي دولار للشهر الواحد إضافة إلى دفعات التأمين وطلب الدفع سلفًا، الأمر الذي اضطرهم للذهاب إلى مراكز الإيواء. 

تقول حوراء هزيمة، وهي شابة في مطلع العشرينيات، إنها اضطرت للنزوح مرتين، الأولى من الجنوب إلى منطقة برج البراجنة الواقعة في جنوب غرب الضاحية، والمرة الثانية من البرج إلى بيروت الغربية. «خرجنا بنصر وعائدون بنصر» تضيف حوراء، التي تجلس مع عائلتها على رصيف الجامعة اللبنانية الدولية (LIU) الكائنة في منطقة سليم سلام. تتمتع حوراء بعزيمة كبيرة إذ تقول إنها «منذ يوم الثامن من أكتوبر الفائت، أي يوم بدء المقاومة اللبنانية جبهة إسناد لغزة، حضرت حقيبتي وأنا أعرف أن هذه الحرب ستكون صعبة وطويلة ضد العدو الإسرائيلي… نحن مستعدون لخوض هذه الحرب حتى آخر نفس فينا.. نعلم أن الشهداء ستسقط غير أن دماهم ستُثمر نصرًا»، وتختم بالقول: «لا شك أننا نحزن لما نمرّ به… نحن على يقين أننا سننتصر كما في الـ2006».

«سنعود إلى الضاحية بنصرٍ حتى ولو طالت مدة الحرب.. نحن على خطى المقاومة وسنبقى مهما اشتد الحال».

حال حوراء كغيرها من الناس، التي تفترش الأرض في مراكز الإيواء، الخالية من أي تنظيم من قبل الدولة اللبنانية، إلا الحملات الاجتماعية والمبادرات الفردية التي تعج بها هذه المراكز. شبان وشابات في مقتبل العمر يعملون بلا توقف لخدمة النازحين، من خلال جمع الأموال وشراء مستلزمات الحياة من مأكل ومشرب وملبس وغيرها وتوزيعها على العائلات النازحة. 

«لا نعلم في أي لحظة سنفقد حياتنا»، تقول فاطمة حيدر لـ«حبر»، وهي تتشح وأهلها بالسواد حدادًا على استشهاد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله. وكحال معظم النازحين، تضع إلى جانب المكان الذي اختارته وأهلها للجلوس قرب الـ«LIU» بعض الأكياس التي تحتوي على الأغراض الأساسية. «نزحنا من منطقة برج الشمالي حيث قصف العدو منزلنا بحجة وجود أسلحة للحزب بداخله.. لكن في الواقع لا شيء في المنزل سوى المدنيين». وتضيف فاطمة: «في رحلة النزوح إلى بيروت، منطقة بئر حسن تحديدًا، مكثنا على الطريق ما يقارب الـ16 ساعة.. وصلنا منهكين، لا شيء معنا وما إن استقرينا في المنطقة حتى اضطررنا للنزوح تحت أصوات القصف والدمار مجددًا فجر السبت. صعد حوالي 23 شخصًا من عائلتي في سيارتين فقط، قضينا الليلة الأولى في الطريق على صخرة الروشة، ومن ثم ذهبنا إلى الـ«LIU» باحثين عن سقفٍ يؤوينا». مع ذلك تؤكد فاطمة أنها وإن طالت مدة الحرب «نقف إلى جانب المقاومة ولدينا أمل بالمقاومة وسننتصر بإذن الله».

لا يختلف المشهد كثيرًا في مدرسة «البنات الثانية الرسمية» في منطقة المصيطبة لناحية الأوضاع التي يعيشها النازحون. وبحسب المعنيين فإن عدد النازحين في المدرسة بلغ حوالي 450 شخصًا وهو عددٌ لا تستوعبه المدرسة لصغر حجمها. في كل غرفة يوجد حوالي أربع أو خمس عائلات سويًا. 

نازحون في مركز إيواء في منطقة المصيطبة ببيروت. تصوير بتول سليمان.

يزدحم ملعب المدرسة بالناس الجالسين على المقاعد والأرض، يركض الأطفال فيتعثّرون ببعضهم من كثرة الزحمة. كرة هنا، نرجيلة هناك، وأمٌ تبحث عن طفلها في الزحام وبمجرد أن تلمحه تبدأ بتوبيخه: «أخبرتك أن تجلس بقربي، أعصابي لا تتحمل أن أفقدك». الغسيل منشور على الشبابيك، وبمجرد أن يرى الأهالي أحدًا قادمًا وبحوزته كرتونة أو كيس يتجمع الأهالي حوله ويبدؤون بالسؤال حول ماهية الأغراض المنوي توزيعها. 

«لم نتوقع أن تشتعل الحرب بهذه السرعة وتمتد إلى بيروت»، تقول زينب عبود، وهي أم لطفلين لا تتجاوز أعمارهما الخمس سنوات. «أسكن في عين السكة (قرب برج البراجنة) وعندما اشتد القصف على الضاحية حملت أطفالي وأوراقنا الثبوتية وهممنا بالذهاب خوفًا على أنفسنا». تضيف زينب والدمعة تسقط من عينها: «لا أشعر أن الحرب ستنتهي قريبًا… حتى هنا لا أشعر بالأمان في ظل صوت الطيران الذي يرافقنا دائمًا… أشعر أنه في أي لحظة سينزل صاروخ على ملعب المدرسة ويقتلنا جميعًا كما حدث مرارًا في غزة». 

في الغرفة رقم 5 من الطابق الأول من المدرسة، تعيش السيدة نجاح بركات مع أولادها وأحفادها. كلهم في غرفة واحدة مقسومة بغطاء في الوسط للفصل بين الإناث والذكور. تختنق المرأة السبعينية بعَبرتها وهي تتحدث: «خرجنا من الضاحية مكسوري الخاطر… أعيش منذ أكثر من ثلاثين سنة في حارة حريك في الضاحية… خرجنا ولدينا أمل أن ننتصر مع السيّد.. اليوم، نشعر أننا تيتمنا بدونه، لا فرق لدينا إذ بقت بيوتنا أم لا هذه المرة، أخذوا أغلى ما عندنا». مع ذلك، تضيف: «السيد معنا بفكره وروحه وسننتصر به». تقاطع زينب عجمي جدتها نجاح وتقول: «سنعود إلى الضاحية بنصرٍ حتى ولو طالت مدة الحرب»، وتضيف إنه رغم صعوبة النزوح عن الضاحية التي تربت فيها، فإن «وجود المقاومة يخفف عنا.. نحن على خطى المقاومة وسنبقى مهما اشتد الحال». 

في الغرفة المجاورة، تجلس الشابة فاطمة فرحات التي نزحت من محلة الشياح في الضاحية الجنوبية. هذه المنطقة التي تعدّ منطقة آمنة نوعًا ما، إذ لم يقصفها العدو الإسرائيلي في حرب الـ2006 سوى مرة واحدة. تصف فاطمة ما عاشته في يوم الجمعة الماضي بالقول: «كان مهولًا»، تأخذ نفسًا عميقًا وتدمع عيناها وتضيف: «كنت في مكان عملي في السان تيريز (منطقة في شرق الضاحية) وفجأة هبط السقف المستعار علينا من هول الضربة على الرغم من بعد حارة حريك عن هذه المنطقة.. ساعدونا للخروج.. لم أستطع الذهاب لمنزلي للملمة بعض الأغراض، اتصل بي خطيبي وذهبنا وأهلي فورًا إلى الطيونة (على حدود الضاحية).. بتنا هذه الليلة على الطريق، سمعنا كل صاروخ نزل على الضاحية.. لم ننم أبدًا في ذلك اليوم الأسود». وبحسرة شديدة تكمل فاطمة: «لم أستلم مرتبي ولم يفعل خطيبي كذلك.. الآن نعيش على المساعدات التي تصل إلى المدرسة.. مثلنا مثل الموجودين هنا». 

تبقى أحوال النازحين إلى مراكز الإيواء أهون من الذين يفترشون الأرض على جوانب الطرقات. المشهد على عين المريسة، الواجهة البحرية لبيروت، يبدو أشد وأقسى من المدارس. الشمس الساطعة تلفح وجوه الأطفال الممددة على الرصيف. لا خيم ولا أي مقومات للحياة هناك. على امتداد النظر، تجد في كل زاوية عائلة جالسة على الأرض وعدة حقائب. البعض جلب معه «غازًا» صغيرًا للطهي وبعض الأواني لتيسير الحال، أما البعض الآخر فليس معه إلا ما يلبسه.

نازحون يفترشون الرصيف مقابل شاطئ بيروت. تصوير بتول سليمان.

تقول ريم حمادة النازحة من محلة حي السلم في الضاحية: «لم نشأ أن نترك منزلنا.. غير أن ما حدث يوم الجمعة أجبرنا على الرحيل.. رحلنا من دون أخذ أي أغراض، ولا حتى أوراقنا الثبوتية، وقررنا المكوث هنا.. هنا أفضل من الذل في مراكز الإيواء». تضيف ريم: «ماذا سنفعل؟ لا أدري. الحال صعبة والأطفال يبكون باستمرار ولا يمكننا فعل أي شيء. لا نستطيع تأمين أي شيء إلا ما نتلقاه من المساعدات… لنا الله». تقاطعها ابنتها نور العيون وتقول: «نستحم في البحر.. لهذا الحال وصلنا.. وإن أردنا قضاء حاجتنا نذهب إلى حمام المطعم المواجه لنا». وتضيف: «الحمد لله أننا خرجنا من المنزل فقد دمرته إسرائيل في تلك الليلة، وشاهدنا منزلنا يقع على الهواء مباشرةً». وتختم بالقول: «حاولنا الذهاب إلى مراكز الإيواء غير أن الحياة لا تطاق هناك.. لا يوجد حمامات ولا مياه ولا أي شيء.. هذا عدا عن الخطر المحدق بهذه المراكز من الممكن أن تضربها إسرائيل في أي لحظة». 

في أيام قليلة، تكبد النازحون من الضاحية الجنوبية ضربات معنوية متتالية، وباتوا يواجهون أوضاعًا معيشية صعبة. لكن رغم أن المشهد يبدو سوداويًا، وفسحة الأمل تبدو ضيقة، إلا أن جولة بين النازحين كفيلة بأن تظهر عزيمتهم وعدم انكسارهم وقناعتهم بأن سيعودون منتصرين مرفوعي الرأس.

Leave a Reply

Your email address will not be published.