هل تنقذ قروض الصندوق وأموال الخليج مصر من أزمتها الاقتصادية؟

الإثنين 11 آذار 2024
بائع خبز في أحد أحياء القاهرة القديمة. تصوير أمير مكار. أ ف ب.

قبل أيام، وقعت مصر اتفاقًا جديدًا مع صندوق النقد الدولي، لتعديل اتفاق سابق في عملية استغرقت أكثر من عام من المفاوضات. كانت مصر وقعت مع الصندوق اتفاقًا في مطلع 2023 لاقتراض ثلاثة مليارات دولار ضمن حزمة تمويلية بالشراكة مع دول خليجية، بحيث تشتري الأخيرة أصولًا حكومية مصرية. لكن خلال العام، تعمقت الأزمة الاقتصادية في مصر وأصبحت بحاجة لإنقاذ مالي أكبر، ليعلن صندوق النقد الدولي مؤخرًا عن توصله لاتفاق لزيادة قيمة القرض المقدم لمصر إلى ثمانية مليارات دولار قابلة للزيادة بمقدار 1.2 مليار دولار، ضمن صندوق تمويل متعلق بالتغيرات المناخية تابع لصندوق النقد الدولي. 

يشمل الاتفاق شراء الإمارات لمدينة «رأس الحكمة» المصرية على الساحل الشمالي للبلاد بقيمة استثمارية بلغت 35 مليار دولار، وهو ما وقعت عليه إحدى الشركات التابعة لصندوق أبو ظبي السيادي (ADQ). ومن المتوقع أن توفر الصفقة، وهي الأكبر من حيث الحجم وسرعة ضخ الأموال في تاريخ علاقة مصر بالخليج، سيولة للحكومة المصرية تتجاوز 24 مليار دولار خلال شهرين. إلا أن تأثيرات الأزمة ما زالت حاضرة، وخاصة أزمة التضخم مع حلول شهر رمضان، وهو موسم سنوي لزيادة التضخم في أسعار الغذاء في مصر.

تطلب التوصل للاتفاق مع صندوق النقد الدولي تخفيضًا كبيرًا في سعر الصرف في مصر. فخلال ساعات، قفز سعر الصرف من 31 جنيهًا للدولار إلى 50 جنيهًا، أي أن الجنيه فقد ما يقرب من 37% من قيمته أمام الدولار في يوم واحد. ويضاف هذا الانخفاض إلى انخفاضات سابقة للعملة المصرية خلال السنوات الثمانية الأخيرة منذ بدء برنامج الإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد في 2016. خلال تلك الفترة من تشرين الثاني 2016 وحتى آذار 2024، فقد الجنيه المصري ما يقرب من 80% من قيمته أمام الدولار. 

لكن ما يبدو على أنه اتفاق مالي لإنقاذ لمصر من التخلف عن سداد الديون، في ظل مدفوعات الديون المرتفعة خلال السنوات الماضية، يطرح التساؤلات حول مآلات الأزمة الاقتصادية في مصر. فهل يعني هذا الإنقاذ المالي نهاية الأزمة الاقتصادية؟ وكيف يمكن للاقتصاد المصري تجنب أزمات شبيهة في المستقبل؟

كيف نفهم الأزمة؟ 

منذ كانون الثاني 2023 وحتى الخامس من آذار 2024، لم يتحرك سعر الصرف الرسمي للدولار في البنوك المصرية. حيث بقي السعر مستقرًا عند قرابة 31 جنيهًا لكل دولار. وخلال تلك الفترة، ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازي من 30 جنيهًا لكل دولار قبيل التخفيض في كانون الثاني 2023، إلى ما يقرب من 72 جنيهًا في كانون الثاني 2024، أي ما يمثل قرابة 140% كفجوة بين السعرين، وكان هذا الارتفاع الضخم مدفوعًا بأزمة الدولار وشح العملة الصعبة في مصر. لاحقًا، انخفض سعر الصرف في السوق الموازي بعد الحديث عن الدعم الخليجي المرتقب لمصر ابتداءً من شباط 2024، قبل أن تخفض مصر سعر الصرف رسميًا لـ49.5 جنيهًا للدولار.

لكن ما كان يبدو أنه مشكلة في الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء ليس سوى عرض لأزمة اقتصادية أعمق، ترتبط بشكل هيكلي بالسياسات الاقتصادية للحكومة المصرية، وهي سياسات طالما كانت محل إثارة وإعجاب من البنك الدولي وصندوق النقد، قبل أن تنفجر الأزمة الحالية في بدايات 2022. تلك السياسات الهيكلية في القلب منها السياسات الاقتصادية للحكومة والاقتراض المكثف الذي تم برعاية صندوق النقد وغيره من المؤسسات الدولية وحتى الداعمين الخليجيين في الفترة من 2016 وحتى 2023. 

يمكن إحالة معدلات التضخم المرتفعة كعرض لأزمة اقتصادية أوسع، تتأثر بالتضخم المستورد نتيجة الاعتمادية العالية على الاستيراد، إضافة إلى أزمة المديونية بعد أن تضاعف عبء خدمة الدين، وخاصة الدين الخارجي. 

بدأ تفاقم الأزمة في مصر عام 2022 بالضغوط على ميزان المدفوعات المصري، التي كان سببها الأساسي زيادة أسعار السلع العالمية التي بدأت قبل حرب أوكرانيا، وازدادت لاحقًا خلال الحرب التي بدأت في شباط 2022. لكن مسار زيادة أسعار السلع العالمية تراجع، فعادت أسعار القمح مثلًا لمستويات ما قبل الأزمة، وهو منتج شديد الأهمية لمصر لكونها أكبر مستورديه على مستوى العالم، لكن ذلك لم يمنع من تضخم الأسعار محليًا. كان العامل الحاسم في ذلك هو ارتفاعات سعر الصرف في السوق الموازي، وبالأخص مع عدم قدرة البنوك المصرية على توفير العملة الصعبة لعمليات الاستيراد اللازمة للاقتصاد، سواء على مستوى السلع الوسيطة أو السلع الاستهلاكية النهائية. بالتالي لجأ التجار والمستوردون للسوق الموازية لتوفير الدولار من أجل عمليات الاستيراد. 

خلال 2023، بدأ المركزي المصري بتقييد حركة الدولار من خلال تقييد السحب على بطاقات الائتمان المصرية خارج البلاد. كما بدأت الحكومة باتخاذ إجراءات أكثر للقبض على المتعاملين بالدولار في السوق السوداء، ووصل الأمر لتفتيش المارة حول البنوك والسؤال عن الدولار في الأكمنة الأمنية. أيضًا، حاولت الحكومة تقييد حركة الاستيراد، ما نتج عنه خفض الواردات المصرية في 2023 بما يقارب 11 مليار دولار أو 13% من قيمة الواردات. ساهم ذلك في تقليل الطلب على الدولار، لكنه تسبب بأزمة تمثلت بنقص العديد من السلع ومستلزمات الإنتاج، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم خلال العام الماضي. 

تعمقت الأزمة مع زيادة الفجوة بين سعري الصرف في السوق الموازية والرسمية، وبناء على ذلك ارتفع معدل التضخم العام في مصر ليسجل أعلى مستوى في تاريخها الاقتصادي بقرابة 40% على أساس سنوي في أيلول 2023. تتجلى الأزمة الاقتصادية في مصر في ارتفاع معدلات تضخم أسعار الغذاء بشكل أكبر من معدل التضخم العام في مصر، وذلك لأنها تؤثر بشكل مباشر على صحة وأجور الفقراء الذين يشكلون حوالي ثلث المصريين (وذلك وفق آخر إحصاء رسمي قبل أزمة كوفيد-19، وحين كان سعر الصرف ما يزال عند 16 جنيهًا للدولار).

يمكن إحالة معدلات التضخم المرتفعة كعرض لأزمة اقتصادية أوسع، تتأثر بالتضخم المستورد، أي انتقال التضخم في أسواق خارجية إلى السوق المحلية بالنظر إلى الاعتمادية العالية على الاستيراد فيما يتعلق بالسلع الغذائية الأساسية، إضافة إلى أزمة المديونية بعد أن تضاعف عبء خدمة الدين، وخاصة الدين الخارجي. 

تمثل مدفوعات الديون ضغوطًا كبيرة على العملة المحلية، إذ ارتفعت خلال السنوات الماضية من 13.3 مليار دولار في العام المالي 2018-2019 إلى ما يقرب من 42 مليار دولار متوقعة خلال السنة المالية 2023-2024. هذا الارتفاع المستمر دفع الحكومة المصرية لتخفيض سعر الصرف من أجل تجنب التخلف عن سداد الديون.

أن يأتي الدعم الخليجي متأخرًا

مع شباط 2024، بدا أن الخليج أكثر استعدادًا لإنقاذ مالي لمصر عن طريق شراء الأصول المصرية. كانت عملية شراء الأصول قد بدأت في حزيران 2022 بالاستحواذ على عدد منها في قطاع البتروكيماويات، وكذلك شراء حصص في بنوك وشركات في القطاع المالي. لكن تلك العملية توقفت جزئيًا طوال 2023. استغرقت المفاوضات حول عمليات بيع الأصول مع الخليج أكثر من اللازم بحسب الصندوق. حيث كان الخليج أكثر تركيزًا على مصالحه التجارية. 

لكن ومع بداية 2024، اتجه الخليج وبالأخص الإمارات نحو إنقاذ مالي للبلاد. يمكن أن يقدم هذا الإنقاذ الخليجي أملًا في انخفاض سعر الصرف بالفعل وإنهاء وجود السوق السوداء للدولار، لكن ذلك لا يعني أن السيطرة على التضخم يمكن أن تحدث بسهولة. فعمليات التسعير في السوق غالبًا ما تأخذ وقتًا للتأقلم مع الأسعار الجديدة كما أن قابلية الأسعار للانخفاض في مصر لم تكن دومًا بالسهولة المفترضة في علاقتها بسعر الصرف، فغالبًا ما قل مقدار انخفاض السلع عن مقدار ارتفاعها قبل الأزمة. 

غير أن صفقات بيع الأصول الكبرى كصفقة رأس الحكمة التي أقرتها الحكومة المصرية مع صندوق أبوظبي السيادي خلال الأيام الماضية قد تمثل نوعًا من شراء الوقت بالنسبة للحكومة المصرية. فقد توفر الصفقة هامشًا جيدًا للحركة بالنسبة للبنك المركزي، وتعفي البلاد من التخلف فعليًا عن دفع ديونها للمقرضين الأجانب، خاصة بما ستوفره من مبالغ ضخمة تقدر بـ35 مليار دولار، منها 24 مليار دولار تدفقات متوقعة بشكل مباشر من الإمارات خلال الشهرين القادمين، بحسب تصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، و11 مليار دولار أخرى متوقعة كوديعة إماراتية لدى البنك المركزي المصري. 

لكن يبقى السؤال حول وجود جوانب سياسية غير معلنة للصفقة لا يمكن الجزم بتفاصيلها. فهناك العديد من الملفات والتوترات في المنطقة التي يمكن أن تكون قد لعبت دورًا في صفقة الإنقاذ المالي، من بينها الخلاف المصري الإماراتي في التصورات لمستقبل ملفي ليبيا والسودان، إضافة أن حضور الإمارات على مقربة من حقول الغاز في البحر المتوسط قد يكسبها ورقة للتفاوض مع أوروبا. 

هل انتهت الأزمة؟

إلى جانب الصفقة الإماراتية، من المتوقع أن نشهد صفقات بيع أصول أخرى للسعودية وقطر تمثل المزيد من شراء الوقت بالنسبة للحكومة المصرية. لكن الأزمة الاقتصادية المستمرة للاقتصاد المصري هي أكبر بكثير من السيولة الدولارية اللازمة لمدفوعات الديون وسد الفجوة التمويلية التي قدرها بنك جولدمان ساكس بـ25 مليار دولار على مدار السنوات الأربع القادمة. لدى مصر مدفوعات ديون كبيرة خلال السنوات الخمس القادمة، كما أن الضغوط على ميزان المدفوعات المصري مستمرة، وإن كانت سوف تصبح أقل مع السيولة الدولارية القادمة. فالأزمة هي أزمة النمط الاقتصادي الذي تبنته الحكومة المصرية والمعتمد بشكل كبير على الاقتراض المكثف لتمويل النمو الهش في قطاعات لا تحمل آثار توزيعية جيدة على الاقتصاد، مثل قطاعات البنية التحتية والعقارات. 

يعيدنا ذلك إلى دور المؤسسات الدولية في تبني النظام المصري لتلك السياسات. فقد كان الارتفاع المستمر في الديون الخارجية يتم تحت نظر صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الداعمة للحكومة المصرية، والتي أشادت بالإصلاحات الاقتصادية وعلى رأسها استراتيجية إدارة الدَّين العام التي بدأتها الحكومة المصرية بعد الاتفاق مع الصندوق، والتي تعتمد على إطالة آجال الديون، أي الاعتماد بشكل أكبر على الديون طويلة الأمد من أجل تمويل النمو الاقتصادي. لكن إدارة الدَّين العام لم تفلح فعليًا في الحيلولة دون زيادات مُطرَدة في الديون قصيرة المدى. 

الأزمة هي أزمة النمط الاقتصادي الذي تبنته الحكومة المصرية والمعتمد بشكل كبير على الاقتراض المكثف لتمويل النمو الهش في قطاعات لا تحمل آثار توزيعية جيدة على الاقتصاد، مثل قطاعات البنية التحتية والعقارات. 

كانت زيادة الديون طويلة وقصيرة المدى في الفترة ما بعد 2016، وبدء خطة الإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع الصندوق، تعني عمليًا ارتهان البلاد بشكل أكبر لسداد مدفوعات الديون الخارجية بالدولار. وبالطبع، مع المشكلات الهيكلية للاقتصاد المصري، وضعف قدرات الاقتصاد الإنتاجية لتوليد العُملة الصعبة، فإن السبيل الوحيد لسداد مدفوعات تلك الديون هو مزيد من الاقتراض بشكل أكثر كثافة. مثَّلت عملية الاقتراض منذ عام 2016 وحتى الآن شراءً متجددًا للوقت من قِبَل الحكومة المصرية. وتوضح البيانات تلك المعضلة، فقد ارتفعت مدفوعات فوائد الديون الخارجية من 1.6 مليار دولار في 2016 إلى نحو 11 مليار دولار في عام 2022، وارتفعت معها الأقساط السنوية لأصل الدَّين من 6.1 مليار دولار في 2016 إلى نحو 22 مليار دولار في عام 2022. 

كما تزايد الاعتماد على الدَّين الخارجي في السنوات الأخيرة، بسبب الحاجة إلى تمويل بعض الاستثمارات الواسعة في مشاريع ضخمة غير مُنتِجة، أنفقت فيها الحكومة الجزء الأكبر من إيراداتها، وأبرزها مشروعات البنية التحتية التي بلغت تكلفتها 400 مليار دولار، وقناة السويس الجديدة التي بلغت تكلفة بنائها ثمانية مليارات دولار، والعاصمة الإدارية التي يُتوقَّع أن تصل تكلفتها إلى 300 مليار دولار، بالإضافة إلى تكلفة واردات الأسلحة التي زادت بنسبة 215% في الفترة بين 2013–2017، بالمقارنة مع الفترة بين 2008-2012. 

لم يكن ما سبق خفيًا على الصندوق أو البنك الدولي أو الشركاء الخليجيين الذين اشتكوا بأشكال مختلفة من الإنفاق الزائد الذي انتهجته الحكومة المصرية منذ 2016 وحتى الأزمة الاقتصادية الحالية. لكننا لم نسمع تلك الانتقادات سوى في وقت الأزمة، ولم نسمع عن سياسات الحكومة الاقتصادية الخاطئة إلا حين تعقدت الأزمة واحتاجت لتدخل الخليج والصندوق لتوفير الإنقاذ المالي لمصر. 

كان نمط الاستدانة يتم برعاية الصندوق، كما تتم اليوم عمليات بيع الأصول المصرية للخليج. في هذا وذاك، استمر المواطن المصري في تحمل معدلات مرتفعة من التضخم جاءت بالأساس من التخفيضات المتتالية لسعر الصرف، التي يطلق عليها الصندوق اسم المرونة السعرية للصرف، والتي أدت لفقدان الجنيه ما يقرب من 80% من قيمته خلال السنوات الثماني الماضية. وخلال تلك الفترة ازداد المصريون فقرًا، ولم تنجح وصفة الصندوق حتى في رفع المؤشرات الاقتصادية، فلم تزد الصادرات كنسبة من الناتج المحلي، ولم تنفذ الحكومة المصرية إصلاحات هيكلية في الاقتصاد. 

الخلاصة أنه وخلال العقد الأخير من عمر هذا البلد، كانت أزمات التمويل ثيمة رئيسية للنمط الاقتصادي الذي ركزت عليه الحكومة، والمعتمد بشكل أساسي على الاقتراض من أجل الإنفاق على المشروعات القومية الكبرى، وتمويل نمو الناتج المحلي من خلال نمو الإنفاق الحكومي على البنية التحتية. مر العقد الأخير ومصر تدخل أزمة وما إن تخرج منها لتبدأ أخرى، دون أي أفق لمستقبل غير معتمد على الدعم الدولي والخليجي من خلال القروض.

Leave a Reply

Your email address will not be published.