لم يكن نهر اليرموك يومًا من أكبر أنهار المشرق أو أشهرها، ولم يكن تاريخيًا محطًا لزراعة مهمة أو موقعًا للنوادر من الكائنات الحية، بل لم يعدّ نهرًا منفصلًا عن نهر الأردن سابقًا، وإنما رافدًا له. لكن رغم ذلك، يستطيع نهر اليرموك، بحكم موقعه الجغرافي والسرديات المرتبطة به والبنى المادية التي تنظمه، أن يكشف لنا الكثير من التغيرات التي حصلت في المنطقة منذ بداية القرن العشرين، عبر صيرورة تحوله من جسم مائي طبيعي إلى حاجز حدودي يفصل دولًا عن بعضها البعض، ويمارس دوره في تحديد الأراضي التي تخضع لسيطرة وهيمنة وتحكم كل دولة.
كان الوجود الاستعماري في المنطقة هو علة هذا التحول. فقبل إنشاء «إسرائيل» التي ستسيطر على جزء من النهر وتستغل مياهه ببناء بنى تحتية كانت جوهرية في إنجاح مشروعها الاستيطاني، استخدمت بريطانيا وفرنسا نهر اليرموك لتحديد مناطق نفوذهما، عبر عملية استمرت لعقود وخضعت للتفاوض بينها. كان هذا التقسيم بدوره الأساس الذي انبثقت عنه لاحقًا الكيانات السياسية التي أصبحت الدول الوطنية الموجودة اليوم، والتي ستتفاعل بعمق مع نهر اليرموك وتعيد تشكيله خلال عملية البناء الوطني التي خاضتها. فقد ترافق تحول اليرموك إلى حاجز حدودي مع بدء الالتفات لإمكانياته الاقتصادية، بوصفه «ثروة طبيعية» يجب استغلالها والاستئثار بأكبر حصة منها.
إلا أن استغلال الثروات الطبيعية ليس مسألة تقنية، وإنما هو محكوم دومًا بعلاقات القوى والقدرة السياسية على فرض واقع مختلف. هنا، تبرز أهمية نهر اليرموك كجزء من الصراع بين «إسرائيل» ودول المنطقة، الذي شكلت المياه موضوعًا أساسيًا فيه. كما تبرز أهميته بوصفه بابًا استخدمته الولايات المتحدة للدخول إلى المنطقة، حين اقترحت تحويل المياه من محط للصراع إلى موضوع للشراكة الاقتصادية، بما يؤدي لتثبيت وجود «إسرائيل» وبسط الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
شكل هذا التدخل كذلك أساسًا لعلاقة الولايات المتحدة مع الأردن، التي قدمت له الدعم من أجل استغلال مياه اليرموك، لضمانه حليفًا لها. كانت هذه العلاقة، وحاجة الأردن المتزايدة للمياه، هي ما هيأ الظروف لمحادثات سرية بين الأردن و«إسرائيل» حول قضية المياه برعاية أمريكية، قادت في النهاية إلى معاهدة سلام بينهما، التي سيتضح أنها لم ترفع حصة الأردن من مياه اليرموك، بل ثبّتت واقعًا يحصل فيه على أقل مما كان يحصل عليه قبل السلام. وفي هذه المرحلة الجديدة، تحولت المياه من موضوع صراع «عربي-إسرائيلي»، إلى موضوع نزاع بين-وطني، إذ لم يعد نهر اليرموك محكًا للصراع والتنافس بين العرب و«إسرائيل» فحسب، بل بين العرب أنفسهم كذلك.
تتناول هذه السلسلة من المقالات البحثية هذا التاريخ الطويل الذي تتداخل فيه المياه والجغرافيا والسكان والسياسة والحرب، وصولًا لفهم أعمق لما يكشفه نهر اليرموك عن تشكل المنطقة على مدى أكثر من مئة عام. ففهم اليرموك كما هو اليوم غير ممكن إلا عبر تتبع تاريخه، والنظر إلى الوقائع المادية التي شكلته وأعادت تشكيله عبر السنوات، بما يشمل فهم العلاقات التي ربطته بغيره.
الجزء الأول:
كيف تحول اليرموك من جسم طبيعي إلى حاجز حدودي
الجزء الثالث:
عندما يكون السلام أشد وطأة من الحرب
الجزء الرابع:
سدّ الوحدة: السد الذي ليس له من اسمه نصيب
تستند هذه السلسلة جزئيًا إلى دراسة إثنوغرافية أجراها الباحث بإشراف الدكتورة منى دجاني والدكتور مارك زيتون، وصدرت عام 2021 كجزء من مشروع «مستقبل اليرموك ومساره المعرفي والتحليلي» الذي نفذته جامعة «إيست أنجليا» في بريطانيا بالتعاون مع مركز دبلوماسية المياه في جامعة العلوم والتكنولوجيا في إربد. للاطلاع على الدراسة، اضغط/ي هنا.