«أنت تتواجد بمبنى به سلاح لحزب الله، ابتعد عن القرية حتى إشعار آخر». استقبلت ياسمين، 31 عامًا، هذه الرسالة على هاتفها صباح يوم الإثنين الماضي. كانت ياسمين وعائلتها، المكوّنة من تسعة أفراد، تقطن بلدة ميس الجبل الحدودية، وهي واحدة من قرى محافظة النبطية، قد عادت للبلدة قبل حوالي أسبوع فقط، بعد أن كانت نزحت نحو منطقة مرجعيون في المحافظة نفسها للعيش في منزل بالإيجار لمدة شهرين، جراء تضرر أجزاء من منزلهم في ميس الجبل بالقصف الإسرائيلي.
«لسا ما لحقّنا ننظف البيت، صار لازم نطلع»، تقول ياسمين، حيث نزحت عائلتها عدة مرات بعد أن تضررت مزارع التبغ التي يعتمدون عليها كمصدر دخل واضطروا للإنفاق من مدخراتهم لتغطية تكلفة الإيجارات. هذه المرة، دفعت الغارات الإسرائيلية الجديدة على جنوب لبنان والبقاع الأسرةَ للنزوح من جديد.
بعد التصعيد الكبير الذي شنّه الاحتلال على لبنان ابتداء من الإثنين الفائت، أعلنت وزارة التربية والتعليم اللبنانية إقفال المدارس، وطلبت وزارة الصحّة من المستشفيات تعليق كافة العمليات الباردة والتركيز على جرحى العدوان.
عندما حاول الأخ الأكبر لياسمين التواصل مع صاحب المنزل الذي أقاموا عنده مؤخرًا في مرجعيون، أخبرهم أن المنزل قد أُجّر لغيرهم، رغم أن النبطية نفسها لم تكن «منطقة آمنة». وبدون وجهة محددة، وضّبت العائلة أغراضها من جديد للتوجه إلى العاصمة بيروت، وتحركوا في سيارتين حاملين معهم أوراقهم الثبوتية وبعض المؤن الغذائية والبطانيات قبل أن يَعلقوا في أزمة سير خانقة بعد كيلومترات قليلة من القرية.
لم تكن موجة النزوح هذه هي الأولى، إذ اضطر ما لا يقل عن 100 ألف مواطن لبناني إلى مغادرة منازلهم في الجنوب والضاحية على مدار الأشهر الأولى من الحرب، وفق تقرير المنظمة الدولية للهجرة، إلا أن موجة النزوح الحالية هي الأكبر. وبحسب رئيس لجنة الطوارئ الحكومية الوزير ناصر ياسين يتراوح عدد النازحين الجدد ما بين 150 و200 ألف شخص، يقيم منهم في مراكز الإيواء 53 ألفًا.
جرّاء موجة النزوح من جنوب لبنان والهلع الذي أثاره التصعيد الإسرائيلي الأخير، شهدت الطرق الرئيسة المتجهة نحو بيروت ومحافظات الوسط والشمال، لا سيما الطريق البحري، ازدحامًا مروريًا كثيفًا. قطعت ياسمين وأسرتها حوالي 100 كيلومتر من ميس الجبل حتى بلدة المغيرية في قضاء الشوف في إقليم الخروب، حيث دعاهم أحد الأقارب النازحين للإقامة معه. واستغرقت الرحلة التي تحتاج في العادة لساعتين أكثر من 16 ساعة، فيما كان صوت القصف وجدار الصوت وسيارات الإسعاف أثناءها مسموعًا.
تقول ياسمين إن رحلة النزوح هذه كانت الأصعب، إذ قطعوا طرقًا مدمّرة ونفد الوقود من سيارتهم على الطريق وفاجأ الطلق نساءً حوامل في جوارهم. لكن ياسمين تقول إنهم على الأقل كان يعرفون أن في انتظارهم مكانًا سيبيتون فيه بعد الوصول، حيث واجهت العديد من العائلات اللبنانية صعوبة في العثور على مأوى، واضطر بعضها لافتراش الأرصفة أو ركن سياراتهم والنوم فيها، نظرًا للطلب الكبير على الشقق السكنية. فيما سجلت وزارة الصحة حالات وفاة بأزمات قلبية بين عدد من كبار السن على الطرق خلال رحلة النزوح.
أصدر وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال، القاضي بسام مولوي، توجيهات للمحافظين للتعاون بشكل كبير مع عملية النزوح الكثيفة من المناطق الجنوبية، وقررت وزارة التربية والتعليم العالي فتح المدارس والمعاهد الرسمية في عدد من المناطق اللبنانية لاستخدامها مراكز إيواء للعائلات النازحة. إلا أن الاستجابة الأسرع كانت من قبل المبادرات الشعبية الفردية أو الجماعية والتي سارع عبرها عدد من المواطنين إلى عرض منازلهم لإيواء النازحين أو التنسيق بين النازحين وأصحاب المنازل المتاحة لاستقبالهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
«إحنا بلبنان على طول معوّدين نشتغل شغل الدولة وأجهزتها»، تقول ديالا سريّ الدين، إحدى الشابات المشاركات في مبادرة «سقف واحد»، وهي مبادرة تحاول الربط بين المتبرعين بالمساكن المجانية والمحتاجين لها من النازحين، كما تعمل على جمع بيانات الأفراد والمبادرات وأصحاب المنازل المستعدين للمساعدة. تُقيم ديالا وأسرتها في منطقة عين الرمانة وهي أقرب منطقة على الضاحية الجنوبية، ورغم أنها تملك خيار النزوح لمنزلهم في إحدى البلدات الجبلية البعيدة عن القصف، إلا أنها قررت البقاء في بيروت ومحاولة مساعدة النازحين.
انطلقت المبادرة آب الماضي وتمكنت من تأمين النازحين بأماكن إقامة ولو مؤقتًا، إلا أن طلبات العثور على مساكنٍ للعائلات النازحة زادت كثيرًا خلال الأيام الأخيرة والتي تشهد البلاد فيها «حربًا على كل لبنان، لا تميّز بين مدني وغير مدني». التحقت عشرات المبادرات بركب تأمين النازحين ومساعدتهم أو حتى عرض المساعدة وتوزيع المياه أو السندويشات على السيارات العالقة في الطرق المزدحمة. تشير التقديرات إلى أن المبادرات الفردية هي التي تولت استيعاب الموجة الأولى من الوافدين في الشمال والتي بلغ عددها ألفي عائلة، قبل أن يفتح أي مركز إيواء لهم.
اتخذت لجنة الطوارئ الحكومية قرارًا أوليًا بفتح 90 مدرسة رسمية، وُزعت عليها حوالي 10 آلاف فرشةٍ ومثلها من البطانيات والوسادات، وتم تحديث هذه اللائحة للإعلان عن فتح مدارس أخرى تباعًا بلغ مجموعها 275 مدرسة. توزّعت هذه المدارس بين زحلة والبقاع وبعلبك الهرمل وصور وبيروت وطرابلس، بالإضافة لما اعتبرته الوزارة «المدارس الرسمية في المناطق الآمنة في الجنوب». كما بدأت مدارس ومعاهد أخرى تستعدّ لاستقبال النازحين في مناطق جبل لبنان، وتحديدًا الشوف وعاليه وبعبدا.
وصلت أسرة ياسمين منزل أقاربهم في بلدة المغيرية في قرى إقليم الخروب الساعة الثالثة بعد منتصف الليل متفاجئين من عدد العائلات التي توجهت للمنطقة ذاتها والتي تُعتبر بلداتها آمنة وقريبة من بيروت في الوقت ذاته. تشهد قرى إقليم الخروب اليوم ومنطقة جبل لبنان وساحل الشوف، أكبر موجات النزوح، بعد أن اكتظت مدينتا صيدا وبيروت بالنازحين خلال الأشهر الماضية، نظرًا لكونهما محطات الإيواء الأقرب، ونظرًا لصعوبة الوصول لمواقع أبعد في طرابلس والكورة وزغرتا.
لم تكن مراكز الإيواء في قرى الإقليم جاهزة لاستقبال النازحين، ولذلك انتقل العدد الأكبر من النازحين إلى منازل أهالي المنطقة، بمبادراتٍ فردية، وقدّر عددهم بنحو 10 آلاف شخص، بحسب المسوحات الأولية في منطقة برجا الواقعة ضمن الإقليم. استقبلت العائلة المستضيفة عائلة ياسمين وعائلة نازحة أخرى بحفاوة وتعهدت بأن تتكفل بكافة احتياجاتهم الأساسية من الطعام والماء والدواء خلال مدة إقامتهم رغم اكتظاظ المنزل وصعوبة تأمين الاحتياجات.
تقول ياسمين إن الظروف الاقتصادية في قرى الإقليم تصبح أصعب مع استمرار الحرب، إذ تُعاني غالبية صيدليّات المنطقة من ارتفاع الطلب على أدوية الأمراض المزمنة وحليب الأطفال وحفاظاتهم، بما يفوق قدرتها في بعض الأحيان على تلبية هذه الحاجات. كما ارتفعت حركة البيع في المحال التجارية، بنسبة وصلت إلى 40%، بحسب المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد بوحيدر، والذي دعا «لمراقبة [محالّ] السوبر ماركت وخاصة في المناطق حيث ارتفع عدد النازحين لمنع استغلال لحاجات الناس، والتلاعب بالأسعار».
من ناحية أخرى، شهدت المخابز نشاطًا لافتًا بعد أن انقطع الخبز لساعات في بعض نقاط البيع وبدأ بعض التجّار باستغلال الوضع لبيع ربطة الخبز بزيادة ستة أضعاف ضعف سعرها الرسمي. دعا وزير الاقتصاد أمين سلام المواطنين لتجنب تخزين الخبز أو الطحين بكميات كبيرة، وقال في بيان صدر يوم الإثنين إن مخزون القمح المتوفّر في الأسواق المحلية يكفي لمدّة شهرين على الأقل، إلا أنه أعلن يوم الثلاثاء قرار الوزارة رفعَ الدعم عن الطحين وزيادة سعر ربطة الخبز الأبيض بسبب «إنفاق قرض البنك الدولي للبنان وأسعار المحروقات وارتفاع كلفة نقل الطحين وانقطاع الكهرباء».
«لازم في خطة طوارئ جاهزة من أول ما بلشت الحرب»، تقول ديالا في إشارة «لخطة الطوارئ الاستباقية» التي أطلقتها الحكومة اللبنانية تشرين الثاني الماضي لإدارة ملفات الإيواء والمستشفيات والغذاء والوقود والاتصالات، إلا أن الخطة لم تحظ بالتطبيق جرّاء عجز لبنان عن تأمين كلفة تمويلها والمقدرة بـ120 مليون دولار. بالنسبة لياسمين، فإن الدولة مغيّبة عن تحمل مسؤولية إغاثة النازحين وتتولى الأحزاب والبلديات والجهات الشعبية تقديم ما يمكنها تقديمه لاستقبال النازحين وتوفير احتياجاتهم.
في ضوء ذلك، تعتقد أسرة ياسمين أن إقامتهم في منزل أقاربهم هي مرحلة مؤقتة نظرًا للتكاليف المعيشية والحاجة لإتاحة المجال لاستقبال عائلات نازحة أخرى. وفي الأثناء يتابعون البحث عن منزل للإيجار في منطقة قريبة قبل أن تعود أسعار الإيجارات للارتفاع مثلما حصل في فترات سابقة من التصعيد بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي. «إذا ما لقينا بيت، رح نروح على مراكز الإيواء»، تقول ياسمين متخوّفةً من جاهزية هذه المراكز واستعداديتها قبيل دخول فصل الشتاء، إذ لا ينذر استمرار القصف الإسرائيلي للبلدات اللبنانية، حتى تلك التي لم يسبق له استهدافها، بأي وقف محتمل للتصعيد كما ترى.
تمتلئ مراكز الإيواء اليوم بآلاف النازحين الذين توزّعوا على 275 مدرسة في جبل لبنان وبيروت وصيدا والبقاع والشمال وبعلبك الهرمل وعكار. كما وصلت بعض المدارس في قرى الإقليم إلى قدرتها الاستيعابية القصوى، فيما تعاني معظم مراكز الإيواء من نقصٍ حاد في الفرش والبطانيات والوسادات إذ غادرت العديد من العائلات منازلها في جنوب لبنان دون أن تتمكن من جلب أية أغراض، ويتقاسم النازحون الفرشة ذاتها أو يمضون ليلتهم الأولى على البلاط، بحسب تقارير صحفية.
لم تكن هذه المراكز مجهزة بالشكل اللازم، كما ورد في خطة الطوارئ، كما لم يتمكن الأهالي من تأمين شراء كميات كافية من هذه الفرشات التي رفع بعض التجار سعر الواحدة منها من 15 إلى 40 دولارًا. من ناحيتها، عقدت الوزارات المعنية بخطة الطوارئ والهيئات الحكومية ومنظمات الإغاثة الدولية التابعة للأمم المتحدة اجتماعات موسعة لتنسيق تحسين ظروف الإيواء في مناطق النزوح.
وفي الوقت الذي وضعت فيه آلية لإيصال وجبات طعام ساخنة يوميًا للنازحين، وصندوق معلبات يكفي لخمسة أيّام، بحسب صحيفة الأخبار اللبنانية، لم يتم البدء بتنفيذ هذا القرار بشكل كافٍ، وحاليًا، بادر الأهالي وسكان القرى والبلدات لسد هذا الفراغ وطهو الطعام وتوزيعه على النازحين.
تعتبر ياسمين أن مقاطع الفيديو التي تشاهدها من مراكز الإيواء للنازحين الباحثين عن الفراش، إلى جانب افتقار بعض المدارس لمستلزمات النظافة الشخصية وانقطاع التيار الكهربائي عن غالبيتها ليلًا، هي مؤشرات مُقلقة، لكنها تعوّل على التضامن المجتمعي ودوره في مواجهة هذه الأزمة مثل كل الأزمات التي مرّ بها لبنان. بالنسبة للعائلة، فإن الحال قد ينتهي بهم في إحدى هذه المراكز لأشهر قادمة، لكن عودتهم لبلدتهم ميس الجبل في الجنوب، والتي استشهد منها سبعة أشخاص في غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية، هي مسألة حتمية، «مش مشكلة لو ضلينا شهور هون، المهم إنه وجودنا هون بمنع رجوع المستوطنين على بيوتهم».
*حُدثت أرقام النازحين، يوم الخميس 26 أيلول، بعد صدور أرقام جديدة عن لجنة الطوارئ الحكومية.